لماذا أُدين يسوع؟
بعد أن عرضنا بالتفصيل في البحث السابق كلَّ ما ورد في الروايات الإنجيلية الأربعة عن محاكمة يسوع، والتي بدَت مجردَ استجواب قصير قاد إلى إصدار حكم لم يكن القاضي نفسه مقتنعًا به، هناك سؤالان لا يُسعفنا النص بجواب مقنع عليهما. الأول هو لماذا رفعت سلطة الهيكل قضية يسوع إلى بيلاطس بتهمة التحريض السياسي ضد روما، وهي تهمة لم تستطع إثباتها عليه ولم تقدر على حشد الشهود لها؟ والسؤال الثاني هو لماذا رضخ بيلاطس لضغط اليهود بعد أن أعلن مرارًا قناعتَه التامة ببراءته مما يتهمونه به؟ لقد قال بيلاطس لليهود وفق رواية مرقس بعد أن انتهى من استجواب يسوع: «أيُّ شرٍّ عمل؟» (مرقس، ١٥: ١٤). وقال لهم وفقَ رواية لوقا: «لم أجد في هذا الإنسان علَّة مما تشتكون به عليه. ولا هيرودوس أيضًا» (لوقا، ٢٣: ١٣). وقال في إنجيل يوحنا: «لم أجد سببًا لتجريمه» (يوحنا، ١٨: ٣٨). وأخيرًا: «أخذ ماءً وغسل به يدَيه قدام الجميع قائلًا: إني بريء من دم هذا البار» (متَّى، ٢٧: ٢٤). فلماذا لم يحكم ببراءته بدلًا من أن يغسل يدَيه من دمه، لا سيما وأن سلطة الهيكل لم تُفلح في تقديمِ بيِّنةٍ واحدة على شكاويها المزعومة؟
وفي واقع الأمر، فإن الرأي الذي كوَّنه بيلاطس عن يسوع المسيح لم يكن مختلفًا كثيرًا عن الرأي الذي كوَّنه ألبينوس عن يسوع بن حنانيا بعد ذلك بثلاثة عقود. فقد وجد بيلاطس نفسه أمام متصوف هو أبعد ما يكون عن الهموم السياسية لمعاصريه، تُخالجه أوهامٌ دينية عن مملكة ليست من هذا العالم سيكون ملكًا عليها. وعندما قال لهم: «هل أُطلق لكم مَلك اليهود؟» كان يسخر من يسوع ومنهم مستخدمًا الذريعة التي تقدَّموا بها إليه قائلين: «وجدنا هذا الرجل يُفسد الأُمَّة ويمنع أن تُعطى الجزية لقيصر قائلًا إنه مسيح ملك» (لوقا، ٢٣: ١). وعندما أمر بعد ذلك أن تُكتب على الصليب جملة «يسوع الناصري ملك اليهود»، كان يشفي غليله منهم وكأنه يقول: إذا كان هذا هو ملككم، فليكن.
إن هذه الأسئلة المتعددة التي أثرناها حول موقف بيلاطس غير المفهوم، لتوجه أذهاننا إلى سؤال آخر على غاية من الخطورة وهو: هل هناك أدنى احتمال في أن القضية لم تُرفع إلى بيلاطس، وأن يكون السنهدرين وحده هو المسئول عن محاكمة وإعدام يسوع؟
لقد كان الإعدام بواسطة الصَّلب وقفًا على السلطة الرومانية في جميع أنحاء الإمبراطورية، وكانت هذه الطريقة في الإعدام تُستخدم حصرًا للمتهمين بجرائم ضد الأمن الروماني. لذلك قد لا تكون هي الطريقة التي استُخدمت في إعدام يسوع لأن المحكمة الرومانية لم تُثبت شيئًا ضده يتعلق بالتحريض ضد روما.
