المستحق بين المستحقين
يتناول البحث في استحقاق الجائزة — جائزة نوبل الأدبية — وجوهًا شتَّى من وجوه النقد والنظر، وقد تناولته هذه الصفحات من بعض هذه الوجوه، ولعله قد تبين منها كما تبين من غيرها أنَّ مسألة الاستحقاق هذه إنما هي — في النهاية — مسألة درجات وظروف، وليست من مسائل الحاسم بين الصواب والخطأ، وبين حسن التقدير وسوء التقدير.
فليس بين أدباء الجائزة جميعًا أديب واحد مجرد من مزايا الاستحقاق على اختلافها، وإنما يختلفون في درجات الاستحقاق وظروفه الموقوتة.
فيتفق في سنة من السنين أنْ يكون الأديب الذي استحقها بفنه وخدمته لقضية السلام أقل شأنًا من أديب آخر معاصر له في أمة أخرى، له من الفضل ما يعلو به على زميله المختار، سواء في تقدير العمل الفني أو تقدير العمل الإنساني لخدمة السلام، ويتفق أنْ يكون الحكم كله للظروف الموقوتة دون غيرها، ومنها اجتناب الشبهات من توجيه الجائزة سنتين أو ثلاث سنوات متواليات إلى أمة واحدة، ومنها اجتناب الأزمات الدولية التي تتقيها لجنة التحكيم، لارتباطها في مراسمها بالدولة السويدية، ومنها اغتنام الفرصة قبل فواتها، مراعاة للسن أو تقلب الأحوال الموضعية.
ويصعب على لجنة التحكيم — مع مراعاة هذه الظروف — أنْ تجد في كل سنة أديبًا عالميًّا توافرت له شروط الجائزة جميعًا في درجاتها العليا، فمن توافر له شرط البراعة الفنية قد يقصر عن المرتبة العليا في خدمة قضية السلام، ومن تم له هذان الشرطان قد يزاحمه أديب آخر أصلح منه للجائزة في ذلك العام من ناحيتها الدولية؛ لأن اختياره بعيد من مشاكل السياسة وأزماتها، ولا سيما في أوقات الحروب أو أيام المنازعات التي تنقسم فيها الدول إلى معسكرات وأحزاب.
ومن هنا يجوز كثيرًا أنْ تتجه الجائزة إلى أديب دون أدباء الطبقة الأولى في جميع المزايا والشروط، ولكن الظروف التي أشرنا إليها لا تلجئ اللجنة يومًا إلى إهمال المزايا والشروط في جميع درجاتها وطبقاتها، فمن لم يكن أديبًا من الطراز الأول في قدرته الفنية ورسالته الإنسانية فهو أديب له قيمته التي لا تنكر في كل من العمل الفني والعمل الإنساني، ولكن بغير مقارنة بينه وبين نظرائه الراجحين عليه.
لا جرم يكثر بين أدباء الجائزة من استحقها بشيء من التجاوز عن جميع شروطها، ويندر جدًّا أنْ يستحقها الأديب في سنة من السنين بغير تجاوز عن شرط من تلك الشروط، مستوفيًا لمَزِيَّةِ الفن، ومَزِيَّةِ الرسالة الإنسانية، ومَزِيَّةِ الفضيلة الخُلُقية، والشمائل الشخصية، في أرفع طبقاتها.
ولا نظن أنَّ الآراء تتفق على أكثر من أديب أو أديبين تمت لهما هذه الصفة النادرة بين جميع مستحقيها، منذ ابتدائها في أول القرن العشرين إلى هذه الآونة.
ولا نملك الفصل بين جملة الآراء في هذه الموازنة العالمية، ولكننا إذا سئلنا عن اثنين نفردهما بهذه الصفة، ونقدر الموافقة عليهما — بإجماع الآراء — لم نستطع أنْ نذكر غير اسمين اثنين: أحدهما رومان رولان، والآخر رابندرنات تاجور، وسنخصه بكلمة مستقلة في هذه الصفحات؛ لأنه يدعو إلى التعقيب من وجهة النظر الشرقية في اعتبار الشرقيين، واعتبار نقاد اللجنة ونقاد الغرب عامة، عند تمييز الأدب الشرقي في ميزان الآداب العالمية.
