ألغاز ميلاد يسوع
بعد مضيِّ ألفين من السنين على ميلاد يسوع، ما زلنا لا نملك أي وثيقة تاريخية عن حياة هذه الشخصية الاستثنائية في التاريخ الروحي للإنسانية. وما زالت الأناجيل الأربعة التي اعتمدتها الكنيسة تقف شاهدًا وحيدًا على ميلاده ومسيرة حياته التبشيرية وصَلْبه.
لقد دُوِّن أول الأناجيل وهو إنجيل مرقس نحو عام ٧٠م، أي بعد أربعين سنة على وفاة يسوع وسبعين سنة على ميلاده؛ ودُوِّن آخرها وهو إنجيل يوحنا بين عام ١٠٠ وعام ١١٠م، أي بعد مضيِّ نحو سبعين سنة على وفاة يسوع ونحو قرن كامل على ميلاده. هذا يعني أن مؤلفي الأناجيل كانوا في حالة انقطاع تام عن الأحداث التي يَرْوونها، وأن كلًّا منهم قد تقصَّى وقائعَه على طريقته الخاصة، واختار منها ما يتلاءم مع طبيعته الشخصية وثقافته وطبيعة المستمعين الذين يتوجَّه إليهم برسالته. وبالنظر إلى أن اللاهوت المسيحي كان ينمو ويتطور خلال هذه الفترة الفاصلة بين الحدث وزمن تدوينه، فإن المفاهيم اللاهوتية المستحدثة كان لا بد لها من أن تفرض نفسها على تفسير ذلك الحدث. وفي ظل غياب السلطة الدينية المركزية وعدم استقرار اللاهوت المسيحي في ذلك الوقت المبكر، فقد كان على كل مؤلف إنجيلي، سواء فيما يتعلق باختياره لأحداث روايته من بين عدة تنويعات وصلت إليه، أم في تفسيره لهذه الأحداث، أن يصدر عن موقف شخصي ورؤية خاصة به. وبما أن أولئك المؤلفين كانوا حملة رسالة دينية، لا مؤرخين يتقصَّون الحقائق وفق مناهجنا الحديثة في البحث، فإن الاختلاف بينهم هو أمر متوقع على ما نستطيع ملاحظته ابتداءً من الأخبار المتعلقة بأسرة يسوع وميلاده.
(١) الأسرة
يلفت نظرَنا في الأناجيل شُحُّ المعلومات المتعلقة بأسرة يسوع. فنحن لا نعرف شيئًا عن أسرة مريم وحياتها قبل بشارتها من قبل الملاك بالحمل العذري، ولا نعرف شيئًا عن يوسف الذي قدَّم له متَّى ولوقا سلسلتَي نسب لا تُفيدانا بشيء بسبب تعارضهما. كما أن الوالدين يغيبان تقريبًا عن أحداث الإنجيل بعد قصة الميلاد. فإنجيل مرقس الذي تجاهل قصة الميلاد لا يأتي على ذكر مريم بالاسم إلا مرةً واحدة عندما قال أهل الناصرة عن يسوع: «أليس هذا النجار ابن مريم» (مرقس، ٦: ٣). أما يوسف فقد تجاهله مرقس تمامًا ولم يأتِ على ذكره لا من قريب ولا من بعيد. وفي إنجيل متَّى أشار المؤلف إلى مريم بالاسم مرة واحدة، وأشار إلى يوسف بصفته النجار دون ذكر اسمه، عندما أعاد صياغة قول أهل الناصرة الوارد عند مرقس أعلاه بخصوص يسوع ليغدوَ على الشكل التالي: «أليس هذا ابن النجار؟ أليسَت أمه تُدعى مريم» (متى، ١٣: ٥٥). وفي إنجيل لوقا يَرِد ذكرُ يوسف ومريم بعد قصة الميلاد مرةً واحدة فقط ولكن دون ذكر اسمَيهما، وذلك في قصته عن زيارة أسرة يسوع إلى أورشليم عندما كان في سن الثانية عشر، وكيف افتقده أبواه ليجداه في الهيكل يناقش الشيوخ (لوقا، ٤: ١٦–٢٢). وبعد ذلك تغيب مريم تمامًا، أما يوسف فيردُ ذكره مرةً واحدة عندما قال أهل الناصرة عن يسوع: «أليس هذا ابن يوسف» (لوقا، ٤: ٢٣).
وفي إنجيل يوحنا وهو الإنجيل الثاني بعد مرقس الذي تجاهل قصة الميلاد، يَرِد ذكر يوسف بالاسم مرتين في معرض الإشارة إلى يسوع على أنه ابن يوسف ولكن دون أيِّ معلومات أخرى عن هذه الشخصية الغامضة. (يوحنا، ١: ٤٥ و٦: ٤٨). أما مريم فلم يَرِد ذكرها بالاسم، وإنما بصيغة «أم يسوع» وذلك في موضعين فقط. فقد ورد ذكرها في مطلع الإنجيل في قصة تحويل يسوع الماء إلى خمر في بلدة قانا الجليل: «وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك، ودُعي يسوع وتلاميذه إلى العرس، ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر. فقال لها يسوع: ما لي ولك يا امرأة؟ لم تأتِ ساعتي بعد. فقالت أم يسوع للخدم: مهما قال لكم فافعلوه» (يوحنا، ٢: ١–٥).
