لغز قيامة يسوع
في تقصِّينا لمفهوم قيامة الموتى في تعاليم يسوع، وإشارته إلى قيامته هو نفسه في اليوم الثالث، يجب أن ننبِّهَ إلى أن هذا المفهوم لم يكن من مقومات العقيدة التوراتية. فالنظرة التوراتية لحياة ما بعد الموت لم تكن تختلف عمَّا هو سائدٌ في المنظومات الدينية المشرقية والكلاسيكية على حدٍّ سواء. فروح الميت تمكث مدة ثلاثة أيام إلى جانب جثمانه في القبر، ثم تهبط منه إلى هوة سفلية تُدعى في التوراة شيئول (أو الهاوية وفق الترجمات العربية)، وهي تعادل العالم الأسفل المدعو كور في الديانة الرفادينية، وهاديس في الديانة اليونانية والرومانية. وهناك تستمر في وجودٍ شبحيٍّ لا حرارة فيه ولا طعم. وعلى حدِّ وصف سفر إشعيا فإن الموتى «يضطجعون معًا لا يقومون. قد خمدوا كفتيلة انطفئوا» (إشعيا، ١٧: ٤٣). ووصف سفر إرميا: «ينامون نومًا أبديًّا ولا يستيقظون» (إرميا، ٣٩: ٥١). هذا النوم الذي لا صحوة منه يعبر عنه أبلغ تعبير هذا المقطع من سفر أيوب: «لأن للشجرة رجاء إن قُطعت تخلفُ أيضًا ولا تعدم خراعيبها. ولو قَدِم في الأرض أصلُها ومات في التراب جذعُها فمن رائحة الماء تفرخ وتُنبت فروعًا كالغرس. أما الإنسان فيموت ويبلَى، يسلِّم الروح فأين هو؟ يضطجع ولا يقوم» (أيوب، ١٤: ٧–١٢).
وتوصف الهاوية التوراتية على أنها عالمٌ أسفل يقع تحت عالمنا، وإليه تذهب جميع الأرواح لا فرق في ذلك بين صالحٍ وطالحٍ أو بين خاطئٍ ونبيٍّ. وها هو يعقوب أبو الأسباط يبكي يوسف ابنه الغائب الذي يعتقد أنه قد مات ومضى إلى الهاوية، ويأمل أن يموت ليلحق به: «وقام جميع بنيه وبناته يعزُّونه فأبى أن يتعزَّى وقال: إني أنزل إلى ابني نائحًا إلى الهاوية» (التكوين، ٣٧: ٣٥). والنبي صموئيل وهو واحدٌ من أعظم أنبياء التوراة يهبط بعد موته إلى الهاوية. وقد عمد الملك شاؤل إلى استحضار روحه من العالم الأسفل لكي يستشيرَه، وذلك بواسطة وسيطة روحانية. فصعد صموئيل من عالم الموتى على هيئةِ شيخٍ مغطًّى بجبة، فخرَّ شاؤل على وجهه إلى الأرض وسجد. فقال صموئيل لشاؤل: «لماذا أقلقتني بإصعادك إياي؟ فقال شاؤل: قد ضاق بي الأمر جدًّا» (صموئيل الأول: ٢٨).
ولم تكن بقية الشيع الدينية في فلسطين بدورها تؤمن بقيامة الموتى، ولم يكن القبر بالنسبة إليها إلا معبرًا إلى عالم الأخيلة والظلال السُّفلى، شأنها في ذلك شأن بقية العبادات السورية. إلا أن التبادل الثقافي الذي حصل مع إيران خلال فترة الحكم الفارسي لبلاد الشام فيما بين عام ٥٣٩ق.م. وعام ٣٣٥ق.م. قد أدَّى إلى انتشار بعض الأفكار الدينية الزردشتية في المنطقة، وأهمها فكرة مخلِّص البشرية الذي سيظهر في نهاية الأزمان، وفكرة القيامة العامة للموتى وعودة الروح إليها من أجل الحساب الأخير. وقد أثَّرت الفكرة الأولى على نشوء المفهوم التوراتي المتعلق بالمسيح المنتظر، كما أثَّرت الفكرة الثانية على نشوء تصورات شعبوية عن بعث الموتى لم يتمَّ تبنِّيها رسميًّا ولكنها ترسَّخت تدريجيًّا لدى إحدى الفِرق اليهودية الرئيسية في القرن الأول الميلادي، وهي فِرقة الفريسيين التي آمنت بقيامة الموتى في يوم الرب الأخير. أما فِرقة الصدوقيين وهي الفرقة الرئيسية الثانية التي كانت مسيطرةً على الهيكل وطقوسه، فقد بقيَت ملتزمةً التفسير الحرفي للتوراة وأنكرت البعث معتبرةً أن الروح تموت مع الجسد وكلاهما لا يقوم. وفيما يتعلَّق بالفرقة اليهودية الثالثة وهي فرقة الأسينيين الأقل شأنًا، فإن الشواهد من مخطوطاتها المكتشفة في موقع قمران، تكشف عن موقف ملتبس وغير واضح من هذه المسألة.
