نظرية المؤامرة
في بستان جتسماني بعد العَشاء الأخير صلَّى يسوع للآب قبل القبض عليه قائلًا: «يا أبتا، كلُّ شيء مستطاعٌ لك، فأَجِزْ عني هذه الكأس. ولكن لا كما أنا أشاء بل كما أنت تشاء.» وهذا يعني في رأْي مَن تبنَّى نظرية المؤامرة في تفسير واقعة الصلب، أن يسوع كان يتوقَّع تدخُّلًا إلهيًّا يصرف عنه كأس الموت المرتقبة، وأنه إلى جانب ذلك قد تدخَّل بشكل مباشر في تحقيق الفعل الإلهي المرتقب، من خلال مؤامرة مدبرة قادَت إلى إنزاله حيًّا عن الصليب. وفي رأي هؤلاء فإن يسوع قد وعَى مضامين النبوءات التوراتية المتعلقة بمصير عبد يهوه البار، والتي تتوقع نجاته من أيدي مضطهديه بعد معاناته للآلام. ومنها على سبيل المثال: «كثيرة هي بلايا الصدِّيق ومن جميعها يُنجِّيه الرب» (المزمور، ٣٤: ٣). «الصديق ينجو من الضيق ويأتي الشرير مكانه» (أمثال، ١١: ٨). «مَن يقف لي ضد فعلة الإثم؟ لولا أن الرب معيني لسكنَت نفسي سريعًا أرض السكون. إذا قلتُ قد زلَّت قدمي فرحمتك يا رب تعضدني … يحكمون على نفس الصديق ويحكمون على دمٍ زكيٍّ، فكان الرب لي صرحًا وإلهي صخرة ملجئي، ويردُّ عليهم إثمهم وبشرِّهم يفنيهم» (المزمور، ٩٤: ١٦–٢٣). «لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع قدوسك يرى فسادًا. تريني طريق الحياة» (المزمور، ١٦: ١٠–١١). «إذا سرتُ في ظل وادي الموت لا أخاف شرًّا لأنك أنت معي» (المزمور، ٢٣: ٤).
ولنتابع الآن نظرية المؤامرة كما بسَّطها عددٌ من الباحثين المعاصرين، وجلهم من اليهود.
فقد أعد يسوع خطته بحيث لا يأتي اعتقاله مبكرًا أو متأخرًا عن مساء يوم الخميس بعد تناوله عَشاء الفصح مع تلاميذه. وحسب توقُّعه فإن ساعات قليلة سوف تكون كافية من أجل إجراءات المحاكمة التي لن تستغرق طويلًا لأن التهمة هي التحريض ضد روما، وهذا يعني أنه لن يبقى على الصليب أكثر من بضع ساعات وسيتم إنزاله قبل مساء يوم الجمعة، أي مع حلول ليلة السبت التي لا يجوز أن يبقى فيها محكوم على الصليب. وفي هذه الحالة فإن فرصته في النجاة ستكون كبيرةً وسيكون من الميسور إنعاشه ومداواة جروحه؛ لأن الموت على الصليب لا يأتي عادةً قبل مرور يومين أو ثلاثة على أقل تقديرٍ. وإذا كان يسوع مقتنعًا من تفسيره للنبوءات التوراتية بأن المسيح سوف يتألم على الصليب ولكنه لن يموت عليه، فمن الطبيعي أن يكون قد اتَّخذ مسبقًا الإجراءات الكفيلة بإنقاذ حياته.
