مشكلة بيت لحم والناصرة
إنَّ الصورة العامة التي تُقدِّمها لنا جغرافية فلسطين هي صورة منطقة تتألف من بيئات معزولة عن بعضها البعض. وقد انعكست هذه الجغرافية المتنوعة على الحياة السياسية، فكانت فلسطين مقسَّمة على الدوام إلى عدد من الدويلات الصغيرة المستقلة. وتتجلَّى عزلة البيئات الفلسطينية بشكل خاص في مناطق الهضاب، ونموذجها مرتفعات الجليل التي يفصلها وادي يزرعيل العريض والخصب عن الهضاب المركزية (أي منطقة السامرة) ومرتفعات يهوذا. وتُشير الشواهد الأركيولوجية والتاريخية إلى أن صلات الجليل الثقافية والسياسية مع فينيقيا والعالم السوري الأوسع كانت أقوى من صلاته مع المنطقة الفلسطينية. فإلى جانب اللقى الأثرية والبنى المعمارية التي تشهد على مثل هذه الصلات، فقد ورد اسمُ مدينة حاصور عاصمة الجليل القديمة في أكثر من عشرين رقيمًا ضمن أرشيف مدينة ماري السورية على الفرات الأوسط، والذي يرجع تاريخه إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد. وتكشف لنا المعلومات الواردة في هذه الرقم عن أهمية حاصور وعن علاقاتها الدولية الواسعة.
خلال عصر الحديد الأول والثاني (١٢٠٠–٥٨٧ق.م.) الذي شهد مولد وغياب مملكتي السامرة ويهوذا، بقيَت منطقة الجليل على عزلتها عن مناطق المرتفعات الأخرى وراء وادي يزرعيل (مرجع ابن عامر)، ولا يوجد لدينا دليل على صلات ثقافية مع السامرة جارتها الجنوبية بل على العكس من ذلك؛ فالفخاريات وغيرها من اللُّقى المكتشفة خلال هذا العصر تُشير بقوة إلى تأثيرات فينيقية وآرامية، ويبدو أن الجليل قد وقع تحت سيطرة مملكة صور آنًا وتحت سيطرة مملكة دمشق آنًا آخر، ولم يقع تحت سيطرة مملكة السامرة إلا خلال الهزيع الأخير من حياتها قبل دمارها على يد الآشوريين عام ٧٢١ق.م. ولهذا فقد قام الآشوريون بتهجير قسم كبير من سكانه مع مَن هُجِّروا من أهل السامرة وأحلوا محلهم سكانًا من مناطق أخرى.
تنقصنا المعلومات عن الجليل خلال العصر الفارسي، أما خلال العصر الهيلينستي والروماني فقد تَهلْيَنَ الجليل مثلما تهلينَت فينيقيا والسامرة وشرقي الأردن، ونشأت فيه مدن جديدة بُنيت وفق المفاهيم المعمارية والاجتماعية اليونانية، أهمُّها مدينتَا تيبرياس (طبرية) وسيفوريس. وقد كان التركيبُ الإثنيُّ لهذه المدن متنوعًا؛ فقد احتوت على ذخيرة أساسية من السكان الأصليِّين القدماء، وعلى شرائح أخرى تم تهجيرها إلى الجليل من قِبَل الآشوريين، وعلى جاليات يونانية. أما الديانة السائدة في الجليل فقد كانت كنعانية تقليدية تم تطعيمها بعناصر يونانية بعد مطابقة الآلهة المحلية مع الآلهة اليونانية. ولهذا يُطلق مؤلف إنجيل متَّى على هذه المنطقة اسمَ جليل الأمم (متَّى، ٤: ١٥). ومتَّى هنا يستخدم تعبير «الأمم» بالمعنى التوراتي في الإشارة إلى الشعوب غير اليهودية.
