الرسالة الثالثة والعشرون
لا تجد في إنكلترة، ولا في أي بلدٍ من العالم، ما تجد في فرنسة من المؤسسات التي تُرْعَى فيها الفنون الجميلة، وتوجد جامعاتٌ في كل مكانٍ تقريبًا لا ريب، ولكن في فرنسة وحدها ما تبصر من تشجيع علم الفلك وجميع فروع العلوم الرياضية وعلم الطب والبحث في الآثار القديمة، ومن الحثِّ على التصوير والنحت والمعماري. وقد خَلَّد لويس الرابع عشر اسمه بجميع هذه المعاهد، ولم يكلفه هذا التخليد أكثر من مائتي ألف فرنك كل عام.
وأعترف بأن من موجبات دهشتي أنْ يَعِنَّ لبرلمان إنكلترة وعد من يأتي بالمستحيل في اكتشاف خطوط الطول بعشرين ألف جنيه، فلا يفكر هذا البرلمان في السير على غرار لويس الرابع عشر في كرمه نحو الفنون.
وقد أُكرم مستر نيوتن في حياته كما أُكرم بعد مماته بما يجب، وقد تنازع أكابر القوم شرف حمل بساط رحمته. وادخلوا وِستمنستر لم تُعجبوا بقبور الملوك فيها، بل بالآثار التي أقامها اعتراف الأمة بالجميل لأعاظم الناس الذين ساعدوا على بناء مجدها، ومما تشاهدون هنالك تماثيلهم كما تشاهد في أَثِنَة تماثيل أمثال سوفوكل وأفلاطون، وأراني قانعًا بأن منظر هذه الآثار المجيدة وحده قد حرَّك أكثر من ذهنٍ وكوَّن أكثر من عظيم.
حتى إنه وُجِدَ من لام الإنكليز على الذهاب بعيدًا في إكرام الموهبة البسيطة، ومن ذلك ما وقع من لَومٍ حول دفنهم الكُمِيدِيَّة المشهورة، الآنسة أُلدفيلد، بمثل ما بُجِّلَ به نيوتن تقريبًا. وقد زعم بعضهم أنهم أبدوا مثل هذا التكريم لذكرى هذه الممثلة كيما يُشْعِرُوننا بما يلوموننا عليه من القسوة البالغة والجور الخسيس في إلقاء جُثَّة الآنسة لوكوڨرور في مطرح القمامة.
بيد أنني أستطيع أنْ أقول موَكِّدًا: إنَّ الإنكليز لم يشاوروا غير ذوقهم في دفنهم الآنسة ألدفيلد في سان دِنِيهِم، وهم بعيدون كل البعد من استرذال فن أمثال سوفوكل وأُريبيد ومن فصل كيان مواطنيهم أولئك الذين حبسوا أنفسهم على تلاوتهم أمام هؤلاء المواطنين ما تُباهي به الأمة من آثار.
وحُمِلَ منذ عهد شارل الأول، وفي أوائل الحروب الأهلية التي بُدئت بالمُتَزَمِّتين المتعصبين، والتي ذهب هؤلاء أنفسهم ضحيتها في آخر الأمر، كثيرًا على التمثيل، مع أنَّ شارل الأول وامرأته، التي هي ابنة ملكنا هنري الكبير، كانا يُحِبَّانه كثيرًا جدًّا.
وفي إيطالية يُحترز من فضح الأُبِرا وحِرْمِ السنيور سِنِيسِينو والسنيورة كُوزُّوني. وفي فرنسة أتمنى لو يمكن أن يُزَال كل كتابٍ طُبع ضد التمثيل، فإذا علم الإيطاليون والإنكليز أننا نعيب فنًّا نبرع فيه، وأننا نَعُدُّ من الإلحاد منظرًا يُمَثَّل من قِبل الرهبان وفي الأديار، وأننا نَشِين ألعابًا كان لويس الرابع عشر ولويس الخامس عشر ممثلين فيها، وأننا نعلن أن من عمل الشيطان مسرحيات راجعها أصعب القضاة مراسًا ومُثِّلَتْ أمام مَلِكة فاضلة، وإذا علم الأجانب أمر هذه الوقاحة، وأمر هذا النقص في الاحترام للسلطة الملكية، وأمر هذه البربرية القوطية التي يُجْرَأ على دعوتها بالشدة النصرانية، فما تريدون أن يُفكَّر حول أمتنا؟ وكيف يمكن أنْ يتصوَّروا إباحة قوانيننا فنًّا شائنًا جدًّا، أو أن يُجْرَأ على أن يُنْعَت بالفضوح فنًّا تجيزه القوانين ويكافئ عليه الملوك ويرعاه العظماء وتُعْجَب به الأمم، وأن يوجد عند عين الكتبي قَذْعُ الأب لوبران بتمثيلنا بجانب أوابد أمثال راسين وكرناي وموليار، إلخ؟