ولقد بقيَ يسوع على الصليب ستَّ ساعاتٍ وفق رواية مرقس وما يمكن أن نستنتجه من رواية متَّى ولوقا، وثلاث ساعاتٍ وفق رواية يوحنا. ولكن هذا في حدِّ ذاته لم يكن كافيًا، لأن إنزال المصلوبين كان يسبقه في مثل هذه الحالة كسر سيقانهم من أجل التعجيل بموتهم، وكان على يسوع أن يبدوَ في حالةِ موتٍ حقيقيٍّ كيلا تُكسرَ ساقاه، وأن يُسلَّم جسده إلى أيادٍ أمينة وصديقة لتعمل على إنعاشه، وإلا رُميَ في قبر عشوائي على ما جرت عليه العادة في التعامل مع جثث المحكومين من اللصوص والمشاغبين السياسيِّين. وهذا ما خطط له يسوع بالتعاون مع يوسف الرامي، الذي يصفه متَّى بأنه رجلٌ غنيٌّ كان قد تتلمذ ليسوع، ويصفه مرقس بأنه عضوٌ بارز في المجلس اليهودي وكان من الذين ينتظرون ملكوت الله، ويصفه لوقا بأنه عضوٌ في المجلس ورجلٌ بارٌّ لم يوافقهم على خطتهم وأعمالهم. وفي إنجيل يوحنا نجد أن يسوع يُشرك في خطته عضوًا آخر في المجلس اليهودي كان أيضًا تلميذًا سريًّا له يُدعى نيقوديمس.
ولقد قامت خطةُ يسوع ومساعديه على ترتيبَين أساسيَّين، الأول إعطاء يسوع شرابًا من شأنه أن يسبغ عليه كل مظاهر الموت، والثاني استلام يوسف الرامي لجسده بأسرعِ وقتٍ ممكن بعد ذلك. ولغاية الحفاظ على سرية الخطة وضمان نجاحها، كان عليها أن تشتمل على أقل عدد ممكن من المشاركين بها، ولم يكن بين هؤلاء أحدٌ من الرسل الاثنَي عشر على ما بيَّنَت لنا الأحداث اللاحقة. وقد جرى تنفيذ الترتيب الأول بالتعاون مع أحد المشاركين في عملية الصلب، عندما غمس إسفنجة في إناءِ خلٍّ مجهزةً مسبقًا ورفعها على قصبة وأدناها من فم يسوع بعد أن قال: أنا عطشان. فلما ذاق يسوع الخل حنَى رأسه وأسلم الروح. وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون، فإن هذه العملية لم تكن إجراءً ساديًّا يهدف إلى السخرية من المصلوب، وإنما إجراءً اعتياديًّا في مثل هذه الأحوال من شأنه إنعاش وتقوية المصلوب لمَا للخل من تأثرٍ منبِّهٍ. ولذلك من الغريب أن تكون ردة فعل يسوع هي العكس من ذلك تمامًا. والحقيقة هي أن ما قُرِّب إلى يسوع ليشربه لم يكن خلًّا وإنما مُركَّبٌ يحتوي على الأفيون أو نوعٍ آخر من المخدر ربما كان حشيشة البلادونا، من شأنه أن يجعل متناوله في حالة تشبه الموت. ويجب أن نلاحظ هنا أن الإسفنجة المغمسة بالخل لم تُقدَّم إلا إلى يسوع من دون الآخرين المصلوبين معه.
عندما تلقَّى الجنود الأمر بكسر سيقان المصلوبين، عمدوا إلى كسر سيقان اللص الأول الذي صُلب معه ثم اللص الآخر، وعندما وصلوا إلى يسوع رأوه قد مات فلم يجدوا حاجة إلى كسر ساقَيه. ولكن شيئًا غير متوقَّعٍ حدث عندما قام أحدهم بطعن يسوع بحربة في جنبه، فخرج على إثرها دمٌ وماءٌ. وخروج الدم من الجسد يعني أن يسوع لم يكن بعدُ ميتًا، ولكن حظوظه في النجاة لم تَعُد الآن قويةً مثلما كانت. وهنا أسرع الشخص الذي سقى يسوع المخدر إلى يوسف الرامي وأبلغه بما حدث، فتوجَّه يوسف الرامي لساعته إلى بيلاطس وطلب جسد يسوع، فمنحه إياه بعد أن تأكد من الضابط الروماني المشرف على العملية من موت يسوع. فقام يوسف ونيقوديمس وشخص ثالث معهما بدفن جسد يسوع في قبر جديد يقع في بستان قريب ربما كان مِلكًا ليوسف الرامي نفسه. أما الشخص الثالث فربما كان من سقى يسوع الشراب، أو البستاني الذي يُعنى بأرض يوسف الرامي.
