إصابة الأعصاب وتلف الدماغ
تحدُث أنواعٌ مختلفة من تغيُّرات المرونة العصبية استجابةً لتضرُّر الأعصاب وتلف الدماغ الناتج عن السكتات الدماغية وغيرها من الإصابات. تؤدي إصابة الأعصاب إلى تغيراتٍ في الألياف العصبية التالفة، إضافةً إلى إعادة التنظيم الوظيفي للدوائر العصبية في كلٍّ من الدماغ والحبل الشوكي. ويمكن لهذه الآثار أن تستمر شهورًا أو سنوات. إنَّ التغيرات التي تحدث بعد إصابة الأعصاب أو البتر لا تؤدي إلى درجةٍ ملحوظة من استرداد الوظيفة، لا سيما إذا كانت الإصابة خطيرة، بل يمكن أن تكون غير مناسبة فتسبِّب ألم الاعتلال العصبي، أو الألم والأحاسيس «الوهمية» التي يختبرها من تعرَّضوا للبتر. على العكس من ذلك، يمكن لتغيرات المرونة التلقائية التي تحدث بعد الإصابة بسكتةٍ دماغية أن تساعد الدماغ في التعويض عن التلف الذي حدث.
تُجرى الأبحاث المتعلقة بالتغيرات الدماغية التي تحفِّزها الإصابة على الفئران والقردة والبشر. في حالة الفئران، تركِّز هذه الأبحاث بدرجةٍ كبيرة على منطقة في الدماغ تُدعى بالقشرة البرميلية، وهي تستقبل المعلومات الحسية من الشوارب. وفي حالة القردة والبشر، تركِّز هذه الدراسات على القشرة الحسية الجسدية الأساسية التي تستقبل المعلومات الحسية من سطح الجلد، والقشرة الحركية الأساسية التي تنفِّذ الحركات من خلال إرسال أوامر إلى العضلات من خلال الحبل الشوكي. يُعتقد أنَّ المناطقَ الحسية في الدماغ تترتَّب على نحوٍ طوبوغرافي. فعلى سبيل المثال، نجد أنَّ المعلومات الحسية الواردة من مناطقَ متجاورة على سطح الجلد، تُعالَج في مناطق متجاورة على القشرة الجسدية الحسية، بينما تُنظَّم مجموعات العضلات المتجاورة من خلال خلايا تقع في مناطقَ متجاورة من القشرة الحركية الأساسية. وبهذه الطريقة، «يُخطَّط» الجسد على سطح القشرتين: الحسية الجسدية، والحركية.
يتحدَّد حجم هذه التمثيلات القشرية بناءً على عدد النهايات العصبية أو العضلات الموجودة في الجزء المناظر من الجسد، وليس بالحجم الفعلي لهذا الجزء من الجسم. ولهذا؛ تُخصَّص الغالبية العظمى من النسيج العصبي في القشرة الحسية الجسدية الأساسية إلى معالجة المعلومات الواردة من الوجه وإرسال الأوامر إليه، وتُخصَّص غالبية النسيج العصبي في القشرة الحركية لمعالجة المعلومات الواردة من اليدين وإرسال الأوامر إليها؛ وهما الجزءان الأكثر حساسيةً ووضوحًا من بين أجزاء الجسم. يمكن تغيير هذه التمثيلات القشرية بالخبرة؛ إذ تتضاءل حين تُحرَم من المعلومات الحسية أو تتمدد بزيادة استخدام الجزء المناظر لها. تُعرَف هذه العملية بإعادة التخطيط، وهي تحدث بعد التعرُّض لإصابةٍ عصبية أو سكتة دماغية، ويمكن أحيانًا تحفيزها صناعيًّا باستخدام وسائل تحفيز الدماغ غير الجراحية لتيسير إعادة التأهيل.
إصابة الأعصاب المحيطية
أتت بعض الأدلة المبكِّرة المباشرة على المرونة العصبية من الدراسات التي أُجريَت في أوائل ثمانينيات القرن العشرين على الحيوانات بشأن إصابة الأعصاب. حين يُقطَع العصب الأوسط في ذراع أحد القردة، تُحرَم المناطق المناظرة له في القشرة الحسية الجسدية من المدخلات، لكن تلك المناطق لا تبقى خاملة. ففي الأسابيع التالية للإصابة، تعيد القشرة الحسية الجسدية تنظيمَ نفسِها كي تتمكَّن مناطق النسيج العصبي المجاورة من التمدد والوصول إلى المنطقة المحرومة.
