لغز إخوة يسوع
فإنا انتقلنا إلى يوحنا وجدنا لديه إشارتَين إلى إخوة يسوع؛ الأولى عندما قال بشكل عابر إن يسوع بعد عرس قانا الذي حوَّل فيه الماء إلى خمر: «انحدر إلى كفر ناحوم هو وأمه وإخوته وتلاميذه وأقاموا هناك» (يوحنا، ٢: ١٢). أما الإشارة الثانية فتستحق أن نتوقف عندها لأنها تُقدِّم لنا مدخلًا لفهم موقف إخوة يسوع منه، فهم إلى جانب عدم الإيمان برسالته قد سعَوا إلى وقوعه في أيدي السلطات اليهودية: «وكان عيد الخطال عند اليهود قريبًا. فقال له إخوته: انتقل من هنا واذهب إلى اليهودية لكي يرى تلاميذك أيضًا أعمالك التي تعمل، لأنه ليس أحدٌ يعمل شيئًا في الخفاء وهو يريد أن يكون علانية. إن كنت تعمل هذه الأشياء فأظهر نفسك للعالم. لأن إخوته لم يكونوا يؤمنون به. فقال لهم يسوع: إن وقتي لم يحضر بعدُ أما وقتكم ففي كل حين حاضر. لا يقدر العالم أن يبغضكم ولكنه يبغضني أنا لأني أشهد عليه بأن أعماله شريرة. اصعدوا أنتم إلى هذا العيد، أنا لست أصعد بعدُ» (يوحنا، ٧: ٢–٨). هذا الموقفُ الذي يُعبر عنه يوحنا أوضحُ تعبيرٍ في هذا الخبر، يأتي في انسجام مع ما أورده مرقس من أن أسرة يسوع جاءت للقبض عليه لأنهم اعتبروه فاقد الرشد: «ولما سمع أقرباؤه خرجوا ليُمسكوه لأنهم قالوا إنه مختلٌّ» (مرقس، ٣: ٢١).
ولكن هنالك مفاجأة أخرى تنتظرنا فيما يتعلق بإخوة يسوع. فمؤلف إنجيل لوقا الذي تجاهل وجودَ إخوة ليسوع مثلما تجاهل أي دور لمريم في حياة يسوع التبشيرية، يقول لنا في الإصحاح الأول من سفر أعمال الرسل المنسوب إليه إن أم يسوع وإخوته كانوا بين تلاميذ يسوع الذين كانوا يجتمعون معًا للصلاة بعد أن صَعِد عنهم يسوع إلى السماء: «وهؤلاء كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة مع النساء، ومريم أم يسوع، ومع إخوته» (أعمال، ١: ١٤). فأين كانت مريم قبل ظهورها الفجائي هذا؟ وكيف تحوَّل إخوة يسوع إلى الدين الجديد، وهم الذين لم يؤمنوا برسالته (يوحنا، ٧: ٥)، والذين حاولوا وضْعَه تحت الحجر لأنهم اعتبروه مختلَّ العقل (مرقس، ٣: ٢١)، ولماذا غابت أم يسوع بعد هذه الإشارة العابرة إليها، ولم يأتِ مؤلف أعمال الرسل على ذكرها مرةً أخرى؟
إن ظهورَ أمِّ يسوع المفاجئ في سفر الأعمال يمكن قبوله مع كثير من التحفظ، وذلك اعتمادًا على إنجيل يوحنا؛ حيث ظهرت أمُّ يسوع فجأةً أيضًا عند صليبه بعد غيابها عن جميع أحداث الإنجيل عقب قصة عرس قانا التي جرَت في مطلع الأحداث، والروايتان تؤيدان بعضهما بعضًا على الرغم مما فيهما من غرابة. أما ظهور إخوة يسوع بين التلاميذ في سفر أعمال الرسل، فلا يمكن تفسيره بسبب موقفهم الذي أوضحه النصُّ من يسوع خلال السنة التي سبقَت صلبَه. فمَن هم أولئك الذي دعاهم لوقا بإخوة يسوع في أعمال الرسل بعد أن تجاهل في إنجيله وجودَ إخوةٍ له؟ من أجلِ حلِّ هذا اللغز سوف نلتفت إلى حلِّ لغزٍ آخر هو لغز مريم الأخرى التي ورد ذكرُها بين النساء اللواتي رافقنَ يسوع وحضرنَ واقعةَ صلبِه.
في مشهد الصلب نقرأ عند مرقس ما يلي: «وكانت نساء ينظرن من بعيد، بينهن: مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي، وسالومة، اللواتي تبعنَه وخدمنَه حين كان في الجليل» (مرقس، ١٥: ٤٠–٤١). وفي السياق نفسه، نقرأ عند متَّى: «وكانت هناك نساءٌ كثيرات ينظرنَ من بعيد، وهنَّ كنَّ قد تبعنَ يسوع من الجليل يخدمنَه، وبينهن: مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي، وأم ابني زبدي» (متَّى، ٢٧: ٥٥–٥٦). وبعد أن أُودع جثمان يسوع في القبر يقول لنا متَّى: «وبعد السبت جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظرا القبر، وإذا زلزلة عظيمة حدثَت … إلخ» (متَّى، ٢٨: ١–٢).
