الموضوع: الطاقة الروحية
(١) الموضوع يسبق المنهج
ويعني هذا العنوان الطويل «الموضوع والمنهج والأسلوب والبيئة الثقافية والحضارة الأوروبية» الجمع بين المنهج وهو المنهج الحدسي ودراسة الأفكار من جوانبها النفسية كما هو الحال في علم نفس المعرفة، والموضوع وهو الحياة الوجدانية بكل مظاهرها من تذكُّرٍ وحلم وخيال. ويعني الأسلوبُ الصورَ الفنية وطرق التشبيه والاستعارة والمثل والتي يستغلها برجسون لتوضيح الفكرة. فالفلسفة الفرنسية منذ ديكارت جزء من تاريخ الأدب الفرنسي. أما البيئة الثقافية فتعني التيارات الفكرية والنفسية الفلسفية والعلمية التي كانت موجودةً في عصره والتي تفاعل معها كردِّ فِعل عليها. أما الحضارة الأوروبية فتعني دلالة برجسون داخل الحضارة الأوروبية خاصةً والغربية عامة، خاصةً وأنه عاصر حربَين أوروبيتين؛ الأولى والثانية، وعاصر بداية المحرقة والاحتلال النازي لفرنسا، وهو اليهودي الفرنسي، ونشأة المنظمات الدولية مثل عصبة الأمم، وارتباطه بديكارت كبداية ممَّا يوحي بأن برجسون كان من علامات النهاية.
وبالرغم من أن المنهج يسبق الموضوع عادةً مثل أسبقية مقال في المنهج تطبيقه في «التأملات في الفلسفة الأولى» عند ديكارت و«أفكار موجهة للظاهريات وللفلسفة الظاهراتية» تطبيقه في «الفلسفة الأولى» و«أزمة العلوم الأوروبية» عند هوسرل، وأسبقية «ظاهريات الروح» و«علم المنطق» عند هيجل تطبيقه في «محاضرات في تاريخ الفلسفة» و«محاضرات في تاريخ الدين»، «محاضرات فلسفة التاريخ» و«محاضرات في علم الجمال»، إلا أن الموضوع يسبق المنهج عند برجسون كما سبق الحدسُ البرهان؛ فالموضوع يتشكَّل في الوعي أولًا قبل أن يُدركه الحدس، والبُلبل يغرِّد دون أن يتعلَّم فن الغناء، والطفل يمشي قبل أن يتعلم قواعد المشي.
ويظهر الموضوع في الطاقة الروحية مع عنوان فرعي «محاولات ومحاضرات»، ويشمل سبعة موضوعات:
وكل موضوع له وحدته الداخلية، أهدافه وحُجَجه وأعلامه؛ لذلك يُحلَّل كلُّ موضوع على حدة طوليًّا وليس عرضيًّا، بالرغم من وجود عناصر مشتركة بين المقالات في الهدف والمنهج والتوجيه.
ويغلب على الموضوعات علم النفس الفلسفي أو الفلسفة وأساسها النفسي، وقد كان برجسون في بداية حياته يريد أن يكون عالم نفس، ولكنه نفر من علم النفس الفيزيقي؛ أي السيكوفيزيقا الذي كان سائدًا في عصره والخارج من معامل علم النفس، وقياس الظواهر النفسية بمظاهرها الجسمية من أجل تأسيس علم النفس الخالص الذي يقوم على الاستبطان واستقلال الظواهر النفسية عن حواملها الجسمية.
(٢) الحلم٢
وقد وقع الفيلسوف شوبنهور في التفسير الفيزيولوجي للحلم في حين، ويعني الحلم رؤية أشياء دون أن تكون موجودة، أما العين بالفعل، لا فرق بين حلم النوم وحلم اليقظة، بين الوهم والسرحان دون أن تكون هناك مادة حسية للحواس خاصةً البصر والسمع، وقد يتداخل اللمس.
وقد تحدَّث علماء الفيزيولوجيا والسيكوفيزيقا عن «غبار مضيء» أو «طيف مرئي» أو «رؤًى فوسفورية»، وهو ما يتناقض مع غلق الجفنين. قد يثار حلم كبير من واقعة حسية صغيرة مثل حريق كبير من لهب شمعة.
واعتبره أحد الأطباء وهو نيسييه إحدى علامات المرض؛ فالحلم قيمة دلالية.
