يسوع والنساء
يكاد قارئ كتاب العهد الجديد لا يلحظ دورًا للنساء في حياة يسوع التبشيرية؛ فحواراته كانت تجري دومًا مع الرسل الاثنَي عشر الذين اختارهم لمرافقته في حلِّه وترحاله، وتعاليمه كانت موجَّهةً على الدوام إليهم. ولكن مؤلفي الأناجيل، تركوا لنا إشاراتٍ عابرةً هنا وهناك تكشف عن دورهن المهم في الدعوة الجديدة، وتفانيهن في تقديم الدعم المادي والمعنوي للمعلم الذي تركن من أجله بيوتهن وسِرْن وراءه على طريق الآلام من الجليل إلى الجلجلة حيث صُلب ومُجِّد، وكان من بينهن أول الشهود على قيامته من بين الأموات.
هذه الإشارات الغامضة التي تلفت نظرَنا إلى الحضور القوي للنساء في ذلك المحيط الذكوري كما قدَّمه لنا الإنجيليون، تُطلعنا على حقيقة في غاية الأهمية، وهي أن عدد النساء في بطانة يسوع المقربة ربما كان أكثر من عدد الرجال، وأن الدعم المالي لهذه المجموعة المرتحلة مع معلِّمها كان يأتي من بعض أولئك النسوة المقتدرات اللواتي تركنَ ما كُنَّ فيه من رغد العيش وسِرْن وراء يسوع. ولعل من أهم هذه الإشارات ما ورد في إنجيل لوقا: «وعلى إثر ذلك كان يسير في المدن والقرى يكرز ويبشر بملكوت الله، ومعه الاثنا عشر، وبعض النساء اللواتي شفاهن من الأرواح الشريرة والأمراض، وهن مريم المعروفة بالمجدلية التي أخرج منها سبعة شياطين، وحنة (أو يُوَنَّا في بعض الترجمات) امرأة خوزي وكيل هيرودوس، وسوسنة، وغيرهن كثيرات كنَّ يخدمنه من أموالهن» (لوقا، ٨: ١–٣).
تدلُّنا هذه الإشارة المقتضبة إلى تلميذات يسوع عند لوقا على وجود عدد كبير من النساء في بطانة يسوع المقرَّبة، وأن المصدر الأساسي لتمويل معاش يسوع وتلاميذه كان من أموال هؤلاء النسوة. وقد كان هذا المال يُحفظ في صندوق خاص يحمله معه التلميذ يهوذا الإسخريوطي، على ما نفهم من إنجيل يوحنا ١٢: ٤–٦. ولكن لوقا لم يذكر لنا من أسماء هؤلاء النسوة سوى ثلاثة، هن: مريم المجدلية، ويُوَنَّا (أو حنة) امرأة خوزي، وكيل هيرودوس، وسوسنة. ويكشف لنا تعريف لوقا ليوَنَّا بأنها زوجة وكيل هيرودوس أنتيباس ملك الجليل، حقيقةً في غاية الأهمية وهي أن العديد من هؤلاء التلميذات كنَّ من شرائح اجتماعية ميسورة، وكنَّ من موقعهن المتميز هذا قادرات على دعم طبيعة حياة الترحال التي اختارها يسوع له ولجماعته. وكما سنرى فيما بعد فإن اثنتين من هؤلاء النسوة اللواتي ذكرهن لوقا، وهما مريم المجدلية ويُوَنَّا، سوف تعودان إلى الظهور في أحداث الأسبوع الأخير من حياة يسوع، أما الثالثة وهي سوسنة (أو سوزان كما تُدعى في اللغات الأوروبية) فسوف تختفي تمامًا، ولا يأتي أحد من الإنجيليِّين على ذكرها بما فيهم لوقا نفسه.
