جائزة نوبل وموضوعات الأدب
تشتمل وصية نوبل على خمسة أنواع من الجوائز: هي جائزة علم الطبيعة، وجائزة عِلْم الكيمياء، وجائزة الطب والتشريح، وجائزة السلام، وجائزة الأدب.
ولم تُعيِّنِ الوصية موضوعًا خاصًّا من موضوعات، ولكنَّ الموضوعات التي اصطلح عليها العرف عند كتابة الوصية هي: الشعر، والرسائل البليغة، والقصة بأنواعها، ومنها النادرة والحكاية والرواية المطوَّلة، والمسرحية المنظومة الملحنة، والمسرحية المنثورة.
ولكن اللجنة توسعت في موضوعات الأدب، فشملت بها أبوابًا من الكتابة لم تكن مما يُحسَبُ إذا قسمت الموضوعات بعناوينها العامة، فأدخلت فيها الفلسفة والتاريخ والدراسات النفسية الأخلاقية.
وربما صَحَّ أنْ نرجع بالنموذج الأدبي في عُرْفِ اللجنة، إلى النموذج الذي كان مختارًا مفضلًا في عُرْفِ نوبل صاحب الجائزة، وقد كان نموذجه الأعلى الشاعر الإنجليزي شلي، من أقطاب الشعر العالمي في القرن التاسع عشر: وهو شاعر غنائي جميل الأسلوب بليغ التصوير، يَنْظِمُ الملاحم في الإشادة ببطولة الثورة التي تطمح إلى تقرير حقوق الإنسان، ومنها ملحمة برومثيوس الذي تحدَّى ربَّ الأرباب في أساطير اليونان، وعلم الإنسان كيف يحمل أسرار النار والنور، ولا نرى من مراجعة أسماء الشعراء الذين خَصَّتهم اللجنة بجوائزها أنها اختارت شاعرًا من غير هذا الطراز، وإنْ لم يكونوا جميعًا من طبقة «شلي» أو من الناظمين في جملة موضوعاته، فربما كان منهم من قصر نَظْمُهُ على القصائد الغنائية، ومَن نَظَمَ المسرحيات للتمثيل والتلحين، ولم يَنْظمْها على أسلوب الملاحم في شعر الأقدمين.
وقد ظل نصيب الشعر أوفر الأنصبة بين موضوعات الأدب إلى اليوم، وأجازت اللجنة شعراء من الناظمين بأكثر اللغات الأوروبية، ولا سيما الفرنسية، والإنجليزية، والألمانية، والإيطالية، والإسبانية، وأجازت شعراء من السويد، والنرويج، والدنمرك، والبلجيك، وأجازت شاعرًا من غير الأوروبيين هو شاعر الهند رابندرانات تاجور.
وتأتي القصة بعد الشعر في هذا الترتيب، فليس بين الناثرِينَ المُجازِينَ من لم يسهم بقلمه في نوع من أنواع القصص على اختلافه، وقلَّ في الشعراء أنفسهم من لم يكن له قصص منظوم، أو قصص في قالب الرواية التمثيلية.
ويلاحظ الغرض الإنساني في كل لون من ألوان القصص المختار، فلا تخلو قصة من العناية بحالة اجتماعية، ولا بُدَّ — مع العناية بالحالة الاجتماعية — من عناية خاصة بنفس الإنسان، أو بضمير الإنسان … وقلَّما أجيزت قصة لم تعرض لمشكلة الحياة النفسية في المجتمع، ومشكلة النفس البشرية في نجواها، بينها وبين ضميرها الذي لا سلطان للمجتمع عليه … وقد تكون أزمة الضمير العالمي، وأزمة الضمير الخاص بين الإنسان ووجدانه، هما المدار الأكبر لكلِّ عَمَلٍ قصصي نَوَّهَتْ به لجنة الجائزة إلى اليوم.
وقد ترخصت اللجنة أحيانًا في شرط الغاية المثالية من القصة، فإذا فعلت ذلك فإنما يدعوها إليه أنَّ المرشَّحَ للجائزة عظيم المكانة، عظيم الشهرة، وأنَّ محاسنه الفنية تغطي على ذلك النقص، ويوشك أنْ تكون هي نفسها غاية مثالية في عالم الذوق والجمال.
ومن هذا القبيل فن أناتول فرانس الذي حالت آراؤه «الشكوكية» زمنًا دون ترشيحه، ثم ارتفعت به مكانته وجمال أسلوبه أخيرًا فوق هذا الاعتبار.
ولهذه المَزِيَّة الفنية أجازت اللجنة مؤرخًا كبيرًا مَرَّةً، وفيلسوفًا كبيرًا مَرَّةً أخرى.