في هذا الحوار الذي قدَّمه لنا يوحنا، لدينا دليلٌ على الدفء المفقود بين يسوع وأمه، وذلك في قوله لها: «مالي ولك يا امرأة». وهذا ما نلاحظه أيضًا في مشاهد لاحقة: «فبينما هو يكلم الجموع إذا أمه وإخوته خارجًا طالبين أن يكلموه، فقال له واحد: هو ذا أمك وإخوتك واقفون خارجًا يطلبون أن يكلموك. فقال له: مَن هي أمي ومَن هم إخوتي؟ ثم مدَّ يدَه نحو تلاميذه وقال: ها أمي وها إخوتي، لأن مَن يصنع مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي» (متَّى، ١٢: ٤٦–٥٠). ولعل في هذا التعليق من قِبل يسوع إشارة خفية إلى أن أسرته لم تكن قد آمنت به بعد. ويؤكد لنا هذا ما أورده إنجيل مرقس من أن أسرة يسوع جاءت للقبض عليه لأنهم اعتبروه فاقد الرشد: «ولما سمع أقرباؤه خرجوا ليمسكوه لأنهم قالوا إنه مختل» (مرقس، ٣: ٢١). وبعد بضع فقرات من الإصحاح نفسه يقول لنا مرقس: «فحينئذٍ جاء إخوته وأمه ووقفوا خارجًا يطلبونه … إلخ. مما ورد عند متَّى في المقتبس السابق» (مرقس، ٣: ٣١–٣٥). ونحن لا نستطيع هنا إلا أن نربط بين الخبر الأول وهذا الخبر الثاني. فأسرة يسوع قد خرجت أولًا للقبض عليه، وعندما عرفوا مكانه جاءوا ووقفوا خارج البيت يطلبونه. كما نلاحظ الدفء المفقود بين يسوع وأسرته في مشهد آخر صدر فيه عن يسوع تعليقٌ مشابه لتعليقه الآنف الذكر: «وفيما هو يتكلم بهذا، رفعت امرأة صوتها من الجمع وقالت له: طوبى للبطن الذي حملك وللثديين اللذين رضعتهما. أما هو فقال: بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه» (لوقا، ١١: ٢٧–٢٨).
بعد عرس قانا لا تظهر مريم في إنجيل يوحنا إلا في مشهد الصلب: «وكانت واقفات عند صليب يسوع: أمه، وأخت أمه مريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية» (يوحنا، ١٩: ٢٥). فأين كانت مريم خلال مدة السنتين اللتين استغرقتهما حياة يسوع التبشيرية في إنجيل يوحنا؟ ولماذا لم تكن بين النسوة اللواتي تَبِعن يسوع من الجليل ورافقنَه في حلِّه وترحاله؟
في بقيَّة أسفار العهد الجديد البالغ عددها سبعة وعشرين سفرًا، لا يرد ذكر يوسف النجار، بينما يرد ذكر مريم مرة واحدة في سِفر أعمال الرسل؛ حيث يقول لنا المؤلف في الإصحاح الأول بأن التلاميذ في أورشليم بعد صعود يسوع: «كانوا يواظبون على الصلاة مع النساء ومريم أم يسوع ومع إخوته» (الأعمال، ١: ١٤). وبعد ذلك يصمت مؤلفُ سِفر الأعمال عن مريم صمتًا تامًّا، الأمر الذي يدل على أن هذا الخبر العابر هو إضافة لاحقة على النص الأصلي لسفر الأعمال؛ لأن مؤلف سفر الأعمال هذا هو لوقا نفسه الذي تجاهل في إنجيله وجودَ مريم إلى جانب يسوع خلال حياته التبشيرية، فهي لم تكن بين النسوة اللواتي تَبِعنه، ولم تكن موجودة عند القبض عليه ولا عند محاكمته ولا في مشهد الصلب، كما لم يَرِد ذكرها بين الذين شهدوا ظهورات يسوع بعد قيامته. وبالتالي فإنه من المستبعد أن يكون لوقا هو الذي جاء بمريم فجأةً إلى مسرح الحدث، ثم جعلها تختفي بالطريقة التي ظهرت بها.
