أكبر من الجائزة
تَقَدَّمَ أَنَّ جوائز الأدب العالمية تتعرض للتفاوت في أحكامها لأسباب شتى غير المحاباة وغير الخطأ في التقدير.
تتعرض للتفاوت في الأحكام أحيانًا؛ لأنها مقيدة بشروط تلاحظ إلى جانب الإجادة الفنية والمقدرة الأدبية؛ أو لأنها تمتد بأعمالها زمنًا طويلًا تختلف فيه الأذواق والمقاييس من سنة إلى سنة، ومن حقبة إلى حقبة … فضلًا عن تغير الأعضاء المحكمين جيلًا بعد جيل.
ولكنَّ بعض الحالات التي يظهر فيها التفاوت ظهورًا بيِّنًا لا تكفي لتفسيرها — أو لتفسيرها كلها على الأقل — ولا بدَّ من الرجوع إلى الواقع مرة أخرى لتفسير تلك الحالات التي يعوزها التفسير، بل التفسير الكثير.
وأصلح الأسماء للاختيار في هذا الصدد، تلك الأسماء التي برزت على الأفق بروزًا لا يخفى على أحد، وصح فيهم قول القائلين: إنهم أكبر من الجائزة بالقياس إلى الحد الوسط بين مستحقيها، وليس قصارى القول فيهم اليوم أنهم يستحقونها أو لا يستحقونها.
ونكتفي بأربعة منهم في هذا الحديث، نختارهم من أمم متعددة، تجنُّبًا للأمور العارضة التي قد تنحصر في أمة واحدة.
هؤلاء الأعلام الأربعة هم: هنريك إبسن النرويجي، وليون تولستوي الروسي، وأميل زولا الفرنسي، وتوماس هاردي الإنجليزي، وقد كان الثلاثة الأولون في أوج شهرتهم في السنة الأولى من القرن العشرين، وهي السنة التي بدأت فيها أعمال اللجنة، وكان توماس هاردي في الحادية والستين من عمره مكتمل الشهرة في القصة، صاعدًا إلى ذروة الاعتراف والتقدير في الشعر، وإنْ لم يدرك فيه تلك المكانة الأدبية التي انتهى إليها إبسن وتولستوي وزولا.
كان إبسن في مطلع القرن العشرين علَم المسرح الأوروبي الجديد غير منازَع، وكانت مؤلفاته كلها قد شاعت في أرجاء العالم، وفرغ النقاد من التنويه بها ومن إحلالها محلها بين المأثورات المسرحية، بعد هدوء الحملات الشعواء التي أثيرت حولها عند ظهروها، ولكنه نرويجي من السكندنافيين كأعضاء اللجنة السويدية المحكِّمة في جوائز نوبل، وكانت اللجنة تستهل عملها في سنتها الأولى، وتريد أنْ تقرر لجائزتها مكانة الحكم المحترم في الأرجاء العالمية، وليس مما يحقق لها هذه الصفة أنْ يفهم الناس من الخطوة الأولى أنها هدية من أبناء الشمال إلى أبناء الشمال، وهذا إنْ سمعوا بها في أرجاء العالم، وهي محصورة في حدودها الضيقة باحتفالاتها ومظاهراتها وزيارات المدعوين إليها، فانصرفت اللجنة عن هذه الجهة القريبة منها، واتجهت بنظرها إلى الأفق الأوروبي الواسع، وإلى أفق باريس خاصة، وهي كما كانوا يسمونها إلى تلك الآونة عاصمة الثقافة الغربية، واختاروا لجائزتهم الأدبية الشاعر الفرنسي «سولي برودوم» زعيم المدرسة المثالية في عصره، وفاقا للشرط الأول من شروط صاحب الجائزة، وابتعدت بذلك عن شبهة العصبية المحلية، التي كانت تلحق بها وتلازمها لو ابتدأت بواحد من أبناء السويد والنرويج.
وانقضت السنة الأولى والثانية، ثم عاد إبسن إلى رأس القائمة، وزال المحظور بتوجيه الجائزة سنةً إلى شاعر فرنسي، وسنةً بعدها إلى مؤرخ ألماني؛ بل كثرت الأقاويل بعد السنتين الأوليين حول حرمان أبناء الشمال من حقهم في السمعة العالمية، ورأت اللجنة أنها تستطيع أنْ تنصفهم بغير حرج من تلك الشبهة المحظورة، ولكنَّ قائمة الترشيح قد ظهر فيها اسم آخر مع اسم إبسن من صميم أبناء النرويج، وهو الشاعر القصاص المسرحي بجورنسون بجور نستجيرن.
