توطئة
في السنوات الأخيرة، أحرز الباحثون تقدمًا كبيرًا في فهمهم كيفيةَ عمل الدماغ. وينطوي مجال العلوم العصبية على كلٍّ من البشائر ونُذر الخطر؛ لذا فقد زاد الاهتمام العام به زيادةً ضخمة بسبب الإمكانات التي يقدِّمها؛ وثَمة مفهومٌ محدَّد في مجال العلوم العصبية قد أسرَ مخيِّلة الجمهور، وهو مفهوم المرونة العصبية أو التغيُّر في الجهاز العصبي.
قبل ستين عامًا، كانت فكرة إمكانية تغيُّر النسيج العصبي من الأفكار المحظورة في مجال العلوم العصبية. فقد كان الاعتقادُ الواسعُ الانتشار هو أنَّ الدماغ المكتمِل النمو له تركيبٌ ثابت؛ ومن ثَم ينطبق عليه المَثل: «لا يمكنك أن تعلِّم كلبًا عجوزًا حِيَلًا جديدة». غير أنَّ هذا الاعتقاد قد انقلب في هذه الفترة بفضلِ عددٍ ضخم من الأبحاث التي توضِّح أنَّ الدماغ يمكن أن يتغيَّر، بل إنه يتغير بالفعل بطريقة أو بأخرى باستمرار على مدار الحياة؛ استجابةً لجميعِ ما نفعله وجميع الخبرات التي نمرُّ بها.
يُعَد مصطلح المرونة العصبية مصطلحًا شاملًا يشير إلى العديد من الطرق المختلِفة التي يمكن للنظام العصبي أن يتغير بها. والحق أنَّ علماء الأعصاب الذين يستخدمون هذا المصطلح للإشارة إلى مجموعةٍ واسعة من الظواهر إنما يعرِّفونه على نحوٍ غير دقيق. ويفهم عموم الناس مصطلحَ المرونة العصبية على نحوٍ خاطئ، وكثيرة هي المفاهيم الخاطئة عن ماهية المرونة العصبية وعما يمكن أن تفعله.
يلخِّص هذا الكتاب للقارئ غير المتخصص ما يتعلَّق بالمرونة العصبية من معارفَ أساسية، مع التركيز على الاكتشافات التجريبية المهمة إضافةً إلى الطرق والتقنيات المستخدمة للحصول عليها، والكيفية التي تطوَّر بها تفكيرنا عن الدماغ بمرور الوقت.
يُخصَّص كلُّ فصل من فصول هذا الكتاب لمعالجة نمط محدَّد من أنماط المرونة العصبية. وبعد تقديم رؤية تاريخية، تصف الفصولُ التغيراتِ التي تحدث خلال تطوُّر الدماغ، والتغيرات التي تحدث في أدمغةِ مكفوفي البصر والصم، وآليات المرونة المشبكية العصبية التي تمثِّل أساس التعلم، وتكوِّن خلايا جديدة في الدماغ البالغ، والكيفية التي تؤدي بها أنواع التدريب المختلفة كتعلم عزف آلة موسيقية أو تحدُّث لغة أجنبية إلى تغيير الدماغ، وكيف أنَّ المرونة العصبية تختل في حالات الإدمان والألم، إضافةً إلى التغيرات المصاحبة للمراحل المختلفة في الحياة. أما الفصل الأخير، فيلخِّص النقاط الأساسية، ويصف عددًا من أشكال المرونة الحديثة الاكتشاف، مع استكشاف بعض الأسئلة الكثيرة التي لا توجد لها إجابة بعد.
إنَّ آليات المرونة العصبية كثيرةٌ للغاية ومتنوعة، فلا يسَع المرءَ تناولُ الموضوع بأكمله في كتابٍ صغير كهذا. ومع ذلك، فمن المفترض أن يقدِّم هذا الكتاب للقارئ ملخَّصًا جيدًا عما نعرفه عن المرونة العصبية، مع الفهم الراسخ لبعض المبادئ العلمية في مجال علم الأعصاب، والتعرُّف على التطورات التاريخية المهمة في المجال والاطلاع بعض الشيء على عملية تطور العلم.