تاجور
تاجور شاعر الهند الأكبر، هو — بلا خلاف — أحد الأفذاذ العالميين القلائل، الذين استحقوا جائزة «نوبل» بجميع شروطها، وفي مقدمتها الشروط المثالية، أو الشروط الإنسانية.
وقد رأينا في مناسبات كثيرة أنَّ لجنة «نوبل» تجاوزت عن الشرط المثالي أحيانًا مع كثير من نوابغ الأدباء، فلم يكن أدباؤها جميعًا يدعون إلى المثل الأعلى الرفيع، ولم يكن هؤلاء الأدباء جميعًا ممن يخدمون قضية السلام، أو قضية الإخاء الإنساني في العالم بأسره، بل لم يكن هؤلاء الأدباء جميعًا متفائلين مؤمنين بصدق الرجاء في مستقبل بني الإنسان، ولكنَّ اللجنة كانت تضطر — في بعض السنين — إلى التجاوز عن هذه المثالية؛ لصعوبة وجودها في عصور الأزمات الدولية والمنافع الواقعية، مستعيضة عنها برعاية المثل الأعلى في مطالب الجمال الفني والذوق السليم.
وقد ذكرنا — فيما تقدم — اسم «رومان رولان» مثلًا فريدًا للذين استحقوا الجائزة بجميع شروطها، بل استحقوها بهذه الشروط في حياتهم الشخصية، كما استحقوها في حياتهم الفكرية والاجتماعية، ونذكر الآن اسمًا آخر يضارع اسم رومان رولان في هذه الخصلة وهو اسم تاجور.
كان فن تاجور وحده كافيًا لاستحقاق الجائزة في أرفع درجاتها؛ لأنه كان واحدًا من الآحاد القلائل الذين استطاعوا أنْ يجمعوا بين البساطة والعمق في المنظوم والمنثور، وقد جمع بينهما في الشعر الغنائي، كما جمع بينهما في شعر القصة والملحمة، وكانت له — إلى جانب الشعر — مشاركةٌ فى كتابة القصة القصيرة، والقصة المطولة، وكانت له مشاركة مثلها في مطالب الفلسفة والحكمة ومقاصد الرأي والهدايا الخلقية.
أما إيمانه بالمثل العليا في معتقداته وأفكاره، فهو أكبر وأقوى من أنْ يكون إيمانَ تفكير أو إيمان دراسة، إنما هو سليقة مطبوعة يشع منها الإيمان كما يشع النور من الكوكب الساطع، أو كما يشع العطر من الزهرة الزكية، وكانت حياته الشخصية تطبيقًا عمليًّا لإيمان وجدانه وضميره، بل كانت حياة كل إنسان عند آية من الآيات الكونية على رجاء الله، وهو القائل «كل مولود جديد يصل إلى عالمنا هذا هو آية حية تقول لنا: إنَّ الله لم ييأس من بني الإنسان.»
عقيدته في الله هي عقيدة المحبة التي تتسع لجميع خلائق الله، وهي ترجمةٌ هندية لمذاهب حكيمنا محي الدين بن عربي، حيث يقول:
ومذهب تاجور في سماحة القصيدة كهذا المذهب الصوفي بلفظه ومعناه، ولعله اطلع على مثله في منظومات أستاذه الشاعر «كبير» الهندي المسلم، الذي تتلمذ له نخبة من شعراء الهند وشاعراتها البرهميين والبوذيين.
ولقد كانت سماحته الروحية أوسعَ أفقًا، وأعمق قرارًا من سماحة أولئك المفكرين الذين اجتهدوا في توحيد الأديان؛ أو في التقريب بينها للتأليف بين شعائرها ومراسم عباداتها؛ إذ كان تاجور يؤمن بأن الناس قاطبةً أهلٌ لمحبته، بغير حاجة إلى إلغاء الفوارق بينهم لاستحقاق هذه المحبة.
ولما حضر إلى القاهرة زاره بعضُ إخواننا من دارسي الحكمة والفلسفة، نذكر منهم الأستاذين مصطفى عبد الرازق، ومنصور فهمي، وسألوه رأيه في تأليب الجهود بين حكماء الشرق لتوحيد العقائد الدينية وإبطال الفوارق المذهبية، عملًا على التخلص من آفة التعصب التي تمزق أوصال الوئام بين شعوب المشرق.
