الرسالة الخامسة والعشرون
أبعث إليكم بما وَضَعْتُ — منذ زمنٍ طويل — من ملاحظاتٍ في نقد «الأفكار» لمسيو بسكال، وأرجو منكم ألَّا تُشَبِّهُوني هنا بحزقيًّا، الذي أراد إحراق جميع كتب سليمان؛ فأنا أُقَدِّر عبقرية بسكال وبلاغته، ولكنني كلما قَدَّرتُها قَنِعْتُ بأنه كان لا بُدَّ من تصحيحه كثيرًا من هذه «الأفكار» التي ألقاها على الورق اتفاقًا كيما يُدَقَّق فيها بعدئذ؛ أي إنني إذ أُعْجَب بعبقريته أناهض بعض أفكاره.
وعلى العموم يبدو لي أنَّ الروح التي كتب بها بسكال «أفكاره» هي إظهار الإنسان من ناحيته الممقوتة، فهو ينهمك في وصفه لنا جميع الأشرار والأشقياء، وهو يكتب ضد الطبيعة البشرية، كما كان يكتب ضد اليسوعيين، وهو يَعْزُو إلى جوهر طبيعتنا ما لا يُرَدُّ إلَّا إلى بعض الناس، وهو يَصُبُّ الشتائم على الجنس البشري ببلاغة؛ ولذا فإنني أتعصب للبشرية، مجترئًا، على هذا المبغِض الأعلى للإنسان؛ ولذا فإنني أجرؤ على توكيدي أننا لسنا أشرارًا ولا أشقياء بمقدار ما يقول، ثم إنني كثير الاقتناع بأنه لو اتَّبَع في الكتاب الذي كان يتأمله ما لاح في «أفكاره» من مقصدٍ لَوَضَعَ كتابًا زاخرًا بالقياسات البليغة الفاسدة وبالأباطيل التي استُنْبِطَت على وجه عجيب، ومما أعتقد أيضًا أنَّ جميع هذه الكتب التي وُضعت منذ زمنٍ قريبٍ لإثبات الدين النصراني أقدر على الإهانة مما على الإفادة، وهل يزعم هؤلاء الكُتَّاب أنهم يعرفون أكثر مما يعرف يسوع والرسل؟ هذا عزمٌ على دعم بلوطةٍ بإحاطتها بقصب، فيمكن إقصاء هذا القصب غير النافع من غير أن يخشى الإضرار بالبلوطة.
- (١)
يبلغ سُمُوُّ الإنسان وخُبْثُه من الوضوح ما يجب أن يُعَلِّمنا الدين الصحيح معه بحكم الضرورة؛ وجود أصلٍ كبيرٍ للسمو فيه، ووجود أصلٍ كبير للخبث فيه؛ وذلك لأنه لا بُدَّ للدين الصحيح من معرفة طبيعتنا معرفة أساسية؛ أي أنْ يعرف كل ما هو رفيع، وكل ما هو خبيث فيها وسبب هذا وذاك، ومما يجب أيضًا أن يُبَيِّن لنا أسباب ما يلتقي فيها من متناقضات عجبية.
يظهر أنَّ هذا الأسلوب في البرهنة فاسدٌ خطرٌ؛ وذلك لأن أسطورة بروميته وبندور وخنثى أفلاطون وعقائد السياميين تبين أيضًا أسباب هذه المتناقضات الظاهرة، ولا يكون الدين النصراني أقل صحة مما هو عليه إذا لم تُسْتَنبط منه هذه النتائج اللبقة التي لا يمكن أنْ تكون صالحة لغير تألق الذهن.
ولا تُعَلِّم النصرانية غير البساطة والإنسانية والمحبة، فَرَدُّ النصرانية إلى ما بعد الطبيعة يجعل منها منبع ضلالات.
- (٢)
ليُبْحَثْ حول هذا في جميع أديان العالم، وَلْيُرَ هل يوجد غيرُ النصرانية دينٌ يشفي الغُلَّة في ذلك، وهل هذا ما كان قد علمه الفلاسفة الذين عرضوا علينا أنَّ ما هو خيرٌ فينا هو كل الخير؟ وهل هذا هو الخير الحقيقي؟ وهل وجدوا دواء بلايانا؟ وهل شفاء الإنسان من زهوه في مساواته بالرب؟ وهل أتانا بدواءٍ لميلنا إلى الملَاذِّ الحسية أولئك الذين ساوَوْنا بالبهائم، فحبونا بِلَذَّات الدنيا على أنها الخير كله؟
لم يُعَلِّم الفلاسفة دينًا، وليست فلسفتهم ما يجب أنْ تناهض، ولا تجد فيلسوفًا ادَّعَى أنه مُوحًى إليه من الله؛ وذلك لأنه يعود بهذا غير فيلسوف، فيبدو نبيًّا، ولا يدور الأمر حول وجوب تفضيل يسوع على أرسطو، بل حول إقامة الدليل على أنَّ دين يسوع هو الصحيح، وكون الإسلام والمجوسية وغيرهما من الأديان فاسدة.
- (٣)
ومع ذلك فإننا غير مدركين لأنفسنا بغير هذا السر الذي هو أكثر ما يكون إشكالًا، وتتناول عقدة حالنا رَدَّاتِها وطياتها في هُوَّة الخطيئة الأصلية، وذلك بحيث إنَّ الإنسان يكون أكثر استغلاقًا بغير هذا السر من استغلاق هذا السر على الإنسان.
يعني هذا «أنَّ الإنسان مستغلقٌ بغير هذا السر المستغلق»، وَلِمَ الذهاب إلى أبعد مما ذهب إليه الكِتَابُ المقدس؟ أليس من التهور أنْ يُعْتَقد احتياج الكتاب المقدس إلى دعامةٍ، وأنه يمكن هذه الآراء الفلسفية أنْ تمنحه إياها؟
وما يكون جواب مسيو بسكال لرجلٍ يقول له: «أعرف أنَّ سِرَّ الخطيئة الأصلية هو موضوع إيماني لا عقلي، وأُدْرك جيدًا ما الإنسان بغير هذا السِّرِّ، وأراه يأتي إلى العالم كالحيوانات الأخرى، وأرى أنَّ طَلْقَ الأمهات أشدُّ ألمًا بنسبة لطافتهن، وأن مما يحدث أحيانًا كون النساء وأنثى الحيوانات يَمُتْنَ حين الوضع، وأنه يوجد في بعض الأحيان من الأولاد من هم سَيِّئُو التركيب، فيعيشون عاطلين من حاسةٍ أو حاستين، خالين من قوة الإدراك، وأن مَنْ هم أحسن تركيبًا يكونون أشد الناس أهواء، وأن الحب نفسه متساوٍ لدى جميع الناس، وأنهم محتاجون إليه كاحتياجهم إلى الحواس الخمس، وأن الله أعطانا هذه الأنانية حفظًا لوجودنا، وأنه أعطانا الدين لتنظيم هذه الأنانية، وأن أفكارنا تكون صائبة أو خاطئة، وغامضة أو جَلِيَّة، على حسب ما تكون أعضاؤنا متينةً أو منحلةً، وعلى حسب ما نكون هُوَاةً، وأننا تابعون تمامًا للهواء الذي يحيط بنا والأقوات التي نتناولها، وأنه لا تناقض في جميع هذا. وليس الإنسان لغزًا كما تُصَوِّرونه، كيما يجد لذة في حله، ويظهر أنَّ الإنسان في مكانه ضمن الطبيعة، فهو أرقى من الحيوانات التي يشابهها بالأعضاء، وهو دون موجوداتٍ أخرى يشابهها بالفكر على ما يحتمل، وهو — لجميع ما نرى — مزيجٌ من الخير والشر ومن اللذة والألم، وهو مجهزٌ بميولٍ كيما يسير وبعقلٍ كيما يسيطر على أفعاله، فلو كان الإنسان كاملًا لبدا إلهًا، وليست هذه المتناقضات — كما تسمونها — غير عناصر ضروريةٍ، تدخل في تركيب الإنسان الذي هو كما يجب أن يكون.»
- (٤)
وَلْنَتَتَبَّعْ حركاتنا، ولنلاحظ أنفسنا، وَلْنَرَ هل نجد الأوصاف الحية لهاتين الطبيعتين؟
وهل توجد المتناقضات التي هي بهذا المقدار في إنسانٍ بسيط؟
يبلغ هذا الازدواج في الإنسان من الوضوح ما وُجدَ من رأي معه أننا كنا ذوي نفسين؛ وذلك لما لاح لهم من أنَّ الإنسان البسيط قاصرٌ عن مثل هذه المنوعات المفاجئة بهذا المقدار، قاصرٌ عن زهوٍ مفرطٍ في فؤادٍ واهٍ.
