مقدمة
(١) لماذا برجسون؟
في أحد البحوث وأنا طالب عن معنى الفلسفة أو الميتافيزيقا كما أذكر بالسنة الثالثة بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة عام ١٩٥٥م مع المرحوم زكريا إبراهيم صدَّرته بهذا الإهداء: «إلى من يتغيَّر فيتحرَّك فينطلق فيُبدع شيئًا جديدًا». وما إن اطلع عليه في خاتمة البحث حتى صاح: «هذا برجسون!» فعلمت من ذلك الوقت أنني بي شيء منه.
بعدها بعام في ١٩٥٦م، وهو عام تأميم قناة السويس، غادرتُ إلى فرنسا للدراسة في أكتوبر قبل العدوان الثلاثي بأسبوعين، وكان أول ما اقتنيته أعمال برجسون واسبينوزا، وكنت أشتعل فرحًا وأنا أقرأ الفيلسوفين؛ ففيَّ منهما الكثير؛ الأول كفيلسوف حيوي، والثاني كناقد للكتاب المقدس. وقد أوفيت حقي وأدَّيت واجبي بترجمة «رسالة في اللاهوت والسياسة» لاسبينوزا إلى العربية عام ١٩٧٠م، وها أنا ذا أوفي بحقي وأؤدِّي واجبي الثقافي تجاه «برجسون».
وتعلَّمت برجسون على برجسوني على مدى عشر سنوات ومن الأوصياء على تنفيذ وصيته، وصديق ابنته جين، الخرساء، البكماء. عرفت برجسون من الداخل روحًا وفكرًا، منهجًا وموضوعًا، حركةً واتجاهًا، رؤيةً ومنظورًا. قرأته عدة مرات وأنا أستمع إلى محاضراته فيه. وكما حدث في جامعة القاهرة مع زكريا إبراهيم، حدث أيضًا في جامعة السربون مع جان جيتون الذي ظَلِلت مُلازِمًا له عشر سنوات، كل يوم أربعاء في محاضرته العامة لشهادة تاريخ الفلسفة والفلسفة، وفي حلقة بحثه أيضًا نفس اليوم صباحًا لطلبة المسابقة (الأجرجاسيون) ثم في محاضرته العامة المسائية لمحبي الفلسفة من الجمهور الباريسي.
أُثيرت برجسونيتي الدفينة من خلال جان جيتون تلميذ برجسون المباشر بالرغم من عدم الإشارة إليه في «كتابات وأقوال» أو تبادل الرسائل معه كما حدث مع بعض الفلاسفة البرجسونيين مثل جاك شيفالييه وأدوار لوروا.
كُتب «برجسون» مرةً واحدة كما كُتب النصان العربيان «تأويل الظاهريات» و«ظاهريات التأويل» أيضًا مرةً واحدة. عِشته من الداخل وقرأته من الخارج.
وإذا كان فشته فيلسوف المقاومة، وكان هوسرل فيلسوف الوعي أو القصدية، ونيتشه فيلسوف القوة، وماكس شيلر فيلسوف الوجدان، وإقبال فيلسوف الذاتية، فماذا يكون برجسون؟ هو فيلسوف الحياة مثل فشته، وفيلسوف القوة مثل نيتشه، وفيلسوف التعاطف مثل ماكس شيلر. إلا أنه بوجهٍ أخصَّ فيلسوف الحياة الباطنية أو الزمان أو الحدس أو الطاقة الروحية أو الحركة أو الطفرة والكمون أو الإبداع.
(٢) برجسون ومشروع «التراث والجديد»
التراث الإسلامي ليس مرحلةً واحدة في تاريخه، هي المرحلة القديمة، اليونانية الرومانية غربًا، والفارسية الهندية شرقًا، بل هي مراحل متتابعة. هو تراث متجدِّد في كل مرة تلتقي فيها الحضارة الإسلامية بحضارات الشعوب الأخرى المجاورة، وتحدث عمليات نقل من الحضارة السابقة إلى الحضارة اللاحقة. ولمَّا كانت الحضارة الإسلامية في طور جديد في تعاملها مع الحضارة الغربية منذ أكثر من قرنين من الزمان، فإن النقل والتعليق والشرح والتلخيص والعرض والتأليف والإبداع الخالص في الفلسفة العربية المعاصرة استئناف للتراث الإسلامي القديم في فترة جديدة. وكما ألَّف الكندي والفارابي في أفلاطون وأرسطو، وكما شرح ابن رشد ولخَّص أرسطو ثلاث مرات، يمكن اعتبار ترجماتي وشروحي ومؤلفاتي في الفلسفة العربية من هذا النوع.