فنظر إليهم مليًّا، ثم قال مبتسمًا: وهل ترونهم يعجزون عن الحب، وهم على غير دين؟ إنَّ الله أعظم من أنْ تحصره عقيدة واحدة، وإنَّ عباد الله يتجددون ويتكاثرون، ولكنَّ الله جل وعلا «محبته» شاملة لهم أجمعين.
فالسماحة المثالية لم تتوافر في أحد ممن أجازتهم لجنة نوبل كما توافرت في الشاعر الشرقي الحكيم، ولم يكن استحقاقه لها بالشروط الفنية دون استحقاقه لها بشروطها الفنية: شروط البلاغة والبيان.
ومع هذا وقع اختيار تاجور موقع المفاجأة عند الكثيرين، وقد كان أوضحهم عذرًا أولئك الذين لم يفهموه ولم يقدروا على إدراك مزاياه، أمَّا الذين فهموا فضله وأدركوا حظه في البلاغة والبيان، فربما كانت لجنة «نوبل» هي المسئولة الأولى عن استغرابهم لفوزه بالجائزة، التي لم يقربها من قبله أحد من غير الأوروبيين.
فقبل تاجور لم يخطر للجنة نوبل أنْ تبحث عن مرشح لجوائزها في غير القارة الأوروبية، ولم ترشح لها أحدًا من أبناء القارتين الأمريكتين، ولا من أبناء سائر القارات.
فلما جاءها ترشيح تاجور بحثت هذه المسألة لأول مرة: هل ترفض منحه الجائزة؛ لأنه لا ينتمي إلى القارة الأوروبية؟
لا بدَّ لها من نصٍّ في وصية نوبل تبني عليه هذا القرار، وهي لم تجد هذا النص في الوصية، ولم تجد قرينةً تدل عليه، فتنبهت لأول مرة إلى جواز منح الجائزة غير الأوروبيين؛ وكان الحكيم الشرقي الكبير أول مصحح لذلك الوهم الذي غلب على جو اللجنة بحكم العادة؛ قبل أنْ يدعوها داعي العمل إلى إعادة النظر فيه.
وكأنما أرادت اللجنة أنْ تكفر عن وهمها الأول، فكانت مباحثها كلها في أمر تاجور محاولات متلاحقةً لرفع الموانع الموهومة التي تقام من هذا القبيل، ورفضت كثيرًا من وجوه الاعتراض التي تقدمت إليها لتنحية تاجور وإيثار غيره من المرشحين عليه.
قال أحد الأعضاء في تقريره: إنَّ الجمال في معاني تاجور قد يكون ميراثًا قوميًّا من الشعر الصوفي في وطنه، وليس الشعر الصوفي في تاريخ الهند بقليل، فإذا شاءت اللجنة أنْ تتحرى الإنصاف فقد يطول الوقت قبل الجزم بأصالة الشاعر فيما نَظَمَ من معانيه الروحية.
وبحثت اللجنة بين أعضائها فلم تجد غير عضو واحد يستطيع أنْ يقرأ منظومات الشاعر باللغة البنغالية، ولم تجد غير القليل من شعره منظومًا بالإنجليزية أو مترجمًا إليها.
ووازنت اللجنة بين ترشيحات كثيرة جاءتها في تلك السنة؛ فوجدت بينها ترشيحات كثيرة من هيئات أدبية عريقة، ولم تجد غير مرشح واحد لتاجور، هو الأستاذ توماس مور أحد أعضاء الجمعية الملكية البريطانية، ولم يرشحْه باسم الجمعية، ولكنه رشحه باسمه، ولم يقدم مؤلفات الشاعر كلها، مكتفيًا بالقليل المترجم إلى اللغة الإنجليزية منها.
ورجحت — آخر الأمر — كِفَّة تاجور على سائر المرشحين، وبينهم علم من أعلام الأدب الفرنسي الحديث، هو الأديب المؤرخ الفيلسوف أميل فاجيه.
وزالت كل غرابة في هذا الترشيح بعد المفاجأة الأولى؛ لأن عبقرية الشاعر، وفضائله النفسية والفكرية قد كانت فوق منال الشبهات، ولم تلبث كتبه التي أخذت في الشيوع بعد ذلك أنْ قررت له تلك المكانة التي عمت جمهرة القراء، بعد أنْ كانت مقصورة على النقاد المتخصصين.
إلا أنَّ الغرابة لم تنتهِ عند الاعتراف بهذا الحق لتاجور، فإن السؤال الذي تتابع على كل لسان في الهند، وسائر بلاد المشرق، لا يزال حتى اليوم مترددًا متكررًا بغير جواب.
