شخصية يسوع وطباعه
صحيح أننا لا نعرف شيئًا عن شكل يسوع وهيئته وطول قامته ولون شعره وبشرته وعينيه. والسبب في ذلك لا يرجع إلى أن أحدًا لم يرَ يسوع ليصفه لنا، على ما يقول مَن ينفي وجود يسوع كشخصية تاريخية، وإنما إلى التغيرات اللاهوتية المبكرة التي كانت تسير بشكل حثيث نحو تقديس هذا المعلم، وصرف الأنظار عن جانبه البشري. وهذا ما حصل من قبلُ لكثير من المعلمين الروحيين، لأن البشر لم يَقبلوا حكمة الإنسان وفضَّلوا عليها حكمةً تأتي من عالم الغيب، ولم يُنصتوا لحكيم إلا بعد أن ألبسوه رداء القداسة ووضعوا في فمه كلام الآلهة.
ومع ذلك، فإن كل ما في الأناجيل يرسم لنا صورةً واضحةَ المعالم عن يسوع الإنسان. فقد نشأ في أسرة جليلية متواضعة تضم سبعة أولاد؛ خمسة من الذكور، واثنتين من الإناث. وكان على معيلها الذي يعمل في مهنة النجارة أن يكدح من أجل إعالة تسعة أفواه، يساعده في ذلك ابنُه البكر يسوع، وهذا ما أسبغ على يسوع لقب النجار الذي وصفه به إنجيل مرقس (٦: ٣). ويبدو أن يسوع قد حمل عبء إعالة الأسرة بعد وفاة أبيه يوسف، الذي لا نعثر له على ذكر في الأناجيل بعد القصة التي رواها لوقا عن رحلة العائلة المقدسة إلى أورشليم بمناسبة الفصح عندما كان يسوع في سن الثانية عشرة (لوقا، ٢: ٤١–٥٠).
وكأيِّ إنسانٍ طبيعيٍّ آخر فقد كان يسوع مقبلًا على الحياة مستمتعًا بلذائذها، يحب الطعام والخمر ويشارك في حفلات الأعراس البهيجة. وفي عرس قانا الذي دُعي إليه مع تلاميذه، وبعد أن شرب المدعوون كل ما جاء به العريس من شراب وأرادوا المزيد، قام يسوع بتحويل ستة أجران من الماء إلى خمر سائغة (يوحنا، ٢: ١–١٠). ولم يُعرف عنه أنه رفض دعوة إلى مأدبة؛ حيث كان يتكئ ليأكل مع شتَّى شرائح الشعب. وفي إحدى المرات دعاه أحد العشَّارين من جباة الضرائب المتعاونين مع السلطة الرومانية فلبَّى الدعوة مع تلاميذه، وجلس معهم كثيرٌ من العشَّارين والخاطئين: «فلما رأى الكتبة من الفريسيين أنه يؤاكل الخاطئين والعشَّارين قالوا لتلاميذه: لمَ يؤاكل العشَّارين والخاطئين؟ فسمع يسوع كلامهم فقال لهم: ليس الأصحاء بحاجة إلى طبيب بل المرضى. ما جئت لأدعو الأبرار بل الخاطئين» (مرقس، ٢: ١٣–١٧).
وفي مناسبة أخرى لم ينتظر يسوع دعوة أحد العشَّارين بل لقد دعا نفسه للإقامة عنده: «ثم دخل واجتاز أريحا. فإذا رجلٌ من رؤساء العشَّارين اسمه زكا، وكان غنيًّا. فجاء يطلب أن يرى يسوع فلم يستطع لكثرة الزحام لأنه كان قصيرًا. فأسرع إلى جميزة فصعدها ليراه، وكان لا بد ليسوع أن يمرَّ بها. فلما وصل يسوع نظر إلى فوق فرآه وقال له: يا زكا، انزل على عجلٍ لأني سأقيم عندك اليوم. فنزل على عجل وأضافه مسرورًا» (لوقا، ١٩: ١–٧).