لكل هذه الأسباب مجتمعة فإن الجليل لم يحتوِ حتى أواسط القرن الثاني إلا على جالية يهودية قليلة العدد، وكان الجليليون ينظرون بعداوة إلى هؤلاء ويعتبرونهم جسمًا دخيلًا على المجتمع الجليلي، وعندما ثارت مقاطعة اليهودية على الحكم السلوقي ونجح يهوذا المكابي في طرد الحامية السلوقية من أورشليم عام ١٦٤ق.م. وجد الجليليون في ذلك مناسبة للتخلص من اليهود، وهذا ما دفع بيهوذا المكابي إلى إرسال نجدة عسكرية أجْلَتهم عن الجليل وجاءت بهم إلى أورشليم (راجع سفر المكابين الأول في الترجمة الكاثوليكية، ٥: ١٤–٢٣). ولكن الوضع تغيَّر بعد بضعة عقود عندما تحولت مقاطعة اليهودية إلى مملكة مستقلة وراح حكامها من الأسرة المكابية يوسِّعون مناطق نفوذهم، فقام الملك أرسطو بولس الأول بضم الجليل إلى أملاكه نحو عام ١٠٠ق.م. وفرض الدين اليهودي على سكَّانه بقوة السلاح. ومع ذلك فقد بقيَ الدين اليهودي بمثابة قشرة سطحية تعلو الثقافة والمجتمع في الجليل، والمراجع اليهودية ملأى بالإشارة إلى قلة دين الجليليِّين وجهلهم بالطقوس والواجبات الدينية اليهودية.
بعد دخول الرومان إلى سوريا واستيلائهم على أورشليم عام ٦٣ق.م. تفكَّكت دولة المكابيين، وساد جوٌّ من التسامح الديني الذي شجَّع الكثيرين من سكان الجليل على الارتداد عن اليهودية والعودة إلى دين آبائهم، لا سيما في عهد هيرود الكبير (أو هيرود العربي كما كان يلقَّب) الذي عيَّنه الرومان ملكًا على منطقتَي فلسطين وشرقي الأردن، والذي شجع الديانات المحلية على التعبير عن نفسها وبنى لها معابد لآلهتها التقليدية القديمة. وهذا يعني أن الجليل لم يقع تحت سيطرة الثقافة اليهودية إلا لفترة قصيرة من الزمن، وأن مَن بقيَ على اليهودية في الجليل بعد الفتح الروماني لم يكن ينظر إلى نفسه كيهودي أرثوذكسي، مثلما لم يَعُد يهوديًّا حقًّا من قبل أهل اليهودية.
هذه المقدمة عن تاريخ الجليل مهمةٌ جدًّا لفهم الخلفية الثقافية التي كانت وراء رسالة يسوع التي خرج بها عن الأعراف والشرائع والعقائد اليهودية. فلربما لم ينشأ يسوع في أسرة يهودية، أو أن أسرته قد تهوَّدت خلال فترة الحكم المكابي واستمرت على اليهودية الشكلية بحكم العادة، أو كانت تنتمي إلى جماعة روحية من جماعات جبل الكرمل والمعروفة بطبيعتها الصوفية ونزعتها العالمية. لقد نشأ يسوع في الجليل وعاش فيه طيلة حياته وبشر برسالته، وكان تلامذته وأتباعه جليليِّين، وهو لم يذهب إلى أورشليم إلا في أواخر مسيرته التبشيرية حيث صلبه اليهود. وهذا يستتبع منطقيًّا أن يكون قد وُلد في الجليل لا في اليهودية. ولكن كيف يمكن التوفيق بين هذه النتيجة وبين الأخبار التي أوردها كلٌّ من متَّى ولوقا عن ولادة يسوع في بيت لحم؟
وقد عرف محررو التوراة بيت لحم الجليل، وفي الكتاب إشارات عديدة إليها. من ذلك ما أورده محرر في سفر يشوع في معرض تعداده للمناطق التي وزعها يشوع على الأسباط وبينها بيت لحم التي أُعطيت لسبط زبولون (يشوع، ١٩: ١٠–١٦). وكما هو معروف فإن سبط زبولون في كتاب التوراة قد سكن منطقة في الجليل الأدنى تقع إلى الشرق من جبل الكرمل. ومن ذلك أيضًا ما ورد في سفر القضاة: «وقضى يفتاح لإسرائيل ست سنين. ومات يفتاح الجلعادي، وقضى بعده لإسرائيل إبصان من بيت لحم سبع سنين. ومات إبصان ودُفن في بيت لحم، وقضى بعده لإسرائيل إيلون الزبولوني …» وتعلق الترجمة الكاثوليكية الجديدة، وتوراة أورشليم الفرنسية على هذا النص بقولها: «إنَّ بيت لحم التي يتحدث عنها السِّفر هنا هي بيت لحم زبولون، وهي التي ذكرها سفر يشوع ١٩: ١٥. وهي بالقرب من الناصرة.»