(٢) النسب
هذا المأزق المتعلق بنقص المعلومات عن حياة يسوع قبل ظهوره العلني بعد تعمده بماء الأردن على يد يوحنا المعمدان وهو في نحو الثلاثين من عمره، هو الذي دفع متَّى ولوقا إلى ابتكار سلسلة نسب ليسوع تربطه بالملك داود، وإيرادهما لقصة ميلاد لا تحتاج إلى الوثائق لأنها تستخدم لغة ميثولوجية من أجل التعبير عن حقائق إيمانية وليس عن حقائق تاريخية.
يستهل متَّى إنجيله بمقدمة عن نسب يسوع من ناحية يوسف النجار، فيعرض لنا سلسلة تبتدي بإبراهيم الأب الأول للشعب العبراني، وفي الوسط تمرُّ بالملك داود، ثم تنتهي بيوسف: «كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم: إبراهيم وَلَد إسحاق، وإسحاق وَلَد يعقوب، ويعقوب وَلَد يهوذا وإخوته … إلخ … وأليعازر وَلَد متان، ومتان وَلَد يعقوب، ويعقوب وَلَد يوسف رجل مريم التي وُلِد منها يسوع الذي يُدعى المسيح» (متَّى، ١: ١–٢٦). أما لوقا فلم يستهلَّ إنجيله بسلسلة نسب يسوع وإنما أطلعنا عليها بعد ابتداء يسوع بكرازته، وذلك في الإصحاح الثالث حيث نقرأ: «ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة. وهو على ما كان يُظن: ابن يوسف، بن هالي، بن متثات بن لاوي بن ملكي … إلخ … بن شيت بن آدم، ابن الله» (لوقا، ٣: ٢٣–٢٤). وبمقارنة بداية سلسلة لوقا المعكوسة مع نهاية سلسلة متَّى نجد أن يوسف النجار عند لوقا هو: ابن عالي بن متثات بن لاوي. أما عند متَّى فهو: ابن يعقوب بن متان بن عازر. أي إن متَّى ولوقا لم يتفقا من حيث البداية على اسم الجد المباشر ليسوع، ولا على أسماء أصوله الأقربين، ثم يتابع لوقا بعد ذلك سلسلته في خط مختلف تمامًا عن متَّى، حتى لكأننا أمام سلسلتَي نسب لشخصيتَين مختلفتَين تمامًا، وذلك وصولًا إلى الملك داود حيث تعود السلستان إلى الاتفاق وتصلان إلى إبراهيم؛ لأن كِلا المؤلفَين يعتمدان هنا سلسلة الأنساب التوراتية الواردة في سفر التكوين. وعند إبراهيم تنتهي سلسلة متَّى بينما يتابع لوقا منفردًا وصولًا إلى آدم: «ابن إبراهيم، بن تارح، بن ناحور … إلخ … ابن شيت بن آدم، ابن الله». وبذلك فإن سلسلة لوقا تقوض نفسها بنفسها لأنها ابتدأت بالقول: «وهو على ما كان يُظن ابن يوسف بن هالي»، وانتهت بالقول: «بن شيت بن آدم ابن الله؟» وذلك مثلما تقوض سلسلة متَّى نفسها أيضًا عندما انتهت بالقول: «ومتان وَلَد يوسف رجل مريم التي وُلِد منها يسوع»، ولم تقل: «ومتان وَلَد يوسف، ويوسف وَلَد يسوع». فالسلسلتان لا معنى لهما لأنهما لا تعترفان بأبوة يوسف ليسوع، وهذا يستدعي منطقيًّا عدم وجود رابطة نسب بين يسوع والملك داود الجد الأعلى ليوسف، وبالتالي فلا معنى للقب ابن داود الذي يُطلقه كلٌّ من متَّى ولوقا على يسوع.
فإذا جئنا إلى رواية الحبل العذري والميلاد عند متَّى ولوقا، نجدهما على ما تبيِّنه المقارنة التالية يتابعان ما بدآه من اختلاف في النسب.
(٣) الحبل العذري
رواية متَّى
«أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا. لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا، وُجدت حبلى من الروح القدس. فيوسف رجلها إذ كان بارًّا ولم يشأ أن يُشَهِّرها أراد تخليتها سرًّا. ولكن فيما هو متفكر في هذه الأمور، إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلًا: يا يوسف بن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأن الذي تحمله هو من الروح القدس، فستلد ابنًا وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم، وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا. فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما أمره الملاك وأخذ امرأته، ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر» (متَّى، ١: ١٨–٢٥).