ليست عزائمنا المنوعة متناقضاتٍ في الطبيعة مطلقًا، وليس الإنسان موجودًا بسيطًا مطلقًا، فهو مؤلَّف من أعضاء لا حصر لها، فإذا ما فسد أحد هذه الأعضاء قليلًا غير جميع انطباعات الدماغ بحكم الضرورة، وكانت للحيوان أفكار جديدة وعزائم جديدة، ومما هو صحيحٌ كثيرًا أننا خامدون عن غَمٍّ تارةً منتفخون عن زهوٍ تارةً أخرى، وهذا ما يجب أنْ يكون عند وجودنا في أحوالٍ متباينة، فالحيوان الذي يلمسه صاحبه برفقٍ ويغذيه والحيوان الذي يذبح ببطء ومهارةٍ تشريحًا له يشعران بإحساسات مختلفة لا ريب، ولكن ما فينا من فروق هو من القلة ما يكون من المتناقض معه عدم وجوده.
وكان يمكن للمجانين الذين قالوا: إننا كنا ذوي نَفْسَيْن أنْ يقدموا إلينا ثلاثين نفسًا أو أربعين نفسًا لذات السبب؛ وذلك لأن الإنسان الذي يساوره ألمٌ كبير يكون عنده من مختلف الأفكار حيال عَيْنِ الشيء ما يبلغ ثلاثين أو أربعين في الغالب، وهذا ما يجب أنْ يكون عنده بحكم الضرورة، وذلك وَفْقَ ما يلوح له هذا الشيء على وجوهٍ مختلفة.
وهذا الازدواج المزعوم في الإنسان هو أمرٌ محالٌ بمقدار ما هو خاصٌ بما بعد الطبيعة، وهذا ما يغريني على القول بأن الكلب الذي يَعَضُّ والذي يلامس برقةٍ هو مضاعفٌ، وأن الدجاجة التي تُعنى بصغارها ثم تترك هذه الصغار حتى درجة الإنكار هي مضاعفةٌ، وأن المرأة التي تعرض أشياء مختلفة معًا هي مضاعفة، وأن الشجرة التي كانت كاسية تارةً وعاريةً تارةً أخرى هي مضاعفة، أجل، إنني أُسَلِّم بأن الإنسان مُسْتغلق، ولكن بقية الطبيعة مستغلقة أيضًا، فلا توجد تناقضات ظاهرةٌ في الإنسان أكثر مما في جميع البقية.
- (٥)
عدم الرهان على وجود الله يعني رهانًا على عدم وجوده، وأيُّ الأمرين تتناول إذن؟ ولنزِن الربح والخسر ماثلين إلى اعتقاد وجود الله، فإذا ربحتم ربحتم كل شيء وإذا خسرتم لم تخسروا شيئًا؛ ولذا فراهنوا على وجوده من غير تردد، أجل، لا بدَّ من الربح، ولكن قد أربح كثيرًا على ما يُحتمل، والآن، بما أنه يوجد مثل هذه المخاطرة في الربح والخسر فإنه عندما لا يكون لديكم غير حياتين تكسبونهما في مقابل واحدة، يمكنكم أن تكسبوا أيضًا.
ومن الغلط الواضح أنْ يقال: «لا تُرَاهِنْ على وجود الله، فهذا برهان على عدم وجوده» وذلك لأن الذي يشك وينشد العرفان لا يراهن على السلب أو الإيجاب لا ريب.
وفضلًا عن ذلك فإن هذه المادة تبدو على شيءٍ من الفحش والسخف، ولا يناسب هذا المبدأ في اللعب والخُسْر والربح أهمية الموضوع مطلقًا.
وأضف إلى ذلك كَوْن مصلحتي في الإيمان بالشيء ليس دليلًا على وجود هذا الشيء، وأنت تقول لي: أعطيك سلطان العالم إذا ما اعتقدت أنك على حق، وحينئذ أتمنى من صميم فؤادي أنْ تكون على حق، ولكنني لا أستطيع تصديقك حتى تُثْبِت لي ذلك.
ويمكن أنْ يقال لمسيو بسكال: ابْدَأْ بإقناع عقلي، ولي نفعٌ في وجود إله لا ريب، ولكن إذا كان منهاجك يقول: إنَّ الله لم يكن إلا من أجل قليل من الناس، وإنَّ عدد الأخيار بالغ القلة، وإنني لا أقدر على شيءٍ بنفسي، فأرجو منك أنْ تقول لي: أيُّ نفع لي في تصديقك؟ ألا يكون لي نفعٌ واضحٌ في أنْ أقنع بالعكس؟ وبأي وجهٍ تجرؤ على إطلاعي على سعادةٍ بالغة، لا يكاد يحق لواحدٍ من مليون إنسان أنْ يتطَلَّع إليها؟ إذا أردت إقناعي فاسلك طريقًا أخرى، ولا تذهب تارة إلى تحديثي عن النصيب والرِّهان والقمار، وتارةً إلى تخويفي بالأشواك التي تلقيها في الطريق التي أريد سلوكها واتِّباعها، ولا تنفع برهنتك لغير صنع ملحدين لولا أنَّ جميع صوت الطبيعة ينادي بوجود إلهٍ واحد بقوةٍ تقابل ما في تلك الدقائق من ضعفٍ.
- (٦)
وإني، حين أبصر عمى الإنسان وشقاءه، وحين أبصر المناقضات الغريبة التي تبدو في طبيعته، وإني حين أنظر جميع الكون الصامت والإنسان الجاهل المتروك لنفسه، والتائه في هذه الزاوية من الكون غير عالمٍ من وَضَعَه فيها، ولا ما يَصْنَع فيها، ولا ما يَصِيرُ إليه بموته، يعتريني ذعرٌ كما لو كنت إنسانًا أُخِذَ — وهو نائمٌ — إلى جزيرة قَفْرٍ مخيفة، فإذا ما أفاق لم يعرف أين هو، ولم يكن حائزًا أية وسيلةٍ كانت للخروج منها؛ ولذا فإنني أعجب من عدم الغم من حالٍ بالغةٍ هذه الدرجة من الشقاء.
إني — حين قراءتي هذا التأمل — تناولت كتابًا من صديقٍ لي مقيمٍ ببلدٍ بعيدٍ جدًّا، وإليك ما جاء فيه:أنا هنا كما تركتموني، فلست بالغ الفرح ولا بالغ التَّرَح، ولست بالغ اليسر ولا بالغ العسر، وأتمتع بصحةٍ تامة حائزًا كل ما يجعل الحياة طيبة خالية من الحب والطمع والطموح والحسد، وترونني أجرؤ على عَدِّ نفسي سعيدة جدًّا ما بقي هذا.
يُوْجَد كثير من الناس من هم سعداء مثله، ويُوْجَد من الناس من هم كالحيوانات، فهذا الكلب يَضْجَع ويأكل مع صاحبته، وهذا آخر يدير السَّفُّود؛ فيبدو راضيًا أيضًا، وهذا ثالث يَكْلَب فيُقْتَل، وأما أنا فإني حين أرى باريس ولندن لا أرى سببًا لدخول باب هذا الغمِّ الذي حكى عنه مسيو بسكال، وإنما أرى مدينةً لا تشابه جزيرة قفرًا في أي شيء كان، فهي عامرة موسرة مُهَذَّبةٌ، يكون الناس فيها سعداء بمقدار ما تقتضيه طبيعة الإنسان، وأي رجل عاقل يكون مستعدًّا لشنق نفسه؛ لأنه لا يعرف كيف يُرَى الله وجهًا إلى وجهٍ، ولأن عقله لا يستطيع أنْ يكشف سِرَّ الثالوث؟ وهكذا كان يجب أنْ يُقْنط من عدم حيازة أربع أرجلٍ وجناحين.
وَلِمَ نُنَفَّر من وجودنا؟ ليست حياتنا من الشقاء بمقدار ما يراد إيهامنا فيه، وليس عدُّ العالم سجنًا مظلمًا ضيقًا، وعدُّ جميع الناس مجرمين يُعْدَمون، إلَّا فكرة متعصب، ويُعَدُّ فكرة شهواني كل ذهاب إلى أنَّ العالم دار نعيم لا ينبغي أنْ تشتمل على غير اللذة، ويُعَدُّ من تفكير رجل عاقل كل ذهابٍ إلى أنَّ الأرض والناس والحيوانات هي ما يجب أنْ تكون عليه ضمن نظام القدرة الربانية.
- (٧)
«يرى اليهود» أنَّ الله لا يدع الأمم الأخرى في هذه الظلمات إلى الأبد، وأنه سيظهر منقذٌ للجميع، وأنهم في العالم ليُبشروا به، وأنهم خُلقوا ليكونوا مبشرين بهذا الأمر العظيم خاصة؛ وليدعوا جميع الأمم لتَنْضَمَّ إليهم في انتظار هذا المنقذ.
أجل، إنَّ اليهود قد انتظروا هذا المنقذ دائمًا، غير أنَّ منقذهم هو لأنفسهم، لا لنا، وهم ينتظرون مسيحًا يجعل اليهود سادة النصارى، ونحن نأمل أنْ يؤلِّف المسيح بين اليهود والنصارى ذات يوم، واليهود يرون في هذا عكس ما نرى تمامًا.