وقد وقع اختيار الفلاسفة والمؤرخِينَ للجائزة الأدبية موقع الاستغراب بين نقاد الأدب، وأولهم المعجبون بموضوعات الفلسفة والتاريخ؛ لأنهم حسبوه خروجًا عن الموضوع، ولم يحسبوه تكريمًا في غير موضعه، من الوجهتين الفلسفية والتاريخية، وكان من دواعي هذا الاستغراب أنَّ اللجنة أهملت في كل سنة من تلك السنين أعلامًا نابهين في صميم الكتابة الأدبية، فلم تكن مضطرة إلى تجاوز العالَمِ الأدبي لاختيار المرشحين من عالَمِ الفلسفة والتاريخ.
لكن اختيار «الأشخاص» قد لقى في بعض السنين ما لم يلقه اختيار الموضوعات، أو الخروج بالجائزة من موضوعها في سنوات معدودات، على رأي النقاد.
فلما أُعْلِنَ اسم شرشل في سنة ثلاث وخمسين (١٩٥٣) سبق إلى الأذهان أنها جائزة السلام، فاستغرب الناس أنْ تُوجَّهَ هذه الجائزة إلى رجل كان في طليعة قُوَّادِ الحرب وساستها، وكان من أكبر الدعاة إلى التسليح والاستعداد للحرب، دفاعًا أو هجومًا، قبل الحرب العالمية الثانية، وهو صاحب الأمثولة المعروفة عن السباع التي اجتمعت للاتفاق على أنواع السلاح التي يمتنع استخدامها، فاقترح الأسد أنْ يُحرَّم كل سلاح غير الأنياب والأظفار، واقترح العقاب تحريم كل سلاح غير المخالب، ومضى كل سبع يحرم كل سلاح غير سلاحه، إلى أنْ ضمهم الدب في عناق مطبق وبيل … وفي الأمثولة ما فيها من السخرية بمؤثرات السلام والدعوة إلى نزع السلاح.
فلما أعلن أنَّ الجائزة للأدب لا للسلام، وشاعت أسباب الاختيار من الناحية الأدبية، لم يتغير شعور الاستغراب مع اتفاق الآراء على تقدير المزايا الفنية في كتابة السياسي الكبير؛ لأن هذه المزايا جميعًا كانت معروفة مقدورة قبل الحرب العالمية، وكانت تراجمه وفصوله وخُطَبِه كلَّها شائعة متداولة قبل سنة الجائزة بأكثر من عشر سنين.
ولما أعلن اسم الطبيب «شويتزر» قبل ذلك بسنة، سبق إلى الأذهان أنها جائزة الأدب ليست بجائزة السلام، فلما عَرَفَ الناس أنَّ الطبيب الفيلسوف كوفئ على خدمة السلام لما يتولاه من أعمال التطبيب والتبشير في القارة الأفريقية، عاد الناس إلى ذكر الفلاسفة الذين استحقوا جائزة السلام بما كتبوه وما عملوه، ومنهم برتراند رسل مواطن شرشل ونظيره في المنزلة الاجتماعية.
وهذه أمثلة بينة للغرائب التي تثيرها مسألة الموضوعات كلما اقترنت ببعض الأسماء؛ لأنها تلقي في الأذهان أنَّ المناسبة مقترنة بالشخصية المختارة، أشد من اقترانها بالموضوع أو بموعد الاختيار.
وقد تَقَدَّمَ أنَّ مسألة الموضوع محل نظر جديد في السنتين الأخيرتين، وأنَّ المشرفِينَ على توزيع الجوائز الأدبية يخشون أنْ تنقضي وظيفة الجائزة، وأنْ تذهب الفائدة المرجوة منها إذا بقيت موضوعاتها مطلقة عامة بغير تمييز؛ لأن قيمة الجائزة المالية لا تساوي بعض ما يكسبه كاتب القصة الرائجة من نشرها وتمثيلها وإذاعتها وعرضها على اللوحة البيضاء، وتصويرها للتلفزيون.
فليس في قيمة الجائزة المالية من الإغراء ما يصرف طالب الكسب عن الكتابة المربحة في موضوعات القصة والمسرحية، وسائر الموضوعات التي تروج هذا الرواج.
وقد تقضي هذه الظروف على اللجنة أنْ تعود إلى نموذج نوبل المختار، وهو نموذج الشاعر المثالي الذي يُؤْثِرُ جمال البلاغة، وعلو العاطفة الإنسانية على بضاعة السوق.
فلعل هذا الموضوع — موضوع الشعر الإنساني البليغ — هو النموذج الوحيد الذي يرتفع فيه الأديب إلى القمة، ثم يقصر جزاؤه منه عن مقدار الجائزة بحساب المال.