وكان يقبل دعوات الطعام حتى من خصومه من الفريسيين: «ودخل في يوم السبت بيتَ أحد رؤساء الفريسيين ليتناول الطعام، وكانوا يراقبونه. وإذا إنسانٌ مصابٌ بالاستسقاء قدامه. فقال يسوع لعلماء الشريعة والفريسيين: أيحلُّ الشفاء في يوم السبت أم لا؟ فلزموا السكوت. فأخذ بيده وشفاه وصرفه، ثم قال لهم: مَن منكم يقع حماره أو ثوره في بئر ولا ينشله حالًا في يوم السبت؟ فلم يجدوا جوابًا» (لوقا، ١٤: ١–٦). ولدينا أخبارٌ أخرى عن قبول يسوع لدعوة فريسيين آخرين: «ودعاه أحد الفريسيين إلى الطعام عنده، فدخل بيت الفريسي وجلس إلى المائدة» (لوقا، ٧: ٣٩). وأيضًا: «وبينما هو يتكلم دعاه أحد الفريسيين إلى الغداء عنده، فدخل إلى بيته وجلس إلى الطعام» (لوقا، ١١: ٣٧). وخلال فترة وجوده في أورشليم كان يصعد إلى ضاحية بيت عنيا على جبل الزيتون من أجل المبيت في بيت لعازر وتناول الطعام: «ثم قبل الفصح بستة أيامٍ أتى يسوع إلى بيت عنيا حيث كان لعازر الذي أقامه من بين الأموات، فصنعوا له هناك عشاءً. وكانت مرتا تخدم، أمَّا لعازر فكان أحد المتكئين معه …» (يوحنا، ١٢: ١–٢).
وكان خصومه يأخذون عليه ميله للطعام والشراب، ويقارنونه بيوحنا المعمدان «الذي كان لباسه من وبر الإبل وطعامه جرادًا وعسلًا بريًّا» (متَّى، ٣: ٤). فاشتكى يسوع قائلًا: «جاء يوحنا المعمدان لا يأكل ولا يشرب فقالوا إن به مسًّا من الشيطان، جاء ابن الإنسان (= يسوع) يأكل ويشرب فقالوا هو ذا رجل أكول وشريب خمر، محب للعشَّارين والخطاة» (متَّى، ١١: ١٩).
كما وحُبِّب إلى يسوع من مُتَع الدنيا الطيب والروائح العطرة، على ما تُبيِّنه قصة المرأة التي دخلت إلى حيث كان يجلس على المائدة في بيت عنيا وسكبت على رأسه حُقَّة من طيب الناردين الخالص الغالية الثمن، فقَبِل يسوع هذه البادرة عن طيب خاطر وعنَّف مَن وجَّه إليها اللوم. ولكي نأخذ فكرة عما كلفت المرأة بادرتها هذه، نقول بأن عطر الناردين كان أغلى العطور، وكانت الحقة منه تتسع لما مقداره ٣٠٠ غرام من الطيب بلغ ثمنها وفق النص ٣٠٠ دينار. ومع ذلك لم يرَ يسوع ضيرًا فيما فعلت، وقال معليًا من شأن المرأة: «الحق أقول لكم: حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يُخبر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها» (مرقس، ١٤: ٣–٩).
وعلى الرغم من أن أحدًا لم يصف لنا الثياب التي كان يسوع يرتديها والقماش الذي صُنعت منه، إلا أن لباسه لم يكن بالتأكيد من وبر الإبل على طريقة يوحنا المعمدان، بل من النوع الفاخر الغالي الثمن، وكان يتألف من عدة قطع لا من قطعة بسيطة واحدة. وهذا ما أغرى الجنود القائمين على عملية الصَّلب باقتسامها فيما بينهم، وأجرَوا القرعة عليها منعًا للاختلاف على ما يأخذه كلُّ واحد: «ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ماذا يأخذ كلُّ واحدٍ» (مرقس، ١٥: ٢٤). «ثم إن الجنود لما صلبوا يسوع، أخذوا ثيابه وجعلوها أربعة أقسام، لكلِّ جنديٍّ نصيبٌ» (يوحنا، ١٩: ٢٣). ولكنهم بعد ذلك تنازعوا على قميصه النادر الذي كان مصنوعًا من قماش غير مخيطٍ منسوجًا كله من أعلاه إلى أسفله.