- (٨)
وكذلك فإن الشريعة التي يُحْكَم بها في هذا الشعب هي أقدم شرائع العالم وأكملها، وهي الوحيدة التي حُفِظَت دائمًا، في إحدى الدول بلا انقطاع، وهذا ما أثبته اليهودي فيلون في مواضع كثيرة، وهذا ما ردَّ به يوسف على أبيون فبَيَّن أنَّ هذه الشريعة هي من القدم ما لم يعرف الأقدمون اسم الشريعة معه إلا بعد ألف سنة، حتى إنَّ أوميرس الذي تكلم عن كثيرٍ من الأمم لم يستعمل هذا الاسم قط، ومن السهل أنْ يُحكم في كمالها بمطالعتها، فبها يُرَى أنها بلغت من معالجة جميع الأمور بحكمةٍ عظيمة وإنصافٍ كبير وحسن حُكمٍ ما اقتبس معه مشترعو اليونان والرومان الأقدمون قوانينهم الرئيسة منها عندما نالوا شيئًا من نورها، وهذا ظاهرٌ من القوانين التي أطلقوا عليها اسم الألواح الاثني عشر، ومن الأدلة الأخرى التي قدمها يوسف.
إنَّ من الخطأ الكبير أنْ يُذْهَب إلى أنَّ شريعة اليهود أقدم الشرائع، ما داموا قد أقاموا بمصر قبل مشترعهم؛ موسى؛ أي بهذا البلد الذي هو أكثر بلاد العالم اشتهارًا بقوانينه الرشيدة.
ومن الخطأ الكبير أنْ يُذْهَب إلى أنَّ اسم الشريعة لم يُعْرَف إلا بعد أوميرس، فهو قد تكلم عن شرائع مينوس، وتجد كلمة شريعة في هِزْيود، حتى إنَّ عدم وجود كلمة شريعة في هزيود أو أوميرس لا يدل على شيء، فقد كان يوجد ملوكٌ وقضاة؛ ولذا كانت توجد شرائع.
ومن الخطأ الكبير أيضًا أنْ يُذْهَب إلى أنَّ الأغارقة والرومان اقتبسوا قوانين من اليهود، فلا يمكن أنْ يكون هذا في أوائل جمهوريتهم؛ وذلك لأنهم ما كانوا ليعرفوا أمر اليهود في ذلك الحين، ولا يمكن أنْ يكون هذا في إبان عظمتهم؛ وذلك لأنهم كانوا يزدرون هذا الشعب ازدراءً معروفًا في جميع العالم.
- (٩)
ويثير هذا الشعب عجبنا بإخلاصه، فقد حافظ هؤلاء القوم محافظة ودٍّ ووفاء على الكتاب الذي صرَّح موسى فيه بأنهم كافرون بنعمة الله دائمًا، وبأنه يعلم أنهم سيبقون هكذا بعد موته، ولكن مع دعوة السماء والأرض أنْ تكونا شاهدتين عليهم، ومع تبليغهم هذا بما فيه الكفاية، وبأن الله سيغضب عليهم في آخر الأمر، فَيُفَرِّق شملهم بين جميع أمم الدنيا، وبأنهم إذا أغضبوه بعبادتهم آلهة — لم يكونوا آلهة لهم قط — فإنه سيغضبهم بدعوته قومًا لم يكونوا قومه قط، ومع ذلك فإنهم يحافظون على هذا الكتاب الذي يفضحهم على وجوهٍ كثيرة ويفدونه بحياتهم، وهذا إخلاصٌ لا مثيل له في العالم ولا أصل له في الطبيعة.
تجد لهذا الإخلاص أمثلة في كل مكان، وليس أصله في غير الطبيعة، فزهو كل يهودي يحمله على الاعتقاد بأن غضب الله هو سبب عقابه، لا كون سياسته الفاسدة، ولا جهله للمِهن، ولا غِلظته، علة ضياعه، وهو يرى — مع القناعة — أنه كان لا بدَّ من الخوارق حتى يُهدَّ، وأن شعبه حبيب الرب الذي يجازيه.
وليصعد واعظٌ في المِنْبَر وليقل للفرنسيين: «أنتم مساكين، لا قلب لكم، ولا هدى عندكم، فَهُزِمْتهم في هوستد وراملي؛ لعدم معرفتكم أن تدافعوا عن أنفسكم»؛ ليبصر رجمَهم إياه. ولكنه إذا ما قال لهم: «أنتم كاثوليك أعزةٌ على الرب، فأغضبت خطاياكم الشائبة ربكم الأزلي الذي سلمكم إلى الملاحدة في هوستد وراملي، ولكنكم عندما تُبْتم إلى الله بارك شجاعتكم في دينان.» حَبَّبَته هذه الكلمات لدى الحضور.
- (١٠)
إذا ما وُجِدَ إلهٌ واحدٌ وجب ألا يُحب غيره، لا مخلوقاته.
يجب حُبُّ المخلوقات حُبَّ حنان، ويجب على الإنسان أنْ يحب وطنه وامرأته وأباه وأولاده، ويجب أنْ يُحبوا كثيرًا ما دام الرب قد حببهم إلينا على الرغم منا، ولا تصلح المبادئ المباينة لغير صنع برابرةٍ مبرهنين.
- (١١)
ونولد بغاة ما دام كل واحدٍ يميل إلى نفسه، وهذا خلاف كل نظام، فيجب الميل إلى العام، فميل الإنسان إلى نفسه بدء كل اختلال في الحرب والضابطة والاقتصاد، إلخ.
هذا وَفق كل نظام، ومن المحال أيضًا إمكان قيام مجتمع وبقائه بلا أنانية، كما أنَّ من المُحال أنْ تقع ولادةٌ بلا ميل إلى الملاذ الحسية، وأن يفكر في الغذاء بلا شهوة طعام … إلخ، فَحُبُّنا لأنفسنا هو الذي يساعد على حب الآخرين، ونحن نكون نافعين للجنس البشري بتبادل احتياجاتنا، وهذا هو أساس كل مصاحبة، وهذه هي الصلة الخالدة بين الناس، ولولا ذلك الحب ما اخْتُرِعَت صنعةٌ، ولا قام مجتمعٌ مؤلَّفٌ من عشرة أشخاص. وهذه الأنانية التي نالها كل حيوان من الطبيعة هي التي تُنَبِّهُنا إلى احترام أنانية الآخرين، والقانون يُوَجِّه هذه الأنانية، والدين يُكْمِلها، والحق أنه كان يمكن الرب أنْ يصنع مخلوقاتٍ منتبهةٍ لخير الآخرين، ففي هذه الحال يذهب التجار إلى الهند عن إحسان، وينشر البَنَّاء حجرًا عن مراعاةٍ لخاطر قريبه، بيد أنَّ الله أقام الأشياء على وجهٍ آخر، فلا نَتَّهم الغريزة التي أنعم بها علينا، ولنستعملها كما أمرنا.
- (١٢)
وما كان «حس النبوءات الخفي» ليغوِي، وما كان ليمكن غير شعب شهواني كذلك أنْ يغلط في ذلك؛ وذلك لأن النعم إذا ما أُمِّل بها كثيرًا، فما الذي يحول دون إدراك أولئك القوم للحقيقي منها إن لم يكن طمعهم الذي كان يعيِّن هذا الميل إلى حطام الدنيا؟
هل كان يُدْرِك أشدُّ شعوب الأرض روحانية ذلك الأمر على وجهٍ آخر على حسن نية؟ لقد كانوا عبيدًا للرومان، وكانوا ينتظرون منقذًا، يجعلهم منصورين، ويحمل على احترام أورشليم في جميع العالم، وكيف كان يمكنهم أنْ يُبْصِرُوا — على نور عقلهم — هذا المنصور، هذا العاهل في يسوع الفقير المصلوب، وكيف كان يمكنهم أنْ يُدْرِكوا وجود أورشليم سماوية،ٍ تقوم مقام عاصمتهم مع أنَّ الوصايا العشر لم تُحَدِّثهم عن خلود الروح فقط؟ وكيف يمكن شعبًا شديد التمسك بشريعته أنْ يعرف — بلا نورٍ عالٍ — في النبوءات، التي لم تكن شرعًا له، إلهًا خفيًّا في صورة يهودي مختونٍ، قضى بدينه الجديد على الختان والسبت اللذين هما أساس الشريعة اليهودية المقدسة؟ وأخيرًا لنعبد الله من غير أنْ نلج في ظلام أسراره.
- (١٣)
وقد نُبِّئ بزمن أول ظهورٍ ليسوع، ولم يُنَبَّأ بظهوره الثاني قط؛ وذلك لما وجب أنْ يكون الأول خفيًّا، ولما يجب أنْ يكون الثاني سَنِيًّا بالغًا من الوضوح ما يعترف به حتى أعداؤه.
