الرسالةُ الحادية والعشرون
حَوْل كُونْت روشستر ومستر والِّر
يعرف جميعُ الناس ما يتمتع به كونت روشستر من صيت، وقد تَحَدَّث عنه مسيو دوسان إيڨرمون
كثيرًا، ولكنه لم يعرِّف روشستر الشهير لنا بغير؛ رجل لهوٍ ورجل حسن طالع، وأريد أنْ
أعرفه
برجل عبقريةٍ وبشاعرٍ كبير، وترى بين آثاره الأخرى التي كانت تسطع من هذا الخيال المتقد
الذي انفرد به، بعض أهاجي وفق عين الموضوعات التي اختارها دِبريئو الشهير، ولا أعرف ما
هو
أنفع لإكمال الذوق من المقابلة بين أكابر العباقرة الذين تناولوا عين الموضوعات.
وإليك ما قاله مسيو دبريئو حيال العقل البشري في أهجيته عن الإنسان:
ومع ذلك يُرَى — حين النظر إليه — أنه مملوء دخانًا خفيفًا، فيعلل نفسه بأوهامه،
وهو الأساس والركن من الطبيعة دون سواه، فلا تدور السماء العاشرة إلَّا من أجله،
وهنا هو السيد بين جميع الحيوانات، وأنت تُعَقِّب قائلًا: مَن يستطيع إنكار ذلك؟ قد
أكون أنا. فيا أيها السيد المزعوم الذي يحبو الحيوان بالسنن، ويا ملك الحيوان، ما
عدد ملوكك؟
أجل، ذلك ما يعبر به كونت روشستر عما في نفسه في أهجيته عن الإنسان، غير أنه يجب على
القارئ أنْ يذكر — دائمًا — أنَّ هذه ترجماتٌ طليقةٌ عن شعراء الإنكليز، فلا يستطيع عسر
عروضنا، ولا لياقات لغتنا الرقيقة أنْ تؤدي ما يعدل رخصة الأسلوب الإنكليزي الصائلة.
فهذا العقلُ الذي أمقت، هذا العقل المملوء ضلالًا ليس عقلي، بل عقلك — أيها الدكتور
— هو
عقلك الخفيف الهلوع المختال، هو المنافس المزدري للحيوانات الحكيمة، فيرى أنه يشغل منزلة
بينها وبين الملك، وهو يتصور أنه في هذه الدنيا على صورة ربه، مع أنه ذرةٌ حقيرة مزعجة
تؤمن
وتَشُكُّ وتناضل وتزحف وترتفع وتقع، ثم تنكر سقوطها، وهو يقول لنا: «إنني حُرٌّ» حين
يرينا
أغلاله، وهو يعتقد أنه يُنفذ الكون بعينه الكدرة الضالة، اذهبوا — أيها المجانين —
الأَجِلَّاء والمتعصبون السعداء، اذهبوا وأحسنوا جمع كُدس ترهاتكم الفلسفية الكلامية،
ويا
آباء الأوهام والألغاز المقدسة، ويا واضعي المعضلات التي تضلون فيها، اذهبوا لتنوير أسراركم
في الظلام، واركضوا في المدرسة لعبادة خيالاتكم! وهناك ضالُّون آخرون، هناك هؤلاء المتقون
الذين حكموا على أنفسهم بسأم السكون، وهذا الروحانيُّ القابع في دَيْرِه، والفخور بكَسَلِه،
والهادئ في كنف ربِّه، ما يستطيع أنْ يصنع؟ هو يفكر، كَلَّا، أنت لا تُفكِّرُ مطلقًا
— أيها
المسكين — وإنما أنت نائم، أنت غير نافع في الأرض، أنت في عداد الأموات، يَصْرَى
١ عقلك الخامل في الترف، فأفِق وكن رجلًا واخرج من ثَمِلَك، فالإنسان وُلد ليعمل، وأنت
تزعم أنك تفكر!
وسواء أكانت هذه الأفكار صحيحة أو فاسدة يعبَّر عنها دائمًا — لا ريب — بنشاطٍ صانعٍ
للشاعر.
وأحترز من دراسة الأمر مثل فيلسوفٍ، ومن تَرك قلم الرسم منتقلًا إلى البيكار، ويقوم
غرضي
الوحيد في هذه الرسالة على التعريف بعبقرية شعراء الإنكليز، وأداوم على هذا
المنهاج.
