هل وُجد يسوع فعلًا؟
عبر التاريخ الطويل للبحث في العهد الجديد ظهر تيارٌ ما زال له مؤيدون في الوقت الراهن، يقول إن يسوع المسيح ليس شخصيةً تاريخية، وما أحداث الإنجيل إلا أسطورة تكوَّنت ببطء ونسجَتها مخيلةُ اللاهوتيِّين على مدى قرن من الزمان إلى أن اكتملَت بالطريقة التي وصلَتنا بها. إننا لا نعرف شيئًا عن أسرة يسوع ولا عن حياته قبل ظهوره الفجائي وهو في نحو الثلاثين من العمر، كما أن سيرة حياته التبشيرية كما دوَّنها الإنجيليون مليئة بالتناقضات التي لا يمكن التوفيق بينها على أي صعيد. ويبدو أن هؤلاء الإنجيليِّين الذين كانوا يكتبون باللغة اليونانية، لم يكونوا على معرفة مباشرة بجغرافية فلسطين وبيئتها الطبيعية، وأن أحدًا منهم لم يرَ يسوع شخصيًّا ولم يسمع منه، بل ولم يرَ مَن اجتمع بيسوع مباشرة وسمع منه. إننا نعرف مثلًا لون بشرة النبي محمد ولون عينَيه وطول قامته ومزاجه وطبائعه وأدق تفاصيل حياته، ولكننا لا نعرف شيئًا ملموسًا يتعلق بيسوع ولم يصفه لنا أحد من الذين رافقوه وخالطوه عبر حياته.
إن مسألة تاريخية يسوع بقيَت أمدًا طويلًا مادةً لجدلٍ أكاديميٍّ حادٍّ بين الباحثين، ولا يبدو أنها ستُغلَق في يوم من الأيام. ويرتكز أصحاب مقولة أسطورية الإنجيل بشكل رئيس على وقوف الرواية الإنجيلية وحيدةً في شهادتها على يسوع، ويقولون إن الأحداث التي وصفها الإنجيليون قد مرَّت من غير أن يلحظها أحد من المعاصرين. ففي القرن الأول الميلادي الذي دعوه أصحاب هذا الاتجاه بقرن الصمت عن يسوع، تم إنتاج مراجع غنية باللغتين اليونانية والرومانية أعطَتنا صورة حافلة بالتفاصيل عن أحداث القرن وعن الحياة الثقافية والسياسية في أصقاع الإمبراطورية لا سيما في المشرق العربي. ومؤلفو هذه المراجع على تخصصهم في حقول معينة، إلا أن طابع الموسوعية كان غالبًا على أعمالهم وقدَّموا لنا معلوماتٍ كثيرةً ما زلنا نستفيد منها اليوم في إعادة بناء تصورنا لذلك العصر.
في الرد على هذه الطروحات التي تبدو منطقية وجذَّابة للوهلة الأولى، تقول بأن يسوع وحركته الدينية ما كان لهما أن يلفتا نظر السلطات الرومانية ولا المؤلفين المعروفين في ذلك الوقت. فحياة يسوع التبشيرية لم تَدُم أكثر من سنة وفق الأناجيل الإزائية أو سنتين وفق إنجيل يوحنا. وخلال هذه الفترة القصيرة لم يُفلح يسوع في خلق حركة دينية قوية يمكن أن تُشغل بال السلطات اليهودية في أورشليم، أو حركة معارضة سياسية يمكن أن تُشغل بال السلطات الرومانية. إن قراءة ما وراء السطور في الأناجيل تقودنا إلى الاستنتاج بأن حركة يسوع لم تُفلح خلال حياته في التسرُّب إلى نسيج المجتمع الجليلي أو المجتمع اليهودي، وعندما مات لم يترك وراءه أكثر من مائة تابع على أكثر تقدير. أما دخول يسوع إلى أورشليم الذي صوَّره بعضُ الإنجيليِّين بطريقة فخمة وجعلوا أهل المدينة يخرجون لاستقباله شِيبًا وشُبَّانًا، وهم يبسطون أرديتَهم تحت حوافر حماره ويهتفون بأعلى أصواتهم تحيةً له، فإن إنجيل لوقا يقدِّم لنا الصورة الأقرب إلى الواقع عندما يقول: «فجاء التلميذان بالجحش إلى يسوع ورصفا رداءَيهما عليه وأركبا يسوع. وفيما هو سائر فرشوا ثيابهم في الطريق. ولما قرُب عند منحدر جبل الزيتون ابتدأ كلُّ جمهور التلاميذ يفرحون ويُسبِّحون الله بصوت عظيم قائلين: مبارك الملك الآتي باسم الرب، سلامٌ في السماء ومجدٌ في الأعالي» (لوقا، ١٩: ٣٥–٣٩).