وكان في فلسطين جماعاتٌ غنوصية متفرقة تنتمي إما إلى طريقة سمعان ماجوس أو إلى طريقة يوحنا المعمدان (راجع بحثنا السابق: يوحنا المعمدان وتاريخ طقس المعمودية). والغنوصية هي نظامٌ ديني يقوم على مبدأ ثنائية الروح والجسد؛ حيث ينتمي الجسد إلى عالم المادة والظلام وتنتمي الروح إلى عالم الأنوار العلوي الذي منه هبطَت وحلَّت في سجن المادة. وسوف تبقى الروح حبيسةَ هذا العالم المليء بالشر والألم، ورهينة دورة الميلاد والموت تنتقل من جسدٍ إلى آخر، إلى أن تتعرف على أصلها من خلال فعالية العرفان الذي يقودها إلى الخلاص، عندما تنضو عنها رداءَها المادي وتبدأ رحلة العودة إلى ديارها. وهنا يتحول القبر من بوابة إلى دورة تناسخ جديدة إلى بوابة نحو العالم النورانيِّ العليِّ والحياة في الأبدية. فعلى عكس الزردشتية وغيرها من النظم الدينية اللاحقة التي تُبشِّر ببعثِ أجسادِ الموتى في اليوم الأخير، فإن الخلاص الذي تُبشِّر به الغنوصية هو خلاص الأرواح من الجسد ومن العالم في آنٍ معًا. أما الأجساد فتسقط ولا تقوم أبدًا.
«تكلَّم المسيح مخاطبًا يحيى في أورشليم: يا يحيى، أستحلفك بالحي العظيم وبملاك الأحد الوقور، وبالدرب الذي سلكه المختارون الصالحون، حدثني ماذا تُشبه سفينة صوارئيل؟ أخبرني عن النفس كيف تغادر الجسد وبماذا تكون متلفِّعةً؟ وماذا تُشبه وهي داخل الجسد الفاني؟ …
لمَّا توقَّف عيسى عن الكلام قال يحيى بصوتٍ عالٍ: … النفس محتجبةٌ، تدخل خفيةً إلى الجسد الفاني، وعندما يحين الأجل تنسلُّ خفيةً متلفعة برداء النور وتصعد سفينة صورائيل. تظهر ثلاثة أشعة من الضوء تلحق بها ثم تجتازها. الأول يجتازها تاركًا إياها عند المساء، والثاني يتركها عند الفجر، أما الثالث فيغادرها تاركًا لها رايةً بيضاء.
تغضب النار، تتحرك النسمة منسلةً من القدم إلى الركبة، وتقترب من الخاصرة، وتَصِل إلى القلب قابضةً عليه، ثم تصعد حتى تأتيَ اللسان وتلتف عليه، فتغيم عينَا الإنسان وتشحب سيماؤه وشفتاه. فيناديها صورائيل قائلًا: انفصلي أيتها النسمة، لماذا ترقبين الجسد؟ فتجيب: يا صورائيل، أخرجني من جسدي، امنحني لباسي وحرِّرني. يقول لها: هاتِ أعمالك، فإن الأجر هو الذي سيمنحك رداءَك. فتجيب: لا أعرف يا صورائيل أن أجلي قد حان، إنهم أرسلوك إليَّ. فإن كانت أعمالي حسنةً أَحْضر ملابسي وأَلْبسني إياها.
ونقرأ في التسبيح الثامن والثلاثين من الكتاب المقدس المندائي «كنزا ربَّا» ما يلي:
من عرضنا هذا للمشهد الديني الفلسطيني في القرن الأول الميلادي، نخرج بنتيجة مفادها أن يسوع قد ظهر في بيئة دينية لم تكن تؤمن بالحياة الثانية، عدا قلة فريسية آمنت ببعث الأجساد المادية وعودة الروح إليها، وقلة قليلة غنوصية آمنت ببعث الأرواح دون أجسادها. وقد ركَّز يسوع في دعوته الموجَّهة إلى اليهود والوثنيِّين على مفهوم القيامة الروحية في مقابل مفهوم قيامة الجسد الذي يقول به الفريسيون المتأثرون بالأفكار الزرادشتية. وهذه القيامة تحصل في هذه الحياة عندما تتعرف الروح على أصلها السماوي وتُولد ولادةً ثانية «من الأعلى». نقرأ في إنجيل يوحنا: «ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله إلا إذا وُلد من علٍ … إلا إذا وُلد وكان مولده من الماء والروح. فمولود الجسد يكون جسدًا، ومولود الروح يكون روحًا … فالريح تهبُّ حيث تشاء فتسمع هزيزها ولا تدري من أين تأتي ولا أين تذهب. تلك حالة مولود الروح» (يوحنا، ٣: ٣–٨).