والحقيقة أن الحواس تغيب أثناء النوم، ثم تنفتح في بعض الاتجاهات ومجالات العمل. وهكذا يؤلِّف الموسيقى بسمعه الداخلي وليس بسمعه الخارجي.
والتذكُّر هو العامل الفعَّال في الحلم؛ لذلك ارتبطت دراسة الحلم بدراسة التذكُّر كما فعل برجسون من قبلُ في «المادة والذاكرة» (١٨٩٦م). وهكذا يؤلف الروائي عندما يستدعي ذكرياته السابقة في حلم اليقظة. التذكُّر هو القوة الإخبارية للمواد المنقولة بواسطة إرخاء الحس، وهي القوة التي تقلب الموضوعات المحدَّدة والدقيقة الانطباعات الغامضة الآتية من العين والأذن من سطح الجسد وباطنه، ويتم في حالة اليقظة. هناك انطباعات حسية فعلية على أعضاء الحس وذكريات تتداعى وتتداخل في الشعور لتعود إلى الحياة. والذاكرة في الإنسان أقل حصارًا بالفعل؛ إذ تؤلف الذكريات في وقت ما كلًّا متضامنًا كالهرم الذي تتحرَّك قمته باستمرار مع الحاضر ويتحرَّك نحو الأمام.
يمنع النوم عقبات تداعي المعاني في الذكريات وبالتالي يبدأ الحلم عندما يحدث الاتصال بين الحس والتذكير، وكما فسَّر أفلوطين في «التاسوعات» نظرية أفلاطون «العلم تذكُّر والجهل نسيان». فالإنسان يولد في الحياة، وسقوطه فيها بَداهة الحياة؛ لذلك تخرج الأحلام من اللاشعور. ويرتبط الإدراك والحلم في حالة النوم؛ إذ يقوم الحلم على الإدراك والحلم في حالة النوم؛ إذ يقوم الحلم على الإدراكات المسبقة المختزنة في الذاكرة.
ولا يوجد منطق في الحلم دون أن يكون بالضرورة متعارضًا مع المنطق. يقوم فقط على تداعي المعاني وترابط الذكريات. لا تغيب في النوم موضوعات الاهتمام، وتستمر في وجودها في اليقظة والنوم، فينشغل بها العقل الباطن. اليقظة والإرادة شيء واحد، وتستمر الإرادة من اليقظة إلى النوم. ويتغيَّر شكل الفعل، من الفعل المادي في الواقع إلى الفعل الضمني في الحلم. وليس لدى الحالم أي قُدرة على العطاء الفعلي فيعطي عن طريق التذكر. وما يقوم به الجهد هو الدقة والتكييف من أجل التوجه نحو العمل.
ويتسم الحلم بثلاثة أشياء: عدم الاستقرار وكأن الحلم لعب، وسرعة الحوادث، وتفضيل الذكريات غير الدالة؛ فالحلم له قدرة على الانتقاء.
(٣) الجهد العقلي٤
ويُستخدم الجهد العقلي في آليات الحفظ؛ إذ يرى البعض أن يكون الحفظ للجملة كلها حتى دون فهم معانيها كما يفعل غير قراء العربية في حفظ القرآن الكريم صوتًا لا معنًى. يكفي في ذلك الصورة السمعية أو الصورة المرئية بوضع العينين على الأسطر؛ حينئذٍ يكون التذكر السمعي هو التذكر المحرك. وهذا ليس حفظًا بل استدعاء آلي. وكل استدعاء يتطلب جهدًا إذ يحرك الذهنُ نفسَه من مستوًى لآخر. ويصعب التذكر على هذا النحو الآلي إن لم تكن هناك لحظة ربط حسيًّا أو معنويًّا، صورة أو دلالة. وقد يساعد على ذلك اختصار العبارات الطويلة في جمل قصيرة كما هو الحال في المثل العامي، وهو ما يتطلَّب جهدًا، ويحتاج وقتًا للتذكر؛ لذلك يحتاج الواعظ عند وليم جيمس إلى أربعة أيام لحفظ خطبة بالطريقة الأولى، وبالطريقة الثانية يحتاج إلى وقت وجهد كبير، وانتباه أشد، وفهم أعمق.
وكلما كانت الصورة أو المخطط الذي عليه يتم الحفظ حركيًّا كان التنكر أسرع. ومن ضمنه المعنى أو الدلالة كعنصر ارتباط بين الحاضر والماضي؛ فالحركة أكثر تنبيهًا للذكريات من الثبات.
