بولس النبي
يُعتبر بولس الشخصية الأكثر توثيقًا والأكثر إشكالية في كتاب العهد الجديد، وتعتبر رسائله الأربع عشرة التي دُوِّنت بين عام ٥١ وعام ٦٥م بمثابة الأساس الذي قام عليه الهيكل السامق للاهوت المسيحي. وبدون هذه الرسائل ربما كانت المسيحية ستغدو عقيدةً مختلفةً تمامًا عمَّا هي عليه الآن. وهناك اتفاقٌ بين الباحثين اليوم على اعتبار رسالته المعنونة «إلى العبرانيين» رسالة منحولة، كما يشكُّ البعض في أصالةِ عددٍ آخر من الرسائل المنسوبة إليه. ولكن هذه الرسائل المشكوك في أصالتها تنسج على منوال الفكر البولسي نفسه، وتشكِّل امتدادًا لتعاليمه التي بسطها في بقية الرسائل المتفق على أصالتها والتي تزيد عن نصف مجموع الرسائل.
وعلى الرغم من أنه لم يعرف يسوع بالجسد ولم يلتقِ به في حياته، إلا أنه اعتبر نفسه رسولًا، بل فوق بقية الرسل، لأنه تلقَّى البشارة وحيًا من يسوع المسيح القائم من بين الأموات، من يسوع السماوي الجالس عن يمين الآب: «فأذكِّركم أيها الإخوة، أن البشارة التي بشَّرتكم بها ليست على سُنَّة البشر، لأني ما تلقيتها ولا أخذتها عن إنسانٍ بل عن وحيٍ من يسوع المسيح» (غلاطية، ١: ١١–١٢). فهو رسولٌ مختار من يسوع ومن الله في آنٍ معًا: «مَن بولس. وهو رسول، لا من قِبل الناس ولا باختيار إنسان بل باختيار يسوع المسيح والله الآب الذي أقامه من بين الأموات» (غلاطية، ١: ١). «مَن بولس الذي شاء الله أن يدعوه ليكون رسول المسيح يسوع» (١ كورنثة: ١). «مَن بولس رسول المسيح يسوع بمشيئة الله» (٢ كورنثة: ١). «ألستُ رسولًا؟ أو ما رأيتُ ربنا يسوع؟» (١ كورنثة، ٩: ١).
هذه المواجهة مع المسيح ينقلها لنا سفر أعمال الرسل على لسان بولس نفسه: «وإني لَسائر وقد اقتربتُ من دمشق، إذا نور من السماء قد سطع حولي عند الظهر، فسقطتُ إلى الأرض وسمعتُ هاتفًا يقول لي: شاؤل، شاؤل، لماذا تضطهدني؟ فقلت: مَن أنت سيدي؟ قال: أنا يسوع الناصري الذي أنت تضطهده. وكان رفقائي يرَون النور ولا يسمعون صوتَ مَن يخاطبني. فقلت: سيدي، ماذا أعمل؟ فقال لي الرب: هلمَّ فاذهب إلى دمشق تُخبَر فيها بما قُضي عليك بأن تعمل» (أعمال، ٢٢: ٦–١٠). بعد ذلك جرى اقتياد بولس إلى دمشق وقد فقد بصرَه من شدة الضوء الذي سطع أمامه، وهناك جاءه حنانيا زعيم الجماعة المسيحية فيها وقال له: أبصر فأبصر. وقال له: «إن إله آبائنا قد اختارك بسابق علمه لتعرف مشيئته وترى البار (= يسوع) وتسمع الدعوة من فمه، فإنك ستكون شاهدًا له لدى جميع الناس بما رأيتَ وسمعتَ، فما لك تتلكأ؟» (أعمال، ٢٢: ١٠–١٦). بعد ذلك رجع بولس إلى أورشليم ولكنه لم يجتمع بأحد من الرسل. وبينما هو يصلي غاب عن الحس وسمع صوت يسوع المسيح يقول له: «هلمَّ فاخرج من أورشليم لأنهم لن يقبلوا شهادتك لي … اذهب إني مرسلك إلى مكان بعيد إلى الوثنيِّين» (أعمال، ٢٢: ١٧–٢١).
