هل وُلد يسوع في ٢٥ ديسمبر؟
على أننا إذا أردنا فهْمَ المؤثرات الثقافية المباشرة الكامنة وراء اختيار الكنيسة ليوم الانقلاب الشتوي باعتباره يوم ميلاد يسوع، علينا تضييق مساحة الخلفية الثقافية ذات الصلة بهذا الموضوع، وحصرها زمنيًّا في القرون الميلادية الثلاثة الأولى، ومكانيًّا في الرقعة الممتدة من نهر الفرات السوري شرقًا إلى نهر التيبر الإيطالي غربًا ومن البحر الأسود شمالًا إلى مصر جنوبًا. ففي هذا المُتَّصَل الزماني المكاني نشأَت التصورات الفلسفية والدينية ذات الصلة بموضوعنا.
(١) إله الشمس الحمصي
ابتدأ تدفُّق الآلهة الشرقية على روما منذ دخول القائد الروماني بومبي إلى سوريا عام ٦٦ق.م. ولكن الطبع الروماني المحافظ لم يقبل طقوس الآلهة المستوردة إلا بعد تهذيبه للكثير من أصولها الشرقية وجعلها منسجمة إلى هذا الحد أو ذاك مع الطابع العام للديانة الرومانية التقليدية. في عام ١٩٣م وعقب اغتيال الإمبراطور كومودوس، نجح القائد العسكري سبتيموس سيفيروس ذو الأصول الفينيقية الأفريقية في القضاء على اثنين من منافسيه على العرش، ودخل روما منتصرًا حيث سلَّمه مجلس الشيوخ الرداء الأرجواني القيصري، وحلَّ في القصر الإمبراطوري مع زوجته السورية جوليا دومنا ابنة كاهن الشمس في حمص وملكها. وكان سيفيروس قد تزوجها عندما كان قائدًا للفيلق العسكري الروماني الرابع المتمركز في سوريا.
كان الحكم في مدينة حمص بأيدي أسرة شمسي غرام العربية الأصل، والتي كان ملوكها يقبضون على زمام السلطة الزمنية والدينية بيد واحدة في ظلِّ نظام حكمٍ ثيوقراطي. ووفق التنظيم الإداري الجديد للمنطقة السورية؛ فقد تم تثبيت أسرة شمسي غرام الحاكمة في حمص تحت سلطة الوالي الروماني المقيم في أنطاكية. خلال الفترة التي نتحدث عنها هنا كانت حمص تحت حكم جوليوس باسيان الكاهن الأكبر لمعبد إله الشمس المدعو إيلاجا بال (=إله الجبل). وقد حافظت عبادة إله الشمس الحمصي على الطابع الأصلي للعبادات السامية التي لم تكن تصور آلهتها في هيئة بشرية تنزيهًا لها، وإنما ترمز إليها بحجر طبيعي غير منحوت غالبًا ما يتخذ شكلًا مخروطيًّا. كان حجرُ معبد حمص على ما يصفه المؤرخون حجرًا أسودَ لا يزيد ارتفاعه عن اﻟ ٦٠سم، ذا رأسٍ مستدقٍّ وقاعدةٍ عريضة، وكان الكهنة يُجللونه برداءٍ مزركشٍ صقيلٍ عليه صورةُ نسرٍ وهو الرمز الشائع للألوهة الشمسية، ويُقيمون أمامه الطقوس في قدس أقداس المعبد.
لم يُرزق الكاهن باسيان بأولاد ذكور وإنما بابنتين، الأولى جوليا دومنا وهي الكبرى والثانية جوليا ميسا (= ميساء). وقد عمل ما في وسعه ليقدم لابنتَيه ثقافة منفتحة جمعَت بين الحكمة الشرقية والفلسفة اليونانية، وأوكل إليهما منذ صغرهما خدمة إله الشمس في معبده، وهكذا فقد تشرَّبت جوليا دومنا ديانة إيلا جابال التي ضربَت جذورها في أعماق نفسها وزودتها بنظرة شمولية عالمية. فقد كانت عبادة الشمس في حمص عبادةً توحيديةً، ولكنها لم تكن بالتوحيدية المتعصبة التي لا تعترف بالديانات الأخرى، وإنما توحيدية منفتحة ترى أن كلَّ أشكال العبادة هي طرق تؤدي إلى معرفة الله الحق.