- مرقس: سالومة – مريم المجدلية – مريم أم يعقوب ويوسي.
- متَّى: أم ابني زبدي – مريم المجدلية – مريم أم يعقوب ويوسي (= الأخرى).
إن المقارنة بين القائمتين تقودنا إلى الاستنتاج بأن مريم أم يعقوب ويوسي هي نفسها مريم الأخرى، وأن سالومة هي نفسها أم ابني زبدي، أي يعقوب ويوحنا صيادي السمك.
- مرقس: سالومة – مريم المجدلية – مريم أم يعقوب ويوسي.
- متَّى: أم ابني زبدي – مريم المجدلية – مريم أم يعقوب ويوسي (الأخرى).
- يوحنا: أم يسوع – مريم المجدلية – مريم زوجة كلوبا.
وكما نلاحظ فقد حلَّت أم يسوع في قائمة يوحنا محلَّ سالومة أم ابني زبدي، وبقيت مريم الأخرى أم يعقوب ويوسي التي عرَّفها لنا بأنها أخت أم يسوع زوجة كلوبا.
- النص الأصلي: أم يسوع – أخت أمه مريم زوجة كلوبا – مريم المجدلية.
- القراءة المقترحة: أم يسوع – أخت أمه – مريم زوجة كلوبا – مريم المجدلية.
هذا الاستنتاج المنطقي هو الذي يقودنا إلى إلغاء التعارض بين الأناجيل التي بيَّنت لنا بوضوح الموقفَ السلبي لإخوة يسوع منه ومن رسالته، وبين سفر أعمال الرسل الذي يُفاجئنا في إصحاحه الأول بوجود إخوة ليسوع مع التلاميذ بعد أن ارتفع عنهم. فهؤلاء الإخوة المذكورون في سِفر الأعمال ليسوا أولادَ مريم امرأة يوسف بل أولاد مريم زوجة كلوبا عمِّ يسوع.
على أن بعض المؤلفين المعاصرين اليهود ممن كتبوا في سيرة يسوع لهم رأيٌ آخر في حلِّ مشكلة تشابُه أسماء أولاد مريم زوجة يوسف وأسماء أولاد مريم زوجة كلوبا، مفاده أن المريمتين هما في حقيقة الأمر واحدةٌ، وأن في القصة سرًّا حاولت الأناجيل إخفاءَه. ولنتابع هذا الرأي المتطرف لدى الكاتب جيمس طابور الذي ناقش المشكلة على الوجه التالي:
من بين إخوة يسوع أولاد كلوبا، هنالك شخصية تستحق أن نتوقف عندها، وهو يعقوب الذي دعاه بولس بأخي الرب، في معرض حديثه عن زيارته لأورشليم ولقائه لبعض المسئولين عن الجماعة المسيحية الأولى فيها.
(١) لغز يعقوب أخو الرب
في سِفر أعمال الرسل الذي يروي عن نشاط أتباع يسوع بعد صعوده. يقول لنا لوقا في الإصحاح الأول: إن الرسل الأحد عشر بعد أن ارتفع يسوع عنهم، «رجعوا إلى أورشليم من جبل الزيتون وصعدوا إلى العليَّة التي كانوا يقيمون فيها، وكانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطِّلبة مع النساء اللواتي تبعنَ يسوع، ومع مريم أم يسوع ومع إخوته» (أعمال، ١: ٩–١٤)، ثم يقول لنا إنه بعد بضعة أيام دعا بطرس جميعَ أتباع يسوع من التلاميذ وكان عددهم نحو مائة وعشرين من أجل اختيار رسول ثاني عشر ليحلَّ محلَّ يهوذا الإسخريوطي الذي مات بعد خيانته ليسوع، فوقع الاختيار على متياس فحُسب مع الأحد عشر رسولًا (أعمال، ١: ١٥–٢٦). في هذا الخبر، يبدو لنا بطرس كرئيس الكنيسة أورشليم الناشئة، على الرغم من أن الكاتب لا ينصُّ صراحة على ذلك. وهذا الاستنتاج تدعمه حقيقة أن بطرس كان أبرزَ الرسل الاثنَي عشر خلال حياة يسوع، وكان مع يوحنا ويعقوب (ابنا زبدي) الأقرب إليه من البقية. كما تدعمه مسيرةُ أحداث سفر الأعمال حيث نجد بطرس في أكثر من موضع يقف ويخطب في التلاميذ ويُعطي تعليماته إليهم. وهو يظهر مع يوحنا ابن زبدي في بعض المفاصل الرئيسية من حياة الجماعة المسيحية الأولى. فقد شفيا مقعدًا باسم يسوع الناصري (٣: ١–١٠). وكانا يخطبان في الشعب عندما أرسل الكهنة وقبضوا عليهما وأودعا في السجن (٤: ١–٢٢). وتوجها معا إلى السامرة للتبشير بين أهلها (٨: ١٤–٢٥).
