رحلة جوية طويلة
«آخر اليمين، بعد آخر ما ينتهي إليه العالم قبل حلول الصباح.»
تذكرت ويندي هذا العنوان الذي أخبرها بيتر به، لكن بدا لها أن الطيور نفسها إن حملت الخرائط واستعانت بها لن تجد نيفرلاند بهذه الإرشادات! من ثم لم يكن أمامها هي ومايكل وجون خيار سوى اتباع بيتر والثقة به تمامًا.
طار بهم بيتر في دوائر، مارًّا بقمم الكنائس، وأبراج الساعة أو أي بناء مرتفع آخر راق له، لكن جون ومايكل لم يمانعا هذا، فقد تسليا كثيرًا؛ فطارا فوق المحيط، وتسابقا بين أمواج البحار، أما ويندي فشعرت بالقلق؛ إذ بدا لها أنهم يطيرون منذ أيام، هل سيطيرون إلى الأبد؟ بدا هذا محتملًا.
لكن على الأقل بعث فيها الاطمئنان أن بيتر أطعمهم، رغم أن وسيلته لذلك كانت غريبة؛ كان يطارد الطيور التي تحمل طعامًا في فمها ويسرق منها الطعام، فتسرق الطيور الطعام منه، ويستمر هذا إلى أن ينجح أحد الطرفين في التهام الطعام سريعًا.
أسوأ ما في الأمر هو أن الأطفال أخذوا يشعرون بالنعاس بشدة. كان أحدهم أحيانًا يغط في النوم أثناء الطيران فيهبط كالصخر الثقيل تجاه أمواج البحر العاتية.
لكن كانت الأمور تنتهي على ما يرام دائمًا، فكان الأطفال الآخرون يصيحون في النائم: «استيقظ.» أو يهبط بيتر في اللحظة الأخيرة لينقذ من يسقط، لكنَّ كلًّا منهم اقترب إلى حد مخيف من السقوط في الماء عدة مرات.
ظنت ويندي أن بيتر قد يتركهم في مرة من المرات ليسقطوا في الماء كي يتسلى، فهذا سيكون مشهدًا مشوقًا.
من هنا همست إلى جون: «لا تغضبه، ماذا سنفعل إن تركنا؟»
– سنعود.
– نحن لا نعرف طريق العودة.
– إذن سنمضي في طريقنا.
– نحن لا نعرف إلى أين نحن ذاهبون أيضًا، بل إننا في الواقع لا ندري كيف نكف عن الطيران.
قلب جون الأمر في رأسه؛ فوجد ويندي محقة، لم يخبرهم بيتر كيف يكفون عن الطيران.
فقال لها: «في أسوأ الأحوال، يمكننا أن نمضي في طريقنا، فالأرض برغم كل شيء مستديرة. سنعود في نهاية المطاف إلى نافذة حجرة نومنا، أليس كذلك؟»
لكنهما لم يجدا بيتر، على كل هذا لم يكن أمرًا غير معتاد؛ فقد تعود أن يحلق عاليًا ليخاطب نجمة ما، أو يهبط ليتجاذب أطراف الحديث مع حورية ماء عندما يصيبه الضجر أو يلهيه أمر ما، ودائمًا يعود، لكن بدا أحيانًا أنه لا يذكر الأطفال إلا بالكاد، وكأنه مضى إلى مغامرة أخرى.
قالت له ويندي تذكره بها عندما عاد إليها ذات مرة وحدق فيها في ذهول: «أنا ويندي.»
فأجابها: «أعلم هذا.» لكن ويندي كان تعلم أنه يكذب.
تعلم الأطفال في نهاية الأمر كيف ينامون بدون أن يكفوا عن الطيران، لكن بيتر وجد هذا مملًا فكان يصرخ بأي حال كي يوقظهم ليس إلا لمشاهدتهم وهم يهبون من نومهم فزعين.
في النهاية، وصل الأربعة إلى نيفرلاند. بدا لويندي أن الفضل في ذلك يعود إلى الحظ أكثر مما يعود إلى إرشادات بيتر، وربما كانت الجزيرة نفسها تبحث عنهم.
قال بيتر: «ها هي الجزيرة.»
وأشار صوب الاتجاه الذي سطع فيه ضوء الشمس، التي أرسلت نحو مائة شعاع ذهبي يشير كالسهم إلى الجزيرة.