وقد سُمِع في فرنسة حديثٌ كثيرٌ عن والِّر الشهير، فأثنى عليه السادة دولافُونتِن
وسان
إڨرمون وبيل، ولكن لا يُعرف عنه غير اسمه، وله في لندن من الشهرة مثل ما لڨواتور في باريس
من
الصيت، وهو أحق به منه على ما أعتقد. فأما ڨواتور فقد ظهر في زمن كان يخرج فيه من التوحش؛
أي في زمن لا يزال الناس فيه خَبَّاطى جَهَالاتٍ، فكان يُرَادُ الظرف من غير أنْ يُظفر
به،
وكانت تحاول الحيل بدلًا من الأفكار، وكان يسهل العثور على الألماس البهرج أكثر مما على
الحجارة الثمينة، وكان ڨواتور الذي وُلد سهلًا خفيف العبقرية، أول من لمع في فجر الأدب
الفرنسي هذا، ولو ظهر بعد العظماء الذين اشتهر بهم عصر لويس الرابع عشر لجُهِل أمره،
أو لحدِّث
عنه مع الازدراء، أو لأصلح أسلوبه، أَجَلْ، أثنى عليه مسيو دسبريئو، ولكن هذا المديح
وقع في
أهاجيه الأولى، وكان هذا في زمنٍ لم يكن فيه دوق دسبريئو بعد، وكان هذا في دور شباب
دسبريئو، في سنه التي يوزن الناس فيها بشهرتهم، لا بقيمتهم، وفضلًا عن ذلك فإن دسبريئو
كان
على غير حقٍّ في مدحه وذمِّه، ومن ذلك أنه كان يثني على سفره الذي لا يقرؤه أحدٌ، وأنه
كان
يطعن في كينو الذي يعرفه جميع الناس على ظهر القلب، وأنه لم يقل شيئًا عن لاڨونتين، وأما
والر وكان خيرًا من ڨواتور، فلم يكن كاملًا أيضًا، أَجَلْ، إنَّ آثاره الظريفة تنشر لطفًا،
ولكنها ذوت عن إهمال، وشُوهت بفاسد الأفكار غالبًا، ولما يصل الإنكليز في زمنه إلى دور
الكتابة الصحيحة بعد، وتَرَى آثاره الرصينة مملوءة شدة لم تُنْتَظر من لين مسرحياته الأخرى،
وتراه قد أبَّن كرومويل بمرثيةٍ عُدت من الروائع مع ما اشتملت عليه من عيوب، ويجب لإدراك
هذا
الأثر، أنْ يعلم أنَّ كرومويل مات في يومٍ عاصف غير مألوف. وتبدأ القطعة كما يأتي:
مات، وقضي الأمر، فلنذعن لحكم القدر، وتُشهر السماءُ ذلك اليوم بالزوابع، ويقصف
الرعد فوق رءوسنا فيخبر هزيمه
٢ بموته، ويزلزل هذه الجزيرة بأنفاسه الأخيرة، يزلزل هذه الجزيرة التي
أرجفها بذراعه غير مرة، وكان هذا في أثناء مآثره حين يكسر رأس الملوك ويخضع الأمة
الذلول لنيره. أيها البحر، لقد أعكرك ذلك. أيها البحر، وتقول أمواجك الهائجة
لأقصى الضفاف — كما يظهر: عاد فزع الأرض لا يكون، عاد مولاكِ لا يكون، هكذا طار
رُومُولوس إلى السماء في غابر الأزمان، هكذا غادر الأرض بين الأعاصير، هكذا فاز
بإكرام شعبٍ مجاهد؛ أُطيع في محياه وعُبد في مماته، وصار قصره معبدًا، إلخ.
وبسب رثاء كرومويل هذا رَدَّ والر على الملك شارل الثاني بالجواب الذي يوجد في معجم
بيل،
وذلك أنَّ الملك الذي جاءه والر، على حسب عادة الملوك والشعراء، ليُقَدِّم إليه قطعة
محشوة
مدحًا فلامه على وضعه لكرومويل ما هو خيرٌ منها، فاسمع جواب والر: «مولاي، ننجح، نحن
معشر
الشعراء في الأوهام أكثر مما في الحقائق.» فلم يكن هذا الجواب من الإخلاص كجواب سفير
هولندة، الذي أجاب عندما تَوَجَّعَ هذا الملك من إكرامه أقل من إكرام كرمويل: «آه! يا
مولاي، إنَّ كرومويل هذا كان شيئًا آخر.»
وليس غرضي أنْ أُعَلِّق على أخلاق والر وغيره، فأنا لا أُقَدِّر الناس بعد موتهم بغير
آثارهم، وكلُّ شيء ما خلا هذا يكون قد زال في نظري، وإنما ألاحظ أنَّ والِّر، الذي نُشِّئ
في البلاط مع دخل ستين ألف فرنك، لم يكن من الغباوة والبلادة ما يتخلى معه عن مواهبه،
ولم
يَرَ كونتات دورسه، وروسكومون، ودوكا بكنغام، واللورد هليفاكس وكثيرٌ غيرهم أنَّ مما
يشين
مقامهم ظهورهم من أكابر الشعراء ومشاهير الكُتَّاب، وكان لهم من الفخر بآثارهم أكثر مما
بأسمائهم، وهم قد شملوا الآداب بعين رعايتهم كما لو كانوا ينتظرون ثراءهم منها، وهم —
فضلًا
عن ذلك — قد جعلوا الفنون أعظم حرمة لدى الشعب الذي يحتاج — في كلِّ حال — إلى قيادة
الكبراء، والذي يظهر — مع ذلك — أقل اقتداء بهم في إنكلترة مما في أيِّ مكانٍ آخر في
العالم.