رواية لوقا
«وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم، فدخل إليها الملاك وقال: سلام لك أيتها المُنعَم عليها، الرب معك، مباركة أنت في النساء. فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية. فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم، لأنك قد وجدت نعمة عند الله، وها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيمًا وابن العلي يُدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد. فقالت مريم للملاك: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلًا؟ فأجابها الملاك: الروح القدس يحلُّ عليك وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يُدعى ابن الله. وهو ذا نسيبتك أليصابات هي أيضًا حبلى بابن في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة عاقرًا، لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله. فقالت مريم: هو ذا أنا أمَة الرب، ليكن لي كقولك. فمضى من عندها الملاك. فقامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا (= أورشليم)، ودخلت بيت زكريا وسلَّمت على أليصابات. فلما سمعت أليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت أليصابات من الروح القدس، وصرخت بصوت عظيم وقالت: مباركة أنت في النساء ومباركة ثمرة بطنك، فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ؟ … إلخ» (لوقا، ١: ٢٦–٤٤). بعد ذلك تمكث مريم عند زكريا وأليصابات نحو ثلاثة أشهر ثم تعود إلى بيتها.
- (١) يحيط الغموض التام بالشخصيتَين الرئيسيتَين يوسف ومريم. ويبدو أن المؤلفين لا يعرفان عنهما سوى الاسم فقط، ولا شيء آخر عن الأسرة والوالدين والوضع الاجتماعي. وعلى عكس الرأي الشائع بأن يوسف كان يعمل نجارًا، فإن المعطيات النصية غير واضحة بهذا الخصوص. فروايتا الميلاد لا تذكران شيئًا عن مهنة يوسف رجل مريم. أما المواضع الأخرى التي جرى التعويل عليها لوصف يوسف بالنجار فمتضاربة بهذا الخصوص؛ فمرقس الذي تجاهل وجود يوسف تمامًا قد وصف يسوع نفسه بالنجار عندما قال على لسان أهل الناصرة: «أما هو النجار ابن مريم» (٦: ٣). أما متَّى فقال: «أما هو ابن النجار» (١٣: ٥٥). بينما قال لوقا: «أما هو ابن يوسف» (٤: ٢٣). وكذلك فعل يوحنا الذي وصف يسوع مرتين بابن يوسف دون أن يأتيَ على ذكر النجار (يوحنا، ١: ٤٥، و٦: ٤٢). وبذلك تقف شهادة متَّى عن يوسف بأنه نجار وحيدة ومن دون مؤيد من بقية الأناجيل. وقد ناقش بعضُ الباحثين بأن كلمة Tekon الواردة في النص اليوناني للأناجيل هي المعادل للكلمة الآرامية «ن ج ا ر» في لغة فلسطين المحكية في ذلك الزمان، والتي تعني كما في العربية مَن يمتهن النجارة. ولكن هذه الكلمة الآرامية قد وردت أكثر من مرة في أدبيات التلمود في معرض الإشارة إلى الشخص المتعلم والمثقف، وهذا الاستخدام ربما يعكس واقع استخدامها الأدبي في اللغة الآرامية التي لم يتوفر لدينا الكثير من نصوصها الأدبية. وعلى ذلك فربما لم يكن يوسف نجارًا على الإطلاق، ولا يسوع كذلك.١
- (٢)
الموطن الأصلي لكلٍّ من يوسف ومريم هو الجليل عند لوقا، أما عند متَّى فهو بيت لحم في مقاطعة اليهودية قرب أورشليم. وسوف نرى فيما بعد كيف جاء لوقا بيوسف ومريم إلى بيت لحم من أجل إتمام النبوءة التوراتية بخصوص ميلاد المسيح المنتظر.
- (٣)
يلعب يوسف الدور الرئيسي في قصة متَّى التي تقدِّمه كرجل حكيم عاقل تصرَّف بهدوء عندما اكتشف أن خطيبته مريم حبلى. وعلى عكس المتوقع فإن الملاك جبرائيل يظهر له في الحلم لا لمريم، ويبشِّره بالمولود ويطلب منه الاحتفاظ بخطيبته لأن الذي تحمله هو من الروح القدس، وأن عليه أن يسمِّيَه يسوع. أما عند لوقا فإن الدور الرئيسي تلعبه مريم، والملاك يظهر لها في اليقظة لا في المنام، ويدخل عليها كأيِّ زائر عادي فيُلقي السلام ويبشِّرها بالمولود الذي ستحبل به من الروح القدس. بعد ذلك نجد مريم تعيش حياتها بحريَّة؛ فبعد سماعها خبر حمل قريبتها أليصابات، تترك مدينتها في الجليل وتسافر وحيدة لزيارة أليصابات في مقاطعة اليهودية قاطعة مسافات طويلة ووعرة وشاقة؛ حيث مكثت عندها ثلاثة أشهر ثم عادت إلى الناصرة. وخلال كل هذه الأحداث لا نعثر ليوسف على أثر، ولا نعرف كيف عرف بخبر الحمل ولا عن ردة فعله تجاه ذلك. ثم نجدهما بعد ذلك قادمَين إلى بيت لحم حيث وضعت مريم مولودها.
- (٤)
في بشارة الملاك ليوسف في إنجيل متَّى يوصف يسوع بأنه الذي «يخلص شعبه من خطاياهم». أما عند لوقا فيوصف بأنه الذي «يعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد.» أي إن متَّى يبشر بمسيح روحاني، أما لوقا فيبشر بمسيح سياسي.