فإذا كان الأمر كذلك، فإن إعدام يسوع لم يكن بالشأن الكبير الذي يمكن أن ينتشر خبرُه في أرجاء الإمبراطورية ويلفت نظر المؤرخين. فقد كان العشرات من القوميِّين اليهود يُصلَبون في تلك الأيام على يد السلطات الرومانية بتهمة الشغب السياسي والتحريض ضد روما، كما كان المجلس اليهودي (السنهدرين) يحكم بالموت رجمًا بالحجارة على مَن تثبت عليه تهمة التجديف أو ازدراء الشريعة. وكان استفانوس وهو أحد أعمدة كنيسة أورشليم بعد وفاة يسوع واحدًا من هؤلاء، على ما يُخبرنا به سفر أعمال الرسل. فقد ادَّعى عليه بعضُ اليهود قائلين: إنا سمعناه يكفر بموسى وبالله، ويقول إن يسوع الناصري يبدل ما أُورثنا به من سُنن. فحكم عليه المجلس بالرجم (أعمال، ٧: ٨–٥٣). وكانت العادة أن يُعلَّق المرجوم بعد موته على عمودٍ خشبي. وفي الحقيقة فإن جوهر تهمة يسوع لم يختلف كثيرًا عن تهمة استفانوس على الرغم من تقديمها إلى بيلاطس في قالب سياسي.
ويعطينا سفر أعمال الرسل معلومةً دقيقة عن عدد أتباع يسوع. فعندما اجتمع كل التلاميذ بعد أن ظهر يسوع لهم للمرة الأخيرة كان تعدادهم نحو مائة وعشرين (أعمال، ١: ١٥). وهؤلاء كانوا يواظبون على الصلاة في الهيكل اليهودي (٣: ١) ربما بداعي التقية، ولم يكن بالإمكان تمييزهم عن بقية اليهود، لا سيما وأنهم لم يُطلقوا على أنفسهم في البداية اسمَ المسيحيِّين، وإنما استخدموا تسميةً عامة ودعوا أنفسهم بالإيبونيِّين (إيبونيم) التي تعني بالعبرية الفقراء. أما اسم المسيحيِّين فلم يُطلَق على أتباع يسوع إلا نحو عام ٥٠م وكان ذلك في مدينة أنطاكية. ومما لا شك فيه أن يسوع قد استطاع استمالة عدد من اليهود المتكلمين باليونانية ممن كانوا يأتون لزيارة أورشليم بمناسبة الفصح اليهودي، وكانت له معهم حواراتٌ (يوحنا، ١٢: ٢٠). وعندما عاد هؤلاء إلى مواطنهم خارج فلسطين شكَّلوا بؤرًا مسيحيةً متفرقةً دون أن يلحظَهم أحدٌ لأنه لم يكن بإمكان الغريب عنهم التمييز بينهم وبين اليهود الآخرين. ولمثل هؤلاء وجَّه بولس الرسول خطابَه أولًا، سواء عن طريق زيارتهم أم عن طريق توجيه رسائله إليهم.