اعتمادًا على ذلك نستطيع القول بأن الأخبار التي تواترت إلى مؤلف إنجيل متَّى عن بيت لحم بأنها الموطن الأصلي لأسرة يسوع ربما كانت صحيحةً، إلا أن متَّى وجَّه أنظار قارئه إلى بيت لحم يهوذا بدلًا من بيت لحم الجليل لكي تنطبق على يسوع النبوءة التوراتية الواردة في سفر ميخا عن ولادة المسيح فيها، فقال: «لأنَّه هكذا مكتوب بالنبي: وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا، لست الصغرى بين رؤساء يهوذا؛ لأن منك يخرج مدبِّر يرعى شعبي إسرائيل» (متَّى، ٢: ٦). بينما وردت نبوءة ميخا في نصها الأصلي على الشكل التالي: «أما أنت يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، ولكن منك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل ومخارجه منذ القدم» (ميخا، ٥: ٢).
ويَرِد ذكر هؤلاء النذيرين في مواضع عدة من كتاب التوراة، ومنها ما ورد في سفر النبي عاموس في معرض تنديده بخطايا بني إسرائيل: «… وأنا أصعدتكم من أرض مصر وسِرْت بكم في البرية أربعين سنةً لترثوا أرض الأموري، وأقمت من بينكم أنبياء ومن فتيانكم نذيرين. أليس هكذا يا بني إسرائيل يقول الرب؟ لكنكم سقيتم النذيرين خمرًا وأوصيتم الأنبياء قائلين لا تتنبئوا» (عاموس، ٢: ١٠–١٢). وكان النبي الكبير صموئيل منذورًا للرب من بطن أمه أيضًا (صموئيل: ١).
ويتحدث النبي إرميا عن نفسه كنذير للرب من بطن أمه: «فكانت كلمة الرب إليَّ قائلًا: قبلما صوَّرتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجتَ من الرحم قدستك، جعلتك نبيًّا للشعوب. فقلتُ: آه يا سيد الرب، إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد. فقال الرب لي: لا تقل إني ولد لأنك إلى كل من أُرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به. ومدَّ الرب يده ولمس فمي وقال الرب لي: ها قد جعلت كلامي في فمك» (إرميا، ١: ٤–٨). ونقرأ في سفر إشعيا على لسان المخلِّص الذي سيبعثه الرب لبني إسرائيل مسيحًا: «الرب من البطن دعاني، من أحشاء أمي ذكر اسمي، وجعل فمي كسيف حاد. في ظلِّ يده خبأني وجعلني سهمًا مبريًّا في كنانته أخفاني … الرب جابلي من البطن عبدًا له لإرجاع يعقوب إليه فينضم إليه إسرائيل، فأتمجَّد في عيني الرب وإلهي يصير قوتي» (إشعيا، ٤٩: ١–٥).