- (٥) يقتبس متَّى من سفر إشعيا التوراتي ٧: ١٤ عندما يقول: «لكي يتمَّ ما قيل بالنبي القائل: هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل». ثم يضيف من عنده: «الذي تفسيره الله معنا». ومتَّى هنا شأنه شأن بقية مؤلفي الأناجيل يعتمد على الترجمة اليونانية للتوراة والمعروفة باسم «السبعينية». وهذه الترجمة، كما يُقر الآن جميع علماء التوراة، قد أخطأت بإيجاد المعادل اليوناني لكلمة Almah التي استخدمها مؤلف سفر إشعيا والتي تعني بالعبرية فتاة صغيرة، وقالت Parthenus أي فتاة عذراء. وعليه فإن الآية إياها في الأصل العبري ينبغي أن تُقرأ على الشكل التالي: «هو ذا الفتاة الصغيرة (= ألمه) تحبل وتلد ابنًا … إلخ.» وهذا يعني أن شهادة سفر إشعيا عن ولادة المسيح من عذراء لا أساس لها في النص العبري لسفر إشعيا، ولا في بقية ترجمات التوراة إلى اللغة اليونانية، واللاحقة على السبعينية، والتي استخدمت في الواقع كلمة Neanis أي فتاة صغيرة باليونانية، مقابل Parthenus أي عذراء.٢
- (٦)
يقول متَّى: إنَّ يوسف قد أخذ مريم كما أمره الملاك بعد أن كان عازمًا على تخليتها، «ولم يعرفها حتى ولدَت ابنها البكر، ودعا اسمه يسوع». وكلمة «يعرفها» هنا تدل على الخلوة الجنسية، وبما أن المعنى المباشر لهذه الآية يدل على أن يوسف لم يختلِ بمريم قبل الولادة، ولكنَّه ربَّما اختلى بها بعد الولادة، فإنَّ القائمين على الترجمة الكاثوليكية الجديدة إلى العربية (منشورات المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ١٩٦٩م)، قد عمدوا إلى إعادة صياغة جملة «ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر»، وقالوا: «على أنه لم يعرفها. فولدت ابنًا فسماه يسوع».
(٤) قصة الميلاد
إنَّ قصة ميلاد يسوع غائبة عن أول الأناجيل وهو إنجيل مرقس، وكذلك عن آخرها وهو إنجيل يوحنا. وهذا ما دعا معظم الباحثين في العهد الجديد إلى اعتبارها إضافة لاحقة دبجها متَّى ولوقا كلٌّ على طريقته.
رواية متَّى
«ولما وُلد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودوس الملك، إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟ فإنَّا رأينا نجمَه في المشرق وأتينا لنسجد له. فلما سمع هيرودوس الملك اضطرب وجميع أورشليم معه، فجمع كل رؤساء الكهنة وكَتَبة الشعب وسألهم: أين يولد المسيح؟ فقالوا له: في بيت لحم اليهودية، لأنه هكذا مكتوب بالنبي: وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مدبرٌ يرعى شعبي إسرائيل.
حينئذٍ دعا هيرودوس المجوس سرًّا وتحقق منهم زمان النجم الذي ظهر، ثم أرسلهم إلى بيت لحم، وقال: اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي، ومتى وجدتموه فأخبروني لكي آتيَ أنا أيضًا وأسجد له. فلما سمعوا من الملك ذهبوا، وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء ووقف فوق، حيث كان الصبي. فلما رأوا النجم فرحوا فرحًا عظيمًا جدًّا وأتوا إلى البيت ورأوا الصبي مع مريم أمه، فخرُّوا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له ذهبًا ولُبانًا ومرًّا، ثم إذ أُوحي إليهم في حلم ألَّا يرجعوا إلى هيرودوس، انصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم.
وبعدما انصرفوا، إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلًا: قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك؛ لأن هيرودوس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه. فقام وأخذ الصبي وأمه ليلًا وانصرف إلى مصر، وكان هناك إلى وفاة هيرودوس، لكي يتمَّ ما قيل من الرب بالنبي القائل: ومن مصر دعوت ابني. حينئذٍ لما رأى هيرودوس أن المجوس سخروا به غضب جدًّا، فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كلِّ تخومها من ابن سنتين فما دون، بحسب الزمان الذي تحققه من المجوس. حينئذٍ تمَّ ما قيل بإرميا النبي القائل: صوت سُمع في الرامة، نوح وبكاء وعويل كثير، راحيل تبكي على أولادها ولا تريد أن تتعزى لأنهم ليسوا بموجودين.