-
قال يسوع: عندما تعرفون أنفسكم، تعرفون وتفهمون أنكم أبناء الآب الحي. ولكن إذا لم تعرفوا أنفسكم أقمتم في الفقر وكنتم الفقر (الفقرة ٣).
(المقصود بالفقر هنا هو الجسد من جهة والعالم المادي الأوسع من جهة ثانية).
-
قال يسوع: طوبى لمَن يقف في البداية لأنه سوف يعرف النهاية، ولن يذوق الموت (الفقرة ١٨). طوبى لمَن وُجد قبل أن يُخلق (الفقرة ١٩).
(أي إن من يعرف نفسه يتوصل إلى معرفة أصله الروحاني القديم السابق على وجود في الجسد الأرضي.)
-
قال يسوع: طوبى للمتوحدين والمصطفين فإنكم ستجدون الملكوت، لأنكم منه أتيتم وإليه ترجعون (الفقرة ٤٩).
-
قال يسوع: إذا سألوكم من أين جئتم، أجيبوهم: جئنا من النور، من المكان الذي انبثق فيه النور من تلقاء ذاته (الفقرة ٥٠).
-
قال يسوع: مَن عرف حقيقة العالم عرف حقيقة الجسد، ومَن عرف حقيقة الجسد فالعالم ليس أهلًا له (الفقرة ٥٦).
-
قال يسوع: عندما ترَون مظهركم تسرون. ولكن هل ستتحملون رؤية صوركم التي وُجدت قبلكم، والتي لا تموت ولا تتبدَّى؟ (الفقرة ٨٤).
(أي لا يدري المرء أن وراء صورته التي يزهو بها في هذا العالم، صورةً أخرى نورانية موجودة منذ القدم، لا تموت مثل الصور المادية ولا تتمظهر على طريقتها.)
-
قال يسوع: الجسم العالةُ على جسم ما أشقاه، والنفس العالة على هذين الاثنين ما أشقاها! (الفقرة ٨٧).
(المقصود بالجسم الأول هو جسم الإنسان، والجسم الثاني هو العالم.)
-
قال يسوع: السماوات والأرض سوف تُدرج أمام أنظاركم، ولكن مَن يحيا في الواحد الحي لن يرى الموت. ألم أقل لكم إن مَن وجد نفسه فالعالم ليس أهلًا له.
مثل هذه الأفكار هي التي آمنت بها الحلقة الضيقة من أتباع يسوع، والتي عبَر أفرادها إلى أسرار ملكوت الله التي لم تكن متاحةً للذين هم «من خارج»، على حدِّ وصف يسوع (راجع إنجيل مرقس، ٤: ١٠–١٢). وعندما مات معلِّمهم كانوا على ثقة من أنه قام في اليوم الثالث قيامةً روحية وجلس عن يمين الآب؛ لأن العالم الروحاني في الملأ الأعلى لا يقبل في نسيجه جسدًا ثقيلًا جاء من عالم المادة، وهذا الجسد سوف يكون غريبًا في ذلك العالم مثل غربة ذلك العالم عنه. وإذا كان يسوع قد قام روحيًّا فإن هذه القيامة ستكون متاحةً لكل مَن آمن به وسار على طريقه.