قبل أن يباشر بولس مهامَّه التبشيرية اعتكف في الصحراء في ديار الأنباط مدةً من الزمن يتأمل في رسالة يسوع وفي برنامجه التبشيري المقبل، الذي سيقوده منفردًا ومن دون التنسيق مع كنيسة أورشليم، أو استشارة بقية الرسل. يقول في رسالته إلى أهالي غلاطية: «ولكن لما شاء ذاك الذي اصطفاني مذ كنت في بطن أمي فدعاني بنعمته، وكشف ابنه فيَّ لأبشِّر به بين الوثنيِّين، لم أستشر الدم واللحم (= الرسل) ولا صعدت إلى أورشليم لألقَى مَن تقدمني من الرسل، بل ذهبت من ساعتي إلى ديار العرب، ثم عدتُ إلى دمشق. وبعد ثلاث سنوات صعدتُ إلى أورشليم لألقى صخرًا (= بطرس)، فأقمت عنده خمسة عشر يومًا ولم أرَ غيره من الرسل سوى يعقوب أخي الرب. وأشهد الله وأنا أكتب إليكم بذلك على أني لا أكذب. ثم أتيت بلاد سوريا وكيليكيا» (غلاطية، ١: ١٥–٢١).
ويبدو أنه خلال اعتكافه في الصحراء حصلت له التجربة الروحية العنيفة التي يصفها في رسالته الثانية إلى أهالي كورنثة، عندما عُرج به إلى السماء وسمع ما لا يحق له أن ينطق به: «وإن كان لا بد من الافتخار مع أنه لا خير فيه، فإني أنتقل إلى رؤى الرب ومكاشفاته. أعرف رجلًا مؤمنًا بالمسيح اختُطف إلى السماء الثالثة منذ أربع عشرة سنة. أبجسده؟ لا أعلم، أم بغير جسده؟ لا أعلم، الله أعلم. وإنما أعلم أن هذا الرجل اختُطف إلى الفردوس. أبجسده؟ لا أعلم، أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله أعلم. وسمع كلمات لا تُلفظ ولا يحلُّ لإنسان أن يذكرها. أما ذلك الرجل فإني أفخر به، وأما أنا فلا أفتخر إلا بحالات ضعفي … ومخافة أن أتكبر بسمو المكاشفات أوتيت شوكة في جسدي، رسول الشيطان وُكِّل إليه بأن يلطمني لئلا أتكبر» (٢ كورنثة، ١٢: ١–٧).
وهكذا، فمع بولس نحن أمام ظاهرة نبوة حقيقة. فهو قد اختير بسابق علم الله من بطنِ أمِّه ليُبشر بين الوثنيِّين باسم يسوع، ونزل عليه وحيٌ من الآب ومن الابن وسَمِع منهما ما يتوجَّب عليه القيام به، وعرج إلى السماء الثالثة؛ حيث زار الفردوس وسَمِع وحيًا آخر لا يستطيع الإفضاء به. ومَن كان هذا شأنه فقد تجاوز المرتبة الرسولية؛ لأن الرسل قد عرفوا يسوع بحسب الجسد أما هو فقد عرفه بحسب الروح بعد أن تمجَّد مسيحًا وجلس عن يمين الآب. ولكن هذا المنطق لم يكن مقبولًا من ناحية الرسل، لأن للمرتبة الرسولية عندهم متطلَّباتها التي لا تنطبق على بولس. فعندما اجتمعوا لاختيار خلَفٍ ليهوذا الخائن، على ما يُورده سفر أعمال الرسل، حددوا الشروط الواجب توفرها في الرسول: «فيجب إذن اختيارُ واحدٍ من هؤلاء الرجال الذين صحبونا طوال المدة التي قضاها الرب يسوع بيننا، منذ أن عمده يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنَّا، ليكون شاهدًا معنا على قيامته» (أعمال، ١: ٢١–٢٢). وبعد إلقاء القرعة على كلٍّ من يوسف الذي يقال له برسابا، ومتَّيا، أصابَت القرعة متيا فضُمَّ إلى الرسل الأحد عشر.