فلما مات هيرودوس، إذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر قائلًا: قم وخذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل، لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي. فقام وأخذ الصبي وأمه وجاء إلى أرض إسرائيل. ولكن لما سمع أن أرخيلاوس يملك على اليهودية عوضًا عن هيرودوس أبيه خاف أن يذهب إلى هناك. وإذ أُوحي إليه في حلم انصرف إلى نواحي الجليل وأتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة، لكي يتمَّ ما قيل بالأنبياء إنه سيُدعى ناصريًّا.» (متَّى، ٢: ١–٢٣)
رواية لوقا
«وفي تلك الأيام صدر أمر من أغسطس قيصر بأن يُكتتب كل المسكونة، وهذا الاكتتاب جرى إذ كان كيرينيوس والي سوريا. فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد إلى مدينته. فصعد يوسف أيضًا من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تُدعى بيت لحم لكونه من بيت داود وعشيرته، ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى. وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد، فولدت ابنها البكر وقطمته وأضجعته في المذود؛ إذ لم يكن لهما موضع في المنزل (= النزل، الفندق، الخان).
وكان في تلك الكورة رعاة متبدِّين يحرسون حراسات الليل على رعيتهم. وإذا ملاك الربِّ وقف بهم ومجدُ الربِّ أضاء حولهم فخافوا خوفًا عظيمًا. فقال لهم الملاك: لا تخافوا، فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لكل الشعب، أنه قد وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلِّص هو المسيح الرب، وهذه لكم العلامة، تجدون طفلًا مقمطًا مُضجعًا في مزود. وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبِّحين الله وقائلين: المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة. ولما مضَت عنهم الملائكة إلى السماء، قال الرعاة بعضهم لبعض: لنذهب الآن إلى بيت لحم وننظر هذا الأمر الواقع الذي أعلمنا به الرب. فجاءوا مسرعين ووجدوا مريم ويوسف والطفل مُضجعًا في مزود. فلما رأوه أخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن الصبي، وكل الذين سمعوا تعجبوا مما قيل لهم من الرعاة. وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها. ثم رجع الرعاة وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوه، ورأوه كما قيل لهم.
ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سُمي يسوع كما تَسمَّى من الملاك قبل أن حُبل به في البطن، ولما تمت أيام تطهيرها حسب شريعة موسى صعدوا إلى أورشليم ليقدموه للرب، كما هو مكتوب في ناموس الربِّ أن كل ذَكَرٍ فاتح رحم يُدعى قدوسًا للرب، ولكي يقدموا ذبيحةً كما قيل في ناموس الرب، زوج يمام أو فرخي حمام … ولما أكملوا كل شيء حسب ناموس الرب رجعوا إلى الجليل إلى مدينتهم الناصرة، وكان الصبي ينمو ويتقوَّى بالروح ممتلئًا حكمةً، وكانت نعمة الرب عليه.» (لوقا، ٢: ١–٤٠)
- (١) على الرغم من أن الروايتين تشتركان في عنصر الولادة في بيت لحم؛ لأن المسيح في النبوءات التوراتية يولد في هذا المدينة، إلا أن متَّى الذي يُنكر الأصل الجليلي للعائلة المقدسة ويجعل من بيت لحم موطنها الأصلي، يقول لنا بأن الولادة حصلَت بشكل طبيعي في بيت العائلة، وذلك في عهد الملك هيرود الكبير الذي جعله الرومان ملكًا على فلسطين وحكم من عام ٣٧ إلى عام ٤ق.م. وعليه فإنَّ من المرجَّح أن ميلاد يسوع وفق رواية متَّى قد حصل نحو عام ٦ق.م. أي قبل وفاة هيرود بعامين. أما لوقا الذي جعل من ناصرة الجليل الموطن الأصلي للعائلة في قصة الميلاد العذري، فقد جاء بيوسف ومريم من الناصرة إلى بيت لحم بداعي الإحصاء السكاني الذي أمر به الإمبراطور أوغسطس عندما كان كيرينيوس واليًا على سوريا. وبدلًا من ولادة مريم في بيت الأسرة في بيت لحم، يجعلها لوقا تلد خارج أحد الخانات على مشارف بيت لحم وتُضجع مولودها في مزود لعلف الحيوانات، وذلك لعدم وجود مكان لهما في الخان بسبب كثرة الواردين إلى المدينة من أجل الاكتتاب. وبما أن المعلومات التاريخية تقول لنا بأن السلطات الرومانية عيَّنت كيرينيوس واليًا على سوريا عام ٦م، وفي عهده جرَى مثل هذا الإحصاء الذي كان يهدف أساسًا إلى إحصاء المكلفين ضريبيًّا،٣ فإن ميلاد يسوع وفق رواية لوقا يجب أن يكون في عام ٦م، أي بعد التاريخ الذي نستنتجه من رواية متى باثنتي عشرة سنة. وهنالك نقطة تستحق التوقف عندها فيما يتعلق بإحصاء كيرينيوس، فإذا كان هذا الإحصاء قد جرى لغاية محددة تتعلق بالتكليف الضريبي للمواطنين، فقد كان الأحرى بيوسف أن يبقى في مكان إقامته ومقر عمله لا أن يمضيَ إلى بيت لحم موطن أجداده.