بعد إجراء بعض الإسعافات الأولية على جسد يسوع، جرى لفُّه بالكتان النقي ودهنه بخليط من المرِّ والعود، الأمر الذي أوقف مؤقتًا تدهور حالته، ثم تُرك في القبر إلى مساء يوم السبت عندما تم نقله إلى مكان آخر من أجل إتمام عملية الإنعاش والإسعاف. ويبدو أن يسوع قد استعاد وعْيَه لفترة من الزمن وظن أنه سوف ينجو، فأوصى منقذيه أن يوصِّلوا رسالةً منه إلى التلاميذ يطلب فيها منهم أن يسبقوه إلى الجليل حيث سيجتمع بهم هناك.
عند فجر يوم الأحد جاءت مريم المجدلية إلى القبر مع اثنتين أخريَين ليجدنَ أن الحجر قد دُحرج عن مدخل القبر، ولما دخلنَ لم يجدنَ جثمان يسوع وأبصرنَ شابًّا يرتدي الأبيض جالسًا هناك قال لهن بأن يسوع قد قام وأن عليهن أن يذهبنَ ويقلنَ للتلاميذ أن يذهبوا إلى الجليل وهناك يرونَه. هذه القصة التي رواها مرقس عن الشاب الموجود في القبر، نجد لها تنويعًا في رواية يوحنا، فبعد أن أخبرَت المجدلية بطرس والتلميذ الحبيب عن القبر الفارغ، هرع الاثنان وتأكَّدَا من روايتها ثم عادَا ولبثَت هي وحيدة تبكي. ثم حانَت منها التفاتةٌ ورأَت شخصًا ما وراءها ظنَّته البستاني، ولكنه عندما ناداها باسمها تراءى لها على هيئة يسوع، فمضَت وأخبرَت التلاميذ بأنها رأَت المعلم وأنه قال لها كذا وكذا. وبذلك تم التأسيس لفكرة قيامة يسوع الجسدية في تفسير واقعة القبر الفارغ، وتحول الشاب الذي ساهم في نقل جسد يسوع ثم عاد ليوصلَ رسالته إلى تلاميذه، إلى يسوع نفسه في عقل المجدلية المضطرب. وبعد ذلك صار التلاميذ مهيئين من الناحية العقلية والعاطفية لتفسير رؤى معينة على أنها مواجهةٌ مع المعلم القائم من الأموات. ففي رواية لوقا عن الظهور الأول ليسوع، هنالك تلميذان كانا متوجهَين إلى قرية قريبة من أورشليم، عندما دنا منهما رجلٌ غريب وسار معهما مسافةً طويلة وهما يحدِّثانه عن القبر الفارغ، وعندما جلس معهما إلى الطعام وكسر الخبز انفتحَت أعينهما وعرفَا أنه يسوع ولكنه توارى عنهما. وفي رواية يوحنا عن الظهور الأخير ليسوع عند بحيرة طبريا، فإن التلاميذ لم يكونوا متأكدين تمامًا من أن الشخص الذي أمامهم هو يسوع، وعلى حدِّ قول النص: «فقال لهم يسوع هلمُّوا إلى الطعام. ولم يجرؤ أحدٌ من التلاميذ أن يقول له مَن أنت لعلمهم أنه الرب.» ولدينا ملاحظة تركها لنا مؤلف إنجيل متَّى عندما وصف الظهور الوحيد ليسوع، وهو الظهور الذي حصل في الجليل، حيث قال: «فلما رأَوه سجدوا له ولكن بعضهم ارتابوا» (متَّى، ٢٨: ١٧). وهذه الملاحظة إذا فُهمَت على ضوء ما تقدم، فإنها تعني أن التلاميذ لم يكونوا على بيِّنة تامة من أن الذي رأوه هو يسوع.