وقد كُتب «برجسون» استعدادًا لمحاولتي الرابعة «من الفناء إلى البقاء» لإعادة بناء علوم التصوف. فمَن أكثر من برجسون حلَّل التجربة الصوفية، ووضع الأسس الميتافيزيقية للتصوف، وجعله أعلى من الفلسفة، وجعل الصوفي أعلى من الفيلسوف؟! وهو ما قاله حكماء المسلمين قديمًا عن الصلة بين النبوة والفلسفة، دين النبي والفيلسوف؛ فكلاهما ينهلان من مصدر واحد العقل الفعال، وقالا حقيقيةً واحدة بأسلوبين مختلفين: التخيُّل عند النبي، والبرهان الفيلسوف. وفي نفس الوقت يُصدر أيضًا محمد إقبال «فيلسوف الذاتية» استعدادًا أيضًا لمحاولة إعادة بناء علوم التصوف كما حاول إقبال نفسه. فمَن من المفكرين الإسلاميين المحدثين أسَّس ميتافيزيقا التصوف مثل محمد إقبال في «تجديد الفكر الديني في الإسلام»، ومن ثم تتأسَّس محاولة إعادة بناء التصوف مرةً في الوافد، ومرةً أخرى في الموروث.
وهذا العمل «برجسون» هو أيضًا جزء من استئناف علم الاستغراب، بعد أن تم الإعلان عن البيان النظري مع الخطة العامة للجبهة الثانية من مشروع «التراث والتجديد»، «الموقف من التراث الغربي» من أجل التأليف في المحطات الرئيسية في مسار الوعي الأوروبي، ومنها هوسرل وبرجسون. وكنا قد أعدننا طبعةً عربية هذا العام أيضًا من «تأويل الظاهريات: الحالة الراهنة للمنهج الظاهرياتي وتطبيقه في ظاهرة الدين» والذي كُتب منذ ما يقرب من أربعين عامًا، عام ١٩٦٦م، واستعدادًا للتأليف في المحطات الأخرى هيجل والهيجليين، وباقي الهوسرليين مثل ماكس شيلر أو من شاركوا في وضع فلسفة الحياة مثل نيتشه ودلتاي وأورتيجا إي جاسيه أو الذين أبرزوا قيمة الشخص مثل مونييه.
مقدمة في علم الاستغراب هو القلادة، وأعلامه، فشته، برجسون، هيجل، فيورباخ، شيلرماخر، شيلينج، شتراوس، باور، ماركس الشاب، في ذروة الوعي الأوروبي، وهوسرل، وشيلر، ونيتشه، ومونييه، وأورتيجا، الجواهر الكبرى المعلقة فيه.
وبطبيعة الحال ليس الهدف هو عرض المذاهب والتيارات والاتجاهات الفلسفية الغربية ترويجًا لها وعرض الثقافة الوافدة لمزاحمة الثقافة الموروثة أو كبديل عنها. يفعل المتغرِّبون ذلك، وتُشجِّعه المراكز الثقافية وبرامج الترجمة في السفارات الأجنبية، ترويجًا لثقافاتها، وقد غلب العرض على دراساتنا الفلسفية ورسائلنا الجامعية المعاصرة نظرًا للخلط بين المعلومات والعلم، ظنًّا من الباحث أن نقل المعلومات هو العلم. وقد يرجع السبب في ذلك أيضًا إلى دعوى الحياد والموضوعية وكأن الفكر يُكرَّر ويُعاد، من حضارة إلى حضارة أخرى، مع أن الفكر قراءة وتأويل وإعادة إنتاج للنص المقروء، وقد يكون السبب الرئيسي هو غياب الوعي الحضاري والاكتفاء بدَور المتفرج دون أخذ موقف من الوافد بإعادة قراءته أو من الموروث بتطويره وتحديثه.
وطريقة العرض هي عرض الأعمال واحدًا تلو الآخر؛ فكل عمل موضوع. ومجموع الأعمال هي مجموع الموضوعات التي تُكوِّن النسق الفلسفي لأصحاب المذاهب، أو الموقف الفلسفي لأصحاب المواقف دون المذاهب.
وقد استعمل منهج تحليل المضمون لأسماء الأعلام لمعرفة نشأة البرجسونية من بين تيارات الفلسفة الغربية المعاصرة وشقها تيارًا ثالثًا في فلسفة الحياة أو الوعي بين الصورية والمادية، بين العقلانية والوضعية، كما نشأت الظاهريات عند هوسرل. وقد أثبت منهج تحليل المضمون جدارته من قبلُ في «من النقل إلى الإبداع» لمعرفة مسار النص الفلسفي العربي القديم.
واستعمل منهجُ قراءة النص والتعامل مع مؤلفات برجسون تعاملًا مباشرًا دون توسط الدراساتِ الثانوية. فيلسوف يقرأ فيلسوفًا، ومفكر يحاور مع فكرًا وحضارة تقرأ حضارة.