من هنا فقد كان على بولس، مع اقتناعه بنبوته، أن يسعى للاعتراف به رسولًا من قِبَل الجماعات التي راح يُبشِّر بينها. وها هو يقول بمرارة لأهالي كورنثة: «ألستُ حرًّا؟ ألستُ رسولًا؟ أما رأيت ربنا يسوع؟ ألستم أنتم صنائعي في الرب؟ إن لم أكن رسولًا عند غيركم فأنا رسول عندكم. لأنكم أنتم خاتم رسالتي في الرب» (١ كورنثة، ٩: ١–٢). وعلى الرغم من أنه عمل منفردًا في بداية الأمر ودون تنسيق مع كنيسة أورشليم، إلا أنه سعى فيما بعد للاعتراف به كرسول إلى الوثنيِّين، وحصل على هذا الاعتراف من خلال صدقِه في الدعوة وقوة شخصيته وتفوقه الفكري. وهو يروي في الرسالة إلى أهالي غلاطية عن اتفاقٍ جرى بينه وبين بطرس ويعقوب ويوحنا، يعهدون إليه بموجبه التبشير بين القُلف (الوثنيين غير المختونين). وقد جرى هذا الاتفاق خلال الزيارة الثانية التي قام بها بولس إلى أورشليم بعد مرور نحو إحدى عشرة سنةً على زيارته الأولى: «وبعد أربع عشرة سنةً (من اهتدائه) صعدتُ ثانيةً إلى أورشليم مع برنابا واستصحبت طيطس، وكان صعودي إليها بوحي. وعرضتُ عليهم البشارة التي أُعلنها بين الوثنيِّين … أما الذين كانوا يُحسبون أعيانًا فإنهم لم يزيدوا شيئًا بل رأوا أنه عُهد إليَّ في تبشير القُلف كما عُهد إلى بطرس في تبشير المختونين، لأن الذي أيَّد بطرس في رسالته لدى المختونين أيَّدني في رسالتي لدى الوثنيِّين. ولمَّا عرف يعقوب وصخر ويوحنا، المعتبرون أنهم أعمدة الكنيسة، ما أُعطيتُ من نعمة، مدُّوا إليَّ وإلى برنابا يُمنى الاتفاق، فنذهب نحن إلى الوثنيين وهم إلى أهل الختان» (غلاطية، ٢: ١–١٠).
وقد أورد مؤلف سفر أعمال الرسل قصة هذه الزيارة بتفصيل أكثر. فقد جاء إلى بولس في أنطاكية أناسٌ من أتباع كنيسة أورشليم وأخذوا يعلِّمون الوثنيِّين الذين تنصَّروا على يد بولس، ويقولون لهم إن عليهم أن يختتنوا وفق شريعة موسى وإلَّا فلا خلاص لهم. فوقع خلاف بينهم وبين بولس وبرنابا فأجمعوا على أن يصعد بولس وبرنابا وأناسٌ منهم آخرون إلى أورشليم حيث الرسل والشيوخ للنظر في هذه المسألة. فاجتمع في أورشليم الرسل والشيوخ، وبعد جدال طويل مع الذين كانوا يطالبون الوثنيِّين بالاختنان والحفاظ على شريعة موسى، اتخذ المجلس قرارَه الذي تلاه يعقوب على الجميع وهو يحرِّر الوثنيِّين من الشريعة مع الالتزام بأربعة بنودٍ فقط؛ وهي اجتناب ذبائح الأصنام، والزنى، والميتة، والدم (أعمال، ١٥: ١–٢٠).
ولم يجتمع بولس ببطرس بعد ذلك إلا مرةً واحدةً، وذلك عندما قام بطرس بزيارة إلى أنطاكية حيث أقام عند بولس وبرنابا، وكان يجلس إلى مائدة واحدة مع الوثنيِّين المهتدين. ولكن عندما التحق به جماعةٌ من أهل الختان قادمين من أورشليم، أدار بطرس ظهرَه للوثنيِّين ولم يؤاكلهم خوفًا من لوم أهل الختان له، فانفجر بولس في وجهه وانتقده متهمًا إياه بالرياء. نقرأ في الرسالة إلى أهالي غلاطية:
«ولكن لما قَدِم صخر إلى أنطاكية قاومته وجهًا لوجه لأنه كان يستحق اللوم. لأنه قبلما أتى قومٌ من صحب يعقوب كان يأكل مع الوثنيين، فلما أتَوا توارى وتنحَّى خوفًا من أهل الختان، فجاراه في ريائه سائرُ اليهود حتى إن برنابا انقاد إلى ريائهم. فلما رأيت أنهم لا يسيرون سيرةً قويمةً كما تقتضي حقيقةُ البشارة، قلتُ لصخر بمحضرٍ من جميع الإخوة: إذا كنت أنت اليهودي تعيش كالوثنيِّين لا كاليهود، فكيف تُلزم الوثنيِّين أن يسيروا سيرة اليهود؟ … إن الإنسان لا يتبرر لأنه يعمل بأحكام الشريعة، بل لأن له الإيمان بيسوع المسيح … ولو كان برُّ الإنسان بالشريعة لكان موت المسيح عبثًا» (غلاطية، ٢: ١١–٢١).
