الأيام الستة الأخيرة
تُدعى الأيام الستة الأخيرة التي قضاها يسوع في أورشليم بأسبوع الآلام. وهي تمتد من يوم الأحد الواقع في ١٠ نيسان/أبريل إلى يوم الجمعة الواقع في ١٥ نيسان/أبريل، وهو أول أيام عيد الفصح اليهودي. في مساء اليوم السابق للعيد أي يوم الخميس الواقع في ١٤ نيسان/أبريل، وهو وقفة العيد، يتناول اليهود في بيوتهم عَشاءً طقسيًّا يُدعى عَشاء الفصح. فما الذي قام به يسوع خلال هذه الأيام الستة التي انتهت بموته على الصليب؟ إن الأناجيل الأربعة ليست على اتفاق فيما يتعلق بأحداث هذه الفترة. فشهادة إنجيل يوحنا تُعارض شهادات الأناجيل الإزائية، وهذه بدورها غيرُ متفقةٍ فيما بينها.
فيما يلي من هذا البحث سوف نستعرض الروايات الإنجيلية الأربعة ونُقارن فيما بينها، لكي نصلَ إلى نتيجة مرجَّحة بخصوص ما حدث، لا سيما فيما يتعلق بيوم العَشاء الأخير ويوم الصَّلب؛ لما لهذين التاريخين من أثر على العقيدة المسيحية.
(١) رواية يوحنا
وصل ركْبُ يسوع إلى أطراف أورشليم في يوم الأحد ١٠ نيسان. ويبدو أن الوصول كان في وقت متأخر من النهار؛ لأن يسوع توقَّف في بيت عنيا للمبيت. وعند المساء أعدَّت له الأسرة المضيافة عَشاءً. وبينما كانت مرتا تخدم ولعازر متكئًا إلى المائدة بجوار يسوع، دخلت أختهما مريم وبيدها حُقَّة من عطر الناردين الغالي الثمن فدهنت به قدمَي يسوع وراحت تمسحهما بشعرها … إلى آخر القصة التي عرضناها وعلقنا عليها في مواضع سابقة (يوحنا، ١٢: ١–٨). في صباح اليوم التالي، الإثنين ١١ نيسان، خرج يسوع في موكبه ودخل أورشليم حيث راح يُعلِّم في الهيكل، وفي المساء عاد إلى بيت عنيا (يوحنا، ١٢: ٢٠–٤٩). وبما أن المؤلف لا يُخبرنا عما فعله يسوع بعد ذلك عدا اجتماعه مع الاثنَي عشر لتناول العَشاء الأخير مساء الأربعاء ١٣ نيسان، فإن المرجَّح أنه بقيَ في بيت عنيا يوم الثلاثاء وقبل ظهر الأربعاء. في وقت متأخر من مساء الأربعاء بعد العَشاء الأخير تم القبض على يسوع وسِيقَ إلى بيت رئيس الكهنة حيث جرى استجوابه وجمع الشهادات ضده، وعندما أشرقت الشمس أخذوه إلى قصر الوالي الروماني من أجل المحاكمة الرسمية التي انتهت بإدانته وصلبه عند ظهر يوم الخميس ١٤ نيسان، أي وقفة عيد الفصح. ويغدو الجدول الزمني لأسبوع الآلام على الشكل التالي:
الأحد ١٠ نيسان | الإثنين ١١ نيسان | الثلاثاء ١٢ نيسان | الأربعاء ١٣ نيسان | الخميس ١٤ نيسان | الجمعة ١٥ نيسان |
---|---|---|---|---|---|
مبيت في بيت عنيا | دخول أورشليم | إقامة في بيت عنيا | إقامة في بيت عنيا | المحاكمة | يسوع في القبر منذ البارحة |
قصة حُقَّة الطيب | تعليم في الهيكل | العَشاء الأخير | الصلب والدفن | ||
مبيت في بيت عنيا | الاستجواب |
(٢) رواية مرقس
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة |
---|---|---|---|---|---|
وصول إلى أورشليم وجولة في الهيكل | أحداث شغب في الهيكل | تعليم في الهيكل | إقامة في بيت عنيا | إقامة في بيت عنيا | المحاكمة |
مبيت في بيت عنيا | تعليم | مبيت في بيت عنيا | مائدة مسائية | عَشاء الفصح في أورشليم | الصلب والدفن |
مبيت في بيت عنيا | قصة حقة الطيب | الاستجواب |
(٣) رواية متَّى
تختلف رواية متَّى عن رواية مرقس فيما يتعلق باليوم الأول فقط. فيسوع في رواية متَّى يُحدِث الشغب في الهيكل حال وصوله في يوم الأحد، لا في اليوم الثاني كما هو الحال في رواية مرقس. وفيما عدا ذلك فإن متَّى يتبع بدقة رواية مرقس، ويغدو جدوله الزمني على الوجه التالي:
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة |
---|---|---|---|---|---|
وصول إلى أورشليم | تعليم في الهيكل | تعليم في الهيكل | إقامة في بيت عنيا | إقامة في بيت عنيا | المحاكمة |
إحداث الشغب في الهيكل | مبيت في بيت عنيا | مبيت في بيت عنيا | مائدة مسائية | عَشاء الفصح في أورشليم | الصلب والدفن |