عندما ورث كركلا ابن جوليا دومنا عرشَ أبيه حافظ على عبادة سيرابيس، ولكنه بتأثير أمه طابق بينه وبين إله الشمس الكلاسيكي هيليوس الذي كان إله الشمس السوري يختفي وراءه. وتظهر على نقوش كركلا الهالةُ المشرقة للشمس ورمزها التقليدي الآخر وهو الأسد، ويظهر القيصر وهو يرفع يده اليمني مشيرًا إلى الشمس. في عهد كركلا لم يكن لإله الشمس اسمٌ يدلُّ على منشئه، غير أن أحدًا لم يشكَّ في أنه إله الشمس الحمصي لأن الأم كانت حمصية الأصل ومن نَسَبِ أسرة كهنة إيلاجا بال. ولكن هذا الإله أسفر عن وجهه السوري بعد اغتيال كركلا، عندما رفعَت الفِرق العسكرية المرابطة في سوريا إلى المنصب الإمبراطوري الفتى باسيان حفيد جوليا ميسا الأخت الصغرى لجوليا دومنا، والذي أُطلق عليه اسم جده الكاهن باسيان وكان وريثه في منصب كاهن الشمس.
وصل باسيان إلى روما بزيِّه الكهنوتي الشرقي، ولم يرتدِ بعد ذلك الزيَّ الروماني إلا مُكرهًا وفي مناسبات قليلة. بعد استقراره في العاصمة تفرَّغ باسيان لخدمة إلهه إيلاجا بال والتبشير بديانته، فاستقدم الحجر الأسود من حمص وبنى له معبدًا في روما، وراح يقود بنفسه وبصفته الكاهن الأعلى طقوسَ المعبد، ويرقص حول المحاريب على ألحان الجوقات المؤلفة من نساء سوريات وإيقاع الطبول والصنوج. وكان من بين مشاهدي هذه الطقوس كبار أعضاء مجلس الشيوخ وطبقة الفرسان، وكان ذوو المناصب العليا في الدولة يشاركون فيها.
لقد كان باسيان تحت تأثير التصورات الدينية لوطنه، وكل ما حرَّك عواطفه كان له أصل في الطقوس السورية أو الشرقية بشكل عام، وهو يظهر فيما وصلنا إليه من صورٍ على هيئة شابٍّ بوجهٍ ناعم وشفتين ممتلئتين ونظرة عميقة حالمة تعكس استغراقًا في التأملات الصوفية. غير أن جهود القيصر الكاهن لم تتوقف عند عرض الطقوس الشرقية الغريبة على الطبع الروماني، بل كان همُّه يتجه بشكل أساسي إلى نشر ديانة الشمس ورفع إلهها ربًّا أوحدَ للإمبراطورية الرومانية. وخلال ثلاث سنواتٍ فيما بين ٢٢٠ و٢٢٢م، بذل القيصر السوري كلَّ جهدٍ تبشيريٍّ ممكنٍ، إلا أن سعيه آل إلى الفشل وتخلَّى عنه في النهاية كلُّ نصير، حتى إن جدتَه جوليا ميسا نصحَته بالاعتزال والتنازل عن صلاحياته تدريجيًّا لألكسيان ابن ابنتها الثانية جوليا ممايا. وفي إحدى الليالي من شهر آذار عام ٢٢٢م هاجمه الجنود وقتلوه في قصره مع أمه، ونُوديَ بألكسيان آخر أفراد الأسرة السورية إمبراطورًا تحت اسم أليكسندر سيفيروس. أما القيصر القتيل فقد خلَّده التاريخ تحت اسم إلهه ودعاه إيلاجا بال.
بعد وفاة إيلاجا بال وانهيار مشروعه كان على ديانة الشمس السورية أن تسلك طرقًا غير مباشرة في التبشير. وقد تمحورَت جهودُها أخيرًا في اتجاهين معتمدةً على الرواية الأدبية والفلسفة الأفلاطونية المحدثة.
(٢) هيليودور الحمصي
(٣) الأفلاطونية المحدثة
على التوازي مع الرواية كان فلاسفة سوريون من تلاميذ أفلوطين الإسكندري مؤسس الفلسفة الأفلاطونية المحدثة (٢٠٥–٢٧٠م) يمزجون تعاليمَ معلِّمِهم مع ديانة إله الشمس السوري التي أخذَت بالتقاطع مع الفكر الفلسفي اليوناني إبَّان فترته الخريفية.