لقد استحق بولس عن جدارة اللقبَ الذي أطلقه عليه التاريخ، أي: مؤسس المسيحية. فبدونه لم تشقَّ المسيحية طريقَها الخاص ولم تحقق استقلالها الكامل عن اليهودية، ولم يُقيَّض لها أن تنتشر خارج بوتقتها الأصلية الضيقة، وربما كانت تلاشَت مع تلاشي كنيسة أورشليم التي لم يتحرر أتباعُها من الإرث اليهودي، ولم يفهموا تعاليم معلِّمهم حقَّ فهمها. لقد سلك بولس مسلكَ الأنبياء العظام في تاريخ البشرية، وكرَّس حياته من أجل التبشير المحموم في كلِّ مكانٍ، وعانَى الجوع والتشرُّد والسجن والاضطهاد في سبيل المسيح الذي يسكن فيه. يقول في الرسالة الثانية إلى أهالي كورنثة:
«وأرى أني لستُ أقلَّ شأنًا من أولئك الرسل الأكابر. وإني وإن كنت غريبًا عن البلاغة، فلستُ كذلك في المعرفة، وقد أظهرنا لكم ذلك في كل شيء … فالذي يُباهون به — وكلامي كلامُ جاهل — أُباهي به أيضًا. هم عبرانيون وأنا عبرانيٌّ، هم إسرائيليون وأنا إسرائيليٌّ، هم من ذرية إبراهيم وأنا من ذرية إبراهيم، هم خدم المسيح — أقول قول أحمق — وأنا أفوقهم: أفوقهم في المشقات، أفوقهم في دخول السجون، أفوقهم كثيرًا جدًّا في تحمُّل الجَلْد. أشرفتُ على الموت مرارًا، جلدني اليهود خمسَ مراتٍ أربعين جلدةً إلا واحدة، انكسرَت بي السفينة ثلاثَ مراتٍ فقضيتُ ليلةً ونهارًا في عرض البحر. أسفار متعددة، أخطار من الأنهار، أخطار من اللصوص، أخطار من أبناء ملَّتي، أخطار من الوثنيين، أخطار في المدينة، أخطار في الصحراء، أخطار في البحر، أخطار من الإخوة الكذابين. جهدٌ وكدٌّ، سهر ملازم، جوع وعطش، صوم كثير، بردٌ وعريٌّ، ما عدا الباقي من فرضٍ يوميٍّ واهتمام بجميع الكنائس» (٢ كورنثة، ١١: ٥–٢٨).
لقد حقق بولس منفردًا أكثرَ مما حققه بقيةُ الرسل مجتمعين؛ ولذلك لا عجب إذا رأينا أن نصفَ إصحاحات سفر أعمال الرسل مخصَّصةٌ لسرد أخباره. وفيما كان بولس يجوب أنحاء الإمبراطورية الرومانية مبشِّرًا بيسوع، كان بطرس رئيس الرسل الاثنَي عشر والشخصية الأبرز في كنيسة أورشليم، منشغلًا بالأمور التنظيمية لكنيسته ولم يبرح أورشليم إلا مرتين. فقد ذهب في مهمة تبشيرية مع يوحنا بن زبدي إلى السامرة القريبة (أعمال، ٨: ٤–٢٥)، وبعدها ذهب في رحلة تفقدية إلى أنطاكية ليطَّلع على ما أنجزه بولس وبرنابا هناك (غلاطية، ٢: ١١–٢١). علمًا بأن مؤلف سفر أعمال الرسل لم يأتِ على ذكر هذه الرحلة الثانية. أما عن القصص التي ظهرت لاحقًا عن سفره إلى روما واستشهاده هناك، فليست إلَّا من قبيل الملاحم الشعبية غير الموثَّقة. ومن الملفت للنظر أن أخبار بطرس تتوقَّف تمامًا في سفر أعمال الرسل بعد الإصحاح الخامس عشر. كما أننا لا نعثر في سفر أعمال الرسل على أخبار تتعلق بنشاطات من أيِّ نوعٍ لبقية رسل يسوع الاثنَي عشر. فمتيَّا الذي جرى انتخابه ليحلَّ محلَّ يهوذا الخائن، يختفي تمامًا بعد خبرِ انتخابه الوارد في الإصحاح الأول. وفيما عدا بطرس لا يظهر في سفر أعمال الرسل من الأحد عشر الباقين سوى يوحنا بن زبدي، وذلك في أربعة أخبار موجزة (٣: ١، ٣: ٣–١٣، ٤: ١٣، و١٩، ٨: ١٤). وهنالك خبرٌ عابر عن مقتل أخيه يعقوب على يد هيرود أغرييا الأول (١٢: ١–٢).