نأتي الآن إلى المؤرِّخَين الفلسطينيَّين جوستوس من طبرية، ويوسيفوس اليهودي. فقد وُلد جوستوس في مدينة طبرية الجليلية ولكنه أمضى الشطر الثاني من حياته في مدينة إفسوس بآسيا الصغرى، وهناك وضع كتابه عن تاريخ ملوك اليهود الذي أنهاه خلال فترة حكم الملك هيرود أغريبا حفيد هيرود الكبير، والذي جعله الرومان ملكًا على اليهودية عام ٤١م، ولكنه لم يحكم سوى ثلاث سنوات لأنه تُوفِّي عام ٤٤م بشكل مفاجئ، وعادت اليهودية لتُحكَم من قِبل ولاةٍ رومانيِّين. أما لماذا لم يهتم هذا المؤرخ بذكر شيء عن يسوع والمسيحيِّين، فلأن الأحداث التي يرويها تنتهي بعد عقدَين من الزمان فقط على وفاء يسوع، عندما لم تكن المسيحية في فلسطين قد تميَّزت على اليهودية، ولا يمكن أن نتوقع منه كبيرَ اهتمامٍ بحركة دينية لم تكن قد طفَت على السطح في ذلك الزمن. يضاف إلى ذلك أن كتاب جوستوس يتحدث عن تاريخ ملوك اليهود، والمسيحية نشأت في زمن لم يكن فيه ملك على اليهودية.
لقد تقصينا حتى الآن المصادر الخارجية التي تشهد على تاريخية يسوع، وهي المصادر نفسها التي ادَّعى بها أصحاب الرأي المخالف. ولكن ماذا عن مصادر كتاب العهد الجديد ذاتها؟ ولماذا تستبعد هذه المصادر من الجدال الدائر حول تاريخية يسوع؟ أليس من الممكن والمرجح أنها تحتوي على وقائع تاريخية جرى تقديمها في قالبٍ وعظيٍّ ألقى ظلالًا من الشك على مصداقيتها؟
لقد تحوَّل بولس الرسول إلى المسيحية في أربعينيات القرن الأول، وراح يبشر بالمسيح الذي صُلب من أجل خلاص العالم، وذلك بعد مُضيِّ نحو عقد واحد من الزمان على حادثة الصلب. ثم بدأ بكتابة رسائله المعروفة مع بداية خمسينيات القرن، والتي كان يجري تداولها على نطاق واسع بين المجموعات اليهودية المتنصرة قبل تدوين الأناجيل. فهل كان بولس يبشر بكائن أسطوري لم يوجد قط ولم يسمع أحدٌ بصلبه على يد بيلاطس قبل عقدين من الزمان؟ إن بولس لم يرَ يسوع لكنه عرف الذين رأوه وسمعوه، وكان على صلة بكنيسة أورشليم، وكان يلتقي ببطرس ويوحنا وغيرهما من تلاميذ يسوع. فهل كان هؤلاء شخصيات ميثولوجية أيضًا لم يعرفها ولم يسمع بها اليهود من مستمعي بولس؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف استطاع بولس استمالةَ عددٍ كبير من اليهود اليونانيين وكان بعضهم يحجُّ إلى أورشليم ويعرف أخبارها، ويعرف بالتالي كذِبَ ما يدَّعيه بولس؟
على أية حالٍ، فإن بولس لم يروِ لنا شيئًا من سيرة حياة يسوع، ولم يبشِّر بيسوع الإنسان الذي عاش في فلسطين، وإنما بيسوع القائم من بين الأموات وبالآثار الخلاصية لصَلبه وقيامته. وما علينا من أجل البحث عن يسوع التاريخي سوى الالتفات إلى الأناجيل الأربعة، من أجل إحداث شبكة من التقاطعات بين الأخبار الواردة فيها والأخبار التاريخية الموثَّقة. وهذا ما سوف نلتفت إليه فيما يلي من هذا البحث.
كريفيلوف: المسيح، أسطورة أم حقيقة، موسكو، ١٩٨٧م.
راجع أيضًا:
-
كريفيليوف، المرجع السابق ص١٤٢–١٤٣.
-
أ. س. سفينسكلايا: المسيحيون الأوائل، ترجمة حسان إسحاق، دار علاء الدين، دمشق، الفصل الرابع، ص٦٦.