وبهذه الطريقة تمَّت صياغة الأساس الفلسفي الذي كان يفتقد إليه إله الشمس السوري وكاهنه الإمبراطور الشاب، الذي لم يكن في حوزته من أدوات التبشير بإلهه الواحد سوى الطقوس التي لم تُقنع الكثيرين في عصرٍ يموجُ بالأفكار والمدارس الفلسفية.
(٤) أورليان وعبادة الشمس الإمبراطورية
قضى أفلوطين الشطر الأخير من حياته في روما، وهناك التحق به تلميذُه المفضَّل فورفوريوس الصوري. وفي عهد الإمبراطور غالينوس لقيَت الأفلاطونية المحدثة سندًا سياسيًّا لها في شخص الإمبراطور الذي كان يجلس الساعات الطوال إلى أفلوطين ويحاوره. وعندما اغتيل غالينوس عام ٢٦٨م، وجدَت الأفلاطونية المحدثة سندًا لها في ملكة الشرق زنوبيا، التي استولَت على كامل بلاد الشام ووادي النيل في محاولة لخلق إمبراطورية مشرقية موحدة ومستقلة عن روما، وربما كانت تفكِّر في التوجُّه إلى روما ذاتها. وقد التحق ببلاطها في تدمر عددٌ من الأفلاطونيِّين مثل فورفوريوس، وكلينيكوس، ولونجين الذي جعلَته الملكة مستشارها الخاص وموجهًا لسياستها الخارجية.
في هذا الوقت كانت عبادة الشمس تتلقَّى دفعًا جديدًا من فلسفة أخرى وعبادة شمسية أخرى، وهما الفلسفة الرواقية المتأخرة وعبادة الإله الشمسي ميثرا القادم من إيران، والذي انتزع لنفسه لقبَ سول إنفيكتوس — الشمس التي لا تُقهر. وكانت المسيحية قد تحوَّلَت في أواسط القرن الثاني الميلادي من فرقة يهودية منشقَّة إلى ديانة شمولية ذات طموح عالمي، وترافق هذا التحول مع تبدلات جوهرية في اللاهوت المسيحي قادَت إلى تأليه يسوع المسيح الذي دخل في تنافس مع آلهة العبادات الشمولية الأخرى، انتهى بعد نحو خمسين سنةً من وفاة أورليان إلى المطابقة بين المسيح والشمس التي لا تُقهر.
(٥) أثر الفلسفة الرواقية المتأخرة
(٦) ميثرا والميثروية
خلال القرون الثلاثة الأولى للميلاد كانت الميثروية المنافس الرئيسي للمسيحية على استمالة شعوب الإمبراطورية؛ وذلك بسبب التشابه الكبير في معتقداتهما. فكلاهما كان يؤمن بخلود الروح وبالبعث والعالم الآخر، وبإلهٍ مخلِّصٍ يؤدي الاتحاد به إلى الخلاص من ربقة الموت. هذا التشابه في العقائد وفي الطقوس المرتبطة بها أدهش المسيحيِّين أنفسَهم فاعتبروه من صنع الشيطان، أما الميثرويون فكانوا يتهمون المسيحيِّين باقتفاء أثرهم واقتباس معتقداتهم. وفي القرن الرابع الميلادي بدأت الميثروية بالتراجع أمام المسيحية في كل مكان حتى اختفى أثرُها. على أن المراقب لذروة التنافس بينهما إبَّان القرن الثاني الميلادي، بإمكانه القول إنه لو قُيِّض للمسيحية أن تكبوَ في مسيرتها لسببٍ ما، لكان الغرب اليوم ميثرويًّا.