مبيت في بيت عنيا | قصة حقة الطيب | الاستجواب |
(٤) رواية لوقا
يضع لوقا أيضًا حادثة الشغب في الهيكل في اليوم الأول لوصول يسوع وهو الأحد ١٠ نيسان. ثم ينتقل إلى القول: «وكان يُعلِّم كل يوم في الهيكل، وكان الأحبار والكتبة مع وجوه الشعب يطلبون أن يُهلكوه» (لوقا، ١٩: ٤٥–٤٧). وبعد ذلك تضيع العلامات الزمنية ولا ندري ما فعله يسوع يومًا بيوم، ولا متى كان يغادر أورشليم أو يعود إليها، وكل ما يقوله لوقا بهذا الخصوص هو أن يسوع: «كان في النهار يُعلِّم في الهيكل ثم يخرج ليبيت ليلًا في الجبل الذي يُقال له جبل الزيتون» (لوقا، ٢١: ٣٧). وبيت عنيا غائبة تمامًا عن هذه الأحداث، ولا نعرف أين كان يسوع يقضي ليلته في جبل الزيتون. من هنا فلا مكان للمائدة المسائية التي أُعدَّت هناك ليسوع مساء الأربعاء أو لقصة المرأة التي سكبَت زجاجة الطيب عليه في ذلك اليوم. أخيرًا وبعد أن ينتهيَ لوقا من سرد خطب يسوع في الهيكل وجداله مع اليهود هناك (لوقا: ٢٠–٢١) نجد أنفسنا في وقفة عيد الفصح: «وجاء يوم الفطير الذي تُقرَّب فيه ذبيحة الفصح» (لوقا، ٢٢: ٧). يلي ذلك عشاء الفصح مساء الأربعاء، ثم القبض على يسوع واستجوابه ومحاكمته صباح الخميس، ويغدو جدول لوقا المضطرب على الوجه التالي:
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة |
---|---|---|---|---|---|
وصول إلى أورشليم | تعليم في الهيكل | تعليم في الهيكل | تعليم في الهيكل | عَشاء الفصح | المحاكمة |
إحداث الشغب في الهيكل | الاستجواب | الصلب والدفن |
وفيما يلي سوف نجمع الجداول الزمنية الأربعة في جدول واحد لتسهيل المقارنة بينها:
الجدول الزمني لأحداث أسبوع الآلام:
اليوم | إنجيل يوحنا | إنجيل مرقس | إنجيل متَّى | إنجيل لوقا |
---|---|---|---|---|
الأحد ١٠ نيسان | مبيت في بيت عنيا | وصول إلى أورشليم | وصول إلى أورشليم | وصول إلى أورشليم |
جولة في الهيكل | إحداث شغب في الهيكل | إحداث شغب في الهيكل | ||
مبيت في بيت عنيا | مبيت في بيت عنيا | |||
الإثنين ١١ نيسان | وصول إلى أورشليم | إحداث شغب في الهيكل | تعليم في الهيكل | تعليم في الهيكل |
تعليم في الهيكل | تعليم | مبيت في بيت عنيا | ||
مبيت في بيت عنيا | مبيت في بيت عنيا | |||
الثلاثاء ١٢ نيسان | إقامة في بيت عنيا | تعليم في الهيكل | تعليم في الهيكل | تعليم في الهيكل |
مبيت في بيت عنيا | مبيت في بيت عنيا | |||
الأربعاء ١٣ نيسان | إقامة في بيت عنيا قبل الظهر | إقامة في بيت عنيا | إقامة في بيت عنيا | تعليم في الهيكل |
العشاء الأخير | مائة مسائية | مائة مسائية | ||
الاستجواب | قصة حقة الطيب | قصة حقة الطيب | ||
الخميس ١٤ نيسان | المحاكمة | إقامة في بيت عنيا قبل الظهر | إقامة في بيت عنيا قبل الظهر | عشاء الفصح |
الصلب والدفن | عشاء الفصح | عشاء الفصح | الاستجواب | |
الاستجواب | الاستجواب | |||
الجمعة ١٥ نيسان | يسوع في القبر | المحاكمة | المحاكمة | المحاكمة |
منذ يوم الخميس | الصلب والدفن | الصلب والدفن | الصلب والدفن |
إن الاختلافات التي يُظهرها هذا الجدول بين الأناجيل الأربعة بخصوص أحداث أسبوع الآلام تنقسم إلى نوعين؛ النوع الأول اختلافات غير جوهرية يمكن عزوها إلى اضطراب ذاكرة الأشخاص الذين روى عنهم الإنجيليون أحداث ذلك الأسبوع، مثل يوم دخول يسوع إلى أورشليم، وما إذا كان قد أحدث الشغب في الهيكل في اليوم الأول أم في اليوم الثاني أم لم يُحدثه في ذلك الأسبوع. أما النوع الثاني فاختلافات ذات أثر بعيد على العقيدة المسيحية، ولا يمكن عزوها إلا إلى اختلاف المواقف الفكرية للمؤلفين أنفسهم. ذلك أن المضامين اللاهوتية لتناول يسوع العشاء الأخير في وقفة العيد، تختلف عن المضامين اللاهوتية لتناوله ذلك العشاء في اليوم السابق للوقفة. وكذلك الحال فيما يتعلق بموته على الصليب عشية اليوم الذي يضحي به بحمل الفصح، أم في اليوم الأول للفصح.