ويقول الملاك لوالد يوحنا المعمدان عندما جاءه ببشارة حمل زوجته العاقر: «لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سُمعت وامرأتك أليصابات ستلد لك ابنًا وتُسمِّيه يوحنا، ويكون لك فرح وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته؛ لأنه يكون عظيمًا أمام الرب، وخمرًا ومسكرًا لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس» (لوقا، ١: ١٣–١٥). وفي أناجيل الطفولة المنحولة نجد أن مريم العذراء كانت نذيرةً للرب أيضًا. ففي إنجيل يعقوب التمهيدي تقول حنة أم مريم للملاك الذي بشَّرها بالحبل: «حيٌّ هو الرب، إذا ما أنجبَت ذكرًا أو أنثى فسوف أنذره للرب ليخدمه كل أيام حياته.» وبعد أن صارت الطفلة قادرة على المشي أخذها أبواها إلى هيكل الرب وفاءً بالنذر، وهناك أقامت إلى سن المراهقة.
ونجد أصول هؤلاء النذيرين في الإصحاح السادس من سفر العدد حيث نقرأ: «وكلم الرب موسى قائلًا: كلِّم بني إسرائيل وقلْ لهم: إذا انفرز رجل أو امرأة لينذر نذر النذير، لينتذر للرب، فعن الخمر والمسكر يفترز ولا يشرب خل الخمر ولا خل المسكر، ولا يشرب من نقيع العنب ولا يأكل عنبًا رطبًا أو يابسًا. كل أيام نذره افتراز، لا يمر موسى على رأسه إلى كمال الأيام التي انتذر فيها. للرب يكون مقدسًا، ويربي خصلات شعر رأسه. كل أيام انتذاره لا يأتي إلى جسد ميت» (العدد، ٦: ١–٦).
على أن مدينة أخرى يمكن أن تطرح نفسها كبديل للناصرة وهي كفر ناحوم، التي نفهم من روايات الإنجيل أنها تقع على الشاطئ الشمالي لبحر الجليل (= طبريا). فإنجيل متَّى يُخبرنا أنه بعد هبوط الروح القدس على يسوع عقب اعتماده في نهر الأردن، اعتكف في الصحراء مدة أربعين يومًا. وعندما عاد إلى الجليل: «ترك الناصرة وجاء كفر ناحوم على شاطئ البحر في بلاد زبولون ونفتالي، فسكن فيها ليتم ما قيل بإشعيا النبي: أرض زبولون وأرض نفتالي، طريق البحر عبر الأردن، جليل الأمم، الشعب القاعد في الظلمة أبصر نورًا باهرًا، والقاعدون في بقعة الموت وظلاله أشرق عليهم نور» (متَّى، ٣: ١٢–١٦). وفي موضع آخر يدعو متَّى كفر ناحوم بمدينة يسوع: «فدخل السفينة وجاء إلى مدينته، وإذا مفلوج يقدمونه إليه مطروحًا على فراش … إلخ» (متَّى، ٩: ١). وفي إيراده للقصة نفسها يقول مرقس: «ثم دخل كفر ناحوم … وجاءوا إليه بمفلوج يحمله أربعة … إلخ.» ويبدو أنها كانت مدينة كبيرة لأننا نفهم من متَّى ٨: ٥–١٣ أن مفرزة عسكرية رومانية كانت تعسكر فيها. كما نفهم من مرقس ٢: ١ و١٤ أنها احتوَت على مركز لجباية الضرائب. وفي هذا المركز كان متَّى العشار (أي جابي الضريبة) جالسًا عندما دعاه يسوع للانضمام إليه (متَّى، ٩: ٩–١٣، ومرقس ٢: ١٤–١٧). وفي كفر ناحوم أجرى يسوع أكثر معجزاته الشفائية.
ولكن المشكلة هي أن كفر ناحوم غير موثقة خارج النص الإنجيلي، شأنها في ذلك شأن الناصرة، ولا يوجد في الجليل حتى اليوم موقع بهذا الاسم، ولكن الرأي السائد الآن هو مطابقتها مع مكان يُدعى تل الحوم يبعد نحو ثلاثة كيلو مترات إلى الجنوب الغربي من مصبِّ نهر الأردن في بحيرة طبريا.
H. Spencer Lewis, The Mystical life of Jesus, AMORC, San Jose, California, 1953, Ch. 3.