من هذا العرض (الموجز بما يكفي لغاية بحثنا) للمشهد الديني في الإمبراطورية الرومانية خلال القرون الثلاثة الأولى للميلاد، نلاحظ أن الوثنية المتأخرة المنفتحة على الأفلاطونية المحدثة وعلى الرواقية المتأخرة، كانت تتقارب مع المسيحية في صيغتها الغربية على الرغم من الصراع القائم بينهما. فقد كانت الوثنية تفارق التعددية في اتجاه نحو التوحيد، في الوقت الذي راح المفهوم التوحيدي الأصلي للمسيحية يعرض نفسه في صيغة تعددية: الآب، والابن، والروح القدس. في هذا الثالوث يلعب المسيح دورَ العقل المدبِّر للكون باعتباره الكلمة، أو اللوغوس الذي صدر عن الآب. أي إنه اتخذ دور الشمس كحاكمٍ للعالم في الأفلاطونية المحدثة والرواقية المتأخرة والميثروية. وبذلك صار المناخ الفكري مهيَّأً للمطابقة بين المسيح وسول إنفيكتوس. وهذا ما حققه الإمبراطور قسطنطين.
(٧) قسطنطين والعبادة المسيحية–الشمسية
لقد لعب الإمبراطور قسطنطين (٣٠٦–٣٣٧م) في تاريخ المسيحية الدور الذي لعبه قورش الفارسي في تاريخ الديانة اليهودية. فبعد دخول قورش إلى بابل عام ٥٣٩ق.م. ووراثته لأملاكها في مناطق غربي الفرات، أصدر مرسومه الشهير الذي سمح فيه للشعوب التي سباها البابليون ومن قبلهم الآشوريون بالعودة إلى ديارهم. وكان سبيُ مملكة يهوذا الفلسطينية من جملة المستفيدين من هذا المرسوم، فأخذوا بالعودة إلى أورشليم على دفعات؛ حيث أعادوا بناء المدينة والهيكل، وهي العودة التي آذنَت ببداية التاريخ اليهودي الذي ترافق مع تدوين أسفار التوراة. أما قسطنطين فبعد انتصاره في معركة جسر ميلفيان التي أكسبَته عرش روما، أعلن مرسوم ميلان الشهير الذي نصَّ فيه على الحرية الدينية لجميع الطوائف في الإمبراطورية، وعلى رأسها الكنيسة المسيحية التي ردَّ إليها أماكن العبادة والعقارات التي صُودرَت منها في العهود السابقة وسمح لها بالتبشير علنًا دون رقيب. وكان هذا المرسوم منعطفًا حاسمًا في تاريخ المسيحية التي تحولَت بعد أقل من نصف قرن إلى ديانة رسميَّة للإمبراطورية. وكما أطلق المحررون التوراتيون على قورش لقبَ مسيحِ الربِّ على الرغم من أنه لم يكن يهوديًّا (إشعيا، ٤٥: ١)، كذلك رفعت كنيسة روما قسطنطين إلى مصاف القديسين على الرغم من أنه لم يكن مسيحيًّا.
على عكس ما يعتقده الكثيرون فإنَّ المسيحية لم تغدُ الدينَ الرسمي للدولة خلال عهد قسطنطين، وأول الأباطرة المسيحيِّين هذا لم يتلقَّ المعمودية وهي طقس الدخول في المسيحية إلا وهو على فراش الموت. إن القصة الحقيقية لتحوله إلى المسيحية ترسم أمامنا شخصيةَ عاهلٍ مترددٍ فكريًّا لم يكن من السهل عليها أن يتخلى عن معتقداته التي شبَّ عليها، لا سيما عبادة الشمس الإمبراطورية، لصالح المسيح. وقد كانت مسيرتُه في تغيير الديانة الوطنية مسيرةً حذرة راقبها كلٌّ من المسيحيِّين والوثنيِّين بوجلٍ وترقُّبٍ لما ستنجلي عنه مواقف مليكهم.