ليس التذكر فيزيولوجيًّا خالصًا عن طريق ترابط الإحساسات كما ظن تين وبينيه، بل يحتاج إلى جهد لإعادة البناء وقوة وإدراك قيمته ووظيفته؛ لذلك تحدَّث بندر وجاست عن الهوس في التذكر والربط بين الحاضر والماضي لتوجيه الجهد والطاقة نحو نقطة تماس، كما يتم توصيل السالب والموجب في الكهرباء ولإيصال التيار، وهو ما يتطلَّب تربية الذاكرة كما اقترح كاي. والأهم تحويل المخطَّط إلى صورة والتمثُّل إلى خيال، وتحويل الأفقي إلى رأسي، والتاريخي إلى شعوري، والكم إلى الكيف، والمكان إلى زمان، إلى آخر ما عُرف عن برجسون من ثنائيات.
والخلاصة أن جهد التذكُّر هو قلب التمثيل التخطيطي الذي تتداخل فيه العناصر التي تمثل بالصورة، تتجاوز فيها العناصر استخدام ذلك بجهد إرادي. الجهد العقلي هو حركة الذهن ذهابًا وإيابًا بين الإدراكات أو الصور من ناحية، ودلالاتها من ناحية أخرى. ليس الانتباه حسيًّا فقط، بل هو أيضًا انتباه إرادي، يصاحب إحساسًا بالجهد؛ أي انفعالًا أو تعاطفًا مع موضوع التذكُّر كما لاحظ لويس، وبالتالي الإثراء التدريجي للإدراك. والجهد العقلي بما أنه يفسِّر ويفهم ويتنبَّه، هو إذن حركة مخطَّط حركي نحو الصورة التي يكوِّنها، ينتج الإحساس بالجهد العقلي في المسار من المخطَّط إلى الصورة.
والأهم هو جهة الاختراع؛ أي الإبداع بالخيال كما لاحظ ريبو، والتحول من المجرد إلى العياني، ومن المخطَّط إلى الصورة؛ لذلك يُميِّز ريبو بين صورتين للخيال الخلَّاق، حدسي وفكري؛ الأول يقوم على وحدة الأجزاء، والثاني على تجزئة الوحدة. يتكوَّن العمل العقلي إذن من توجيه نفس التمثُّل من ثنايا مستويات الشعور المختلفة من المجرد إلى العياني، من المخطَّط إلى الصورة.
ولا يتم العمل بمفرده لوجود عقبات يستطيع الجهد العقلي أن يتخَطَّاها، وهو ما لاحظه ديوي أيضًا في دراسته عن علم نفس الجهد واحتياج كل تعليم إلى جهد.
وتكون الصورة كما لاحظ باستيان صورًا حركية جزئية أولية، وتكون الحركة الكلية كما هو الحال في الصورة السينمائية. وتبقى ثنائية المخطَّط والصورة لعملية التذكُّر.
ليس الأمر هو التمثُّل بل حركة التمثُّلات، تداخلها وتفاعلها. والانتباه حالة من التوحيد بتعبير ريبو في «علم نفس الانتباه»، ومن ثم فإن غنى الحالة العقلية بمقدار ما تبذله من جهد. ومع ذلك فالوحدة التي يتجه الذهن إليها ليست وحدةً مجرَّدة جافة فارغة، بل وحدة فكرة موجهة، وحدة الحياة.
(٤) المخ والفكر، وهم فلسفي١٠
إن التوازي بين الحالة النفسية وحالة المخ في صلب جزء كبير من الفلسفة الحديثة. وهناك على أكثر تقدير حالة نفسية فسفورية تُضيء المخ أو تأتي من المخ تضيء النفس. المهم الموازاة بين الاثنين. تتبع الحالة النفسية ضرورة حالة المخ، ولا يُستثنى من ذلك حتى الإنسان المتفوق أيًّا كان؛ فكل ما يحدث في شعوره يحدث من قبلُ في المخ؛ فالشعور لا يقول شيئًا أكثر ممَّا هو موجود في المخ يُعبر عنه فقط بلغة أخرى.