لِمَ لَمْ تعترف اللجنة بمثل هذا الحق لمواطن تاجور ونظيره في المكانة الأدبية محمد إقبال؟
لِمَ لَمْ تتكلف اللجنة في سبيل الانتباه إلى اسمه بعض ما تكلفته في إنصاف تاجور؟
إن أعضاء اللجنة قد تنبهوا إلى علاقة تاجور بتراث الشعر الصوفي في بلاده، وأن أصالة إقبال في شعر التصوف أعرق من أصالة زميله البرهمي، فيما استقاه — على الأقل — من يَنْبُوع الصوفيه الإسلامية؛ بل يظن بعض اللغويين الشرقيين أنَّ اسم تاجور نفسه قد يرجع إلى أصل عربي إسلامي؛ لأنه ينطق بالهندية «ذاكور» أو قريبًا من ذلك، وهو بمعنى الذاكرة، أو الدارس، أو الأستاذ.
ونحن لا نأخذ بهذه التأويلات، ولكننا لا نشك في مكانة إقبال الفنية إذا وزنت بموازين الأدب الروحي، كما وزنت عبقرية تاجور.
ولا يقال: إنَّ «إقبالًا» قد انقطع أو كاد أنْ ينقطع للدعوة الإسلامية؛ فإن دعوة الشاعر لنصرة دينه أو وطنه لم تكن قط حائلًا دون تقديره وتعظيمه في نظر اللجنة، وبخاصة تلك الدعوة التي تتجرد من نوازع العداء والبغضاء، وتتنزه عن عداوة الإنسان من وراء عداوة الأديان … ولقد أجازت اللجنة طبيبًا فيلسوفًا من القائمين بدعوة التبشير في القارة الأفريقية، ولم تكن جائزة الأدب، بل جائزة السلام هي التي استحقها الدكتور ألبرت شوتيزر … وهو لم يعمل قط في قضية من قضايا السلام الدولية!
على أنَّ «محمد إقبال» لم يكن معدودًا في الهند نفسها داعية إسلاميًّا يختص به المسلمون دون سائر الهنود؛ لأنه كان يدعى إلى الجامعات البرهمية للمحاضرة فيها، وكان الراجات البراهمة يستقبلونه في بلادهم ويدعونه إلى قصورهم، وفي جامعة ميسور التي زارها بدعوة من المهراجا قال أستاذ الجامعة: «إن المسلمين يقولون: إنَّ إقبالًا لهم، والحق إنَّه لنا جميعًا، ولا يخص منا جماعة أو دينًا، فإذا افتخر المسلمون بأنه أخوهم في الدين فنحن فخورون بأنه أخونا في القومية الهندية.»
وأدعى إلى العجب في التمييز بين الشاعرين المواطنين — أنَّ «تاجور» كان بحاجة إلى تنبيه من العارفين بقدره بين الغربيين، أما إقبال فقد كان غنيًّا عن التنبيه إليه في بيئات الغرب الأدبية، وفي بيئات المستشرقين المشتغلين بدراسات الإسلام، أو دراسات الشرق على العموم، وقد عُرف في إنجلترا كما عُرِفَ في ألمانيا وفرنسا، ونال لقب الفروسية من الدولة البريطانية كما ناله تاجور، ولم تنقطع أخباره عن معهد من معاهد الثقافة العليا في بلاد الشمال، وقديمًا كان ملكٌ من ملوك الشمال رائدًا مقدمًا بين رواد الاستشراق.
لقد كان تاجور أول من تأذى بهذا اللغط الذي فتحت اللجنة السويدية أبوابه، ونفذ منه أعداء السلام للإيقاع بين أبناء الأمة الواحدة، وقد تحدث تاجور بذلك في مناسبات شتى، وأشار إليه في تأبينه لزميله الكبير، حيث قال: «إن شهرة إقبال الواسعة ترجع إلى ما احتواه شعره من نور الأدب الخالد، ومما يؤسف له أنْ يضع النقاد أدبي وأدب إقبال موضع المناقشة، ويبثوا بين ذلك أغلاطهم، وهو أمر لا يجمل بالأدب الفسيح الذي يخاطب النوع الإنساني كله.»
… ثم انطوت السنون، وتجددت أسباب أخرى للقيل والقال بعد قضية إقبال وتاجور، ومهما يكن من عذر للجنة في إهمالها لإقبال قبل إجازة زميله ومواطنه، فإن الإصرار على هذا الإهمال بعد ذلك غير مفهوم.