أما «رومان رولان» فهو مَثَلٌ نادر من أمثلة التقدير العجيب، وفي مقاييس النقد كلها، لا في مقاييس اللجنة السويدية وحدها.
لقد كان صورة حية لبطل روايته الكبرى «جان كرستوف» الذي قال فيه: «إنه كان يتلقى اللوم كثيرًا، ويتلقى الحمد كثيرًا، ولكنه كان في جميع الحالات أهلًا للتنويه والاهتمام.»
لم يأتِ زمن من الأزمان كان رومان رولان فيه مستمتعًا بالمحبة العامة بين نقاده أو قرائه، ولكن لم يأتِ كذلك زمن قط كان فيه محرومًا من التجلة والتوقير.
كان له معجبون بفنه وخُلقه ينظرون إليه نظرة التقديس.
وكان له خصوم يتفجرون غيظًا عليه، وأشد ما يغيظهم منه أنهم عاجزون عن المساس به في كرامته وأصالة فنه، مضطرون إلى الاعتراف له بالفضل والنبوغ وسلامة الضمير.
وقبل أنْ يلجئه الحقد عليه إلى اعتزال وطنه والإقامة في سويسرة، كانت الأكاديمية الفرنسية تمنحه أكبر جوائزها الأدبية.
وقد توقفت اللجنة السويدية عن منح جوائزها في سنوات الحرب العالمية الأولى، وقصرتها في تلك السنوات على أبناء الأمم الشمالية، ولكنها استثنت رومان رولان — وحده — فمنحته جائزتها بعد اشتعال الحرب العالمية بسنتين.
ومن عجائب التقدير في شأنه أنه كان عُرْضةً للحنق العنيف عليه من الفرنسيين والألمان على السواء، مع أنه هجر بلاده أثناء الحرب؛ لأنه لم يميز في توجيه دعوته إلى السلام بين هؤلاء وهؤلاء.
ومثله في العجب أنْ نعرض أسماء مؤيديه، ومحبيه من أقطاب الأدب في الأمم الأوروبية، ومنهم أناطول فرانس مواطنه الساخر، وجبرائيل دانتزيو الإيطالي المتهجم، وستيفان زفايج النمسوي المطرود من وطنه، وتولستوي الحكيم الروسي، ومكسيم جوركي رائد الثورة الروسية، وغاندي قديس الهند، والفريقان المتعارضان في الأكاديمية السويدية.
وربما كان أعجب من ذلك تعدد الجوانب التي أحاط بها في تراجمه ودراساته، بين النحاتين والموسيقيين والسياسيين والثائرين، وبين المرضِيِّ عنهم والمغضوب عليهم من رجال الدين.
سر هذا العجب في نظرات الناس إليه وفي نظرته هو إلى الناس، خصلةٌ واحدة من أشرف الخصال وأندرها في بني الإنسان: وهي الإخلاص المحض، الذي لا تشوبه شائبة، ولا ترتقي إليه المطاعن والأكاذيب، فمهما يبلغْ من حقد المحنقين عليه فليس في وسعهم أنْ يتهموه، وإذا وسعهم أنْ يتهموه لم يجدوا من يصدقهم، ولا من يستند في تصديقه إلى سند مقبول.
وكان إخلاصه لفنه كإخلاصه لعقيدته، بل كان فنه عقيدة من عقائد الأخلاق، وكانت عقيدته فنًّا من فنون الجمال.
كان إنسانًا قبل أنْ يكون فنانًا، وكان المثل الأعلى للإنسان هو مناطَ الإيمان والرجاء في عقله وقلبه: يرتفع به من حضيض الحيوانية المادية، لينزع به إلى آفاق البطولة والفداء؛ لأن إنفاق العمر في الحياة الحيوانية مسخ وتشويه، وبذل العمر فيما يعلو بالإنسان عن مراغة الحيوان هو الجمال.