بعد هذه الإشارة الوحيدة والمقتضبة التي أوردها لوقا إلى وجود نساء كثيرات منذ البداية في بطانة يسوع، تصمت الأناجيل الأربعة عن هؤلاء النسوة وصولًا إلى أحداث محاكمة يسوع وصَلبه ودفنه. فبعد القبض على يسوع وسوقه إلى المحاكمة، انفضَّ عنه الرسل الاثنا عشر وبقية التلاميذ واختبئوا خوفًا من الاعتقال، ولم يصحبه إلى المحاكمة إلا النساء اللواتي رافقنه بعد ذلك إلى موضع الصَّلب. نقرأ في إنجيل متَّى الذي لم يعترف بوجود النساء حتى هذا الوقت المتأخر ما يلي: «وكانت هناك نساء كثيرات ينظرن من بعيد وهُنَّ كنَّ قد تبعنَ يسوع من الجليل يخدمنه. وبينهن مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي، وأم ابني زبدي» (متَّى، ٢٧: ٥٥–٥٦). وابنا زبدي المذكوران هنا هما يعقوب ويوحنا الوارد ذكرهما في قائمة الرسل عند متَّى (راجع متَّى: ٤). أما يعقوب ويوسي فهما ابنا حلفي. ويلقَّب يعقوب هذا بالصغير تمييزًا له عن يعقوب الكبير ابن زبدي. وعلى الرغم من أن متَّى لا يذكر لنا اسمَ أمِّ ابني زبدي، إلا أن المرجَّح أن يكون اسمها سالومة، لأن مرقس الذي يُقدم لنا القائمة نفسها يقول «سالومة» في الموضع الذي قال فيه متَّى «أم ابني زبدي»: «وكانت أيضًا نساء ينظرن من بعيد بينهن مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب الصغير ويوسي، وسالومة» (مرقس، ١٥: ٤٠). فإذا جئنا إلى لوقا وجدناه يذكر من أسماء النساء الكثيرات اللواتي حضرن الصَّلب ثلاثة، هن: مريم المجدلية، ويونَّا، ومريم أم يعقوب (لوقا، ٢٤: ١٠). أي أنه حافظ على قائمته التي قدَّمها لنا في بداية إنجيله مع استبدال سوسنة بمريم أم يعقوب.
أما يوحنا، وعلى عادته في التفرد عن بقية الإنجيليين، فيقدم لنا قائمة لا تشترك مع بقية قوائم الإنجيليين إلا باسم المجدلية: «وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه، وأخت أمه زوجة كلوبا، ومريم المجدلية» (يوحنا، ١٩: ٢٥). تحتوي هذه القائمة على شخصيتين نسائيتين لم تردَا في قوائم بقيَّة الإنجيليين. فلدينا أولًا أم يسوع التي كانت غائبة عن جميع الإنجيليين خلال حياة يسوع التبشيرية، ولم يَرِد ذكرها إلا عرَضًا في معرض التعريف بيسوع باعتباره ابنَ امرأة تُدعى مريم (متَّى، ١٣: ٥٥–٥٦؛ ومرقس، ٦: ١–٣)، كما جرَت الإشارة إليها على أنها أمُّ يسوع دون ذكر اسمها عندما جاءت أسرتُه تطلبه وهو منشغل في التعليم: «هو ذا أمك وإخوتك واقفون خارجًا طالبين أن يكلموك» (متَّى، ١٢: ٤٦–٥٠. قارن مع مرقس، ٣: ٣٥–٥١؛ ولوقا، ٨: ١٩–٢١). أما عند يوحنا فقد ورد ذكرها مرة واحدة في مطلع حياة يسوع التبشيرية وذلك في عرس قانا عندما اجترح يسوع معجزة تحويل الماء إلى خمر، ولكن دون الإشارة إلى اسمها: «وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك … إلخ» (يوحنا: ٢). وبعد ذلك تغيب مريم عن مسرح الأحداث تمامًا ولا نعثر لها على ذكرٍ بين بطانة يسوع. ولذلك فمن الغريب أن نجدها فجأةً تحت الصليب ومعها أخت لها لم نسمع بها من قبل اسمها مريم أيضًا. ولحلِّ هذه المفارقة فقد اقترح بعض الباحثين وجودَ خطأ في النسخ وأن الآية ٢٥ من الإصحاح ١٩ يجب أن تُقرأ: «وكانت واقفات عند صليب يسوع: أمه، وأخت أمه، ومريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية.» وبذلك يكون لدينا أربع نساء عوضًا عن ثلاثة. أما عن المدعو كلوبا الذي تُنسب إليه هذه المريم الأخرى، فلم يَرِد اسمه إلا مرة واحدة في الأناجيل باعتباره من تلاميذ يسوع ودون إعطاء أي تفصيلات بخصوصه (راجع لوقا، ٢٤: ١٣–١٨).
بعض هؤلاء النسوة اللواتي حضرن واقعةَ الصلب كنَّ أولَ الشهود على قيامة يسوع من بين الأموات، وهي الحدث الرئيسي في العقيدة المسيحية. ففي إنجيل متَّى يتراءى يسوع للمرة الأولى بعد قيامته أمام مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسي (متَّى: ٢٨). وفي إنجيل لوقا يتراءى لمريم المجدلية ويُونَّا ومريم أم يعقوب والباقيات معهن (لوقا: ٢٤). وفي إنجيل يوحنا يتراءى للمجدلية وحدها (يوحنا: ٢٠)، وكذلك الأمر في إنجيل مرقس (مرقس: ١٦).