في مرسوم ميلان لم يُشِر قسطنطين بشكلٍ مباشر إلى إله المسيحيين، بل اكتفى بإطلاقِ لقبٍ عامٍّ على الألوهة الكونية التي دعاها «إله السماء»، وهذا اللقب ينطبق على الإله المسيحي مثلما ينطبق على إله الشمس. كما أن هذا المرسوم لم يجعل من المسيحية دينًا للإمبراطور ولا دينًا للدولة، وإنما ساواها مع بقية الديانات المعترَف بها في الإمبراطورية وحصَّنها من الاضطهاد. كما أن قسطنطين لم يُتبِع مرسوم ميلان بأي مرسوم آخر ذي طابعٍ قانوني يتعلق بالمسيحية والمسيحيين، وإنما كان على الناس تتبُّع مواقفه وتصريحاته الشخصية التي تكشف عن ميوله الخاصة لا عن مواقفَ رسميةٍ حاسمة. فالإمبراطور بقي إلى ما بعد أواسط العمر مثابرًا على رعاية الديانة الرومانية التقليدية وأنفق بسخاءٍ على بناء معابد آلهتها، كما رفع أباه المتوفي إلى مجمع الآلهة وأقرَّ له عبادةً خاصةً محتذيًا بذلك مثال العديد من الأباطرة السابقين الذي أُلهوا بعد مماتهم. وعلى الرغم من أنه أعلن في سنواته الأخيرة أنه لن يدخل معبدًا وثنيًّا، وعمل على تشجيع كل متعمدٍ بمنحه ثوبًا أبيض وعشرين قطعةً ذهبية، إلا أنه لم يتخذ خطوةً واحدة في سبيل إغلاق المعابد الوثنية وصرف كهنتها كما هو متوقع من إمبراطور قرر التحول إلى المسيحية. إن كل الدلائل تشير إلى أن عقيدته الخاصة كانت مثل أورليان موجهةً نحو إله الشمس الذي اشتُهر في كل مكان بأنه الحامي الخاص للإمبراطور. ولكن هذا الإله كان يتوحد تدريجيًّا في عقله بالمسيح الذي قال عن نفسه في إنجيل يوحنا: «أنا نور العالم» (يوحنا، ٨: ١٢). وقال: «آمنوا بالنور ما دام لكم النور، فتكونوا أبناء النور» (يوحنا، ١٢: ٣٦).
ومع ذلك فقد مجَّدت الكنيسة فضائل نصيرها الكريم، وكان اسمه يُذكر مضافًا إليه لقب «المساوي للرسل»، ولكنها غضَّت الطرف عن عيوبه وسقطاته التي لا تتناسب مع هذا اللقب، وكانت المهمة غير المحببة لنفس أسقف روما هي التستُّر على فظائعه الكثيرة وتبريرها، لا سيما قتله لابنه الأكبر من زوجته الأولى المدعو كريسبوس. كان هذا الابن محبوبًا من قِبل الجميع لثقافته وعلمه وبسالته، وكان الشعب يهتف باسمه إلى جانب اسم أبيه. ولكن سرعان ما أثارت هذه الشعبية المحفوفة بالمخاطر انتباهَ الأب الذي كان في الجزء الثاني من حياته يتوجَّس خِيفةً من انقلابٍ موهومٍ عليه. وقد غذَّى الوشاة هذا الوهم حتى تحوَّل في ذهنه إلى حقيقة، وكان المتهم الرئيسي في المؤامرة هو الابن التعس الذي خضع لمحاكمةٍ سريةٍ قصيرةٍ وجرى إعدامه. وبعد فترة أعدم زوجته الثانية التي أنجبت له عدة أولاد بتهمة الزنا مع أحد العبيد، ولكن هذه التهمة لم تكن إلا واجهة سَتَر وراءها شكوكَه بصلة لها بالمؤامرة المزعومة التي أثبت الزمن بعد ذلك بطلانها.
لقد كان قسطنطين يهدف على ما يبدو إلى توحيد الإمبراطورية دينيًّا بعد أن أعاد إليها الوحدة السياسية. وقد توجَّه تفكيرُه في البداية نحو صياغة الإيديولوجيا الإمبراطورية حول الإله سول إنفيكتوس. فالشمس في سطوعها على أصقاع الإمبراطورية هي خير رمز يعبر عن وحدتها، ثم أخذ يجد ضالته تدريجيًّا في النزوع العالمي للمسيحية ولكن من غير أن يتخلَّى عن سول إنفيكتوس، لا سيما وأن عبادة هذا الإله كانت توحيدية في جوهرها. وتُعبِّر التماثيل التذكارية التي نصبها قسطنطين عن هذه النزعة التوفيقية التي تحكَّمَت بتفكيره. من ذلك مثلًا التمثال الذي أمر بنصبه على عمود بورفيري في عاصمته الجديدة القسطنطينية، والذي يمثل الإمبراطور على صورة إله الشمس هيليوس وهو يحمل بيده كرة العالم التي ارتفع عليها الصليب (قارن مع صور ميثرا التي أشرنا إليها أعلاه)، وعلى قاعدة العمود نقشٌ يقول: «قسطنطين الذي يضيء مثل الشمس.» وكان نظر التمثال يتجه نحو الأعلى إلى الشمس الطالعة. وهناك ميداليات ذهبية يظهر عليها الإمبراطور وإله الشمس كتوءمين. ومنذ عام ٣٢٤ أقرَّ قسطنطين صكَّ نقودٍ معدنيةٍ عليها صورته وهو رافعٌ يدَيه نحو الشمس، أو صورة إله الشمس وهو يظلل القيصر الذي يحمل بيده لواء الصليب، أو صورة الشمس منفردةً وهي تُرسل أشعتها في كلِّ اتجاهٍ. وعلى قوس النصر الذي بناه يظهر إله الشمس إلى جانب الإلهة فيكتوريا ربة النصر وأمامهما يقف القيصر.