كلاهما نرويجي، فمن منهما تفضله اللجنة السويدية عن الآخر؟
إبسن ولا شك أكبر وأشهر، ولكن زميله كان من قادة الحركة الوطنية في بلاده، وكانت بلاده يومئذ تنازع دولة السويد في قضية الوحدة، ولا تزال دولة السويد ترجو أنْ تصالحها، ولا تحب أنْ تزيدها من أسباب الخلاف ودواعي المطالبة بالانفصال، فاعتقدت اللجنة السويدية أنَّ حرمان بجورنسون من الجائزة سيُفسر بين أبناء قومه بأنه عقوبة له على موقفه من القضية الوطنية، وخطر لبعض الأعضاء أنْ تُقسم الجائزة بين الأديبين الكبيرين، فعارضهم أكثر الأعضاء استعظامًا لقدر كلٍّ منهما أنْ يجاز بنصف جائزة، وحذرًا من أنْ يقال: إنَّ نصف الجائزة هو كل ما استحقه أبناء الشمال.
ولما استقر الرأي على الموازنة بينهما لاختيار واحد منهما، كانت الكفة الراجحة إلى جانب بجورنسون، لما تقدم من موقفه في القضية الوطنية، وكان الأستاذ «ويرسين» أقوى الأعضاء نفوذًا يعارض — من مبدأ الأمر — في اختيار إبسن، فاتخذ من شهرته السابقة سببًا لترجيح زميله عليه، إذ كان بجورنسون في أوج قدرته على الإنتاج وخدمة الفن والمجتمع، وكان إبسن يومئذ شعلة تنطفئ كما قال … وربما كان السبب الصحيح لمعارضة «ويرسين» أنه كان لا يعترف بالفضيلة المثالية لهنريك إبسن، وكان يعيب عليه تشجيع الإباحة والتمرد في تصويره لبعض أشخاصه من الرجال والنساء، كما يعيب عليه قلة عنايته بالأسلوب.
•••
أما «تولستوي» فقد كان اسمه هو الاسم الوحيد المنتظر باتفاق الآراء في السنة الأولى من عمل اللجنة، وكان أدباء السويد قبل غيرهم من أدباء القارة أول من احتج على اللجنة بعد إعلان نتيجتها، فكتب اثنان وأربعون من كتاب السويد وشعرائها خطابًا مفتوحًا إلى المصلح الكبير يحيُّونه فيه، ويعتذرون من تغافل اللجنة عنه، وتجدد البحث في ترشيحه في السنوات التالية، ولم تتفق الآراء على قرار قبول، ثم عدلت اللجنة عن البحث في هذا الترشيح بعد أنْ أعلن «تولستوي» رأيه في الجوائز المالية التي يكافأ بها حملة الأقلام، وبعد أنْ علمت اللجنة أنه سيرفض الجائزة، ويأبى أنْ يشار إلى بعض عمله باستحقاقها، واستثناء أعماله الأخرى في هذا القرار.
والأسباب المطوية وراء هذه الأسباب المنشورة لا تخفى، بعد المقابلة بين جميع الفروض والاعتبارات.
فالسبب الأول يرجع إلى النفور القديم بين أبناء السويد وولاة الأمر في الدولة الروسية، وهو نفور من طمع القياصرة في بلادهم يقترن به شعور الحذر من إغضابهم وخلق الأزمات من جراء إثارتهم ومواجهتهم بالعداء والمقاومة.
وقد خيف أنْ يكون تعظيم «تولستوي» تحديًا مكشوفًا للحكومة القيصرية، ومناصرة صريحة للثورة عليها.
ولما احتدم السخط على اللجنة في بلادها وفي غير بلادها كان لا بدَّ لها من عذر تدفع به عن خطتها حيال هذا المصلح الروسي المحبوب، فكان عذر «ويرسين» الذي تقدم ذكره أنَّ تولستوي يدعو إلى الفوضى، ويفرط في إنكار الحضارة ورفض الثقافة للعودة إلى ما يسميه بالرجعة إلى أحضان الطبيعة، فإذا أجيزت أعماله بغير تمييز ففي ذلك إجازة لهذه الدعوة، وإذا ميزت اللجنة بعض أعماله ونصت على استثناء غيرها فقد يسوءه ذلك، فيهين اللجنة برفض جائزتها ورفض حكمها … ثم جاء تصريح تولستوي باستنكار الجوائز المالية على إطلاقها في خلال هذه الضجة، فانفض الخلاف بهذا التصريح.