في جميع قوائم الأسماء التي يقدِّمها لنا هؤلاء الإنجيليون الأربعة، نجد بينها على اختلافها قاسمًا مشتركًا هو مريم المجدلية. وهذا إن دل على شيء فعلى أهميتها البالغة ومكانتها الخاصة لدى يسوع. فمَن هي هذه المرأة الغامضة؟ قبل الدخول في هذا الموضوع سوف نتوقف لإلقاء الضوء على شخصيتَين نسائيَّتَين برزتَا في آخر مسيرة يسوع التبشيرية، وهما الأختان مريم ومرثا من قرية بيت عنيا في منطقة جبل الزيتون على مسافة ثلاثة كيلومترات من أورشليم.
نتعرف على مرثا وأختها مريم للمرة الأولى في إنجيل لوقا؛ فبعد أن شرع يسوع في رحلته إلى أورشليم دخل قرية لا يذكر لنا المؤلف اسمها: «فيما هم سائرون دخل قرية فأضافته في بيتها امرأة اسمها مرثا، وكانت لهذه أخت تُدعى مريم التي جلست عند قدمَي يسوع وكانت تسمع كلامه. وأما مرثا فكانت مشغولةً بأمور كثيرة من الضيافة، فأقبلت وقالت: يا رب. أما تبالي أن تتركني أختي أخدم وحدي؟ فقل لها أن تساعدني. فأجاب يسوع وقال لها: مرثا، مرثا، أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى واحد. فقد اختارت مريم النصيب الصالح الذي لن يُنتزع منها» (لوقا، ١٠: ٣٨–٤٢).
بعد ذلك نقابل مرثا ومريم مرتين في إنجيل يوحنا؛ حيث نعرف أنهما تسكنان مع أخيهما لعازر في بيت كبير في قرية تُدعى بيت عنيا، وكان البيت من السعة والثراء بحيث يتسع لإقامة وضيافة يسوع وتلاميذه. ومن المؤكد أن يسوع قد قصد هذا البيت واستراح فيه مرارًا؛ لأن مؤلف إنجيل يوحنا يقول لنا في سياق خبره الأول عن زيارة يسوع لمريم ومرثا، عندما أحيَا أخاهما لعازر بعد موته بأربعة أيام، أن يسوع كان يحب مرثا وأختها ولعازر. وقد عرضنا هذه القصة بالتفصيل في مقالتنا السابقة، فلتُراجع في موضعها في إنجيل يوحنا: ١١.
الخبر الثاني الذي يُورده يوحنا عند زيارة يسوع لبيت عنيا هو الذي يهمُّنا هنا: «ثم قبل الفصح بستة أيام أتى يسوع إلى بيت عنيا حيث كان لعازر الذي أقامه من الأموات. فصنعوا له هناك عشاءً، وكانت مرثا تخدم وأما لعازر فكان أحد المتكئين معه. فأخذت مريم منًّا (أو حُقًّا. وهو يتَّسع لثلاثمائة غرام) من طيب ناردين خالص كثير الثمن، ودهنت قدمَي يسوع ومسحَت قدميه بشعرها، فامتلأ البيت من رائحة الطيب. فقال واحد من تلاميذه وهو يهوذا سمعان الإسخريوطي المزمع أن يسلمه: لماذا لم يُبَع هذا الطيب بثلاثمائة دينار ويُعطَى للفقراء؟ قال هذا ليس لأنه كان يُبالي بالفقراء، بل لأنه كان سارقًا وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يُلقى فيه. فقال يسوع: اتركوها فإنها حفظت هذا الطيب ليوم «دفني و» تكفيني. لأن الفقراء معكم في كل حين، وأما أنا فلست معكم في كل حين» (يوحنا، ١٢: ١–٨).