لقد نُبِّئ بظهور يسوع الثاني بأوضح مما نُبِّئ بالأول، ومن الواضح أنْ يكون مسيو بسكال قد نسي أنَّ يسوع صرح قائلًا في الفصل الحادي والعشرين من إنجيل مار لُوقا: وإذا رأيتم أورشليم قد أحاطت بها الجنود، فاعلموا حينئذٍ أنَّ خرابها قد اقترب … وتدوس الأمم أورشليم، وتكون علاماتٌ في الشمس والقمر والنجوم وعلى الأرض كربٌ للأمم حَيْرَةً من عجيج البحر وجَيَشَانه، وتزهق الناس من الخوف وانتظار ما يأتي على المسكونة، فإن قوات السماوات تتزعزع، وحينئذٍ يشاهدون ابن البشر آتيًا على سحابةٍ بقوةٍ وجلال عظيمين.
أو ليس هذا إنباء جليًّا بالظهور الثاني؟ ولكن إذا كان هذا لم يقع بعد؛ فإنه ليس لنا أن نجرؤ على سؤال القدرة الربانية عنه.
- (١٤)
ويجب أنْ يكون المسيح عند اليهود الشَّهاوَى أميرًا زمنيًّا كبيرًا، وقد جاء المسيح عند النصارى الشهاوى؛ ليُعْفِيَنا من حب الرب، ويعطينا أسرار القربان التي تؤثر كلها بغيرنا، وليس الدين النصراني أو اليهودي هذا أو ذاك.
فهذه المادة كلامُ هَجْوٍ أكثر من كونها تأملًا نصرانيًّا، ويُرى أنَّ اليسوعيين هم الذين يُحْقَد عليهم هنا، ولكن هل قال يسوعي إنَّ يسوع «جاء ليعفينا من حب الرب؟» إنَّ الجدال حول حُبِّ الرب هو جدال ألفاظ، شأن معظم المناقشات العلمية الأخرى التي أدت إلى ضغائن شديدة ومصائب فظيعة.
ويبدو نقصٌ آخر في هذه المادة، وهو أنَّ ما يُفْتَرض فيها من انتظار مسيحٍ عُد مسألة دينٍ لدى اليهود، مع أنَّ هذا كان فكرة مُسَرِّيَة منتشرة بين هؤلاء القوم، أجل، إنَّ اليهود كانوا يرجون ظهور منقذ، بيد أنهم لم يؤمروا باعتقاد هذا على أنه مادة إيمان، وقد كان جميع دينهم مُدَوَّنًا في أسفار الشريعة، ولم يحدث قط أنْ عدَّ اليهود الأنبياء مشترعين.
- (١٥)
ولا بدَّ من فحص النبوءات لإدراكها؛ وذلك لأنه إذا ما اعتُقِد أنه ليس لها غير معنى واحدٍ كان من الأكيد أنَّ المسيح لا يظهر مطلقًا، ولكنه إذا كان لها معنيان؛ فإنه سيظهر في شخص يسوع لا ريب.
إنَّ الدين النصراني هو من الصحة ما لا يحتاج معه إلى أدلةٍ مبهمة، والواقع أنه إذا وُجِدَ شيء لا يمكن أنْ يزعزع أسس هذا الدين المقدس المعقول كان إحساس مسيو بسكال هذا هو ذاك الشيء، وذلك أنه يريد وجود معنيين لكل شيء في الكتاب المقدس، ولكنه إذا وُجِدَ رجلٌ بلغ من شقاء الإلحاد ما يقول له: إنَّ الذي يعطي معنيين لكلامه يريد خَدْعَ الناس، وإن هذه المخادعة مما تعاقب عليه القوانين دائمًا؛ ولذا فكيف تستطيع أنْ تذهب — بلا خجلٍ — إلى وجود شيء في الله يعاقب عليه، ويكره وجوده في الناس؟ وما أقول؟ فأيُّ ازدراء وأيُّ حنقٍ لا تعاملون بهما هواتف الوثنيين لأن لها معنيين؟ ألا يمكن أنْ يقال: إنَّ الأفضل هو ألا يكون للنبوءات الخاصة بيسوع مباشرة غير معنًى واحد كنبوءات دانيال وميخا وغيرهما؟ أو لا يمكن أنْ يقال أيضًا: إننا إذا لم نكن مدركين لشيءٍ من النبوءات، أفلا يكون الدين أقل ثبوتًا بهذا؟
- (١٦)
وما بين الأجسام والأرواح من بُعْدٍ لا حدَّ له، يصور ما بين الأرواح والمحبة من بُعْدٍ أكثر لا نهاية من ذلك بما لا حدَّ له؛ وذلك لأنها فوق الطبيعة.
ما كان مسيو بسكال ليستعمل هذه السفسطات في كتابه — على ما نعتقد — لو كان لديه من الوقت ما يفعل فيه هذا.
- (١٧)
ويكون أظهر ضعف قوة لدى من يحسنون تناول الأشياء، ومن ذلك سلسلتا النسب لدى مار متَّى ومار لُوقا، ومن الواضح أنَّ هذا لم يوضع باتفاق.
فهل كان على ناشري «الأفكار» أنْ يطبعوا هذه الفكرة التي يكفي عرضها وحده على الإضرار بالدين؟ وما فائدة القول بأن تينك السلسلتين، بأن تينك النقطتين الأساسيتين في الدين النصراني، متناقضتان من غير أن يبين الوجه الذي يمكن أنْ يُوفَّق فيه بينهما؟ كان يجب تقديم الترياق مع السُّم، وما يفكر في أمر محامٍ يقول: «أجل، إنَّ موكلي يناقض نفسه، بيد أنَّ هذا الضعف قوةٌ لدى مَنْ يعرفون حسن تناول الأمور؟»
- (١٨)
ولذا لا ينبغي أن نُعَيِّر — بعد الآن — بعدم الوضوح، ما دمنا نباهي به، ولكن لتُعْرَف حقيقة الدين في غموض الدين نفسه، فيما عندنا من قلة وضوحه، وفيما لدينا من عدم اكتراث لمعرفة ذلك.
تلك هي دلائل الحقيقة التي يأتي بها بسكال! وما يمكن أنْ يكون للكذب من دلائل أخرى؟ ماذا؟! كان يكفي الإنسان أنْ يقول ليُصَدَّق: «أنا غامض، أنا مستغلق!» يكون أقرب إلى الصواب ألا يُعرض على الأبصار غير أنوار الإيمان بدلًا من غوامض العلم.
- (١٩)
ولو لم يكن غير دينٍ واحد لكان الله جليًّا جدًّا.
ماذا؟! أنت تقول: «لو لم يكن غير دينٍ واحد لكان الله جليًّا جدًّا؟!» آه! أو تنسى أنك تقول في كل صفحة: إنه لن يكون غير دينٍ واحدٍ ذات يوم؟ ولذا فأنت ترى أنَّ الله سيكون جليًّا جدًّا في ذلك الحين.
- (٢٠)
وأقول: إنَّ الدين اليهودي لم يَقُم على أيٍّ من هذه الأمور، بل على حب الله فقط، وإن الله كره جميع الأمور الأخرى.
ماذا؟! كره الله جميع ما أمر به اليهود بالغ العناية مفصِّلًا تفصيلًا عجيبًا! أليس أصح من هذا أنْ يقال إنَّ شريعة موسى قامت على المحبة والعبادة؟ قد ينطوي ردُّ كل شيء إلى حب الله على ما هو أقل من مقت كل يَنْسِيني لقريبه الموِليني.
- (٢١)
وأهم شيء للحياة هو اختيار مهنة، والحكم في ذلك للنصيب، والعادة هي التي تصنع البَنَّائين والجنود المسقفين.
وما الذي يستطيع أنْ يقضي في أمر الجنود والبَنَّائين وجميع العمال الميكانيين إنْ لم يكن ما يسمى النصيب والعادة؟ ولا يوجد غير المهن القائمة على العبقرية ما يُعَيَّن تعيينًا تلقائيًّا، وأما المهن التي يستطيع جميع الناس أنْ يقوموا بها فإن من الطبيعي جدًّا، ومن المعقول جدًّا، أنْ تحكم العادة في أمرها.
- (٢٢)
وليفحص كل واحدٍ فكرة، فهو يجده مشغولًا بالماضي والمستقبل دائمًا، ونحن لا نكاد نفكر في الحاضر مطلقًا، ونحن إذا ما فكرنا فيه؛ فذلك لكي نقتبس من نوره ما نحكم به في أمر المستقبل، فليس الحاضر غرضنا مطلقًا، ونعد الماضي والحاضر وسيلتين لنا، والمستقبل وحده هو هدفنا.