ويرجع التشابه إلى استعمال الألفاظ أي استعمال لغة واحدة لمستويين مختلفين من حياة الشعور. ويرجع الخطأ أيضًا إلى خطأ منهجي في الموقف وهو وضع الفيلسوف نفسه في مستوًى ثم ينتقل خفية إلى مستوى الآخر دون أن يحكم الميزان بين الطرفين، والتعادل بين الموقعين؛ أي القلب، والانتقال من الشيء إلى التمثُّل كما يفعل المثالي أو من التمثُّل إلى الشيء كما يفعل الواقعي؛ فعند المثالي لا يوجد شيء في العالم لا يظهر في الشعور، وعند الواقعي لا يوجد شيء في الشعور لا يوجد في العالم. عند المثالي لا يوجد عالم مستقل عن الشعور المدرَك، وعند الواقعي العالم مستقل عن الشعور المدرَك.
والحقيقة أن كلا الموقفين يختلفان في الظاهر ولكنهما يتشابهان في الباطن؛ فكلٌّ منهما يردُّ أحد الطرفين إلى الآخر، يرد المثالي الأدنى إلى الأعلى كما يفعل بركلي، ويرد الواقعي الأعلى إلى الأدنى كما هو الحال في السيكوفيزيقا والنزعتين التجريبية والوضعية الاجتماعية بوجه عام. كلاهما يقعان في التوازي بين المستويين دون تمييز، إما بالرفع عند المثالي أو بالخفض عند الواقعي، رد المخ إلى التمثل عن المثالي ورد التمثل إلى المخ عند الواقعي، وكلاهما ضحية مبدأ العِلِّية بصرف النظر عن ما العلة وما المعلول. التمثُّل علة والشيء معلول عند المثالي، والشيء علة والتمثل معلول عند الواقعي. كلاهما ضحية الخلط بين الكل والأجزاء، يُضحِّي المثالي بالأجزاء لصالح الكل، ويُضحِّي الواقعي بالكل لصالح الأجزاء.
والحقيقة أن الفكر ينتقل من المثالية إلى الواقعية المزيَّفة، ومن الواقعية إلى المثالية المزيَّفة. فمع الحس عند الواقعي هناك التذكُّر الذي يقوم بتحويل الإدراكات الحسية إلى ذكريات خالصة، ومع التمثل عند المثالي هناك الشعور المتواصل بالواقع. ويخطئ التياران لأنهما يقعان في حتمية النظرية الارتباطية بصرف النظر عن الانعكاس، ماذا يعكس ماذا؟ المخ انعكاس للواقع أم الواقع انعكاس للمخ؟ والحقيقة هي الطريق الثالث بين الاثنين الذي يقوم على التفاعل بين الطرفين أو الجدل بينهما؛ ففي كل طرف نصف الحقيقة وليس الحقيقة كلها، وكل منهما يرد الحقيقة إلى أحد أجزائها.
لا يُحفظ الإدراك عند الواقعي إلا بانتقاله إلى المثالية، ولا يُحفظ التمثُّل عند المثالي إلا بانتقاله إلى واقعية الشعور أو الشعور الفعلي الحقيقي في العلاقة بين الطرفين وليس في أحد الطرفين. ومن ثم يُرَد المذهبان المثالية والواقعية، إلى مذهب واحد حتى يمكن الخروج من الوهم القائم على أربعة أخطاء؛ الأول النفس الدماغية، والثاني أن كل عملية هي بالضرورة آلية رياضية كلية خاضعة للحساب وهو خطأ ديكارت، والثالث الانتقال من مذهب إلى آخر، والرابع أولوية أحد الطرفين على الآخر.
(٥) تذكُّر الحاضر والتعرُّف الخاطئ١٢
وهناك نظريات عديدة لتفسير ذاك، الشائع نفسيًّا هو نشأة صورة أثناء الإدراك أو قبله تُقذف في الماضي ثم تقوم مراكز المخ بفعلَين؛ إدراك الحاضر وإدراك الماضي في نفس الوقت، وهي نظرية نفسية فيزيولوجية.
وهناك نظرية أخرى تدخل العامل العاطفي الوجداني ومدى الألفة بين الحاضر والماضي، وهي التي تُرجع الحاضر إلى الماضي.