في سياق رواية أعمال الرسل نتعرف على اثنين من التلاميذ يحملان اسم يعقوب، الأول يعقوب ابن زبدي أخو يوحنا الذي قتله الملك أغريبا الأول الذي عيَّنه الرومان حاكمًا على اليهودية والسامرة من عام ٤٠ إلى عام ٤٤م: «وفي ذلك الوقت مدَّ هيرودوس (أغريبا) يدَيه ليُسيءَ إلى أُناس من الكنيسة، فقتل يعقوب أخا يوحنا بالسيف. وإذ رأى أن ذلك يُرضي اليهود عاد فقبض على بطرس أيضًا» (١٢: ١–٣). ولدينا تلميذٌ آخر يُدعى يعقوب أشار إليه مؤلف سفر الأعمال ثلاث مرات؛ المرة الأولى بعد خروج بطرس من السجن عندما جاء إلى بيت مرقس حيث كان عددٌ من التلاميذ مجتمعين هناك، فقال لهم: «أخبروا يعقوب والإخوة بهذا. ثم خرج وذهب إلى موضع آخر» (١٢: ١١–١٧). وفي المرة الثانية عندما وقف شخصٌ اسمه يعقوب وتكلَّم في اجتماع للتلاميذ فحدَّد واجبات المنتمين إلى المسيحية من الوثنيِّين تجاه الشريعة، وحصرها بالامتناع عن السجود للأصنام، وعن الزنا، وعن أكل الدم ولحم الحيوانات المخنوقة (١٥: ١٣–٢١). وفي المرة الثالثة عندما عاد بولس إلى أورشليم من رحلته التبشيرية: «ولما وصلنا إلى أورشليم قَبِلنا الإخوة بفرح، وفي الغد دخل بولس معنا إلى يعقوب وحضر جميع المشايخ» (أعمال، ٢١: ١٧–١٨). فمَن هو يعقوب الذي يبدو في هذه الإشارات على اقتضابها شخصيةً قيادية في الحركة المسيحية الناشئة؟
إن الاعتماد على سفر أعمال الرسل من أجل تحديد هوية يعقوب، يقودنا إلى القول بأنه يعقوب بن حلفي الوارد ذكره في قائمة أسماء الرسل الاثنَي عشر لدى كلٍّ من مرقس ٣: ١٦–١٩ ومتَّى ١٠: ٢–٤ ولوقا ٦: ١٣–١٦. ولكن بولس في رسالته إلى أهالي غلاطية يقول: إنه في زيارته الأولى لأورشليم بعد ثلاث سنوات من اهتدائه، زار بطرس لكي يتعرَّف عليه ومكث عنده خمسة عشر يومًا، ولكنه لم يرَ غيره من الرسل إلَّا يعقوب أخا الرب (غلاطية، ١: ١٨–١٩). وفي الإصحاح الثاني من الرسالة نفسها يقول بأنه زار أورشليم للمرة الثانية بعد أربع عشرة سنة، حيث التقى «يعقوب وصفا (= بطرس) ويوحنا، المعتبرين أنهم أعمدة» (غلاطية، ٢: ١–١٠). وهذا ما يقودنا إلى التأكد من هوية يعقوب سفر الأعمال على أنه يعقوب ابن كلوبا، ابن عم يسوع أو أخوه بالمعنى المجازي السائد. وقد كان واحدًا من الهيئة القيادية العليا إلى جانب بطرس ويوحنا.
إن خلاصة ما توصلتُ إليه بخصوص إخوة يسوع، هي أنهم ينتظمون في مجموعتين؛ الأولى هم إخوته بالجسد من يوسف ومريم، والثانية هم أولادُ عمِّه كلوبا. وإلى هذه المجموعة الثانية ينتمي مَن دعاه بولس ومؤلفو التاريخ الكنسي بيعقوب أخي الرب، كما ينتمي إليها سمعان بن كلوبا الذي حلَّ محلَّ أخيه يعقوب في مجلس الرسل الاثنَي عشر. وقد كان لهاتين الشخصيتَين دورٌ قياديٌّ بارزٌ في توجيه الحركة المسيحية المبكرة. هذه الخلاصة لا تتفق مع التفسير الكنسي ولا مع تفسير بقية الباحثين، ولكنها تقوم على استقراء دقيق لمعطيات الأناجيل.
Montague R. James, Apocryphal New Testament, Oxford, 1983.