في البدء كان الكلمة
تتميز أقوال يسوع في الأناجيل الإزائية بأنها تدور حول الآب السماوي، وقرب حلول ملكوت السماء والمتطلبات الأخلاقية لدخوله. وهذا يعني أن تعاليمه لم تكن تتمركز حول ذاته بل حول الآب، وغالبًا ما كان يصوغ تعاليمه على شكل أمثال أو أقوال قصيرة، وذلك استجابة لأسئلة يوجهها إليه التلاميذ أو آخرون من الجمع الفضولي الذي كان يلتئم حوله، ونادرًا ما كان يلجأ إلى الخُطب الطويلة المُعدَّة بعناية مسبقًا. أما خطبة الجبل الواردة في إنجيل متَّى: ٥، فإن الباحثين في العهد الجديد اليوم متفقون على أنها من ترتيب مؤلف الإنجيل، الذي جمع أقولًا أصلية ليسوع قيلت في مناسبات متفرقة، ثم رتَّبها في نصٍّ مطرد ما زالت علائمُ الخلل واضحةً فيه. فإذا انتقلنا إلى إنجيل يوحنا وجدنا أن تعاليم يسوع تأتي غالبًا على شكل خُطبٍ طويلة مفككة الأجزاء، وتتضمن أقوالًا ذات طابع رمزي ومجازي، موضوعها الأساسي يسوع الابن وعلاقته بالآب ودوره المرسوم في خطة الخلق. وغالبًا ما كانت هذه الأقوال على درجة من الصعوبة بحيث إن تلاميذه أنفسهم لم يقدروا على فهمها. فعندما قال في إحدى خطبه: «أنا الخبز الحي الذي نزل من السماء، مَن يأكل هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أعطيه هو جسدي الذي أبذله ليحيا العالم.» تذمر عليه اليهود وقالوا: «أليس هذا يسوع بن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه؟ فكيف يقول الآن إني نزلت من السماء؟ أما تلاميذه فقال كثيرٌ منهم: هذا كلامٌ عسير مَن يطيق سماعه» (يوحنا: ٦).
إن صورة يسوع في إنجيل يوحنا هي من التركيب والتعقيد بحيث إن الإنجيل كان بحاجة إلى مقدمة مكثفة ومختصرة إلى أبعد الحدود، من شأنها عون القارئ على فك شيفرات لا حصر لها مبثوثة في ثناياه. وهذا ما أنجزه المؤلف في الآيات من ١ إلى ١٨ من الإصحاح الأول بأسلوب يوناني رفيع ذي طابعٍ فلسفيٍّ مغرقٍ في التجريد. هذه المقدمة على اختصارها وإيجازها تحوَّلت إلى حجر الأساس الذي قام عليه فيما بعد البناء السامق للاهوت المسيحي.
يوحنا شهد له ونادي قائلًا: هذا هو الذي قلت فيه إن الذي يأتي بعدي قد تقدمني لأنه كان قبلي. ومن ملْئه نِلنا بأجمعنا نعمة على نعمة. لأن الشريعة أتتنا على يد موسى، وأما النعمة والحق فقد بلغا إلينا على يد يسوع المسيح.
الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي حضن الأب هو الذي أخبر عنه.
هنالك مفهومان يتحكمان بهذه المقدمة الفخمة؛ المفهوم الأول هو «اللوغوس» والثاني هو «التجسد». فاللوغوس الذي هو كلام الله موجود معه منذ الأزل. وعلى الرغم من أنه صدر عنه، إلا أن هذا الصدور ليس زمانيًّا بمعنى أنه حدث في وقت معين، وإنما هو صدور وجودي يتضمن معنى الاختلاف في المرتبة بين الاثنين. فالله هو الآب واللوغوس هو الابن المتولِّد عن الله. الله هو المتكلم واللوغوس هو كلامه، وما الاثنان في المحصلة إلا هوية واحدة: «وكان الكلمة الله». وعند الحد الفاصل بين السرمدية والزمن الدنيوي، لما قرر الله أن يخلق العالم، كان اللوغوس أو الكلمة وسيلته إلى ذلك: «به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان». وفي لحظة معينة من التاريخ الدنيوي هبط اللوغوس من عليائه وتجسَّد في رحم مريم إنسانًا من لحم ودم: «والكلمة صار جسدًا وحل بيننا». ولكن العالم لم يعرفه، و: «جاء إلى بيته فما قبله أهل بيته» من اليهود، أما الذين قبِلوه من الأمم: «فقد أولاهم سلطانًا أن يصيروا أبناء الله» من خلال المعمودية التي تهبهم الولادة الثانية. وهذه الولادة ليست: «من دمٍ ولا من مشيئة جسدٍ ولا من مشيئة رجلٍ، بل من الله». «لأن الشريعة أتَتنا على يد موسى»، أما يسوع المسيح الذي حررنا من الشريعة، فقد جاءنا: «بالنعمة والحق» وأخبرنا عن الله الذي: «لم يره أحدٌ قط، ولكن الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه». وهذا الابن هو النور الذي قهر ظلام الجهل الذي كان اليهود يعمهون به قبل مجيء يسوع، الجهل بالله الحق: «والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لا تقوى عليه».