وكانت نفس يسوع تضطرم بالعواطف الإنسانية المعهودة في البشر، فكان يُظهر الشفقة والحنو اللذين يدفعانه إلى مد يد العون للمرضى وأصحاب العاهات والممسوسين: «وجاء إليه أبرص وجثا وقال له: إن شئت فأنت قادر على أن تبرئني. فحنَّ عليه يسوع ومدَّ يده فلمسه وقال له: قد شئتُ فابرأ. فزال عنه المرض من ساعته وبرئ» (مرقس، ١: ٤٠–٤١). ولم يكن يتصرف تصرف فيلسوفٍ رواقيٍّ لا تهزه الأفراح أو الأتراح، بل إن التأثر كان يبلغ به أحيانًا حد البكاء، كما حصل عندما وقف أمام قبر صديقه لعازر: «فلما رآها (أي أخت العازر) تبكي ويبكي معها اليهود الذين رافقوها، ارتعشت نفسه واضطرب وقال: أين وضعتموه؟ فقالوا: تعالَ يا سيدي وانظر. فبكى يسوع» (يوحنا، ١١: ٣٣–٣٦).
وتميز سلوكه وردود أفعاله أحيانًا بالنزق ونفاد الصبر. فعندما لم يفهم تلاميذه مَثَله المعروف عن الطاهر والنجس وسألوه أن يفسِّره لهم بعد انفضاض الجمع: قال لهم: «أحتى الآن أنتم لا تفهمون» (متَّى، ١٥: ١٣–١٦). وفي مناسبة مماثلة قال لهم: «أما تفهمون هذا المثل؟ فكيف إذن تفهمون غيره من الأمثال» (مرقس، ٤: ١٣). وهناك أمثلة على إظهاره الحنق والغيظ: «وقدموا إليه أولادًا لكي يلمسهم، وأما التلاميذ فانتهروا الذين قدموهم. فلما رأى ذلك يسوع اغتاظ وقال لهم: دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم» (مرقس، ١٠: ١٣–١٤). وأيضًا: «ثم دخل إلى المجمع وكان هناك رجل يده يابسة، فصاروا يراقبونه هل يشفيه في السبت لكي يشتكوا عليه … فقال لهم: هل يحل في يوم السبت فعل الخير أم فعل الشر؟ ونظر حوله إليهم بغضب وقال للرجل: مد يدك. فمدها فعادت صحيحة كالأخرى» (مرقس، ٣: ١–٦). ويظهر نزق يسوع ونفاد صبره في قصة لعنه للتينة العجفاء: «وفي الصبح إذ كان راجعًا إلى المدينة جاع. فنظر شجرة تين على الطريق وجاء إليها فلم يجد إلا ورقًا فقط. فقال لها: لا يكن منك ثمر بعدُ. فيبست التينة في الحال» (متَّى، ٢١: ١٨–١٩).
هذا النزق كان يتحول أحيانًا إلى ثورات غضب عارم. ولطالما احتدم غضبًا على محاوريه من مثقفي اليهود. فعندما دعاه أحد الفريسيين إلى الغداء عنده: «دخل بيته وجلس إلى الطعام. فعجب الفريسي منه لأنه لم يغسل يدَيه قبل الغداء. فقال له يسوع: ألا أيها الفريسيون، إنكم تُطهرون ظاهر الكوب والصحفة وباطنكم ممتلئ نهبًا وفسقًا. أيها الجُهَّال، أليس الذي صنع الظاهر قد صنع الباطن أيضًا. فتصدقوا بما لديكم يكن كل شيء طاهرًا لكم … الويل لكم أيضًا يا علماء الشريعة. تُحمِّلون الناس أحمالًا ثقيلة وأنتم لا تمسون هذه الأحمال بإحدى أصابعكم. الويل لكم، تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم هم الذين قتلوهم. فأنتم الشهود وأنتم على أعمال آبائكم توافقون» (لوقا، ١١: ٣٧–٤٨)، وفي مناسبة أخرى يقول لهم: «الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون. تقفلون باب ملكوت السماوات في وجوه الناس، فلا أنتم تدخلون ولا تدعون الذين يريدون الدخول يدخلون. الويل لكم، تجوبون البحر والبر لتكسبوا دخيلًا واحدًا (إلى الدين اليهودي)، فإذا هودتموه جعلتموه يستحق جهنم ضعف ما أنتم تستحقون» (متَّى، ٢٣: ١٣–٢٣).
