بحيرة حوريات الماء
يرجح أنه كان على ويندي أن توقظ الأطفال على الفور، إلا أنها كانت برغم صغر سنها أمًّا، والأطفال أكلوا طعامهم منذ أقل من نصف ساعة؛ لذا لم توقظهم، حتى عندما تناهى إلى سمعها صوت تجديف آت من بعيد، مع أنها شعرت بخوف شديد حتى إنه بدا لها وكأن قلبها سيقفز من محجره؛ لذا وقفت تحرس الأطفال ريثما يهضمون الطعام بدلًا من إيقاظهم.
أما بيتر — الذي كان بدوره يغفو على الصخرة — فقد شتم رائحة الخطر، حتى أثناء نومه، فلما سمع صوت التجديف، هب على قدميه وقد تنبهت حواسه وأيقظ الصبية بسرعة.
لم يهمس إلا بهذه الكلمة المخيفة: «قراصنة» ليجمع الكل حوله.
وبعدها صاح في الأطفال: «اغطسوا الآن.»
ركض الجميع في لمح البصر، ونزلوا الماء، وحاولوا قدر استطاعتهم الاختباء، فيما توقف زورق القراصنة عند الصخرة التي جلس عليها الأطفال قبل وقت قليل. كان على الزورق سمي وستاركي وأسيرتهما الأميرة تايجر ليلي.
أسرها القراصنة أثناء محاولتها التسلل إلى متن سفينتهم وهي تحمل سكينًا، فقيدوا يديها وكاحليها، وقرروا تركها عند الصخرة لتغرق عندما يأتي المد ويغمر الصخرة.
لكن تايجر ليلي لم تتوسل، فلأنها كانت أميرة بمعنى الكلمة جلست منتصبة تحدق في سمي وستاركي بإباء وشموخ.
صرخت ويندي من النقطة التي اختبأت عندها بالبحيرة؛ إذ لم تشهد من قبل مثل هذه القسوة، ومثل هذه الشجاعة.
أما بيتر فقد شهد كلا الأمرين كثيرًا، لذا لم يتأثر كثيرًا بهما، إلا أنه كره الظلم، وثمة فردان هنا في مواجهة فرد واحد. كان من السهل على بيتر أن ينتظر إلى أن يرحل القراصنة وينقذ تايجر ليلي، لكنه لم يختر قط الحلول السهلة.
من هنا صاح مقلدًا صوت الكابتن هوك قدر استطاعته: «أيها الأوغاد.»
فسأل سمي وستاركي وهما يحدقان في الظلام: «حضرة القائد؟»
قال ستاركي: «لا بد أنه يسبح قادمًا إلينا.»
فصاح سمي: «سنضع تايجر ليلي عند الصخرة.»
فقال بيتر: «أطلقا سراحها، وإلا سأغوص بخطافي في جسديكما.»
بدت هذه التعليمات غير منطقية لسمي وستاركي، لكنهما تخوفا من عصيان قائدهما، من ثم قطعا الحبال التي قيدت تايجر ليلي، فانزلقت بنعومة وسقطت في البحيرة وكأنها ثعبان ماء.
ثم صرخ صوت فجأة: «انتباه.» لكن هذه المرة كان هذا صوت هوك الفعلي الذي بدا أنه بدوره في الماء، يسبح متجهًا نحو القارب.
شاهد ويندي وبيتر من موقعهما في المياه التي غمرها الظلام هوك وهو يتشبث بخطافه المعدني بجانب القارب ويجذب نفسه صاعدًا على متنه، ورأت ويندي عبر ضوء المصباح الذي حمله القراصنة وجهه الوسيم القاسي الملامح، وهمت أن تسبح مبتعدة لكن بيتر أشار إليها بألا تتحرك قيد أنملة.
ما إن صعد هوك على متن القارب، حتى جلس واضعًا رأسه بين يديه، يئن بإحباط شديد.
فسأله سمي: «ما الأمر أيها القائد؟»
أجابه هوك متنهدًا: «انتهى الأمر. لقد عثر الصبية التائهون على أم.»
امتلأت ويندي زهوًا وطفت على صفحة الماء أعلى قليلًا.
وقال ستاركي: «يا له من يوم تعس!»
فسأل سمي: «ما هي الأم؟»
عندئذ مر بهم عش طائر نيفر وهو يطفو على صفحة الماء، والطائر الأم لا يزال يجلس على العش.
فقال هوك: «هذه أم، وهي مثال جيد على ذلك. لقد سقط عشها في الماء، لكن هل تراها قد هجرته؟ كلا.»
اختلفت نبرة صوته لحظة وكأنه يسترجع ذكريات طفولته ويتذكر والدته، لكنه نفض الضعف عنه وأزاح بخطافه ما بدا كدمعة دمعة صغيرة.
فقال سمي: «أقترح أيها القائد أن نختطف أم الصبية ونجعلها أمًّا لنا.»
فقال هوك: «نعم، سنقبض على الصبية وندفعهم إلى القفز من السفينة ليلقوا حتفهم! ثم سنحتفظ بالأم.»