«وكان الفصح وأيام الفطير بعد يومين. وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يُمسكونه بمكر ويقتلونه، ولكنهم قالوا ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب. وفيما هو في بيت عنيا في بيت سمعان الأبرص، وهو متكئٌ، جاءت امرأة معها قارورة طيب ناردين خالص كثير الثمن، فكسرت القارورة وسكبته على رأسه. وكان قومٌ مغتاظين في أنفسهم فقالوا: لماذا تَلَفُ الطيب هذا؟ لأنه كان يمكن أن يُباع هذا بأكثر من ثلاثمائة دينار ويُعطى للفقراء، وكانوا يؤنبونها. أما يسوع فقال: اتركوها، لماذا تُزعجونها؟ قد عملتْ بي عملًا حسنًا. لأن الفقراء معكم في كل حين ومتى أردتم تقدرون أن تعملوا بهم خيرًا، وأما أنا فلست معكم في كل حين. عملَتْ ما عندها؛ قد سبقَت ودهنت بالطيب جسدي للتكفين. الحق أقول لكم حيثما يُكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يُخبر أيضًا بما فعلته تذكارًا لها.» (مرقس، ١٤: ١–٩)
أما التنويع الثاني على هذه الرواية فيَرِد عند لوقا. وهنا نجد أن زمان الحادثة ومكانها مختلفان تمامًا، فهي تجري في مطلع حياة يسوع التبشيرية وفي مدينة جليلية تُدعى نايين (لوقا، ٧: ١١) لا في بيت عنيا قرب أورشليم:
«وسأله واحد من الفريسيين أن يأكل معه، فدخل بيت الفريسي واتكأ. وكان في المدينة امرأة خاطئة، فعلمت أن يسوع يأكل في بيت الفريسي، فجاءت ومعها قارورة طيب ووقفت من خلف قدميه وهي تبكي وأخذت تُبِل قدمَيه بدموعها وتمسحهما بشعرها وتقبلهما وتدهنهما بالطيب. فلما رأى الفريسي صاحب الدعوة ما جرى، قال في نفسه: لو كان هذا الرجل نبيًّا لعرف مَن هي هذه المرأة التي تلمسه وما حالها، فهي خاطئة. فقال له يسوع: يا سمعان عندي ما أقوله لك. فقال سمعان: قل يا معلم. فقال يسوع: كان لمُداين دَين على رجلين، خمسمائة دينار على أحدهما وخمسون على الآخر. وعجز الرجلان عن إيفاء دينه فأعفاهما منه. فأيهما يكون أكثرَ حبًّا له؟ فأجابه سمعان: أظن الذي أعفاه من الأكثر. فقال يسوع: أصبتَ. والتفت إلى المرأة وقال لسمعان: أترى هذه المرأة؟ أنا دخلتُ بيتك فما سكبتَ على قدمي ماءً، وأما هي فغسلتهما بدموعها ومسحتهما بشعرها. أنت ما قبَّلتني قُبلةً وأما هي فما توقفت منذ دخولي عن تقبيل قدمي. أنت ما دهنتَ رأسي بزيت وأما هي فبالطيب دهنت قدمي. لذلك أقول لك: غُفرت لها خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا، وأما الذي يُغفر له القليل فهو يحب قليلًا. ثم قال للمرأة مغفورة لك خطاياك» (لوقا، ٨: ٣٦–٤٨).
من قراءة هذه الروايات الأربعة نلاحظ أن روايات متَّى ومرقس ويوحنا تتفق في معظم عناصرها ضد رواية لوقا. فالمكان هو بيت سمعان الأبرص في قرية بيت عنيا عند متَّى ومرقس، وهو عند يوحنا بيت مرثا ومريم ولعازر في بيت عنيا أيضًا. وبما أنه لا يوجد في بيت عنيا سوى بيت واحد كان يسوع يتردد عليه، فمن المنطقي أن يكون بيت سمعان الأبرص هو نفسه بيت الإخوة الثلاثة. ومن المرجَّح أن سمعان الأبرص هذا هو والد الإخوة الثلاثة ولكنه كان متوفيًا في ذلك الوقت. يدلُّنا على ذلك أن يسوع قد دخل بيت سمعان الأبرص ولكن سمعان هذا لم يكن موجودًا؛ لأن الراوي لم يتحدث عن استقباله ليسوع ولا عن جلوسه معه إلى المائدة، ولا عن حوارٍ جرى بينه وبين يسوع، والقصة تبدأ وتنتهي وكأن سمعان الأبرص غير موجود. كما تتفق الروايات الثلاث في عنصر سكْب زجاجة الطيب سواء على رأس يسوع عند متَّى ومرقس أم على قدميه عند يوحنا، وكذلك في عنصر احتجاج البعض على هذا الإسراف على الرغم من اختلاف هوية هؤلاء المحتجين (قوم مغتاظون في أنفسهم عند مرقس، أو تلاميذ يسوع عند متَّى، أو تلميذ واحد عند يوحنا)، وكذلك في ردِّ يسوع على أولئك المحتجين وقوله بأنها فعلت ذلك استباقًا ليوم الدفن والتكفين.