ولم ينجُ تلاميذه أنفسهم من نوبات غضبه: «ودنا منه رجل فجثا وقال له: سيدي، أشفق على ابني فإنه يُصرع (تأتيه نوبات صرع) ويتألم شديدًا. وقد جئت به إلى تلاميذك فلم يستطيعوا أن يشفوه. فأجاب يسوع: أيها الجيل غير المؤمن الملتوي إلى متى أكون معكم، إلى متى أحتملكم؟ (والخطاب هنا إلى تلاميذ يسوع). قدموه إلى ها هنا. فانتهره يسوع فخرج منه الشيطان فشُفي من ساعته. ثم تقدم التلاميذ إلى يسوع على انفراد وقالوا: لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه؟ فقال لهم: لعدم إيمانكم» (متَّى، ١٧: ١٤–٢٠). وفي إحدى المرات صعدوا إلى السفينة ونسوا أن يتزودوا بالخبز. وكان ذلك بعد قيام يسوع بمعجزة تكثير الخبز والسمك وإطعام أربعة آلاف شخص من سبعة أرغفة وبضع سمكات صغار: «وكان يسوع يعلمهم قائلًا: احذروا من خمير الفريسيين وخمير هيرودوس (يعني بذلك الرياء والخبث). فقال بعضهم لبعض أن لا خبز لديهم. فقال لهم يسوع: لماذا تقولون أن لا خبز لديكم؟ ألم تعقلوا حتى الآن وتفهموا؟ ألكم قلوب عميَّة أم لكم عيون ولا تبصرون وآذان ولا تسمعون» (مرقس، ٨: ١١–١٨). وحتى بطرس الذي كان يتلقى من معلمه معاملة تفضيلية، نال نصيبه الخاص من غضب يسوع عندما قال له: «اذهب عني يا شيطان، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس» (مرقس، ٨: ٣٣).
وقال لليهود الذين كانوا يجادلونه في الهيكل عندما تباهوا بأنهم أولاد إبراهيم: «لو كنتم أبناء إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم. ولكنكم تريدون قتلي أنا الذي قال لكم الحق الذي سمعه من الله، وهذا ما لم يفعله إبراهيم. أنتم تعملون أعمال أبيكم … إنكم أولاد إبليس وأنتم تريدون إتمام شهوات أبيكم … مَن كان من الله سمع كلام الله، ولكنكم لستم من الله» (يوحنا، ٨: ٣٩–٤٧).
وها هو يصبُّ جام غضبه على مدن الجليل التي لم تؤمن به على الرغم مما صنعه فيها من معجزات: «ثم أخذ يُعنِّف المدن التي جرت فيها أكثر معجزاته وما تابت، فقال: الويل لك يا كورزين، الويل لك يا بيت صيدا. فلو جرى في صور وصيدا ما جرى فيكما من معجزات لأظهرتا التوبة بالمِسَح والرماد من زمن بعيد. على أني أقول لكم إن صور وصيدا سيكون مصيرهما يوم الدين أخفَّ وطأةً من مصيركما. وأنت يا كفر ناحوم، أتحسبين أنك ترتفعين إلى السماء؟ ستهبطين إلى الجحيم … إلخ» (متَّى، ١١: ٢٠–٢٤).
ويتجلَّى غضبُ يسوع في أعنف أشكاله في مشهدِ طردِ الصيارفة والباعة من باحة الهيكل «واقترب فصح اليهود، فصَعِد يسوع إلى أورشليم فرأى في الهيكل باعةَ البقر والغنم والحمام، والصيارفة جالسين إلى مناضدهم. فجدل سوطًا من حبالٍ وطردَهم جميعًا من الهيكل مع الغنم والبقر، ونثر دراهم الصيارفة وقلب مناضدهم» (يوحنا، ٢: ١٣–١٥).