وهناك نظرية ثالثة تدخل عامل الفعل وليس التمثُّل كما هو الحال في الأولى أو العاطفة كما هو الحال في الثانية؛ فالشعور يتجه نحو الفعل بطبيعته، فبمجرد إدراك الحاضر يستعد للفعل ويُجنِّد قواه ومنها قوة التذكر، وهو ما يتطلَّب الانتباه إلى الحياة، والتحوُّل من «النفسية الدنيا» إلى «النفسية العليا»، والهدف إنارة الفعل؛ فضرورة الفعل هي التي تفرض قوانين الاستدعاء، وهو فعل فلسفي وليس مرضًا نفسيًّا يتعلَّق بعدد الحادث وبعدد الحالات النفسية وثقلها، بحيث تكون المهمة الرئيسية في علم النفس ليست تفسير كيفية حدوث ذلك عند المريض، بل لماذا لا يحدث عند السليم. وقد يحدث هذا التعرُّف أحيانًا عن وعي وأحيانًا عن لا واعي بجهد التذكر والتركيز واستدعاء الماضي أو فجأةً بإثارته. التعرُّف الخاطئ إذن أحد موضوعات التذكر.
الإدراك الخاطئ «نوع من الشذوذ» يقلِّل من الانتباه إلى الحياة ويُبعد الشعور عن الاتجاه الطبيعي ويسرح في الماضي، والدافع الحيوي في الشعور للتحقُّق وليس للتأمل لدفع الحاضر إلى المستقبل وليس لإرجاعه إلى الماضي.
(٦) الوعي والحياة١٥
وكل وعي هو استباق نحو المستقبل وتطلُّع إليه. ويُتوقع التوقُّع وعندما يتدخل الفعل؛ فكل فعل يعوق الاتجاه نحو المستقبل. الوعي هو الاحتفاظ بما لم يوجد والتطلع إلى ما لم يوجد بعد. وأهم سمتين للشعور هما الاعتماد والميل، يعتمد على الجسم وفي نفس الوقت يستقل عنه، ويميل نحوه ويتجه إلى نظرًا لبعده الوجداني.
ولفهم ماذا تعني «الموجودات الشعورية» من الضروري الدخول فيها والإنماء معها بل والتوحد بها. لا يعطي القياس إلا الاحتمال، وهناك إمكانيات أخرى تقترب من اليقين.
وطبقًا للنظرية الفيزيولوجية، الشعور مرتبط بالمخ، وهو صحيح في الإنسان، لا يعني ذلك أن المخ شرط ضروري للوعي. والأصح أن كل حي له شعور؛ فالشعور وجود مشترك. الحياة والمخ مجرد آلة للاختيار، واتخاذ القرار، وإتيان الفعل، دور الشعور هو الاختيار. والشعور اليقظ وليس الشعور النائم هو القادر على ذلك، وهي نفس التفرقة التي قام بها هوسرل من قبل. بل إن النوم واليقظة من صفات الكائن الحي، النبات والحيوان، وليس الإنسان وحده، الوعي حالٌّ في كل شيء حي. تطابِق اختلافات التوتُّر في الوعي درجات الاختيار المتنوعة؛ أي قدرة الفعل على الخلق، وإذا كان الوعي يعني التذكُّر والتطلُّع فإنه يكون مطابقًا للاختيار، يتوجَّه الوعي نحو الحركة والفعل، والوعي أثر فعَّال، وفعل حر.
ولا يمكن التنبؤ بحركة الشعور، والمادة مصمتة، هندسية، وضرورة. أما الحياة فإنها حركة حرة لا يمكن التنبؤ بمسارها. الكائن الحي كائن مختار، والوعي مساوق في وجوده للحياة. فإذا كانت المادة ضرورةً كان الوعي حرية، الحياة هي بالضبط حرية في الضرورة ومحيلة إياها لصالحها. الحياة في مجموعها عمل مزدوج للتراكم التدريجي وللصرف الفجائي. وعند الكائن الحي يسبق التمثل الفعل؛ فالنظر يسبق العمل عادة، وكما هو شائع.
وكلما كان قدر الماضي الذي يحل في الحاضر كبيرًا، كانت الكتلة التي يدفعها إلى المستقبل من أجل الإسراع على تحقيق الإمكانيات التي يتم الاستعداد لها.