هذه هي الصيغة الأولى من نظرية المؤامرة في صلب يسوع، أما الصيغة الثانية فتسير على الخطوط العامة نفسها ولكنها تنتهي بإنعاش يسوع ونجاته. وقد جرى إشراك الوالي بيلاطس في المؤامرة عن طريق رشوته بمبلغ كبير من المال من أجل إنقاذِ بريءٍ لم يكن موافقًا من حيث المبدأ على إعدامه، وهذا ما يفسر السهولة التي قَبِل بها بيلاطس منح جسد يسوع ليوسف الرامي. وكما يمكن أن نفهم من رواية إنجيل يوحنا، فإن عملية الصلب لم تجرِ فوق تلة قاحلة تُشبه الجمجمة، وإنما ضمن ملكية خاصة فيها بستانٌ يحتوي على قبر جديد لم يُدفن فيه أحد، وهذه الملكية تعود ليوسف الرامي. وبما أن عملية الصلب قد تمت على مبعدة من الناس الذي كانوا يرقبون «عن بُعد» على حدِّ وصف إنجيل لوقا ٢٣: ٤٩، فقد كان بإمكان المتآمرين التصرُّف بحرية، وإجراء صلبٍ وهميٍّ مدبَّرٍ بمهارة بحيث لا يبدو لأنظار المشاهدين عن هذه المسافة البعيدة مَن هو الذي صُلب أو ما إذا كان في الحقيقة قد مات. وعند حلول الغسق الذي ساهم في صعوبة الرؤية بالنسبة للمشاهدين، تمَّ إنزال يسوع عن الصليب وأودع في القبر القريب، ومنه نُقل في اليوم الثاني إلى حيث عولج واسترد عافيته. وبعد أن دبَّر أمر ترحيل زوجته مريم المجدلية وأولاده بمعونة يوسف الرامي الذي أبحر بهم إلى مرسيليا، اختفى ولم يُعثَر له على أثر بعد ذلك. أما سلالة يسوع فقد وطدَت نفسها في فرنسا، ومنها نشأَت عدةُ أُسرٍ ملكية أهمها أسرة الميروفنجيين التي حكمت في المناطق التي تُعرف الآن بفرنسا وألمانيا فيما بين القرن الخامس والقرن السابع.
وهنالك موروثات إسلامية وهندية تتحدث عن نجاة يسوع من الصلب وسفره إلى الهند؛ حيث قضى ما تبقَّى من عمره في منطقة كشمير ودُفن هناك. وقد كان لا بد من شيوع مثل هذه القصص استنادًا إلى أن القرآن الكريم نفى أن يكون عيسى المسيح قد مات قتلًا أو صلبًا على يد اليهود، على ما ورد في سورة النساء: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (النساء: ١٥٥–١٥٩). وما يمكن لنا أن نفهمه من هذا المقطع الذي اختلف فيه المفسرون إلى يوم الناس هذا دون أن يصلوا إلى اتفاق، هو أن اليهود لم يكونوا متيقِّنين من قتل يسوع (وما قتلوه يقينًا) ولكن اشتبه عليهم موته (ولكن شُبِّه لهم). أما عن رفع عيسى إلى السماء فقد حصل بعد نجاته من اليهود واستيفائه أجله الطبيعي، على ما نفهم من قوله تعالى في سورة آل عمران: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (آل عمران ٥٥). أي إن رفْعَ عيسى إلى السماء قد حصل بعد وفاته عندما حان أجله، وهذا الرفع كان رفعًا روحانيًّا لا جسديًّا. وإذا كان القرآن قد تحدث عن عودة عيسى في آخر الزمان كإحدى علامات يوم القيامة، فإنه يتحدَّث عنه باعتباره أول المبعوثين من القبر في قيامة الموتى العامة.