- (٢)
يُقحم متَّى على رواية الميلاد مجوس آتين من الشرق رأوا نجم ولادة المسيح فتَبِعوه لكي يأتوا ويسجدوا له. وكانت صفة المجوس في ذلك الوقت تُطلق على الحكماء المتضلعين بالفلك وعلوم التنجيم، وعندما سَمِع هيرود بخبر ميلاد المسيح ملك اليهود اضطرب من ظهور منافسٍ له على العرش، فدعا العارفين بالكتب وسألهم أين يولد المسيح، فقالوا له في بيت لحم. وهنا يقتبس متَّى من سفر ميخا التوراتي نبوءتَه بخصوص ميلاد المسيح في بيت لحم (راجع ميخا، ٥: ٢) بعد تحويرها على طريقته، فقال: «وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا … منك يخرج مدبِّرٌ يرعى شعبي إسرائيل.» هذا وتتجلى اللغة الميتولوجية التي استخدمها متَّى في قصة الميلاد بأوضح أشكالها عندما جعل النجم يقود المجوس إلى بيت يوسف حتى وقف فوقه. ونحن هنا لا يمكن إلا أن نتساءل كيف يمكن لنجم يبعد عن الأرض مسافات تقاس بالسنوات الضوئية أن يُشير إلى بيت بعينه في بلدة صغيرة على الكرة الأرضية؟
- (٣)
يتحوَّل مجوس متَّى الذين رأوا نجم ملك اليهود في المشرق وتبعوه، إلى رعاة عند لوقا كانوا يحرسون غنمهم في الليل عندما ظهر لهم ملاك وبشَّرهم بميلاد المخلِّص في بيت لحم، وهنا يضيف لوقا على هذا المشهد الميثولوجي عناصر تجعله أكثرَ فخامةً، عندما ينضم إلى الملاك حشدٌ كبيرٌ من جند السماء يسبِّحون الله.
- (٤)
عندما تأكَّد لهيرود في رواية متَّى عدم قدرته على معرفة هوية الطفل بعد أن خدعه المجوس، أمر بقتل جميع المواليد في بيت لحم، ولكن الملاك أمر يوسف أن يأخذ زوجته وطفلها ويسافر بهما إلى مصر، ففعل ذلك تحت جنح الظلام، وأقام في مصر مدة غير محددة حتى أمره الملاك بالعودة لأن هيرود قد مات. وعندما وصل إلى الوطن عرف أن فلسطين قد قُسمت إلى عدة ولايات بعد وفاة ملكها، وأن أرخيلاوس ابنه قد صار ملكًا على مقاطعة اليهودية، فخاف من الإقامة في بيت لحم، وتوجَّه إلى الجليل حيث سكن في مدينة الناصرة. وبذلك يفسر متَّى كون يسوع جليليًّا على الرغم من ولادته في بيت لحم.
وفي الحقيقة، فإنَّ التاريخ قد حفظ لنا الكثير من مآثر هيرود الكبير ومن فظائعه وجرائمه التي لا تُحصى أيضًا، ومنها قتل العديد من أفراد أسرته نفسها، ولكن مذبحة مواليد بيت لحم لم تحصل بالتأكيد ولم يتوفَّر لدينا شاهدٌ تاريخي على وقوعها. أما غرض متَّى من ابتكار هذه القصة فلاهوتي بالدرجة الأولى، لأنه أراد أن يجعل من يسوع موسى الثاني، ومن هيرود صنوًا لفرعون. وكما أمر فرعون بقتل جميع مواليد العبرانيين من الذكور ولكن موسى الطفل نجا وحده عندما وضعَته أمه في سفط من البردي وأسلمته إلى النهر (سفر الخروج: ١–٢)، كذلك فعل هيرود بمواليد بيت لحم ولكن يسوع وحده نجا. ويستشهد متَّى بآية من سِفر هوشع تقول: «ومن مصر دعوت ابني» ليفسِّر بها سفر يسوع إلى مصر وعودته منها، علمًا بأن هوشع هنا لم يكن يتحدث عن دعوة المسيح من مصر، وإنما عن دعوة بني إسرائيل المستعبدين هناك. والنص الكامل للآية التي أوردها متَّى مجتزأة هو: «لما كان إسرائيل غلامًا أحببته، ومن مصر دعوت ابني» (هوشع، ١١: ١).