وفي الحقيقة، فإن مفهوم اللوغوس باعتباره صلةَ وصلٍ بين الله والعالم والوسيط الذي به جرى خلقُ هذا العالم، ليس من ابتكار مؤلف إنجيل يوحنا، بل له تاريخ شيق نستطيع متابعته في الفكر التوراتي كما في الفكر الفلسفي اليوناني السابق على المسيحية. ففي كتاب التوراة يتحدث سفر الأمثال وسفر الحكمة عن «الحكمة» التي خلقها الرب قبل كل شيء لتكون صلةَ وصلٍ بينه وبين العالم والوسيط الذي أُوكلت إليه مهمة الخلق. نقرأ في سفر الأمثال:
«طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة … لأن تجارتها خيرٌ من تجارة الفضة وربحها خير من الذهب الخالص … هي شجرة الحياة لممسكها، والمتمسك بها مغبوط. الرب بالحكمة أسَّس الأرض، أثبت السماوات بالفهم. بعلمه انشقَّت اللجج وتقطَّر السحاب ندى» (الأمثال، ٣: ١٣–٢٠).
«الرب حازني أول طريقه، من قبل أعماله منذ القدم. منذ الأزل مُسحتُ، منذ البدء منذ أوائل الأرض. إذ لم يكن غَمرٌ أُبدئتُ، إذ لم تكن ينابيع غزيرة المياه. من قبل أن تقررت الجبال، قبل التلال أُبدئتُ، إذ لم يكن قد صنع الأرض ولا البراري ولا أول أعفار المسكونة. لما ثبَّت السماء كنت هناك أنا، لما رسم دائرة على وجه الغمر، لما أثبت السحاب من فوق، لما تشددت ينابيع الغمر، لما وضع للبحر حده فلا تتعدى المياه تخمه، لما رسم أسس الأرض، كنتُ عنده صانعًا وكنت كل يوم لذته فَرِحةً دائمًا قدامه، فرحةً في مسكونة أرضه، ولذاتي مع بني آدم.» (الأمثال، ٨: ٢٢–٣١)
«إن الحكمة أسرع حركة من كل متحرك. وهي لطهارتها تلِجُ وتنفذ في كل شيء. فإنها بخار قوة الله وصدور مجد القدير الخالص. فلذلك لا يشوبها شائبة ولا يشوبها شيء نجس، لأنها ضياء النور الأزلي مرآة عمل الله النقية وصورة جودته. تقدر على كل شيء وهي واحدة، وتجدد كل شيء وهي ثابتة في ذاتها. وفي كل جيل تَحُلُّ في النفوس القديسة فتُنشئ أحباء لله وأنبياء … إنها أبهى من الشمس وأسمى من كل مركز للنجوم. وإذا ما قيست بالنور تقدَّمت عليه.» (سفر الحكمة، ٧: ٢٤–٢٧)
«فإن في نسبها مجدًا لأنها تحيا عند الله، وربُّ الجميع قد أحبها. فهي صاحبة أسرار علم الله والمتخيرة لأعماله.» (سفر الحكمة، ٨: ٣–٤)
وقد كان لفيلون الإسكندري على ما يبدو الأثرُ الأقوى على فكر مؤلف إنجيل يوحنا، فهو الأقرب إليه زمنيًّا، ونظرًا لكونه يهوديًّا إسكندرانيًّا فقد شاعَت أفكاره بين مثقفي اليهود سواء في فلسطين أم في آسيا الصغرى وبقية المغتربات اليهودية في العالم اليوناني. كان فيلون، المتوفى سنة ٥٠م، مثقفًا يونانيًّا أكثر منه مثقفًا عبرانيًّا، فكان يأخذ معارفه الدينية اليهودية عن التراجم اليونانية للأسفار التوراتية لا عن الأصول العبرية نفسها. ولكنه في الوقت نفسه كان مؤمنًا عميق التدين، كرَّس قسمًا كبيرًا من فلسفته من أجل التوفيق بين ما جاء في التوراة وبين الفلسفة اليونانية، معتمدًا على التفسير الرمزي والمجازي للنص المقدس، فكان بذلك أولَ مَن أسَّس لمنهج التأويل في الفكر الديني، وهو المنهج الذي اتبعه بعد ذلك المفكرون الإسلاميون من علماء كلام وفلاسفة ومتصوفة، إضافةً إلى مفكري الطوائف الإسلامية التي يغلب عليها الطابع الفلسفي، والمفكرين الأفذاذ الذين كتبوا رسائل إخوان الصفاء.
الدكتور عبد الرحمن بدوي: خريف الفكر اليوناني، دار القلم بيروت ١٩٧٩م، ص٧٩–١٠٣.