لا نعرف على وجه التحديد تاريخَ ميلاد بولس، ولكننا نفهم من سفر أعمال الرسل أنه كان فتًى عندما قام اليهود برجم الشهيد استيفانوس في أواخر الثلاثينيات، وعمدوا إلى وضع ثيابه تحت قدمَيه لينظرها لهم (أعمال، ٧: ٥٨–٥٩، و٢٢: ٢٠–٢١). وهذا يعني أنه وُلد فيما بين عام ١٠ و١٥ للميلاد. وفي أوائل الستينيات كان ما يزال حيًّا في سجنه في روما ينتظر المحاكمة التي لا ندري متى حصلت ولا كيف كانت نتيجتها. ولكن بعض الموروثات المسيحية العائدة إلى القرن الرابع تقول إنه أُعدم عام ٦٤م خلال القتل الجماعي للمسيحيِّين في روما إبَّان عهد الإمبراطور نيرون، ولكن هذا الخبر غير مؤكد، والأخبار متضاربة حول مصيره.
وُلد بولس وفق رواية سفر أعمال الرسل لأسرة يهودية–يونانية موطنها في مدينة طرسوس بمنطقة كيليكيا (جنوب آسيا الصغرى على شاطئ المتوسط)، وكانت هذه الأسرة حاصلةً على المواطنية الرومانية. وقد أفادَته هذه المواطنية في الأوقات العصيبة، ومنها عندما ثار عليه اليهود في آخر زيارة له إلى أورشليم وجرُّوه خارج الهيكل لكي يرجموه. فبلغ الخبر قائد الألف الروماني في المدينة فخفَّ مع جنده إلى المكان وخلَّصه من بين أيديهم، ولكن اليهود بالغوا في الصياح طالبين قتله، فأمر قائد الألف بأن يُساقَ إلى القلعة حيث يُستجوب تحت السياط. فلما أوثقوه، قال بولس لقائد المائة الذي يُشرف على وثاقه: أيحق لكم أن تجلدوا مواطنًا رومانيًّا قبل أن تحاكموه؟ فذهب قائد المائة إلى قائد الألف وأطلعه على الأمر، فجاء إليه وسأله: أأنت رومانيٌّ؟ قال: نعم. فقال قائد الألف: أنا أديت مقدارًا كبيرًا من المال حتى حصلت على هذه النسبة. قال بولس: وأنا حصلتُ عليها منذ مولدي. فخاف قائد الألف لما عرف أنه رومانيٌّ وقد كبَّله بالقيود (أعمال، ٢٢: ٢٥–٢٩).