سوف نبحث موضوع يوم موت يسوع في وقت لاحق، ونتفرغ في البحث التالي ليوم العشاء الأخير وهل كان عشاء فصح أم لا. ولكن بعد الاستطراد التالي:
العشاءات الثلاث
- (١)
العَشاء في بيت عنيا مساء الأحد قبل الدخول إلى أورشليم، عندما جاءت مريم وسكبت الطيب على قدمَي يسوع (إنجيل يوحنا).
- (٢)
العَشاء في بيت سمعان الأبرص مساء الأربعاء، عندما دخلت امرأة مجهولة وسكبت الطيب على رأس يسوع (مرقس، ومتَّى).
- (٣)
العشاء الأخير مساء الأربعاء عند يوحنا، ومساء الخميس عند الإزائيين.
- (أ)
يشترك عَشاء مساء يوم الأحد في بيت عنيا (يوحنا) مع العشاء في بيت سمعان الأبرص مساء الأربعاء (مرقس + متَّى) بعنصر حقة الطيب التي سُكبت على يسوع.
- (ب)
يشترك العشاء في بيت سمعان الأبرص (مرقس + متَّى) مع العشاء الأخير عند يوحنا في أن كليهما حدثَا مساء يوم الأربعاء.
- (جـ)
ويشترك العشاء في بيت سمعان الأبرص مساء الأربعاء (مرقس + متَّى)، مع العشاء الأخير مساء الأربعاء (يوحنا)، في أن يهوذا الإسخريوطي غادر العشاء في نهايته من أجل تنفيذ خطته الرامية إلى تسليم يسوع. نقرأ في إنجيل يوحنا: «ثم غمس يسوع اللقمة ورفعها وناولها يهوذا بن سمعان الإسخريوطي، فدخل فيه الشيطان بعد اللقمة. فقال يسوع: افعل ما أنت فاعل ولا تُبطئ … فتناول اللقمة وخرج من وقته» (يوحنا، ١٣: ٢٦–٣٠). ونقرأ عند متَّى في نهاية قصة العشاء عند سمعان الأبرص: «فذهب أحد الاثنَي عشر وهو يهوذا الإسخريوطي إلى الأحبار وقال لهم: ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أُسلِّمه لكم؟ فجعلوا له ثلاثين من الفضة» (متَّى، ٢٦: ١٤–١٦. قارن مع مرقس، ١٤: ١٠–١١).
- (د)
يتحول عنصر قيام مريم بسكب الطيب على قدمي يسوع ومسحهما بشعرها في عشاء يوم الأحد، إلى عنصر قيام يسوع بسكب الماء على أقدام تلاميذه وتجفيفها بمنديل.
- (هـ)
لوقا لم يكن في روايته مكان لعشاء تقوم فيه امرأة بسكب حقة الطيب على يسوع؛ لأنه روى لنا قصة مماثلة حدثَت في مطلع حياة يسوع التبشيرية، عندما دعاه رجل فريسي اسمه سمعان، وبينما هو جالس إلى المائدة دخلَت امرأة خاطئة ومعها حقة طيب … إلخ (لوقا، ٧: ٣٦–٥٠). ومع ذلك فإن في قصته المبكرة زمنيًّا ملمحًا مشتركًا مع عشاء يوم الأربعاء في بيت سمعان الأبرص، وهو أن كلا الشخصين اللذين دخل يسوع بيتهما للعشاء يُدعيان بالاسم سمعان.
هذه الملاحظات تعطينا نموذجًا عن مدى الاضطراب في الأخبار التي حفظها لنا الموروث عن يسوع، وعن كيفية استعارة الرواة عناصر أخبارهم من بعضهم ومن مصادر أخرى، وتوظيفها في مروياتهم كلٌّ على طريقة.