- (٥)
بما أن لوقا قد جعل ميلاد يسوع بعد مُضيِّ عشر سنوات على وفاة الملك هيرود، فإن قصة مذبحة الأطفال والهرب إلى مصر، لم يكن لها مكانٌ في روايته التي سارت أحداثها بعد الميلاد بشكل روتيني. فقد انتظر الوالدان مدة ثمانية أيام وهي الفترة اللازمة لطهارة الوالدة بعد الوضع، ثم ختنا الطفل وذهبا إلى الهيكل؛ حيث قدَّما قربانًا عنه حسب شريعة موسى ثم رجعوا إلى الجليل. وبعد ذلك ينفرد لوقا بذكر قصة لم تَرِد في بقية الأناجيل. فعندما كان يسوع في سنِّ الثانية عشرة، قامت العائلة بزيارة أورشليم في عيد الفصح، وهناك افتقد الوالدان يسوع ولم يجداه فراحَا يبحثان عنه في كل مكان حتى عثرا عليه في الهيكل يجادل الشيوخ مفصحًا عن حكمة لا تتوفر عادة لمَن هم في سنِّه (لوقا، ٢: ٤١–٥٠).
هذا كل ما لدينا في الأناجيل الرسمية عن أسرة يسوع وميلاده وحياته حتى بلوغه الثلاثين من العمر. أما أناجيل الطفولة المنحولة والتي لم تعترف بها الكنيسة، فلم تزد على معلوماتنا أي جديد؛ لأنها اعتمدت روايتَي متَّى ولوقا، وأضافت عليها الكثير من العناصر الميثولوجية. وبما أن هذه الأناجيل قد دُوِّنت بعد الأناجيل الأربعة بزمن طويل، وذلك فيما بين أواسط القرن الثاني الميلادي وأواسط القرن الرابع، فإنَّه من غير المحتمل أن يكون مؤلفوها قد اعتمدوا مصادر لم تكن متوفرة زمنَ تدوين الأناجيل الرسمية. ولكن عنصرًا واحدًا في هذه الأناجيل يستحق التوقف عنده؛ لأنه يقدم لنا رواية ثالثة عن مكان ولادة يسوع، الذي لم يولد لا في بيتٍ عادي من بيوت بيت لحم ولا في خان على مشارفها، وإنما على الطريق قبل الوصول إلى بيت لحم.
ولا أدلَّ على تأثير هذه القصة في نفوس المسيحيين الأوائل، على الرغم من تعارضها مع قصة الميلاد الرسمية فيما يتعلق بعنصر المغارة، من أن الإمبراطورة هيلانة قد بنت كنيسة المهد فوق مغارة في بيت لحم كان الموروث الشعبي يعتقد أنها مغارة الميلاد، وذلك عام ٣٣٠م. وما زالت هذه الكنيسة قائمة حتى الآن. وفي هذه الحادثة دلالة ذات أهمية على أن الحدود لم تكن واضحة في أذهان المسيحيين بين الأناجيل الرسمية والأخرى المنحولة حتى ذلك الوقت المتأخر. ومن الجدير بالذكر أن مشهد الولادة في مغارة بقيَ شائعًا في الرسوم الدينية المسيحية وصولًا إلى يومنا هذا؛ حيث نجد مجسماتٍ مصغرةً لهذا المشهد في واجهات المحال التجارية خلال أسبوع الميلاد في أوروبا وأميريكا.
من كلِّ ما تقدم نخلص إلى نتيجة مَفادها أن مؤلفَي إنجيلي متَّى ولوقا لم يكن بين أيديهما معلومات بخصوص ميلاد يسوع وطفولته وشبابه، وأنهما ردمَا هذه الفجوة بقصة استلهمت عناصرها الرئيسية من القصص الديني الشائع شرقًا وغربًا عن ميلاد الطفل المؤله من عذراء. وهذا ما نجده في قصص ميلاد بوذا، والإله آتيس الذي غزَا روما قادمًا من الشرق، والإله أدونيس السوري، والإله الفارسي ميثرا، والمخلِّص الزرداشتي شاوشيانط الذي سيظهر في نهاية التاريخ، عندما تحبل به عذراء تنزل للاستحمام في مياه إحدى البحيرات حيث تتسرَّب إلى رحمها بذور زرادشت التي حُفظت هناك منذ القدم. وقائمة هؤلاء المولودين من عذراء طويلة، وتتطلب بحدِّ ذاتها دراسةً مستقلة تبحث في منشئها وبواعثها الفلسفية والنفسية.
على أنَّنا سوف نتوقَّف في المرحلة الثانية من هذا البحث لنُدققَ في عنصرين من عناصر قصة الميلاد الإنجيلية؛ وهما ولادتُه في بيت لحم اليهودية، وحياته الأولى في مدينة الناصرة، لنرى أن ولادته في بيت لحم اليهودية مستبعدةٌ، وأن مدينة الناصرة لم يكن لها وجود في ذلك الزمان.
إ. س. سفينسيكلايا: المسيحيون الأوائل، ترجمة حسان ميخائيل إسحاق، دار علاء الدين، دمشق، ٢٠٠٦، ص٧٠.
M. R. James, Apocryphal New Testament, Oxford, 1983, p. 38 ff.