وسواء كان الفعل أجراه الشعور أو أن الإدراك هو الذي أعده، في كلتا الحالتين يظهر الوعي وكأنه قوة تنفذ إلى المادة للاستحواذ عليها وتحويلها إلى مصلحته. ويعمل بمنهجين متكاملين؛ الأول بفعل متفجر يحرَّر في لحظة، ويحرَّك نحو الفعل المختار، وطاقة جمعتها المادة لمدة طوية. والثاني فعل مركَّز يجمع في هذه اللحظة الفريدة عددًا لا يُحصى من الحوادث تحقِّقها المادة، وتلخَّص في كلمة، الخلود في التاريخ.
المادة خاضعة للضرورة بلا ذاكرة. ويختزن الدماغ عادات حركيةً وليس ذكريات. تملك الضروري منها من أجل المرور عبر لحظتين، كل لحظة يمكن استنباطها من الثانية، ولا تضيف جديدًا إلى ما هو موجود في العالم. ومن ناحية أخرى، هناك الوعي؛ أي الذاكرة مع الحرية؛ أي تواصل الخلق في ديمومة متنامية. وتثير المادة الجهد وتجعله ممكنًا. ثم يتركز الجهد ويبرز ويصبح فاعلًا مؤثرًا. لقد ركَّز دارون ولامارك على تطور الأنواع على نحو آلي، ثم يظهر الإنسان فجأةً وعلى نمو غير متوقع. وبعد أن يُخلَق يتكرَّر إلى ما لانهاية بإمكانية مفتوحة للاختيار.
وأكبر محركين للنشاط الإنساني هما الحب والطموح، وكلاهما قادران على تخطي العقبات. وهو مسار التطور الذي يؤدي إلى الإنسان؛ فالتطور يقسم ويحدِّد، ويفرِّع ويفرد، يشعِّب ويبيِّن.
وتبدو الطبيعة كفَوَران كبير جدًّا لا يمكن التنبؤ بها؛ الحب واقعها الرئيسي، عقباتها الآلية والرتابة. وُيدعى الإنسان إلى الاعتماد دائمًا على ماضيه من أجل الانطلاق نحو المستقبل. وهو نجاح كبير للحياة. وتتجلَّى بطولة الإبداع، وشقُّ طرق جديدة توحي بحقائق ميتافيزيقية. ينطلق الدافع الحيوي في مسارين: اللافقريات والفقريات، الحشرات والحيوانات، المجتمع الإنساني والفرد، أو الإنسان المتفوق، الفنان والمبدع والصوفي والنبي. الحياة صراع ومطلب للإبداع والتطور الخالق. ولقد أعلن أوجست كومت من قبلُ أن التركيب الكيماوي للأجسام السماوية غير معروف. وبعد ذلك بعدة سنوات تم اكتشاف ألوان الطيف. وتستطيع أن تعرف الآن من أين تُصنع النجوم، تفاؤل لا محدَّد بمستقبل الإنسان، واستمرار الدافع الحيوي.
(٧) النفس والبدن٢٠
كل منا له بدن، وكل منا يشعر به في عالمه الخارجي وعالمه الداخلي، بفعله الإرادي واللاإرادي، الحركي والشعوري، وهو ما يسمح لنا أن نقول «أنا» أو«إني». وهو وجود في المكان يشع خارجه بقوى الإدراك والرؤية. ووجود في الزمان. فالبدن مادة، والمادة في الزمان، والمادة في الحاضر، والماضي يترك أثره في الحاضر، في الوعي الذي يدرك ويفسِّر ما يراه في ضوء ما يتذكَّر، وكما يصب الماضي في الحاضر، يتطلَّع الحاضر إلى المستقبل. الوعي إذن يخلق نفسه بنفسه، وهو موضوع الحياة الإنسانية. والروح هي القوة، تجذب أكثر ممَّا تحتوي، وتعطي أكثر ممَّا تأخذ، على الأقل في الظاهر.
ولا تعمل النفس بلا بدن؛ إذ يصاحب البدنَ النفس من المهد إلى اللحد. يستطيع المخدِّر أن يؤثِّر في الذهن والإرادة ويترك وراءه أمراضًا واعترافات. أما بالنسبة للزمان، يضم الروح الماضي في حين ينصب البدن على الحاضر ويبدأ من جديد فيه. وفي النظرية المادية يُضاف الشعور إلى المادي كمادة فوسفورية أشبه بأثر مضيء. والحقيقة في الدماغ.