ومن الجدير بالذكر أن بولس لم يذكر في رسائله شيئًا عن مكان مولده ولا عن مواطنيته الرومانية، وهذا أمر مستغرب نظرًا لما لعبه هذان العنصران من أهمية في سيرة بولس كما رواها سفر أعمال الرسل. أما الاسم الذي أطلقه على نفسه فكان على الدوام بولس، على الرغم من أن مؤلف سفر أعمال الرسل قد دعاه أيضًا بالاسم اليهودي شاؤل. ويبدو أن اسم مولده كان شاؤل ولكنه تكنَّى بالاسم بولس بعد تحوُّلِه إلى المسيحية، أو أنه حمل منذ البداية اسمَين على عادة اليهود اليونانيين الذين كانوا يُطلقون على أبنائهم اسمًا يهوديًّا وآخرَ يونانيًّا. كانت اليونانية لغته الأم، لكنه كان متضلعًا بالآرامية التي كانت لغةَ اليهود في تلك الأيام. ووفق شهادة سفر أعمال الرسل، فقد جاء بولس إلى أورشليم ودرس فيها علومَ الدين على الطريقة الفريسية على يدِ واحدٍ من أعلم معلِّميها وهو جملائيل. يقول عن نفسه في الرسالة إلى أهالي روما: «أنا إسرائيليٌّ من ذرية إبراهيم وسبط بنيامين» (روما، ١١: ١). ويقول في سفر أعمال الرسل: «أنا رجلٌ يهوديٌّ وُلدت في طرسوس من كيليكية. على أني نشأت في هذه المدينة (= أورشليم) وتلقَّيت عند قدمَي جملائيل تربيةً صالحة موافقةً كل الموافقة لشريعة الآباء» (أعمال، ٢٢: ١–٣). ولكن صمت بولس في رسائله عن ذِكر تلقِّيه العلم على يدِ هذا المعلم الفريسي، يضع إشارةَ استفهامٍ حول مصداقية هذه المعلومة، لأنها لو كانت صحيحةً لما تردَّد بولس في ذكْرِها في سياق جدالاته مع السلطات الدينية الأورشليمية. ومع ذلك فإن خلفية بولس الفريسية تُنبئ عن نفسها في العديد من أفكاره لا سيما إيمانه بقيامة الموتى، وهي عقيدة غريبة عن الفكر التوراتي. فعندما مَثُل للمحاكمة أمام المجلس اليهودي، وكان يعلم أن فريقًا منهم صدوقي لا يؤمن بقيامة الموتى وفريقًا فريسي، حاول استمالةَ الفريسيين إلى جانبه وصاح في المجلس: «أيها الإخوة، أنا فريسي ابن فريسي، وإنما أُحاكم لأني أرجو قيامة الأموات. فما قال ذلك حتى وقع الخلاف بين الفريسيِّين والصدوقيِّين وانشقَّت عصا المجلس» (أعمال، ٢٣: ١–٨).
ويبدو أن بولس ابتدأ حياته العامة عندما التحق بسلك حرس الهيكل. وهذا ما يُفسر تواجده في الساحة التي رُجم فيها استيفانوس حتى الموت، حيث راح يحرس الثياب التي خلعها الجلَّادون. وبعد ذلك شارك في الحملة الواسعة التي شنَّتها سلطاتُ الهيكل على المسيحيين. وعلى حدِّ وصفِ سفر أعمال الرسل: «وكان شاؤل موافقًا على قتله (= استيفانوس). ووقع يومئذٍ اضطهادٌ شديد على كنيسة أورشليم فتشتَّت أبناؤها أجمع … أما شاؤل فكان يعيث في الكنيسة فسادًا، يذهب من بيت إلى بيت فيُخرج الرجال والنساء ويُلقيهم في السجن» (أعمال، ١: ٨–٣). ويُشير بولس في رسائله إلى هذه الفترة من حياته، فيقول: «قد سمعتم بسيرتي الماضية في ملَّة اليهود، وكيف كنت أضطهد كنيسة الله غاية الاضطهاد وأحاول تدميرها، وأتقدَّم أكثر أترابي من بني قومي في ملَّة اليهود وأفوقهم حميةً على سُنن آبائي» (غلاطية، ١: ١١–١٤).