وقد سلمت غيرته الإنسانية من الآفات التي تبتلى بها الغيرة في كثير من الناس، ونعني بها آفات الحرج والضيق، أو آفات الحماسة الهوجاء، أو آفات التعصب والصرامة، فلم يكن إدراكه لعظمة البطولة في النفس الإنسانية ليحول دون إدراكه لضريبة الضعف التي لا تنجو منها نفس من النفوس، ولم يكن إعجابه بقوة البطل ليحول دون عطفه على موطن الضعف فيه.
وبهذه السجيَّة السمْحة صور لقرائه أبطال التاريخ كما صور أبطاله وبطلاته في قصص الخيال، فليس بين أبطال الواقع وأبطال القصة المؤلفة مخلوق آدمي يتجرد من صلة العطف بيننا وبينه بما يستحقه من الإعجاب، أو يستحقه من العطف والمعذرة.
قالت الأكاديمية السويدية في أسباب ترشيحه: إنها رأت منحه الجائزة «تحية لنزعته المثالية العالمية في أعماله الأدبية، وتقديرًا لعاطفته الكريمة، وحبه للحق في تصويره للنماذج المختلفة من الشخصيات الإنسانية.»
وربما كانت مقدرته القصصية في كتابة الملاحم كافية وحدها لاستحقاقه الجائزة من الوجهة الفنية؛ لأنه ألَّف أكبر الملاحم القصصية في عصره: وهما قصة جان كرستوف في عشرة أجزاء، وقصة الروح المسحور في سبعة أجزاء، ولكنه أضاف إلى هذه المقدرة في فن القصة مقدرة مثلها في فن المسرح، ومقدرة تفوقها في فن التراجم والسِّيَر، ودراسة التاريخ الذي يشمل نقد الأدب والفنون الجميلة، كما يشمل نقد العقائد والمذاهب الأخلاقية.
وربما كان توحيده لمشارب الأذواق في الفنون الجميلة كافيًا وحده للاعتراف له بفضل الدعوة إلى الأخوة الإنسانية في عالم الجمال وعالم الروح، ولكنه أضاف إلى هذه الرسالة الروحية رسالة عملية في خدمة السلام بكتاباته الصريحة التي عرضته للنقمة في وطنه وغير وطنه، وباشتغاله المباشر بأعمال الصليب الأحمر وأعمال الوساطة الجريئة لتمهيد أسباب الصلح بين المتقاتلين.
وربما كانت آراؤه وحدها كافية لتقديره من وجهة الفن ووجهة التفكير، ولكنه أضاف إلى ذلك مثالًا عاليًا من الشمائل الشخصية قلما يُؤْثَر عن أصحاب الآراء في حياتهم الخاصة.
وإذا انعقدت المقارنة الوافية بين رولان وكبار المستحقين للجائزة من أبناء وطنه، ظهرت له هذه المَزِيَّةِ الكبرى التي يسمى من أجلها بالمستحق بين المستحقين.
فاللجنة السويدية قد تجاوزت لأناطول فرانس عن شرط التفاؤل في الإيمان بالمثل العليا …
وتجاوزت لأندريه جيد عن شرط الإيمان بحقائق الحياة؛ لأنه يلخص فلسفته كلها في قوله الجامع عن الحياة، وهي أنها لا تعطينا حقائق نصدقها، ولكنها تعطينا أشياء نحبها ونتعلق بهواها.
ولكنها لم تتجاوز لرومان رولان عن شرط من شروط الفن، ولا من شروط الأخلاق، ولا من شروط الرسالة الإنسانية، ولم تستطع أنْ تكرر ذلك أكثر من مَرَّةٍ أو مرتين.
ومن هنا تبدو لنا صعوبة النجاح في تحقيق الشروط العالمية، إلا مع التسليم فيها بفوارق الدرجات والظروف.