ويُظهر مشهد طرد الصيارفة والباعة من باحة الهيكل مدى ما تمتَّع به يسوع من جرأة في مواجهة خصومه. وقد بلغَت جرأتُه على السلطة السياسية والدينية مبلغًا لا يتفق وقلة حيلته في مواجهتها. فعندما جاء إليه مَن يخبروه بأن هيرود أنتيباس ملك الجليل يطلب قتله، ونصحوه بالاختفاء في المواطن التي لا سلطة لهيرود عليها، قال لهم: «اذهبوا فقولوا لهذا الثعلب إني أطرد الشياطين وأُجري الشفاء اليوم وغدًا … إلخ» (لوقا، ١٣: ٣١–٣٢). وعندما جرى القبض على يسوع وسيق إلى المحاكمة أمام الوالي بيلاطس أحاله هذا إلى ملك الجليل الذي كان يزور أورشليم في ذلك الوقت للمشاركة بعيد الفصح، باعتبار أن يسوع مواطن جليلي. ولكن يسوع رفض التحدث إلى «الثعلب» ولم يُجِبه على أيٍّ من أسئلته، فأعاده هيرود إلى بيلاطس (لوقا، ٢٣: ٥–١١). وعندما مَثُل أمام بيلاطس لم يُجِبه إلا على اثنين من أسئلته باقتضاب ثم لَزِم الصمت. فقال له بيلاطس: «أما تكلمني؟ ألست تعلم أن لي سلطانًا أن أصلبَك وسلطانًا أن أُطْلقَك؟ فأجابه يسوع: لم يكن لك سلطان عليَّ البتة لو لم تكن أُعطيت (هذا السلطان) من فوق» (يوحنا، ١٩: ٨–١٠).
ولم تكن جرأتُه على السلطة الدينية بأقل من جرأته على السلطة السياسية. فقد انتهك الشريعة التوراتية عندما كان يُجري الشفاء يوم السبت وعندما كان تلاميذه يقطفون من السنابل ويأكلون في السبت، وعندما برَّر عدمَ التزام تلاميذه بالصيام اليهودي، وعندما أعلن عدمَ التزامه بالطاهر والنجس في المأكل والمشرب وجعل كلَّ الأطعمة طاهرة، وعندما عفا عن المرأة الزانية التي تأمر الشريعة برجمها، وعندما لم يكن يصلِّي في هيكل أورشليم ولا قرَّب قربانًا واحدًا فيه، وأعلن عن سدى العبادة في الهيكل عندما قال: «ستأتي ساعةٌ تعبدون فيها الآب لا في هذا الجبل (= جبل جرزيم في السامرة) ولا في أورشليم. أنتم تعبدون ما لا تعلمون ونحن نعبد ما نعلم. لأن الخلاص هو آتٍ من اليهود» (يوحنا، ٤: ٢١–٢٢).
وفي قصة عفوه عن الزانية، يُظهر يسوع إلى جانب رفضه للجوانب غير الإنسانية في الشريعة اليهودية، تعاطفًا مع الضعف الإنساني قلَّ مثيلُه: «فأتاه الفريسيون بامرأة أُخذت في زنا وقالوا له: يا معلمُ، إن هذه المرأة أُخذت في الزنا المشهود، وقد أوصانا موسى برجم أمثالها، فماذا تقول أنت؟ وإنما قالوا ذلك ليُحرجوه فيتهموه. فأكبَّ يسوع يخطُّ بإصبعه على الأرض. فلما ألحُّوا عليه في السؤال جلس وقال لهم: مَن كان منكم بلا خطيئةٍ فليرمها أولًا بحجر. ثم أكبَّ ثانيةً يخطُّ في الأرض. فلما سمعوا هذا الكلام انصرفوا واحدًا بعد واحد مبتدئين بالشيوخ إلى الآخرين، ولبث يسوع وحده والمرأة في مكانها. فجلس يسوع وقال لها: أين هم أيتها المرأة؟ أما أدانك أحد؟ فأجابت: لا يا سيدي. فقال لها يسوع: ولا أنا أيضًا أدينك. اذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة» (يوحنا، ٨: ١–١١). ولعل في قول يسوع هنا: «ولا أنا أيضًا أدينك» ما يُشير إلى أن يسوع قد عرَف الخطيئة مثله مثل سائر البشر؛ ولذلك فإنه لم يُدِن المرأة.