تحدث إعادةُ التنظيم في القشرة الحركية بطرقٍ مشابهة، لكن النتائج تختلف. ففي الفئران، عادةً ما يتحكَّم العصب الوجهي في حركات الشوارب، وحين يُقطع تظل المنطقة الحركية المناظرة له خاملةً في البداية ولا تستجيب إلى التحفيز الكهربي. غير أنه بعد بضع ساعات، ينتج التحفيز تقلصات في الساعد والجفن.
بعد فترةٍ تتراوح من شهرين إلى ثمانية شهور من تعرُّض قِرد لبترِ أحد أصابع يدَيه، فإنَّ بقعة القشرة الحسية الجسدية التي كانت تستجيب قبل ذلك إلى الإصبع المقطوع، تستجيب بدلًا من ذلك عند لمس الأصابع المجاورة.
يمكن للباحثين الآن الكشفُ عن مثل هذه التغيرات التي تحدث في الدماغ البشري، باستخدام تقنيات تحفيز الدماغ غير الجراحية مثل التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة والتحفيز بالتيار المباشر عبر الجمجمة. تبدأ هذه التغيرات في الحدوث بعد دقائق من الإحصار المؤقت للعصب، وبعد أسابيعَ من إصابة الحبل الشوكي. وفور إحصار العصب بمخدرٍ موضعي على سبيل المثال، تتوقف بقعة القشرة الحركية المناظرة للمنطقة المخدَّرة عن العمل، وتبدأ المناطق المجاورة من زيادة خرجها إلى الخلايا العصبية الحركية في الحبل الشوكي. غير أنَّ هذا التأثير قابل للانعكاس، ويختفي بعد عشرين دقيقة تقريبًا من زوال مفعول المخدر.
يعتقد العلماء أنَّ شعورَ الطرف الوهمي يحدث جزئيًّا على الأقل بسبب إعادة التنظيم القشري التي تحدث في أعقاب البتر.
بالرغم من هذا، من الصعب تفسير إعادة التنظيم القشري في سياق الآليات الخلوية؛ إذ إنَّ تقنيات تصوير الدماغ لا تزال غير حساسة بما يكفي على الإطلاق للكشف عن مثل هذه العمليات لدى البشر. لكن الدراسات التي تُجرى على الحيوانات تمنحنا فكرةً جيدة عما يُحتمَل أنه يحدث. توضِّح هذه الدراسة أنَّ الخلايا العصبية التي تُقطَع أليافها تقلِّص زوائدها الشجيرية بسرعة، حتى تصبح منفصلة عن النهايات الطرفية العصبية المرتبطة بها، ويقل العدد الإجمالي للمشابك العصبية التي تستقبلها الخلية. وفي موقع الإصابة، يمكن لأي ألياف محورية عصبية سليمة أن تولِّد فروعًا جديدة تنمو في المنطقة التالفة، ويمكن لعدم التطابق بين الألياف وأهدافها الجديدة أن يسبِّب ألمَ الاعتلال العصبي.
السكتة الدماغية
يوجد العديد من الدراسات التي فحصت إعادةَ التنظيم القشري الذي يحدث بعد سكتة دماغية. تُعَد السكتة الدماغية من الأسباب الرئيسة للوفاة والإعاقة، وهي عبارة عن مقاطعة إمداد الدم الذي يتلقاه الدماغ بسبب انسداد الأوعية الدموية أو تلفها؛ مما يؤدي إلى موت الخلايا المحرومة من الأكسجين. إنَّ الفصَّين الأمامي والصدغي على وجه التحديد شديدا التأثُّر بالحرمان من الأكسجين؛ ولهذا غالبًا ما تدمِّر السكتات هذه المناطق مما يؤدي إلى ظهور الأعراض المميزة للسكتات مثل عيوب الكلام وضعف العضلات أو الشلل الكامل لأحد جانبَي الجسم. ولأنَّ النصف الأيسر من الدماغ يتحكم في النصف الأيمن من الجسم، والعكس أيضًا صحيح، فإنَّ السكتة تشل الأطراف الموجودة على الجانب المقابل للتلف.
