الرسالة الثامنة
يحب أعضاء البرلمان الإنكليزي أن يشبَّهوا بقدماء الرومان ما استطاعوا. ولما يمضِ زمنٌ طويلٌ على بدء مستر شبنغ خطبته في مجلس النواب بكلمة: «ستؤذي جلالة الشعب الإنكليزي، إلخ.» وقد نشأت عن غرابة التعبير قهقهة كبيرة، ولكنه لم يرتبك، فكرر الكلام نفسه بلهجةٍ حازمة، وعاد الأعضاء يضحكون، وأعترف بأنني لا أبصر ما هو مشتركٌ بين جلالة الشعب الإنكليزي والشعب الروماني، وأقل من هذا ما بين حكومتيهما — أجل — يوجد سناتٌ في لندن يُتهم بعض أعضائه، على غير حقٍّ، لا ريب بأنهم يبيعون أصواتهم عند الفرصة كما كان يُصنع في رومة، وهذا كل ما هنالك من مشابهة، فإذا عدوت هذا بدت الأمتان لي مختلفتين كل الاختلاف في الخير والشر، فلم يعرف الرومان حماقة الحروب الدينية الكريهة قط، وقد حُفِظت هذه القباحة لأتقياء مبشرين بالتواضع وموصين بالصَّبر، وكان ماريوس وسِيلًا، وبوني وقيصر، وأنطوان وأغسطس، لا يتقاتلون حتى يقرَّر وجوب لُبس الكاهن قميصه فوق حُلَّته أو لبس حلَّته فوق قميصه، ووجوب إطعام الفراريج المقدسة وسقيها أو إطعامها فقط نيلًا للفئول، وكان الإنكليز قد شنقوا بعضهم بعضًا تبادلًا بأحكامٍ من محاكمهم الجنائية، وكانوا قد أبادوا بعضهم بعضًا في معارك منظمة ناشئةٍ عن منازعات من ذلك الطراز، وكانت فرقة الأنغليكان وفرقة البرسبيتارية قد لوتا هذه الرءوس الرصينة، فيخيَّل إليَّ أن مثل هذه الجهالات لن تصدر عنها بعد الآن، وتغدوان — كما تبدوان لي — سالكتين سبيل الحكمة على حسابهما، فلا أرى فيهما أيَّ ميلٍ إلى التذابح — بعد الآن — من أجل قياساتٍ منطقية.
وإليك فرقًا جوهريًّا أكثر من ذلك بين رومة وإنكلترة يُحكم به لمنفعة إنكلترة، وذلك أن العبودية كانت ثمرة الحروب الأهلية في رومة، وأن الحرية ثمرة الاضطرابات في إنكلترة، والأمة الإنكليزية وحدها هي التي انتهت في العالم إلى تنظيم سلطة الملوك بمقاومتهم، وأقامت في آخر الأمر، وبعد جهودٍ متواصلة، هذه الحكومة الحكيمة التي يكون فيها الأمير، القادرُ على كل شيء لصنع الخير، مقيد اليدين في صنع الشر، والتي يكون السنيورات عظماء بلا عتوٍّ ومن غير فَسَّالاتٍ، والتي يكون للشعب نصيب في حكومتها بلا بلبلة.
ومجلس اللوردات ومجلس النواب هما حَكَما الأمة، والملك هو الحكم الثالث، وكان هذا التوازن يُعوز الرومان، فالكبراء والدهماء في رومة كانوا منقسمين دائمًا، وذلك من غير وجود سلطةٍ فاصلة توفق بين الفريقين، وكان سنات رومة الذي هو من الزهو الجائر وعدم الإنصاف ما لا يريد معه أن يقاسمه العوام شيئًا، لا يعرف وسيلة، لإقصائهم عن الحكومة غير شغلهم بالحروب الخارجية، وكان يعد الشعب وحشًا ضاريًا يجب إطلاقه على الجيران خشية أن يفترس سادته، وهكذا فإن أكبر عيبٍ في حكومة الرومان جعل من الشعب فاتحين، وذلك أنهم صاروا سادة العالم لأنهم كانوا تعساء، وذلك إلى أن غدوا عبيدًا بفعل انقساماتهم.
ولم تُخلق حكومة إنكلترة لمثل هذه الضجَّة العظيمة ولا لمثل هذه الغاية المشئومة، ولا يتجلَّى هدفها في حماقة القيام بفتوحٍ مطلقًا، بل في منع جيرانها من هذا، وليس هذا الشعب حريصًا على حريته وحدها، بل على حرية الشعوب الأخرى، وقد استشرى الإنكليز ضد لويس الرابع عشر لما رأوا من طموحه، فحاربوه بصدرٍ رحيب غير مبتغين لأنفسهم نفعًا لا ريب.
أجل، كلف قيام الحرية في إنكلترة ثمنًا غاليًا، ولم يغرق طاغوتها الاستبدادي في غير بحارٍ من الدماء، بيد أن الإنكليز لا يرون أن ما نالوا من قوانين صالحةٍ كان بثمنٍ غالٍ، أجل، لم تعرف الأمم الأخرى اضطرابات أقل مما أراق الإنكليز، بيد أن هذه الدماء التي سفكتها في سبيل حريتها لم تؤدِّ إلى غير توطيد عبوديتها.
وإذا ما نُظر أيام شارل التاسع وهنري الثالث وُجد أن الأمر كان يدور حول معرفة إمكان تحول الناس إلى عبيدٍ لآل الغيز، وإذا ما نُظر إلى حرب باريس الأخيرة وُجد أنها لا تستحق غير صفير، ويلوح لي أني أبصر طلبةً يتمردون على مدير المدرسة، فينتهي أمرهم بالجَلد، وكان كردينال ريتز يأتمر مؤذيًا للأذى نفسه فيلوح أنه يشهر حربًا ليَقر عينًا، وذلك مع كثير كياسةٍ وسوء استعمال بسالةٍ، ومع تمردٍ بلا موضوع، ومع كونه عاصيًا بلا هدف، ومع كونه رئيسًا لحزبٍ بلا جيش، وكان البرلمان لا يعرف ما يريد ولا ما لا يريد، وكان يجمع كتائب بقرارٍ، وكان يحطِّمها، وكان يهدد، ويطلب العفو، وكان يضع مكافأةً لمن يقتل مازاران، ثم يُثْني عليه في احتفال، وكانت حروبنا الأهلية في عهد شارل السادس قاسيةً، وكانت حروب الحلف كريهة، وكانت حرب المقلاع مثيرةً للسخرية.
وأكثر ما يُلام عليه الإنكليز في فرنسة هو تنكيلهم بشارل الأول الذي عامله قاهروه بمثل ما كانوا يعاملونه به لو قضى حياةً سعيدة.
ومهما يكن من أمرٍ فانظروا من ناحيةٍ إلى شارل الأول المغلوب في معركةٍ بين جيشين نظاميين، والذي أُسر وحُوكم وحُكم عليه في وِسْتمِنْستِر. وانظروا — من ناحيةٍ أخرى — إلى الإمبراطور هنري السابع الذي سُم من قِبل كاهنه وهو يتناول القربان، وإلى هنري الثالث الذي قتل من قبل راهبٍ في سورة غضب، وإلى ثلاثين حادث اغتيال حيال هنري الرابع نُفذ كثيرٌ منها، فحرمت بآخرها فرنسة هذا الملك العظيم، ثم فكِّروا في هذه الاعتداءات واحكموا فيها.