وفي الحقيقة فإنه لم يكن لدى السلطة الرومانية أية مصلحة في إعدام يسوع، أما سلطة الهيكل فكان لها كلُّ المصلحة في ذلك. فلقد ركَّز يسوع هجومَه على ممثلي هذه السلطة من كتبة وفريسيين وعلماء شريعة، وفضَح نفاقَهم ورياءَهم. وقد اعتبر أن رسالته قد تجاوزَت شريعة العهد القديم التي هي شريعة الحَرْف وافتتحَت شريعة العهد الجديد التي هي شريعة الروح. وأوضح ذلك عمليًّا من خلال سلوكه وتعاليمه، فقد انتهك قانون السبت وقال لمن شغب عليه: إن الله لا يستريح في يوم السبت، وانتهك فريضة الصيام، وقواعد الطهارة الخارجية المتزمتة وأحلَّ محلَّها قواعدَ الطهارة الداخلية طهارة القلب واللسان، ولم يعبأ بتحريمات المأكل والمشرب وقال لتلاميذه: إن كل الأطعمة طاهرة للأكل، ونقض قانون الرجم عندما عفا عن المرأة الزانية، وأحل الأخلاق وسيلة للتقرب إلى الله محلَّ طقوس الذبائح والمحارق التي تُقام في الهيكل، لأن الله يريد الرحمة لا الذبيحة. ولم تكن العاصفة التي أثارها في الهيكل عندما قلب مناضد الصيارفة وطرد باعة حيوانات القرابين وجلدهم بالسوط، إلا هجومًا مباشرًا على مؤسسة القربان التي تعبر عن جوهر العبادات الشكلانية اليهودية. وبما أن أسرة رئيس الكهنة كانت هي المتحكمة بتجارة الهيكل والمستفيد الأول من عائداتها، فإن يسوع بعمله هذا قد وقَّع على صك إعدامه.
سؤال مهم آخر تُثيره رواية محاكمة يسوع وهو: لماذا بقيَ يسوع صامتًا في كلا الاستجوابَين أمام رئيس الكهنة وأمام الوالي الروماني؟ ولماذا لم يستخدم حقَّه في الدفاع عن نفسه؟ هل لأنه احتقر هذه المحكمة واعتبرها غير مؤهَّلة لاستجوابه؟ أم لأن مؤلفي الأناجيل أرادوا أن تتحقق بخصوصه النبوءة التوراتية القائلة: «ظُلم، أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاةٍ تُساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازِّيها فلم يفتح فاه» (إشعيا، ٥٣: ٧).
«فإنهم بزيغ أفكارهم قالوا في أنفسهم إن حياتنا قصيرة شقية، وليس لممات الإنسان من دواء، ولم يُعلَم قط أن أحدًا رجع من الجحيم … فتعالوا نتمتع بالطيبات الحاضرة ونبتدر منافع الوجود ما دمنا في الشبيبة، ونتروَّ من الخمر الفاخرة ونتضمَّخ بالأدهان ولا تفوتنا زهرة الأوان. لنَجُرْ على الفقير الصدِّيق ولا نشفق على الأرملة ولا نهب شيبة الكثير الأيام … ولنكمن للصدِّيق فإنه ثقيل علينا يقاوم أعمالنا ويقرعنا على مخالفتنا للناموس ويفضح ذنوب سيرتنا. يزعم أنه عنده علم الله ويسمِّي نفسَه ابن الرب. وقد صار لنا عذولًا حتى على أفكارنا. بل منظره ثقيل علينا لأن سيرتَه تخالف سيرة الناس وسُبُلَه تُباين سُبُلَهم. وقد حَسِبَنا كزُيوفٍ فهو يُجانب طُرُقَنا مجانبة الرجس، ويغبط موت الصديقين ويتباهى بأن الله أبوه. فلننظر هل أقواله حق ولنختبر كيف تكون عاقبته، فإنه إن كان الصدِّيق ابن الله فهو ينصره وينقذه من أيدي مقاوميه. فلنمتحنه بالشتم والعذاب حتى نعلم حِلمه ونختبر صبره، ولنقضِ عليه بأقبح ميتة فإنه سوف يُفتقد كما يزعم. هذا ما ارتأَوه فضلُّوا لأن شرَّهم أعماهم فلم يُدركوا أسرار الله ولم يرجوا جزاء القداسة، ولم يعتبروا ثواب النفوس الطاهرة.» (سفر الحكمة، ٢: ١–٢٤، عن الترجمة الكاثوليكية للعهد القديم)
لقد دُوِّن سفر الحكمة قبل الميلاد بنحو قرنين، ولكنه يبدو وكأنه وَصفٌ دقيق لشخصية يسوع وحياته ومماته. فهل سنكون قادرين في يوم من الأيام على استعادة الوجه التاريخي ليسوع من تحت ركام النبوءات التوراتية؟
Geza Vermes, The Changing Faces of Jesus, Compas, New York, 2000, pp. 279–280.