ولنشكر، مع الابتعاد عن التوجع، لصانع الطبيعة إنعامه علينا بهذه الغريزة التي تَمْضِي بنا إلى المستقبل بلا انقطاع، فأثمن كنزٍ لدى الإنسان هو هذا الأمل الذي يُلَطِّف أحزاننا، والذي يصور لنا ملاذ المستقبل في موكب الملاذ الحاضرة، ولو كان الناس من الشقاء ما لا يبالون معه بغير الحاضر ما زرعوا مطلقًا، وما بنوا مطلقًا، وما غرسوا مطلقًا، وما استعدوا لشيء مطلقًا، ولأعوزهم كل شيء بين هذا التمتع الخادع، وهل كان يمكن ذكيًّا مثل مسيو بسكال أنْ يُبْدي مثل ذلك الرأي الفاسد في مكانٍ عام؟ فالطبيعة قضت بأن يتمتع كل إنسان بالحاضر، وذلك بأن يتغذى ويُنْسِل أولادًا وأن يُصغي إلى الأصوات العذبة وأن يُعمل ملكة التفكير والإحساس فيه، فهو إذا ما قام بهذه الأحوال فكَّر في أمر الغد في أثناء قيامه بهذه غالبًا، وإلا هلك اليوم بؤسًا.
- (٢٣)
ولكنني عندما نظرت إلى ذلك عن كثب، وجدت أنْ ابتعاد الناس عن الراحة والسكون إلى أنفسهم ناشئٌ عن سببٍ فعال؛ أي عن الشقاء الطبيعي الملازم لضعفنا وزوالنا وبؤسنا البالغ الذي لا يستطيع شيء أن يسلينا عنه لو لم يوجد ما يمنعنا من التفكير فيه، ولو قُصِر أمرنا على غير رؤية أنفسنا.
لا تجد أي معنى لكلمة «غير رؤية أنفسنا.»
وما يكون الإنسان الذي لا يسعى مطلقًا، والذي يُفتَرض إنعام نظره في نفسه؟ لا أقتصر على القول بأن هذا الإنسان يكون غبيًّا غير نافعٍ للمجتمع، بل أقول: إنَّ هذا الإنسان لا يمكن أنْ يكون، وإلا ففيم ينعم النظر؟ أفي جسمه ورجليه ويديه وحواسه الخمس؟ هو إما أنْ يكون غبيًّا وإما أنْ ينتفع بجميع هذا، وهل يقف عند تأمل ملكة تفكيره؟ هو إما ألا يفكر في شيء، وإما أنْ يفكر في الآراء التي كانت قد أتته، وإما أنْ يؤلف آراء جديدة، والواقع أنه لا يمكن أن ينال أفكارًا من غير الخارج، وهكذا ترى باله مشغولًا بحواسه أو بآرائه بحكم الضرورة إذن، وهكذا تراه خارج نفسه أو غبيًّا إذن.
ونعود فنقول: إنَّ مما يتعذر على الطبيعة البشرية أنْ يبقى الإنسان غارقًا في هذا الخيل الخيالي، وإن من المحال أنْ يفكر فيه، وإن من الحماقة أن يدعي ذلك، فالإنسان وُلِدَ لِيَعْمَل، وهو في هذا كالنار التي تميل إلى الصعود، والحجر الذي يميل إلى السقوط، ولا فرق بين عدم العمل وعدم الوجود نظرًا إلى الإنسان، والفرق كل الفرق بين الأشاغيل اللطيفة والأشاغيل الصاخبة، وبين الأشاغيل الخطرة والأشاغيل النافعة.
- (٢٤)
وللناس غريزة خفية تحملهم على طلب التسلية والشغل في الخارج، وتأتيهم من شعورهم ببؤسهم الدائم، وللناس غريزة خفية أخرى تبقى من طبيعتهم الأولى، فيعرفون بها أنَّ السعادة ليست في غير الراحة بالحقيقة.
وبما أنَّ هذه الغريزة الخفية هي أصل المجتمع الأول وأساسه اللازم؛ فإنها تصدر عن كرم الله كما هو الأحرى، وهي وسيلة سعادتنا أكثر من أنْ تكون شعورًا ببؤسنا، ولا أعرف ماذا كان آباؤنا الأولون يفعلون في جنة الدنيا، ولكن إذا كان كل واحدٍ منهم لم يفكر في غير نفسه؛ فإن حياة الجنس البشري تكون قد عُرِّضت للخطر، أو ليس من غير المعقول أنْ يذهب إلى أنهم كانوا ذوي حواس كاملة؛ أي وسائل عمل تامة، للتأمل فقط؟ أو ليس من المضحك أن تستطيع رءوس مفكرة أنْ تتصور أنَّ الكسل عنوان للعظمة وأنَّ العمل تنزيل لطبيعتنا؟
- (٢٥)
ولذا فإن سينياس عندما كان يقول لبِرُّوس، الذي كان ناويًا هو وأصدقاؤه أنْ يتمتع بالراحة بعد فتح قسمٍ كبير من العالم، إنَّ الأفضل أنْ يُعَجِّل سعادته بنفسه متمتعًا بهذه الراحة منذ ذلك الحين من غير أنْ يطلبها بمشاقٍّ كثيرة، كان يُقَدم إليه نصيحة تُلاقي مصاعب كبيرة، ولم تكن قط أكثر صوابًا مما عَقَدَ هذا الطامح الشاب نيته عليه، فهذا وذاك كانا يفترضان إمكان رضى الإنسان عن نفسه وقناعته بأطايبه الحاضرة، وذلك من غير ملء فراغ فؤاده بآمال خيالية، وهذا خطأ، فما كان بروس ليستطيع أن يكون سعيدًا قبل فتح العالم، ولا بعده.
إنَّ مثل سينياس حسن في أهاجي دبريئو، لا في كتابٍ فلسفي، فالملك العاقل يمكن أنْ يكون سعيدًا في منزله، وما يقدم إلينا عن بروس مجنونًا لا يُستدل به على بقية الناس.
- (٢٦)
ويجب أنْ يُعْتَرف بأن الإنسان هو من الشقاء ما يسأم معه، حتى عند عدم وجود سبب غريب للسأم، وذلك بفعل وضعه الخاص.
فالإنسان — على العكس — كثير السعادة من هذه الناحية، وترانا مدينين كثيرًا لصانع الطبيعة الذي أناط السأم بالسكون؛ كيما يلزمنا أنْ نكون نافعين للقريب ولأنفسنا.
- (٢٧)
ومن أين أتى كون هذا الرجل الذي فقد ابنه الوحيد منذ قليل، والذي أثقلته القضايا والخصومات، كثير الاضطراب في هذا الصباح، فعاد الآن لا يفكر في شيءٍ من هذا؟ لا تعجبوا من ذلك، فهو منهمكٌ في مشاهدته أين يمر أيلٌ تتعقبه كلابه بهمَّة منذ ست ساعات، وليس أكثر من هذا ما يُنْتَظَر من الإنسان مهما كان مملوءًا كربًا، فإذا ما أمكن جعله يلهو بعض اللهو كان سعيدًا في أثناء ذلك الوقت.
وحسنًا ما يصنع هذا الإنسان، فاللهو أشفى للألم من الكينا للحُمَّى، فلا نَلُمِ الطبيعة على هذا مطلقًا، والطبيعة مستعدة لمساعدتنا دائمًا.
- (٢٨)
ولنتصور عددًا من الناس مقرَّنين في القيود، وأن هؤلاء الناس محكومٌ عليهم بالموت، فيُذبح بعضهم في كل يومٍ على مرأى من بعض، فيبصر الباقون وضعهم الخاص من خلال وضع أمثالهم، وهم — إذ ينظر بعضهم إلى بعضٍ مع الألم وبلا أمل — ينتظرون دورهم، وهذه هي صورة حال الناس.
لا مراء في أنَّ هذه المقارنة ليست صائبة، فالتُّعَساءُ المقَيَّدُون الذين يُذْبَح الواحد منهم بعد الآخر تعساء، لا لأنهم يألمون فقط؛ بل لأنهم يُحِسُّون ما لا يألم منه الآخرون أيضًا، وليس المصير الطبيعي للإنسان أنْ يُقَيَّد، ولا أنْ يُذْبَح وإنما صُنِع الناس، كما صُنِع الحيوان والنبات؛ لِيَكْثُروا ويعيشوا حينًا من الزمن، ولينسلوا أمثالهم ويموتوا، أجل، يمكن إظهار الإنسان في الأهجوة من الناحية السيئة كما يراد، ولكن إذا ما نُظِرَ إلى عقله اعترف بأنه أكمل جميع الحيوانات وأكثرها سعادة وأطولها عمرًا؛ ولذا فإن علينا أنْ نهنئ أنفسنا معجبين بسعادتنا وطول عمرنا بدلًا من أنْ نتوجع من العجب من تعس الحياة وقصرها؛ ولذا فإنني إذا ما نظرت في الأمر مثل فيلسوف أقدمت على القول بأنه يوجد كثيرٌ من الصَّلَف والتَّهَوُّر في الزعم بأنه يجب أنْ نكون بطبيعتنا أحسن مما نحن عليه.
- (٢٩)
وقد اضْطُهِد الحكماء الذين قالوا بين الوثنيين بعدم وجود إلهٍ غير الله، كما مُقت اليهود وأُبغض النصارى أكثر من اليهود.