ولم يبقَ على قسطنطين إلا أن ينتظر إعلان السلطات الكنسية رسميًّا ألوهية المسيح من أجل أن تكتمل في ذهنه المطابقة بين سول إنفيكتوس والمسيح، وهذا ما تمَّ في مجمع نيقية عام ٣٢٥م الذي دعا إليه الإمبراطور من أجل توحيد وتنميط العقيدة المسيحية. فقد أقرَّ المجتمعون أن يسوع المسيح هو اللوغوس، أو العقل الكوني المنبعث عن الآب والمساوي له في الجوهر.
وهكذا توفَّرت كلُّ الأسباب الداعية إلى اعتبار يوم ٢٥ ديسمبر/ك١ بمثابة يوم ميلاد يسوع المسيح. وهذا ما أقرَّه قسطنطين عندما قدَّس يوم الأحد الذي كان يومًا مقدسًا عند طائفة ميثرا وجعله يوم عبادة وراحة للمسيحيين بدل يوم السبت اليهودي، كما قدَّس يوم ٢٥ ديسمبر باعتباره يوم ميلاد المسيح، وهو يوم ميلاد ميثرا وبقية الآلهة الشمسية. ففي هذا اليوم تبلغ الشمس أقصى مدى لها في الميلان عن كبد السماء ويبلغ النهار أقصى مدى له في القِصَر، ثم تأخذ في الارتفاع تدريجيًّا كلَّ يوم ويأخذ النهار في الزيادة على حساب الليل. لقد انتصرَت الشمس التي لا تُقهر.
-
H. Spencer Lewis, The Mystical Life of Jesus, AMORC, San Jose, California, Ch. 7.
-
Joseph Campbell, Occidental Mythology, Penguin, 1977. p. 339.
-
جان يابلون: إمبراطورات سوريات، ترجمة يوسف شلب الشام (عن الفرنسية) دمشق ١٩٨٧م.
-
جود فري تورتون: أميرات سوريات حكمن روما، ترجمة خالد أسعد عيسى، دمشق ١٩٨٣م.
-
فرانتز ألتهايم: إله الشمس الحمصي، ترجمة إيرينا داود (عن الألمانية)، دمشق ١٩٩٠م.
F. W. Geoves Campbell, Apollinius of Tyana, Chicago, 1968.
Joseph Campbell, edt, The Mysteries, Princeton, New Jersey, 1978, pp. 116–118.
الدكتور فؤاد زكريا: التساعية الرابعة لأفلوطين، القاهرة ١٩٧٠م.
-
إدوار جيبون: سقوط الإمبراطورية الرومانية، ترجمة أحمد نجيب هاشم، الجزء الأول، الفصل ١١.
-
فرانتس ألتهايم، المرجع السابق، الفصل ٦.
-
إداور جيبون: سقوط الإمبراطورية الرومانية، ترجمة أحمد نجيب هاشم، القاهرة ١٩٩٧م، الجزء الأول، الفصل ١٨.
-
فرانتز ألتهايم، إله الشمس الحمصي، ترجمة إيرينا داود، دمشق ١٩٩٠م، الفصل ٧.
-
J. J. Norwich, Short History of Byzantium, Penguin, 1988, Ch. 1.
-
Michael Baigent, The Holy Blood and Holy Grail, London, 1982. Ch. 13.