وكما توجد قوانين في الطبيعة مثل قانون حفظ الطاقة، توجد قوانين للشعور أو الوعي، بالرغم من أنه نشاط إرادي حر. وإذا استطاعت الإرادة أن تحافظ على الطاقة فإن كَمَّ الطاقة المتولِّدة ضعيف للتأثير على آلات القياس، وقد يكون الأثر هائلًا.
وقد بدأ العلم الحديث منذ عصر النهضة خاصةً عند كبلر وجاليليو بتحويل العلوم الفلكية والفيزيقية إلى مشاكل آلية. ومن هنا نشأت فكرة تمثل كل العالم المادي، آلة كبيرة خاضعة لقوانين رياضية. وهو ما سمَّاه هوسرل تحويل الطبيعة إلى رياضة بما في ذلك جسم الإنسان وكأنه ساعة. وبالرغم من حتمية الطبيعة عند ديكارت إلا أنه ترك الإرادة حرة. وانتهى هذا الاستثناء عند اسبينوزا وليبنتز نظرًا لسيادة منطق المذهب ممَّا أوقعهما في التوازي بين البدن والنفس دون أن تكون النفس مجرد انعكاس للبدن. بل آثرا أن يكون البدن انعكاسًا. واستمر التوازي من القرن السابع عشر إلى القرن الثامن عشر كتصوير ساذج لميتافيزيقا ديكارت عند لامتري وهلفسيوس وبونيه وكابانيس.
الفكر الذي يتحوَّل إلى فعل هو المرتبط بالمخ أي بآلة الحركة؛ إذ يتوجَّه الفكر نحو العمل الفعلي أو الضمني. والحقيقة أن وظيفة المخ هو الانتباه للحياة وليس وضع الروح في الشيء. وظيفة المخ استدعاء الذكريات، وإثارة ملكة الحفظ من الذكريات المتراكمة. وكما لا يمكن عمل خط فاصل بين الماضي والحاضر، فكذلك لا يمكن وضع خط فاصل بين الذاكرة والوعي. حياة الروح غير حياة الجسد، وحياة العقل تند عن حياة المخ.
ويخيِّر برجسون في النهاية بين منهجين؛ الأول من أجل الحصول على اليقين وبسرعة تظل في المحتمَل أو الممكن لأنه من الصعب الحياد بين الدعاوى المتعارضة، وكلها ممكنة. والثاني التوجه إلى المثل حيث يظل الاحتمال قائمًا بلا نهاية، وينتهي إلى حالة شبيهة. فأي المنهجين أولى بالاختيار؟
(٨) أطياف الأحياء والبحث النفسي٢٣
ولا تفسِّر النظرية المادية مثل هذه الظواهر لأنها تقوم على التوازي الفيزيقي النفسي، وعلى إحالة الظواهر النفسية إلى مراكز المخ. صحيح أن المخ آلة جسمية مركبة، ولكنه ليس مصدر الظواهر النفسية. قد يكون آلة تقليد وليس آلة إبداع. وعلاقة ظواهر المخ بالحياة العقلية مثل حركات قائد الموسيقى بالسيمفونية. وظيفة آلية المخ هو تخبئة الماضي من أجل التحوُّل إلى الفعل، على عكس بلوندل الذي يكون الفعل فيه انبثاقًا للفكر. وكل ذرة عند ليبنتز صورة واعية أم غير واعية للعالم كله. الوعي يتجاوز العضو، والحياة الزمنية أوسع نطاقًا من حياة الدماغ، حتى الحلم الحديث عند كبلر وجاليليو ونيوتن يتأسَّس في علم النفس أي في الإدراك استئنافًا لِمَا بدأه أرسطو من جعل علوم الروح ما زالت في البداية، وكان يمكن للعلم الحديث منذ نشأته أن يأخذ الأشياء من الطرف الآخر، ولكنه آثر أن يكون أُحادي الطرف، المادة وليس الروح هو عالم السر.
- (١)
الحلم (١٩٠١م).
- (٢)
الجهد العقلي (١٩٠٢م).
- (٣)
المخ والفكر، وهمٌ فلسفي (١٩٠٤م).
- (٤)
تذكُّر الحاضر والتعرُّف الخاطئ (١٩٠٨م).
- (٥)
الوعي والحياة (١٩١١م).
- (٦)
النفس والبدن (١٩١٢م).
- (٧)
أشباح الأحياء والبحث النفسي (١٩١٣م).
ES., pp. 85–109. رؤًى فوسفورية Phosphorénes.