أجل، كانوا قد اضطُهدوا أحيانًا، وذلك كما يحدث لو ظهر رجلٌ ونادى بعبادة إلهٍ على وجهٍ يخالف العبادة المتبعة. ولم يُحْكَم على سقراط لأنه قال: «لا يوجد غير إلهٍ واحد» بل لأنه عارض عبادة البلد الخارجية، ولأنه خلق لنفسه أعداء أشداء في وقتٍ غير مناسب جدًّا. وأما اليهود فقد مُقِتُوا، لا لأنهم كانوا لا يؤمنون بغير إلهٍ واحد؛ بل لأنهم كانوا يمقتون الأمم الأخرى مقت سخرية، ولأنهم كانوا برابرة يَقْتُلون أعداءهم المغلوبين بلا رحمة، ولأن هذا الشعب اللئيم الخرافي الجاهل العاطل من المهن والتجارة كان يزدري أكثر الأمم تهذيبًا. وأما النصارى فقد أبغضهم الوثنيون؛ لأنهم كانوا يهدفون إلى هدم الدين والإمبراطورية اللذين غلبوهما في آخر الأمر وهم في هذا كالبروتستان الذين غَدَوْا سادة بلادٍ مُقِتُوا فيها واضْطُهِدوا وذُبحوا زمنًا طويلًا.
- (٣٠)
وعيوب مونتن كبيرةٌ، فهو زاخرٌ بالألفاظ البذيئة، ولا قيمة لهذا، وما يساوره من مشاعر حول القاتل القاصد، وحول الإعدام، فظيع.
يتكلم مونتن مثل فيلسوف لا مثل نصراني، وهو يقول ما للقتل قصدًا وما عليه. ونسأل من الناحية الفلسفية: أيُّ سوء يصيب به المجتمع رجلٌ يتركه بعد أنْ عاد غير قادر على خدمته؟ إذا ما ظهر شائبٌ مصاب بالحصاة، وكان يعاني آلامًا لا تُطَاق، قيل له: «إذا لم تُبْضَع مت، وإذا ما بُضِعْتَ أمكن أن تهذي وتريل١ وتسقم عامًا، فتكون عبئًا على نفسك وعلى غيرك». فأفترض أنَّ هذا الرجل الطيب القلب يُزْمِع إذ ذاك، ألا يعود عبئًا على أحد، وهذه هي الحال التي يعرضها مونتن. - (٣١)
ما عدد النجوم التي اكتشفتها النظارات بعد أنْ كانت مجهولة لدى فلاسفتنا في غابر الأزمان؟ كان يُحْمَل على الكتاب المقدس لوجود عددٍ كبير من الكواكب في مواضع كثيرةٍ منه، وكان يقال إنه لا يوجد منها غير ١٠٢٢، ونعرف هذا.
من الثابت أنَّ الكتاب المقدس، في موضوع الفزياء، تساوق والأفكار الدارجة دائمًا، ومن ذلك افترض سكون الأرض وأنَّ الشمس تسير، إلخ. ولم ينشأ قوله إنَّ الكواكب تفوق الحصر عن تدقيقٍ فلكي، بل عن مطابقةٍ للآراء العامية، والواقع أنَّ عيوننا — وإن كانت لا تكتشف من الكواكب غير ١٠٢٢ تقريبًا — تُبْهَر حينما تنظر إلى السماء محدقة، فتعتقد أنها ترى من النجوم ما لا يحصيه عدٌ؛ ولذا فإن الكتاب المقدس يخاطبنا وفق هذا المبتسر٢ العامي، وذلك أننا لم نعطِه ليصنع منا علماء فزياء، كما أنَّ من الواضح جدًّا أنَّ الرب لم يوحِ إلى حَبَفُّوق وباروك وميخا بأن الإنكليزي فلْمسْتِد سيضع في جدوله أكثر من سبعة آلاف نجم شاهدها بالمرقب. - (٣٢)
وهل من الشجاعة أنْ يذهب إنسانٌ ضعيفٌ محتضرٌ؛ ليجبه إلهًا قادرًا أزليًّا؟
لم يحدث هذا قط: ولا يمكن الرجل أنْ يقول: «أومن بإله وأجرؤ عليه» إلا في أثناء هذيانٍ شديد.
- (٣٣)
أومن، مختارًا، بالتواريخ التي يتناحر شهودها.
ليست الصعوبة في معرفتنا فقط؛ هل نصدق شهودًا يموتون تأييدًا لشهادتهم كما يصنع كثيرٌ من المتعصبين، فالصعوبة أيضًا في معرفتنا: هل مات هؤلاء الشهود في هذا السبيل بالحقيقة، وهل حُفظت شهاداتهم، وهل أقاموا بالبلاد التي رُوِي أنهم ماتوا فيها، ولِمَ لم يقل يوسف، الذي وُلِدَ أيام موت يسوع، والعدو لهيرودس، والقليل الارتباط في اليهودية، كلمة عن جميع هذا؟ هذا ما كشف عنه مسيو بسكال مع التوفيق، وهذا ما صنعه كثيرٌ من بلغاء الكتاب، بعد ذلك.
- (٣٤)
وللعلوم طرفان متماسان، فالطرف الأول هو الجهل الطبيعي الخالص الذي يكون عليه جميع الناس حين يولَدون، والطرف الثاني هو ما يصل إليه ذوو النفوس العظيمة الذين يجولون في كل ما يمكن أنْ يعرفه الناس، فيجدون أنهم لا يعرفون شيئًا، والذين يلاقون هذا الجهل الذي كانوا قد انطلقوا منه.
إنَّ هذه الفكرة سفسطةٌ صرفة، فالبطل يقوم على كلمة «الجهل»، التي تُعدُّ ذات معنيين مختلفين. أجل، إنَّ الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة جاهلٌ، ولكن الرياضي، الذي يجهل مبادئ الطبيعة الخفية، ليس عند نقطة الجهل التي انطلق منها عندما أخذ يتعلم القراءة. أجل، كان مستر نيوتن لا يعرف سبب تحريك الإنسان لذراعه عندما يريد، ولكن هذا لم يمنع من كونه عالمًا بالنسبة إلى البقية، ويُحسب الذي لا يعرف العبرية، والذي يعرف اللاتينية، عالمًا إذا ما قيس بالذي لا يعرف غير الفرنسية.
- (٣٥)
ولا تعني قدرة الإنسان على الاستمتاع باللهو كونه سعيدًا؛ وذلك لأنه يأتي من الخارج ومن موضع آخر، وهكذا فهو تابع؛ ومن ثم عرضةٌ ليُكَدَّر بألف حادث، يجعل الأحزان أمرًا لا مفر منه.
إنَّ صاحب اللذة سعيدٌ حاليًّا، ولا يمكن أنْ تأتي هذه اللذة من غير الخارج، ولا يمكننا أنْ نكون ذوي أحاسيس أو أفكار بغير الأشياء الخارجية، كما أننا لا نستطيع أنْ نُغَذي جسمنا إلا بإدخال مواد غريبة تتحول إلى مادتنا.
- (٣٦)
ويُتَّهم أقصى الذكاء بالجنون كما يُتَّهم أقصى العيب، ولا شيء يُعد صالحًا غير الاعتدال.
ليس أقصى الذكاء؛ بل أقصى الخفة والبَعْبَعَة، ما يتهم بالجنون، فأقصى الذكاء هو أقصى السداد، وأقصى الدقة وأقصى البَسْطَة المناقضة للجنون على خطٍ مستقيم.
ويُعَدُّ نقص الذكاء الأقصى نقصًا في الإدراك؛ أي خلوًّا من الأفكار، وليس هذا جنونًا مطلقًا، بل غباوة، والجنون هو اختلالٌ في الأعضاء يري أشياء كثيرة بسرعة، أو يقف الخيال حيال شيءٍ واحد مع كثيرٍ من الحصر والصولة؛ ولذا فليس الاعتدال هو ما يستطاب، بل الابتعاد عن العيبين، وهذا ما يسمى «بين بين»، لا «اعتدالًا».
- (٣٧)
وإذا كنا في حال سعيدة حقًّا؛ فإنه لا ينبغي لنا أن ننصرف عن التفكير فيها.
تقضي حالنا بالتفكير، ضبطًا في الأمور الخارجية، التي نكون على صلةٍ لازمة بها، ومن الخطأ أنْ يُذْهَب إلى إمكان صرف الإنسان عن التفكير في الحال الإنسانية، وذلك أنَّ الإنسان، مهما كان الشيء الذي يُعْمِل فيه ذهنه، يُعْمِل هذا الذهن في الشيء المرتبط، في الحال البشرية ارتباطًا ضروريًّا، ونعود فنقول: إنَّ تفكير الإنسان في نفسه تفكيرًا مجردًا من الأمور الطبيعية يعني عدم التفكير في شيء، فليحترز من هذا.
وإنا، مع بُعْدِنا من منع الإنسان من التفكير في حاله، لا نُزَوِّده بغير ملاذ حاله، ويخاطب العالِم بالصيت والعلم، ويخاطب الأمير بكل ما له صلةٍ بعظمته، ويخاطب كل إنسان باللذة.