هذه الحمية التي أبداها بولس في عمله هي التي دفعَت رئيس الكهنة إلى تكليفه بمهمة التوجه إلى دمشق من أجل تطهير الكنيس اليهودي فيها من أتباع يسوع وسَوقهم مُوثقين إلى أورشليم (أعمال، ٩: ١–٢). وقبل وصوله إلى دمشق حصلت له تلك الرؤيا الحاسمة التي حوَّلته من مضطهِدٍ للكنيسة إلى أكثر دُعاتها حماسةً. أما ما حدث بعد ذلك، فإن رواية سفر أعمال الرسل تناقض رواية بولس نفسه التي أشرنا إليها سابقًا (أي توجُّهه إلى بلاد العرب لا إلى أورشليم بعد اهتدائه). فبولس وفق سفر الأعمال، بعد أن استرد بصرَه وتعمَّد: «لبث مع التلاميذ بضعةَ أيامٍ ثم أخذ من ساعته ينادي في المجامع بأن يسوع هو ابن الله. فكان كل مَن يسمعه يُدهش ويقول: أليس هذا الذي كان في أورشليم يطارد مَن يدعو بذلك الاسم؟ أمَا جاء إلى هنا ليسوقَهم موثَّقين إلى الكهنة؟ على أن شاؤل كان يزداد قوةً ويفحم اليهود المقيمين في دمشق مبيِّنًا أن يسوع هو المسيح. وما هي إلا مدةٌ من الزمن حتى طفق اليهود يأتمرون به ليهلكوه، فانتهى خبر ائتمارهم إلى شاؤل. فكانوا يراقبون الأبواب ليلَ نهارَ ليُوقعوا به، فسار به التلاميذ ليلًا ودلَّوه من السور في سلة. ولما وصل إلى أورشليم حاول أن ينضمَّ إلى الرسل، فكانوا يخشونه غير مصدقين أنه تلميذ. فسار به برنابا إلى الرسل وروى لهم كيف رأى الرب في الطريق وكلَّمه الرب، وكيف بشَّر رابط الجأش باسم يسوع في دمشق، فأخذ يذهب ويجيء معهم في أورشليم يبشِّر باسم الرب. وكان يخاطب اليهود أيضًا ويجادلهم، فجعلوا يأتمرون به ليقتلوه، فشعر الإخوة بذلك فمضَوا به إلى قيصرية، ثم رحَّلوه منها إلى طرسوس» (أعمال، ٩: ٢٠–٣٠).
مِثل هذه التناقضات في سيرة بولس بين ما يُورده سفر أعمال الرسل وما يَرِد في رسائل بولس، ينبغي في رأيي حلُّها بترجيحِ نصِّ الرسائل على نصِّ سفر الأعمال، وذلك لسببين؛ الأول هو أن بولس نفسه هو مَن يتحدَّث في الرسائل، وهو الأدرى بسيرته الشخصية من مؤلف سفر أعمال الرسل. والثاني أن الرسائل أسبق تدوينًا وتداولًا من سفر الأعمال، فقد دُوِّنت الرسائل الأولى في مطلع خمسينيات القرن الأول والأخيرة في أواسط الستينيات. أما سفر أعمال الرسل فلم يُدوَّن إلا في أواخر القرن الأول.
عانَى بولس طيلةَ حياته من علَّةٍ جسدية لا ندري طبيعتها، أشار إليها بوصفها شوكةً في جسده، وكأنها رسول الشيطان الذي وُكِّل إليه أن يلطمَه لئلا يتكبر (٢ كورنثة: ٧). وقد اختلف الباحثون في طبيعة هذه العلَّة، فقال البعض إنها الصرع الذي كان يسبِّب له هذياناتٍ ورؤًى، وقال البعض الآخر إنها الملاريا، وفريق ثالث إنها حالاتٌ من العمى المؤقَّت الناتج عن أسباب نفسانية. ولكن هذه العلة لم تكن عائقًا له لا في نشاطه التبشيري ولا في مهنته التي كان يتكسَّب منها وهي صناعة الخيام (أعمال، ١٨: ٣)، التي ظل يمارسها ويكسب عيشَه منها رافضًا الاتكاء على صدقات أعضاء كنائسه، على الرغم من أن يسوع قد أباح للذين يُعلنون البشارة أن ينالوا رزقهم من البشارة (متَّى، ١٠: ١٠). وهو يقول في ذلك: «أمَا تعلمون أن خدم الهيكل رزقهم من أرزاق الهيكل، والذين يخدمون المذبح يأخذون نصيبهم من المذبح؟ وهكذا قضى الله للذين يُعلنون البشارة أن ينالوا رزقهم من البشارة. أمَّا أنا فلم أستعمل أيَّ حقٍّ من هذه الحقوق» (١ كورنثة، ٩: ١٢–١٥).