وتبقى بعد ذلك حقيقة لا بدَّ أنْ تخطر على البال، فقد كان في وسع اللجنة — من بادئ الرأي — أنْ تبني تقريرها على أعماله التي ترتضيها دون أنْ تشير إلى غيرها، وهي إذا قالت: إنها تقدر كفايته الفنية وجهوده الإنسانية وصدقه في الغيرة على الإصلاح لم يكن لزامًا عليها أنْ تنص على كلام بذاته يخالف ما ترتضيه، ثم يفهم الناس — بداهة — أنها لا ترتضي كل ما يدعو إليه.
على أنَّ المسألة الشكلية كان لها شأنها في تجاوز تولستوي أول مرة؛ لأنه لم يكن مرشحًا للجائزة بالطريقة القانونية، ولم تكن اللجنة في السنوات الأولى تبيح لنفسها أنْ تتولى الترشيح من عندها مع وجود الترشيحات الخارجية، وإنما أباحت ذلك بعد تجربتها لمسألة «تولستوي» بقليل.
•••
وقد كان ترشيح «أميل زولا» مستوفًى في شكله القانوني غاية الاستيفاء، وكان بين يدي اللجنة منذ جلساتها الأولى، تدعمه التزكية القوية من عالم له خطر كبير في حساب مؤسسات نوبل الكيموية، وهو العلامة «پيير برتلو» نابغة الكيمياء المشهور.
ولقد كان لاسم «أميل زولا» يومئذ دويٌّ متجاوب الأصداء بين أرجاء العالم، بعد خطابه الجريء الذي أذاعه في الصحف بعنوان «إني أتهم»، وكال فيه التهم يمينًا وشمالًا للوزراء والقضاة والقادة والساسة والمحققين، ولم تمضِ سنتان على إذاعة ذلك الخطاب حين تقدم ترشيحه لجائزة الآداب العالمية، تلك الجائزة المشروطة بخدمة المبادئ المثالية، وأولها مبادئ العدل والحرية.
ولكنَّ ترشيح «أميل زولا» رُفض منذ البداءة بغير عناء … لمَ؟ ما من سبب واحد يمكن أنْ يلقي عليه اللوم كله؛ بل هناك أسبابٌ مشتبكةٌ مشتركةٌ يعد منها من شاء خطأ النقد واختلاف النظر بين العصور، كما يُعد منها عوامل السياسة ودفع الشبهات ومجاملة المقامات المرعية في تقدير اللجنة.
لقد كان معروفًا عن ألفريد نوبل — وهو أديب له مذهب في الأدب — أنه شديد النفور من مذهب «الطبيعيين» الذين يقودهم «زولا» في اللغة الفرنسية، وكان يرميهم بالخشونة وجلافة الذوق التي لا تتفق مع الأريحية المثالية، وكان دفاع زولا عن دريفوس قد ألقى به في معمعة الحرب التي عُرفت يومئذٍ باسم «عداوة السامية»، وجعلته خصمًا صريحًا للدولة الفرنسية، ولم تكن محاكم فرنسا قد أعلنت براءة دريفوس في السنة الأولى من القرن العشرين؛ لأنها أعلنت بعد ذلك بخمس سنوات، ولم يكن أنصار المذهب الطبيعي في الشمال قد غلبوا على خصومهم من المثاليين والرومانسيين، فاشتركت هذه العوامل جميعًا في إنكار فضل ثابت، ليس من ينكره في هذه الأيام.
أما قصة «توماس هاردي» فهي قصة مبدأ وقصة حظ في وقت واحد، كان اقتراح اسمه يتكرر سنةً بعد سنةً، ويتكرر رفضه في كل مرة لسبب واحد، وهو روح التشاؤم الذي تغلب على رواياته وأشعاره، ثم عدلت اللجنة عن اعتبار التشاؤم مناقضًا للمبادئ المثالية أو المبادئ الإنسانية، ولبثت على هذا الرأي إلى السنة التي أجازت فيها أناتول فرانس، وهو لا يقل في تشاؤمه الساخر عن هاردي، ثم عُرض اسم هاردي مع اسم الشاعر الأيرلندي وليام تبلر ييتس في إبان العطف على النهضة السلتية، وقيل في ترجيحه على هاردي: إنَّ الاعتراف بفضل هاردي قد تأخر حتى أصبح الاعتراف به الآن مذكرًا بالإهمال، لا بالتقدير.
•••
ظروف متشعبة، مشتبكة، تعمل أحيانًا على حجب الجائزة العالمية عن أشهر الأدباء العالميين، ويصح أنْ يقال — كما قيل مرارًا — إنَّ ظروف الجوائز العالمية قد تحجبها عمن هم أكبر منها، ولا لوم على أحدٍ بعينه في النهاية!