- (٣٨)
وللأكابر والأصاغر عَيْنُ النوائب وعين الكروب وعين الآلام، بيد أنْ الأولين في أعلى الدولاب وأن الآخرين قريبون من المركز فيكونون — على هذا الوجه — أقل اهتزارًا بعين الحركات.
من الخطأ أنَّ يقال إنَّ الأصاغر أقل اهتزارًا من الأكابر، فعلى العكس ترى أنْ يأسهم أكثر شدة؛ لأنهم أقل وسائل، فانظر إلى مائة شخصٍ يتذابحون بلندن تجد تسعين من المائة من العوام وواحدًا من المائة من الخواص، فالمقارنة بالدولاب لبقةٌ فاسدة.
- (٣٩)
لا يُعَلَّم الناس أنْ يكونوا صالحين، وهم يعلَّمون كل ما بقي، ومع ذلك فإنهم لا يدَّعون بشيء ادعاءهم بذلك، وهكذا فإنهم لا يَدَّعون من المعرفة بغير الشيء الوحيد الذي لا يتعلَّمونه مطلقًا.
يُعَلَّم الناس أنْ يكونوا صالحين، ولولا هذا ما انتهى إلى الصلاح غير القليلين، فدعوا ابنكم يأخذ في صباه كل ما تصل يده إليه تجدوه من قُطَّاع الطُّرُق في الخامسة عشرة من سنيه، وامتدحوا قوله الكذب يُصْبَح شاهدًا كاذبًا، وداروا ميله الجنسي يكن فاجرًا لا ريب، فالناس يعلَّمون كل شيء، يُعَلَّمون الفضيلة والدين.
- (٤٠)
ويا للمشروع السخيف الذي أخذ مونتن على نفسه أنْ يرسمه! وليس هذا أمرًا عابرًا وخلافًا لمبادئه، كما يمكن أنْ يَزِلَّ كل إنسان، بل وَفْقَ مبادئه الخاصة ووَفْقَ الرسم الأصلي الأول؛ وذلك لأن قول الحماقات اتفاقًا وعن ضعفٍ شرٌّ عادي، وأما قولها قصدًا فأمرٌ لا يطاق، كقول تلك.
يا للمشروع الفاتن الذي أخذ مونتن على نفسه أنْ يرسمه كما صنع! وذلك أنه رسم الطبيعة البشرية، ويا لمشروع نيكول وملبرانش وبسكال الهزيل في الاستخفاف بمونتن!
- (٤١)
وعندما أنعمت النظر في أمر الركون إلى كثيرٍ من الدجالين الذين يقولون إنَّ لديهم أدوية، فيتصرفون حتى في حياة الإنسان غالبًا ظهر لي أنَّ علة هذا الحقيقية هو وجود أدويةٍ صحيحة؛ وذلك لأن من غير الممكن وجود أباطيل كثيرةٍ يُرْكَنْ إليها كثيرًا من غير أنْ يوجد بينها ما هو صحيح، ولو حدث أنْ خلت منها، وكانت جميع الأمراض مستعصية لكان من المحال أن يَعنَّ للناس إمكان إعطائهم منها، وذلك إلى إمكان ركون آخرين كثيرين إلى من يَتَبَجَّحُون بحيازتهم لها، وكذلك فإن الرجل الذي يَتَبَجَّح بأنه يحول دون الموت لا يُصَدِّقه أحد؛ وذلك لعدم وجود مثالٍ على ذلك. ولكن بما أنه يوجد مقدارٌ من الأدوية التي وُجد أنها صحيحةٌ بشهادة أعاظم الرجال، فإن ركون الناس قد ضُمن بهذا، وذلك بما أنَّ الأمر لا يمكن أن يُنكر على العموم (ما دام يوجد من المعلومات الخاصة ما هو حقيقيٌ)، فإن الجمهور، الذي لا يستطيع أنْ يميز أي هذه المعلولات هو الصحيح، يَعْتَقِدها كلها، وكذلك فإن الذي يحمل على اعتقاد كثيرٍ من معلولات القمر الفاسدة هو وجود ما هو صحيحٌ منها، وذلك كمد البحر.
وهكذا فإن من الجَلِيِّ أيضًا — كما يبدو لي — أنَّ المعجزات الباطلة الكثيرة والوحي الكثير الفاسد، وأضرار السحر الكثيرة لم تكن إلا لوجود ما هو صحيحٌ منها.
يلوح لي أنَّ الطبيعة البشرية لا تحتاج إلى الصحيح حتى تقع في الخطأ، فقد عُزي ألف تأثير زائف إلى القمر قبل أنْ تتصور أقل صلةٍ حقيقية بمد البحر، وقد صدَّق أول رجلٍ مريضٍ أول طبيب جاهل، ولم يرَ أحد سعالَى ولا ساحرًا يجول في الليل متنكرًا بهيئة ذئب، وترى كثيرًا من الناس قد اعتقدوا وجود هؤلاء، ولم يرَ أحد تحول المعادن. وترى كثيرًا من الناس قد أفلسوا بسبب اعتمادهم على الإكسير، وهل كان الرومان والأغارقة وجميع الوثنيين لا يؤمنون بالمعجزات الكاذبة التي كانوا غارقين فيها، إذن، إلا لأنهم شاهدوا الصحيح منها؟
- (٤٢)
وينظم الميناء من يكونون في المركب، ولكن أين نجد هذه النقطة في الأخلاق؟
نجدها في المبدأ الآتي الذي قالت به جميع الأمم، وهو:لا تعامل الناس بما لا تحب أن يعاملوك به.
- (٤٣)
وأولو البأس لا يرون الحياة بلا سلاح، وهم يفضلون الموت على السلم، والآخرون يفضلون الموت على الحرب، وكل رأي يُفضل على الحياة، التي يظهر أنَّ حبها بالغ القوة طبيعي جدًّا.
هذا ما قاله تاسيت عن الكَتَلُونيين، ولكن لا يُوجد من قِيل عنهم أو من يُمكن أنْ يقال عنهم: «إنهم يفضلون الموت على الحرب.»
- (٤٤)
وكلما وُجد كثير ذكاء وُجد مبدعون، ولا يجد السوقة فرقًا بين الناس.
حقًّا إن المبدعين قليلون، والجميع — تقريبًا — يسيرون ويفكرون ويشعرون، بفعل العادة والتربية، ولا شيء أندر من أنْ تسير نفسٌ في طريقٍ جديدة، ولكن كل واحدٍ بين هذا الجمع من الآدميين الذين يسيرون معًا ذو فروق صغيرة في المشية تنتبه لها الأبصار الدقيقة.
- (٤٥)
ولذا توجد نفسان: نفس تنفذ نفوذًا قويًّا عميقًا في نتائج المبادئ، وهذه هي نفس السداد، ونفس تُدْرِك كثيرًا من المبادئ من غير أنْ تخلط بينها، وهذه هي النفس الهندسية.
أعتقد أنَّ العادة تذهب اليوم إلى تسمية روح التدقيق والبرهنة بالروح الهندسية.
- (٤٦)
ويسهل احتمال الموت من غير أنْ يفكَّر فيه أكثر من فكرة الموت بلا خطر.
لا يمكن أن يقال أنَّ الإنسان يحتمل الموت بسهولة أو بصعوبة إذا لم يفكر فيه قط، فالذي لا يحس شيئًا لا يحتمل شيئًا.
- (٤٧)
ونفترض أنَّ جميع الناس يدركون، ويحسون، على نمطٍ واحدٍ، ما يظهر لهم من الأشياء، ولكننا نفترض هذا بلا داعٍ؛ وذلك لأنه لا يوجد لدينا أي دليل على ذلك، وأرى جيدًا أنَّ عينَ الكلمات تُطبَّق على عين الأحوال، فإذا ما رأى رجلان الثلج مثلًا عبَّرَ كل واحدٍ منهما عن منظر عين الشيء بعين الكلمات، وذلك بأن يقول هذا وذاك إنه أبيض. فمن هذا الاتفاق في التطبيق يستنبط افتراض قوي لاتفاق الفكر، بيد أنَّ هذا ليس مقنعًا على الإطلاق، وإن وُجد مجالٌ للرهان على الناحية الإيجابية.
وليس اللون الأبيض ما كان يجب أنْ يؤتى به برهانًا، فالأبيض الذي هو اجتماع جميع الأشعة، يبدو ساطعًا لجميع الناس، وهو يبهر بعض الشيء على مر الأيام، ويكون له ذات الأثر في جميع العيون، ولكن من الممكن أن يقال إنَّ من المحتمل ألا تدرَك الألوان الأخرى من قِبل جميع العيون على ذات الوجه.
- (٤٨)
يقنع جميع عقلنا بالإذعان للإحساس.
فعقلنا يقنع بالإذعان للإحساس من ناحية الذوق، لا من ناحية العقل.