أما عند لوقا فإن القصة لا تحدث في بيت عنيا كما هو الحال عند بقية الإنجيليين، وإنما في نايين في بيت رجل يُدعى سمعان أيضًا ولكنه يلقَّب بالفريسي لا بالأبرص. وعلى الرغم من اشتراك قصة لوقا مع البقية في عنصر سكب قارورة العطر، إلا أنها تفتقد عنصر احتجاج البعض، وتختلف في مضمون خطاب يسوع الأخير بخصوص تصرف المرأة، الذي ينسجم مع وصف لوقا لها بأنها خاطئة. وتعبير خاطئة هنا هو صيغة مهذبة لكلمة مومس.
وفي الحقيقة فإن اتفاق متَّى ومرقس ويوحنا ضد لوقا فيما يتعلق بمعظم عناصر القصة، يقودنا إلى القول بضعف رواية لوقا لا سيما في وصفه للمرأة بأنها خاطئة، ومن المرجَّح أن لوقا قد أدخل تعديلاته هذه على القصة لأغراض تعليمية تتعلق بالتوكيد المسيحي على التوبة وعلى المغفرة، شأنه في ذلك شأن القصة التي أوردها يوحنا عن المرأة التي أُخذت في زنا وأراد القوم رجمها فقال لهم: «مَن كان منكم بلا خطيئة فليرجمها أولًا بحجر.»
وبهذا نكون قد أضفنا إلى قائمة الأسماء المعروفة لتلميذات يسوع اسمين جديدين هما مرثا ومريم من بيت عنيا. ولكن السؤال الذي حيَّر الباحثين بخصوص هاتين المرأتين هو غيابهما عن أحداث محاكمة يسوع وصلبه ودفنه وقيامته. فأين كانتا وهما اللتان أحبَّهما يسوع مع أخيهما لعازر حبًّا جمًّا.
إن الربط بين المرأة الخاطئة في إنجيل لوقا ومريم المجدلية، لا يجد سندًا له لا من إنجيل لوقا نفسه ولا من بقية الأناجيل. فلوقا نفسه يقول لنا منذ البداية بأن المجدلية كانت من التلاميذ الأوائل ليسوع مع أخريات يذكر من أسمائهن حنة امرأة خوزي وكيل هيرودوس ملك الجليل، وسوسنة، ويقول إنهن كنَّ يخدمن يسوع من أموالهن. ولا شك أن اقتران اسم المجدلية باسم حنة وهي زوجة شخصية بارزة في الجليل يدل على أن الاثنتين تتمتعان بالمكانة الاجتماعية ذاتها. والشيء نفسه يُقال عن استحالة الربط بين المجدلية ومريم بيت عنيا استنادًا إلى معطيات الكتاب. فالمجدلية جليلية وتنتمي إلى بلدة مجدل الواقعة على بحر الجليل، وقد تبعت يسوع من الجليل إلى أورشليم، أما مريم بيت عنيا فأورشليمية تقيم في قرية قريبة من العاصمة، ولم تكن ترتحل مع يسوع بل كان يسوع نفسه يقصد بيتها للإقامة والاستراحة.
إن كلَّ ما يمكننا قوله بخصوص مريم المجدلية استنادًا إلى معطيات الكتاب، هو أنها كانت امرأةً ثرية من الجليل تَبِعت يسوع بعد أن شفاها من مرض عصبي معين لعله الصرع، وهو ما عبَّر مرقس عنه بقوله: إن يسوع أخرج منها سبعة شياطين (مرقس، ١٦: ٩). ويبدو أنها كانت التلميذة المفضَّلة عند يسوع بدليل ورود اسمها على الدوام في قوائم أسماء التلميذات عند جميع الإنجيليِّين، وشهادتها إما منفردة أو مع أخريات على قيامته من بين الأموات. ويبدو أن دورها في بطانة يسوع كان يُشبه دور بطرس؛ فقد كان بطرس مترئسًا على التلاميذ الذكور وكانت المجدلية مترئسة على التلميذات.
أما لماذا غابت الأختان مرثا ومريم عن الأحداث الحاسمة الأخيرة في حياة يسوع، فلا أجد له تفسيرًا إلا في عدم اهتمام مؤلفي الأناجيل بتتبُّع أخبار النساء وتغطيتها بما يتناسب ودورهن البارز في الدعوة اليسوعية المبكرة.
-
Michael Baigent, The Holy Blood and The Holy Grail, Jonathan Cape, London, 1982. Ch. 12.
-
A. Baring and J. Cashford, The Myth of the Goddess, Penguin Books, London, 1993, p. 89 ff.
Elaine Pagels, The Gnostic Gospels, Vintage, New York, 1981, pp. 76–81.