وقد عبَّر بولس الرسول في رسائله بأوضح شكلٍ عن هذه التعاليم التي تلقَّاها من تلاميذ يسوع عندما تعمد ودخل إلى أسرار ملكوت الله. فبولس لم يتحدث أبدًا عن قيامة جسدية ليسوع، ومَن رآه من التلاميذ بعد قيامته قد واجهه على المستوى الروحاني. فالجسد عند بولس يشكِّل غربةً عن الله، والإنسان لا يدخل ملكوت الله إلا إذا تخلَّى عن جسده. يقول في رسالته الثانية إلى أهالي كورنثة: «ولذلك لا نزال واثقين كل الثقة عارفين أننا ما دمنا في هذا الجسد فنحن متغربون عن الرب لأننا نهتدي بإيماننا لا بما نراه. فنحن إذن واثقون، ونُفضِّل أن نغترب عن هذا الجسد لنقيم مع الرب» (٢ كورنثة، ٥: ٦–٨). والجسد الذي يُدفن في القبر يكون جسمًا ماديًّا ولكنه يُبعث جسمًا روحانيًّا: «يُدفن الجسم في فساد ويُقام في عدم فساد، يُدفن في هوان ويُقام في مجد، يُدفن في ضعف ويُقام في قوة، يُدفن جسدًا حيوانيًّا ويُقام جسمًا روحانيًّا … كما هو الترابي هكذا الترابيون أيضًا، وكما هو السماوي هكذا السماويون أيضًا، وكما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضًا صورة السماوي. أقول لكم أيها الإخوة إن لحمًا ودمًا لا يقدران أن يرثَا ملكوت الله، ولا يرث الفسادُ عدم الفساد» (١ كورنثة، ١٥: ٤٢–٥٠).
في هذا المقطع يبسط بولس جوهر تعاليمَ يسوع المتعلقة ببعث الروح وخلودها، ويُعبِّر عن الشكل الأقدم لعقيدة القيامة كما آمن بها الخاصةُ من تلاميذ يسوع، وكما فهموا من خلالها قيامةَ معلِّمهم. فإذا كان الفساد لا يرث عدم الفساد، فإن يسوع لم يصعد إلى السماء بجسده العنصري وإنما بروحه، أو بجسده المجيد الذي تغيَّر، على حدِّ تعبير بولس: «أما نحن فموطننا في السماوات، ومنها ننتظر المخلِّص يسوع المسيح، الذي يبدِّل جسدنا الحقير فيجعله على صورة جسده المجيد» (فيليبي، ٢: ٢٠–٢١). وعندما تحدَّث بولس عن ترائي يسوع القائم من بين الأموات للرسل ثم ترائيه له أخيرًا وهو على الطريق إلى دمشق، فقد كان يتحدث عن مواجهة مع يسوع على المستوى الروحاني لا على المستوى المادي. ويسوع عندما كلَّم بولس لم يظهر له في هيئة مادية وإنما عبَّر عن حضوره من خلال نور سطع من السماء وأضاء حول بولس. نقرأ في سفر أعمال الرسل: «وإنه لسائرٌ وقد اقترب من دمشق، إذن نور من السماء قد سطع حوله، فسقط إلى الأرض وسمع هاتفًا يقول له: شاؤل، شاؤل، لماذا تضطهدني؟ فقال له: مَن أنت يا سيدي؟ قال: أنا يسوع الذي أنت تضطهده» (أعمال، ٨: ٣–٥).
كيف إذن تحولت قيامة يسوع من قيامة روحانية آمن بها بولس بعد أن شعر بحضور يسوع غير المرئي، إلى قيامة جسدية عند مؤلفي الأناجيل الذين حشدوا لها عددًا من الشهود لم تتفق شهاداتهم بخصوص ما رأوا وما سمعوا؟ في الحقيقة لا يمكننا فهْم هذا التحول إلا من خلال صراع التيارات المتخالفة ضمن الجماعات المسيحية المبكرة، ورجحان كفة اليهود المتنصرين من ذوي الخلفية الفريسية، والذين جلبوا معهم فكرة بعث الأجساد وفرضوها على العقيدة المسيحية خلال عقود التكوين الأولى.
وفي الحقيقة فإن المتتبع للتطورات اللاهوتية التي طرأت على العقيدة المسيحية خلال القرون الخمسة أو الستة التي أعقبَت وفاة يسوع، ليعجب من تعايش مفهوم القيامة الجسدية ليسوع مع الاتجاه الذي كان يركِّز أكثر فأكثر على ألوهيته، على الرغم من استحالة التوفيق بين جوهر الجسد وجوهر الألوهة. هذا العجب يبلغ أشدَّه بعد إصرار اللاهوت المسيحي على تبنِّي مفهوم القيامة الجسدية مع تبنِّيه في الوقت نفسه لعقيدة الثالوث. فكيف يكون يسوع في السماء أحد تجليات الثالوث الأقدس مع احتفاظه بجسده الذي يحمل آثار الثقوب في يديه وأثر الحربة في جانبه؟ وكيف يلتقي جوهر الألوهة بجوهر الجسد في الحقيقة الكلية التي يمثلها الثالوث؟
يمليخا: فيثاغورث، حياته وفلسفته، ترجمة زياد الملا، دار الينابيع، دمشق ٢٠٠٥م، الفصل الثالث.