فهلل سمي وستاركي.
لكن فجأة تذكر هوك تايجر ليلي، فقال: «مهلًا. أين الأميرة؟»
فأجابه سمي: «لقد أطلقنا سراحها.»
فسأل هوك: «لماذا؟»
أجاب سمي متلعثمًا: «لقد أمرتنا بهذا.»
وقال ستاركي: «أنا أيضًا سمعتك يا حضرة القائد.»
فدوى صوت هوك كالرعد وهو يقول: «أي حيلة هذه؟ لم أصدر هذا الأمر.» ثم تلفت حوله وارتجف وقال: «أيتها الأرواح الشريرة التي تحوم حول البحيرة الليلة، أتسمعينني؟»
فأجاب بيتر بصوت هوك: «أسمعك.»
تحلى هوك بالشجاعة، أما سمي وستاركي فقد احتضن كل منهما الآخر وأخذا يرتجفان.
صاح هوك: «من أنت؟»
فأجاب الصوت: «أنا جيمس هوك، قبطان سفينة جولي روجر.»
فصاح هوك غاضبًا: «لا لست كذلك.»
فقال بيتر بإصرار: «بل أنا كذلك.»
فقال هوك محاولًا أن يبدو ودودًا: «إن كنت أنت هوك، فمن أنا؟»
فأجاب بيتر بسرعة: «أنت سمكة قد.»
اتسم سمي وستاركي بالغباء والغرور بعض الشيء، من ثم تمتما: «سمكة قد؟ هل كنا نتلقى الأوامر طيلة هذا الوقت من سمكة قد؟»
لم يكن هوك مصغيًا إليهما تقريبًا، لذا لم يكن أكثر ما أزعجه هو تشككهما فيه، بل أزعجه فجأة ضعف ثقته بنفسه، وشعر بأن غروره يتخلى عنه، فهمس له: «لا تتخلَ عني.»
ثم سأل بمكر: «هوك، هل لك صوت آخر؟»
لم يقو بيتر قط على مقاومة الألعاب، فأجاب بصوته: «نعم.»
– «وهل لك اسم آخر؟»
– «نعم.»
– «هل أنت حيوان؟ أو نبات، أو معدن؟».
– فأجاب بيتر: «نعم، ولا، ثم لا.»
فسأل هوك: «هل أنت رجل؟»
فقال بيتر بصوت غلبت عليه نبرة الغضب: «لا.»
– «إذن، أنت صبي؟»
– «نعم.»
– «هل أنت صبي عادي؟»
أرادت ويندي بدورها أن تشترك في اللعبة فقالت: «بل هو صبي مدهش.»
لم يجد هوك جوابًا.
فقال بيتر في زهو: «لن تستطيع التخمين، لن تستطيع التخمين، أقر بهزيمتك.»
فصاح القراصنة: «نعم، نقر بهزيمتنا. أخبرنا من أنت.»
فصاح بيتر ضاحكًا: «أنا بيتر بان.»
فعاد هوك على الفور إلى طبيعته، وصار سمي وستاركي من جديد من رجال طاقمه المخلصين.
ودوى صوت هوك كالرعد: «اقبضا عليه.»
فصفر بيتر مناديًا طاقمه، كان الصبية التائهون في مناطق مختلفة من البحيرة.
فصاحوا: «قادمون يا بيتر.»
المعركة كانت قصيرة لكنها حامية الوطيس. تعارك سمي وستاركي مع الصبية والسيوف تطير في الماء والهواء، يتبعها الصفير والهتاف وصرخات الألم.
أما بيتر بان وهوك فجمعتهما معركتهما الخاصة. لم يلتقيا في الماء بل على صخرة مارونرز التي صعداها مصادفة في الوقت نفسه من جهتين متقابلتين. كان الظلام حالكًا حتى إنهما لم يرَ أحدهما الآخر إلا عندما وصلا إلى منتصف الصخرة والتقيا وجهًا لوجه.
جذب بيتر سكينًا من حزام هوك وكاد أن يجهز عليه، إلا أنه لاحظ أنه في نقطة أعلى على الصخرة منه، ولم تكن تلك لتعد حربًا عادلة؛ لذا مد يده إلى هوك ليرفعه إلى أعلى.
غير أن هوك لم يحب الحرب العادلة، من ثم انحنى وعض بيتر.
لم يكن الألم الذي شعر به بيتر هو ما جعله يتسمر دهشة، بل كانت دهشته من الظلم هي ما جعله يقف شاعرًا بالعجز، وكل الأطفال يشعرون بذلك عندما يدركون لأول مرة أن العالم ليس مكانًا عادلًا. تعرض بيتر للظلم من قبل، لكنه كان ينسى دائمًا، لذا تصرف وكأنه يتعرض له للمرة الأولى.
ضرب هوك بيتر مرتين بخطافه وكاد أن يجهز عليه، لولا أن تناهى إلى سمعه في تلك اللحظة صوت ساعة تدق، لذا بدلًا من أن يجهز عليه، نزل الماء على الفور سابحًا على نحو هستيري نحو سفينته.