وكان يسوع عازفًا عن إظهار التواضع الزائف الذي يَسِم سلوك الفلاسفة والمتفلسفين، شديد الفخر بنفسه مؤكدًا على علوِّ مكانته. فقد شبَّه نفسَه في هذه الدنيا بالعريس الذي هو مركز الحدث والشخصية الرئيسية في الحفل: «فجاء بعض الناس وقالوا ليسوع: لماذا يصوم تلاميذ يوحنا وتلاميذ الفريسيين ولا يصوم تلاميذك؟ فقال لهم: أيستطيع أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم؟» (مرقس، ٢: ١٨–١٩). وعندما انتهر البعضُ المرأةَ التي سكبَت على رأسه حُقَّة العطر، بحجة أن الفقراء أولى بثمنها، قال لهم: «الفقراء عندكم في كلِّ حينٍ، أما أنا فلست عندكم في كلِّ حينٍ» (متَّى، ٢٦: ١١).
وقد بلغ من فخره بنفسه أنه اعتبر كلَّ مَن سبقه في التاريخ النبوي اليهودي لصوصًا وسارقين، وذلك بالمعنى المجازي لا الحرفي: «أنا الراعي الصالح، أعرف خرافي وخرافي تعرفني» (يوحنا، ١٠: ١٤). «الحق أقول لكم، مَن لم يدخل حظيرة الخِراف من الباب بل تسلَّق إليها من طريق آخر كان لصًّا سارقًا، ومَن يدخل من الباب كان راعي الخراف، البواب يُفتح له والخراف تُصغي إلى صوته وتَتْبعه لأنها تعرف صوته أما الغريب فلا تتبعه. الحق أقول لكم: أنا باب الخراف. جميع الذين جاءوا قبلي لصوصٌ سارقون ولكن الخراف لم تُصغِ إليهم» (يوحنا، ١٠: ١–٨). وقد قارن نفسه ببعض أنبياء إسرائيل وبأعظم ملوكهم، وأعلن أنه أعلى منهم شأنًا: «أهل نينوى سيقومون مع أهل هذا الجيل ويحكمون عليه لأنهم تابوا بإنذار النبي يونان، وها هنا أعظم من يونان. ملكة الجنوب ستقوم يوم الدين مع هذا الجيل وتحكم عليه، لأنها جاءت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وها هنا أعظم من سليمان» (متَّى، ١٢: ٤١–٤٣). وهو أعلى شأنًا من إبراهيم الأب الأعلى لليهود وأعظم الأنبياء: «ابتهج أبوكم إبراهيم على رجاء أن يرى يومي، ورآه ففرح. قال له اليهود: أرأيت إبراهيم وما بلغت الخمسين؟ فقال لهم يسوع: الحق، الحق أقول لكم: كنتُ قبل أن يكون إبراهيم» (يوحنا، ٨: ٥٦–٥٨). وهو أعظم من هيكل أورشليم محور التاريخ الديني والدنيوي لليهود. فعندما شغب عليه اليهود لانتهاكه حرمةَ السبت قال لهم: «أوَما قرأتم في التوراة أن الكهنة في السبت يستبيحون حرمة الهيكل ولا حرج عليهم؟ فأقول لكم: ها هنا أعظم من الهيكل» (متَّى، ١٢: ٥–٦). والمقصود من استباحة الكهنة للسبت في الهيكل، هو ما نصَّت عليه الشريعة من تقديم قرابين معينة في يوم السبت (راجع سفر العدد، ٢٨: ٩).