- (٤٩)
والذين يحكمون في أمر كتاب وفق قاعدة يكونون تجاه الآخرين كالذين لديهم ساعة تجاه مَنْ ليست لديهم ساعة مطلقًا، فأحدهم يقول: «مضت على وجودنا هنا ساعتان.» ويقول الآخر: «لم يمضِ غير ثلاثة أرباع الساعة.» وأنظر إلى ساعتي، فأقول لأحدهما: «أنت تسأم»، وأقول للآخر: لا يجري الزمن عندك مطلقًا.
فالذوق في آثار الذوق، كالموسيقا والشعر والتصوير، هو الذي يقوم مقام الساعة، والذي لا يحكم فيها بغير القواعد يكون حكمه سيئًا.
- (٥٠)
ويلوح لي أنْ قيصر كان من الكبر ما لا يذهب ليتلهى معه بفتح العالم، فأُلْهُوَّة مثل هذه كانت صالحة للإسكندر الذي كان من الشباب ما يصعب معه صرفه عن قصده، وقد كان قيصرًا أكثر رشدًا.
يُخَيَّل للإنسان عادةً أنَّ الإسكندر وقيصر قد خرجا من بلادهما قاصدين فتح العالم، وليس الأمر هكذا مطلقًا، فالإسكندر قد خلف فليب في رئاسة اليونان وفُوض إليه أن يَغِير انتقامًا للأغارقة من إهانات ملك الفرس، فلما هزم العدو المشترك واصل فتوحه حتى الهند؛ وذلك لأن مملكة دارا كانت تمتد حتى الهند، شأن دوك مارلبورو الذي كان يصل إلى ليون لولا المريشال فيلَّار.
وأما قيصر فقد كان من أكابر الجمهورية، وقد ساء ما بينه وبين يونبي، كما وقع بين الينسينيين والمولينيين، فتوقف الأمر على من يقطع دابره، وتقع المعركة حيث لم يُقتَل أكثر من عشرة آلاف رجل، ويتقرر كل أمر.
ومع ذلك فإن رأي مسيو بسكال فاسدٌ من كل ناحية على ما يحتمل، فكان لا بدَّ من رَشَدِ قيصر لتَبَيُّن المكايد الكثيرة، ومما يثير الحيرة أن كان يعدل من هو في مثل سن الإسكندر عن اللهو كيما يقوم بحربٍ شاقة جدًّا.
- (٥١)
ومن المضحك أنْ يوجد في العالم أناس أعرضوا عن جميع شرائع الرب والطبيعة، فوضعوا لأنفسهم منها ما يطيعونه تمامًا، كاللصوص مثلًا … إلخ.
هذا أيضًا أكثر فائدة في إنعام النظر من أنْ يكون مضحكًا؛ وذلك لأن هذا يثبت عدم استطاعة مجتمعٍ أنْ يبقى قائمًا يومًا واحدًا بلا قواعد.
- (٥٢)
ليس الإنسان ملكًا ولا حيوانًا، ومن الشقاء أنْ يكون حيوانًا من يريد أنْ يكون ملكًا.
ومن يُرد أنْ يقضي على الأهواء بدلًا من تنظيمها يُرِدْ أنْ يكون ملكًا.
- (٥٣)
ولا يحاول الحصان أنْ يجعل قرينه يُعْجَب به مطلقًا، ويُرَى بين الحُصُنِ ضربٌ من التنافس في السباق، ولكن بلا نتيجة؛ وذلك لأن أثقلها وأسوأها تقويمًا لا يتخلى، وهو في الإصطبل، عن شيء من جُلُبَّانه لهذا السبب، والأمر غير هذا بين الناس، فلا تقنع فضيلتهم بنفسها، وهم لا يقنعون إذا لم يستغلوها حيال الآخرين.
وكذلك الإنسان السيئ التقويم لا يتنزل عن خبزه للآخر، فالأقوى ينزعه من الأضعف، والكبار بين الحيوان — كما بين الإنسان — تأكل الصغار.
- (٥٤)
ولو أخذ الإنسان يدرس نفسه بنفسه لأبصر مقدار عجزه عن ترك ذلك، وكيف يقع علم الجزء بالكل؟ قد يتطلع — على الأقل — إلى معرفة الأجزاء التي يوجد بينه وبينها تناسبٌ، ولكنه يوجد بين أجزاء العالم من الصلة والتسلسل ما يتعذر معه معرفة أحدها من غير معرفة الآخر ومن غير معرفة الجميع.
لا ينبغي تحويل الإنسان عن طلب ما هو نافعٌ له؛ لأنه لا يستطيع أنْ يعرف الجميع.
لا تستطيع أنْ تكافح حديد البصر بالعين
ولا تستخف بالأرمد حين يحوم حولك.
ونعرف الحقائق كثيرًا، وقد وجدنا كثيرًا من الاختراعات النافعة، ولنسل عدم معرفتنا ما يمكن أنْ يكون بين العنكبوت وحلقة زُحَلَ من صلات، ولنداوم على البحث فيما هو في متناولنا.
- (٥٥)
وإذا ما وقعت صاعقةٌ على الأماكن المنخفضة فإن البراهين تُعْوِزُ الشعراء ومن لا يعرفون غير البرهنة على أمور هذه الطبيعة.
ليس التشبيه برهانًا في الشعر أو النثر، وإنما يستخدم للتجميل في الشعر، وينفع في النثر للإبانة، وجعل الأشياء محسوسة أكثر مما هي عليه، فالشعراء — الذين شبهوا مصائب الأكابر بالصاعقة التي تخبط الجبال — يأتون بتشبيهاتٍ معاكسة إذا ما حدث العكس.
- (٥٦)
وتركيب الروح والبدن هذا هو الذي جعل جميع الفلاسفة تقريبًا، يخلطون بين تصور الأشياء، فيَعْزُون إلى الأبدان ما ليس خاصًّا بغير الأرواح، ويَعْزُون إلى الأرواح ما لا يلائم غير الأبدان.
لو كنا نعرف ما الروح لأمكننا أنْ نتوجع من عَزْوِ الفلاسفة إليه ما هو غير خاص به، ولكننا لا ندري ما الروح ولا البدن، فليس لدينا أي فكرٍ عن أحدهما، وليس لدينا غير أفكار ناقصة جدًّا عن الآخر؛ ولذا فإننا لا نعرف حدودهما.
- (٥٧)
وكما أنه يقال جمالٌ شعريٌّ يجب أنْ يقال جمالٌ هندسيٌّ وجمالٌ دوائي، ومع ذلك فإن هذا لا يقال مطلقًا؛ وسبب هذا أنَّ موضوع علم الهندسة معروفٌ جيدًا، وأنَّ موضوع علم الطب معروف جيدًا. وأما الظرافة التي هي موضوع الشعر، فلا يُعْرَف الشيء الذي تقوم عليه، ولا يُعْرَف النموذج الطبيعي الذي يجب أنْ يُقَلَّد، فاخْتُرع لعدم هذه المعرفة بعض العبارات الغريبة، فقيل: العصر الذهبي، نادرة زماننا، الفوز المقدَّر، النجم الجميل، إلخ. وتدعى هذه الرطانة بالجمال الشعري، ولكن الذي يتصور امرأة لابسة وَفْقَ هذا النموذج يُبْصِر آنسة أنيقة مستورة بالمرايا وبسلاسل من نحاسٍ أصفر.
وهذا خطأ بالغ، فلا ينبغي أنْ يقال: «جمال هندسي» و«جمال دوائي» وذلك لأن القضية والمسهل لا يؤثِّران في الحواس تأثيرًا مقبولًا مطلقًا؛ ولأن اسم «الجمال» لا يطلق على غير الأشياء التي تَفْتِن الحواس، كالموسيقا والتصوير والبيان والشعر وفن البناء المحكم، إلخ.
والسبب الذي يأتي به مسيو بسكال فاسدٌ، فيُعرف جيدًا ما يقوم عليه موضوع الشعر، وهو يقوم على الوصف بلباقةٍ ونقاء ودقةٍ وانسجام، فالشعر بيان منسجم، وكان مسيو بسكال من قلة الذوق — كما يُرَى — ما قال معه إن «الفوز المقدَّر، والنجم الجميل» وغيرهما من الغباوات معدودةٌ من الروائع الشعرية، وكان الوضع يقضي بأن يكون ناشرو هذه «الأفكار» ممن لهم إلمامٌ بالآداب الجميلة؛ لكيلا يَطْبَعوا تَأَمُّلًا غير خليقٍ بكاتبه الشهير.
ولا أرسل إليكم ملاحظاتي الأخرى عن أفكار مسيو بسكال لما توجبه من مناقشاتٍ طويلة جدًّا، وما تقدم يكفي لتبين بعض الأغاليط الناشئة عن غفلة هذا العبقري الكبير، وهو يُعَدُّ سُلْوَانًا لرجلٍ محدود الذكاء مثلي في قناعته بأن أعاظم الرجال يُخدعون كما يُخدع العوام.