أمضى بولس نحو عشرين سنةً في تأسيس الكنائس في سوريا وآسيا الصغرى واليونان. وفي كلِّ مكانٍ ذهب إليه كانت الجاليات اليهودية فيه تشغب عليه وتحاول قتْلَه. ففي لسترة جنوب آسيا الصغرى ألَّبَت الجموع اليهودية الناس عليه ورجموه حتى ظنوا أنه قد مات فتركوه، فخفَّ إليه تلاميذُه وأسعفوه (أعمال، ١٤: ١٩–٢٠). وفي آخائية بأرض اليونان ثار اليهود عليه وجروه إلى غاليون حاكم المدينة وقالوا: إن هذا الرجل يحاول إقناع الناس بأن يعبدوا الله عبادةً تخالف الشريعة. فقال غاليون لليهود: أيها اليهود، لو كانت المسألة مسألة جُرمٍ أو ذنبٍ لسمعت شكواكم كما يقضي الحق، فأما أن يكون الجدل في الألفاظ والأسماء وفي شريعتكم فانظروا أنتم في الأمر. ثم طردهم من المحكمة (أعمال، ١٨: ١٢–١٧).
وأخيرًا انتهَت حياةُ بولس التبشيرية على يدِ يهودِ أورشليم. فقد جاء بولس إلى أورشليم نحو عام ٥٨م، في زيارته الثالثة والأخيرة إليها ليحمل إلى المسيحيِّين الذي فيها هبات إخوانهم من آسيا. فرآه بعض اليهود في الهيكل وعرفوه، فصاحوا: النجدة يا بني إسرائيل، هذا هو الرجل الذي يُعلِّم تعليمًا ينال به شعبنا وشريعتنا وهذا الهيكل. فتجمَّع الناس على بولس وجرُّوه إلى الخارج وانهالوا عليه بالضرب المبرح محاولين قتله، فأنقذه الجنود الرومان من أيديهم وسلَّموه إلى قائدهم الذي ساقه إلى القلعة وكان الجمع وراءه يصيح: «اقتله، اقتله»، مثلما صاح في وجه بيلاطس أثناء محاكمته ليسوع. وفي الغد أحال القائد بولس إلى المجلس اليهودي ومَثَل بولس أمامه. ولكن المجلس لم يتوصَّل إلى قرار بشأنه بعد أن وقع الخلاف بين الفريسيِّين والصدوقيِّين، فأعاده القائد إلى القلعة. ثم إن أخبارًا وصلَته بأن مجموعة من اليهود أخذوا عهدًا على أنفسهم بالامتناع عن الطعام والشراب حتى يقتلوا بولس. فأرسله القائد تحت حماية مشددة إلى مقرِّ الوالي الروماني فيليكس في قيصرية، فاستدعى الوالي متهمي بولس إلى محكمة عقدها بعد خمسة أيام، فجاء رئيس الكهنة وبعض الشيوخ معه واتهموا بولس بأنه يُثير الفتن بين اليهود في كل مكان. ولكن بولس دافع عن نفسه وأقنع الوالي ببراءته، ولكنَّه احتفظ به مع ذلك في السجن سنتين.
ثم إنَّ فيليكس أُقيل من منصبه وخلفه فسطس، فعرض عليه الكهنة دعواهم على بولس طالبين منه تسليمَه إلى محكمتهم، وأقاموا له كمينًا في الطريق ليغتالوه. فأراد فسطس أن يُرضيَ اليهود، فقال لبولس: أتريد أن تصعد إلى أورشليم حيث تُحاكم بحضوري؟ فأجابه بولس: ما من أحدٍ يحقُّ له أن يسلمني إليهم (لأنه مواطن روماني) إني أرفع دعواي إلى قيصر. فقال له فسطس: رُفعت دعواك إلى قيصر، فإلى قيصر تذهب. وهكذا أُرسل بولس إلى روما حيث لبث هناك سنتين في السجن ينتظر محكمة قيصر. وهنا، ونحو عام ٦٣م، تنتهي رواية سفر أعمال الرسل دون أن نعرف المصير الذي آل إليه بولس (أعمال، ٢١–٢٨).
وهنالك موروثات مسيحية متضاربة عن مصير بولس. فالبعض يقول بأنه أُطلق من السجن وسافر إلى إسبانيا، وآخرون بأنه أُعدم عام ٦٤م إبَّان حملة الاضطهاد التي شنَّها نيرون على المسيحيين عقب حريق روما المشهور. وآخرون بأنَّه اعتُقل ثانية بعد إطلاق سراحه وأُعدم نحو عام ٦٧ أو ٦٨م. ولكن أيًّا من هذه الأخبار لا تجد لها سندًا لا من العهد الجديد ولا من الوثائق التاريخية.