وفي أيٍّ من الحالتين، يمكن إعادة تأسيس وصلة عصبية تعمل بين الدماغ والحبل الشوكي. بالرغم من ذلك، فهذه المسارات الجديدة ليست بالمباشرة. ففي الظروف المعتادة، تمرُّ معلومات الحركة التي يرسلها الدماغ إلى الأطراف عبر مشبك عصبي واحد، وهي الوصلة الموجودة بين عَصَبونات القشرة الحركية الأساسية والعَصَبونات الحركية في الحبل الشوكي. أما المسار الحركي الجديد، فيتضمن المزيد من الوصلات، وهي تنشِّط مجموعات كاملة من العضلات لا ألياف عضلية مفردة. ولهذا، فبالرغم من أنها قد تؤدي إلى تحسُّن عام في الوظائف الحركية، فمن الممكن أن يظل المريض المتعافي يعاني صعوبةً في تحريك أصابع مفردة على سبيل المثال.
لا تزال أسباب هذه النتائج المختلفة غير واضحة، لكن من المحتمل أنَّ العوامل الجينية والبيئية لها دور في ذلك. كما أنَّ توقيت التشخيص والعلاج مهمَّان للغاية أيضًا؛ ذلك أنَّ نقص الأكسجين الذي ينتج عن السكتة الدماغية يقتل الملايين من خلايا الدماغ في كل دقيقة؛ لذا يحد التدخل السريع من حجم التلف، وقد صار من الواضح الآن أنه كلما بدأت إعادة التأهيل في فترةٍ أبكر تحسَّنت النتيجة للمريض.
ثَمة نهج مبشِّر في إعادة تأهيل مرضى السكتة الدماغية يتضمَّن تغيير توازن النشاط بين نصفي الدماغ الأيسر والأيمن. ففي المعتاد، يتبادل النصفان تثبيطَ أحدهما الآخر من خلال أليافٍ تقطع الدماغ في منطقة الجسم الثفني من أجل تنسيق الحركات بين الأطراف الأربعة كلها. بعد فترة قصيرة من الإصابة بسكتة، يمكن للنصف غير المصاب أن يصبح أكثرَ نشاطًا؛ ربما بسبب انخفاض التثبيط المتبادل من الجانب المتضرر. وبالطريقة نفسِها، يمكن لزيادة نشاط النصف التالف أن تتدخَّل في إعادة التأهيل.
يمكن الإخلال بهذا التوازن عن طريق التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة، الذي يُستخدم فيه سلك مغناطيسي لتوصيل مجالات مغناطيسية إلى جزء محدَّد في الدماغ. تولِّد القوة المغناطيسية مجالًا كهربيًّا يستمر حتى جزء واحد من العشرة على الثانية؛ مما يزيد من نشاط الخلايا الموجودة في المنطقة المستهدفة أو يُثبطه. بدأت الدراسات تُظهِر أنَّ استخدام التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة للإخلال بنشاط نصف واحد من الدماغ يمكن أن ييسر التعافي، لكن النتائج لا تزال متفاوتة حتى الآن. في بعض المرضى، يؤدي تثبيط النشاط في الجانب غير المتضرر من الدماغ إلى تحسين الوظائف الحركية في الأطراف المتضررة، لكن ذلك لا يحدث مع بعض المرضى الآخرين.
يدرُس بعض الباحثين أيضًا ما إذا كان من الممكن استخدام تقنيات تحفيز الدماغ غير الجراحية في إعادة تأهيل وظائف اللغة أم لا. تتموضع وظائف اللغة لدى معظم الأشخاص في مناطقَ محدَّدة من الفصَّين الجبهي الأيسر والصدغي الأيسر، ويُقال إنَّ النصف الأيسر من الدماغ هو الذي يتحكم فيها (انظر الفصل الأول). كثيرًا ما تتلف هذه المناطق نتيجة السكتات الدماغية؛ لذا يعاني ما يقرب من ٢٠٪ إلى ٤٠٪ من الأشخاص تقريبًا اضطرابات في اللغة بعد الإصابة بسكتة دماغية.
يظهر أنَّ المرونة التعويضية في شبكات اللغة بالدماغ شبيهة بما يُرى في المسارات الحركية. يمكن أن يؤدي تلف مراكز اللغة بالدماغ إلى استخدام المناطق المحيطة في النصف الأيسر التالف مع مراكز اللغة الخاملة في النصف الأيمن، أو كليهما. ولأنَّ وظيفة اللغة عادةً ما تتوطَّن في النصف الأيسر، ولأنَّه من المعتقد أنَّ توقُّف التثبيط المتبادل بين النصفين ييسِّر التعافي، فقد يكون التدخل في توازن النشاط في النصفَين الأيسر والأيمن هو الحل لاستعادة اللغة.