وقد تمتَّع يسوع بأهم خصيصة في المعلم الروحي، ألا وهي قوة الشخصية والجاذب الطبيعي أو الكاريزما. وكان يتحدث دومًا كمَن له سلطان، على حدِّ تعبير الأناجيل: «فلما أكمل يسوع هذه الأقوال بُهتَت الجموع من تعليمه، لأنه كان يُعلِّمهم كمَن له سلطان وليس كالكتبة» (متَّى، ٧: ٢٩). «فتحيروا كلهم حتى سأل بعضُهم بعضًا قائلين: ما هذا؟ وما هو هذا التعليم الجديد؟ لأنه يأمر حتى الأرواح النجسة فتُطيعه» (مرقس، ١: ٢٧). «ولما جاء إلى الهيكل، تقدَّم إليه رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب وهو يُعلِّم قائلين: بأي سلطان تفعل هذا؟ ومَن أعطاك هذا السلطان» (لوقا، ٢٠: ١–٢). وعلى الرغم من عدم امتلاكه لأيِّ حقٍّ في التدخل بالأنظمة المتبعة في الهيكل، فقد ألقى الرعب في قلوب الصرافين وباعة حيوانات قرابين الهيكل ففروا من أمامه مذعورين عندما انقضَّ عليهم وفرَّقهم بسوطه. وهذه الهيبة التي تمتَّع بها يسوع منعَت حرَّاسَ الهيكل من القبض عليه عندما أُمروا بذلك: «فأرسل الفريسيون والأحبار خُدامًا ليُمسكوه … فعاد الخُدام إلى الأحبار والفريسيِّين، فقال لهم هؤلاء: لماذا لم تأتوا به؟ أجاب الخُدام: لم يتكلم إنسان هكذا مثل هذا الإنسان. فأجابهم الفريسيون: «ألعلكم أنتم أيضًا قد ضللتم»» (يوحنا، ٧: ٣٢–٤٧). وغالبًا ما كان تلاميذه يهابون أن يسألوه شرْحَ ما غمض عليهم من أقواله. فعندما قال لهم: «إن ابنَ الإنسان سوف يُسلَّم إلى أيدي الناس فيقتُلونه، وبعد أن يُقتَل يقوم في اليوم الثالث، لم يفهموا القول وخافوا أن يسألوه» (لوقا، ٩: ٤٤–٤٥). وعندما قال لهم في جلسة العشاء الأخير إن واحدًا منهم سيُسلِّمه، تردَّد الجميع في سؤاله عن هوية الخائن، ولم يجرؤ على ذلك سوى التلميذ المحبوب (يوحنا، ١٣: ٢١–٢٦). وفي ظهوره الأخير لهم عند بحيرة طبريا، عندما جلس معهم بعد انتهاء الصيد وأكل: «لم يجرؤ أحدٌ أن يقول له: مَن أنت؟ لعلمهم أنه الرب» (يوحنا، ٢١: ٤–١٣).
ولقد جزع يسوع من الموت كما يجزع بقيةُ البشر. فبعد العشاء الأخير عندما مضى مع تلاميذه إلى جبل الزيتون ودخل بستان جتسيماني، شعر بقرب وصول الخائن يهوذا مع جند الهيكل، فمضى ببطرس ويعقوب ويوحنا وراح يستشعر حزنًا وكآبةً، وقال لهم: «نفسي حزينة حتى الموت، امكثوا هنا واسهروا. ثم أَبْعدَ قليلًا ووقعَ على الأرض يصلي لتبتعد عنه الساعة إن يستطاع. قال: يا أبتا، إنك على كل شيء قديرٌ فاصرف عنِّي هذه الكأس. ولكن لا كما أنا أشاء بل كما أنت تشاء. وأخذه الجهد فأمعن في الصلاة وكان عرقه كقطرات دم تتساقط على الأرض» (مرقس، ١٤: ٣٢–٤٢؛ + لوقا، ٢٢: ٣٩–٤٥). وفي الدقائق الأخيرة على الصليب بلغ به اليأسُ الإنساني ذروتَه فصاح بأعلى صوته: إلهي، إلهي لماذا تركتني (متَّى، ٢٧: ٤٦).