صاح جون: «انظروا، ها هي الشعاب المرجانية والكوخ الصغير والكهف، وبحيرتي التي تحلق عندها طيور النحام.»
وقال مايكل: «وها هي العجوز الضئيلة المحدبة والسلاحف التي تضع البيض والأقزام التي تنسج، وطائر النحام الذي تطير فوقه البحيرات في أحلامي!»
ونادت ويندي ذئبها الأليف قائلة: «مرحبًا، أيها الذئب الصغير، مرحبًا أيها القارب.»
شاهد الأطفال أيضًا كابوس اليوم الأول من المدرسة، وكابوس محاولة عدم الضحك في الكنيسة، واختبارات النحو المفاجئة التي لم يستذكروا لها، والنقود التي تتركها جنية الأسنان، وحلوى البودينج بالشوكولاتة اللذيذة. كان كل شيء مألوفًا جدًّا لهم ….
مما أزعج بيتر بعض الشيء، فقد علموا الكثير عن الجزيرة؛ وقد أراد أن يبدو الوحيد الذي يعرف كل شيء.
غربت الشمس بعد وقت قصير، وشعر الأطفال بالخوف، فشعر بيتر بأنه أفضل حالًا؛ لأن الأطفال صاروا بحاجة إليه مجددًا.
تحت بيتر والأطفال، برزت ظلال وضوضاء غريبة. لم يكن هناك في السماء الممتدة بلا آخر مصابيح ليلية أو نانا لتحرس الأطفال؛ كانوا وحدهم ….
فالتفوا حول بيتر ليحتموا به. كانوا يطيرون على ارتفاع منخفض للغاية حتى إنهم لامسوا مياه المحيط أحيانًا. وسيطر مناخ غريب، شعروا به جميعًا ….
قال بيتر: «هم يرفضون هبوطنا.»
فهمست ويندي وهي ترتجف: «من؟»
إلا أن بيتر أبى أن يجيب، وقال بدلًا من ذلك: «هذه الجزيرة يملؤها القراصنة، وقائدهم هو الكابتن هوك؛ أعظمهم.»
تحمس الأطفال من قبل لفكرة القراصنة، لكن لما أخبرهم بيتر بوجودهم أخذ مايكل في البكاء، وازدرد جون لعابه.
فأضاف بيتر: «لم يعد الكابتن هوك بالطبع الرجل العظيم نفسه، والفضل في هذا يعود لي؛ ففي معركتي الأخيرة معه بترت يده اليمنى بسيفي، واليوم ليس لديه أصابع بل مخلب حديدي. إن التقيتموه اتركوه لي. هل فهمتهم؟»
فقال جون: «حسنًا.»
فقال بيتر: «لا تقل (حسنًا)، قل (سمعًا وطاعة يا سيدي)، كل من يتبعني عليه أن يقول هذا.»
عندئذ فطن جون إلى أن ضوء تينكر بيل قد ييسر للقراصنة رؤيتهم.
فصاح الأطفال: «مرها بالرحيل على الفور.» لكن بيتر رفض.
وقال: «إنها تشعر بالخوف والوحدة.»
فتوصل الأربعة إلى حل وسط؛ سيحمل جون قبعته في يده ويحمل بداخلها تينك. أفلح هذا لبعض الوقت، إلى أن شعر جون بالتعب، فحملت ويندي القبعة.
فأصدرت تينك التي ظلت تشعر بالغيرة من ويندي رنينًا يقول: «لا تحسبي أن هذا يغير ما بيننا، هذا من أجل بيتر، ليس إلا.»
فجأة شق صوت دوي مدفع سماء الليل، وترددت أصداؤه بين الجبال التي غشيها الظلام.
فصاح جون: «هذا مدفع القراصنة! لقد أطلقوا النيران نحونا! هل أصيب أحد؟»
لكن، مهلًا … أين بيتر وويندي؟
حمل الانفجار بيتر إلى نقطة نائية من البحر، وعصف بويندي وتينك عاليًا في السماء.
لم تكن تينك جنية شريرة، لكن أجساد الجنيات صغيرة جدًّا حتى إنها لا تتسع في المرة إلا لشعور واحد، وعندما كانت بجوار ويندي كان جسدها لا يتسع لاحتواء غيرتها.
فلما سنحت لها الفرصة للتخلص من ويندي، أشارت لها باتباعها؛ وما كان أمام ويندي وهي وحدها في السماء إلا أن تتبعها؛ فطارت خلفها مؤتمنة إياها.