(١) التفكير في المنهج
ليس برجسون فقط صاحب موضوع، بل أيضًا صاحب
منهج. وهو على وعي به تمامًا نظريًّا، وطبَّقه
عمليًّا، ويقوم هذا المنهج على التصدي لخطأ
شائع مثل السيكوفيزيقا واكتشاف سببه، الخلط بين
المستويات، ثم تفنيده عن طريق اختيار صورة
متوسطة يتم الحفر فيها حتى تُنتزَع الرصاصة
التي تهدِّد الجريح بالموت أو الداء الذي
يهدِّده بالفناء.
ويعترف برجسون في مقدمة «الطاقة الروحية»
بأنه شرع، بِناءً على اقتراح بعض أصدقائه، بجمع
مقالاته التي ظهرت في أماكن متعددة والتي يصعب
العثور عليها. ترجم البعض منها، ونشر نشرات
مستقلةً في بلاد عديدة في كتيبات مثل «مقدمة
إلى الميتافيزيقا» في ست أو سبع لغات مختلفة
دون الفرنسية. وقد ألقى البعض منها كمحاضرات
خارج فرنسا، ومنها ما هو فقط
بالإنجليزية.
نُشرت هذه المقالات والمحاضرات في جزأين؛
الأول: يضم كل الأعمال حول مشاكل معينة في علم
النفس والفلسفة، ترجع كلها إلى «الطاقة
الروحية». بينما يضم الجزء الثاني الأعمال
الخاصة بالمنهج مع مقدمة تُبيِّن مصادر هذا
المنهج ومساره إلى التطبيق تحت عنوان «الفكر والمحرِّك».
١
ويبدو أن برجسون كان يكتب محاضراته سلفًا
وبعناية ثم يقرؤها وهو يلقيها دون ارتجالها،
وهو ما يقلِّل من قيمة الخطاب الشفاهي في
المحاضرات العامة، ويجعله ينعكس على المقال
المكتوب في كثرة استعمال ضمائر المتكلم
والمخاطب والجمع.
ويقدِّم برجسون نفس الكتاب في تصدير، مبينًا
أنه يشمل محاولتين لتقديم الكتاب كتب خصوصًا
لذلك، ومن ثم لم يُنشر من قبل. يمثِّلان ثلث
الكتاب، والجزء الآخر مقالات ومحاضرات يصعب
وجود معظمها، ظهرت في فرنسا أو في الخارج فيما
بين ١٩٠٣–١٩٢٣م، وتنصَب كلها على المنهج الذي
يوصي برجسون الفلاسفة باتباعه مع البحث عن أصل
هذا المنهج وتحديد اتجاهه في البحث؛ وهذا هو
موضوع المقدمتين الأولى والثانية.
أمَّا كتاب «الطاقة الروحية» الذي صدر عام
١٩١٩م فقد ضم «محاولات ومحاضرات» تشمل بعض
نتائج أبحاث برجسون، أما هذا الكتاب فقد ضم
مجموعةً من «المحاولات والمحاضرات»، خاصةً هذه
المرة بعمل البحث نفسه؛ فهو يُكمِل الأول.
٢
وقد سمحت «مفوضيات صحافة كلاريدون» في
أكسفورد بإعادة إصدار محاضرتين بعد إعدادهما
للطباعة بعنايتها بعد إلقائهما في جامعة
أكسفورد عام ١٩١١م.
أما الأعمال الأخرى فهي مجموعة من المقالات
مجمَّعة تحت عنوان واحد شامل يجمعها؛ مثل
«الفكر والمحرك» و«الطاقة الروحية». الأول عن
المنهج والبيئة الثقافية التي نشأ فيها،
والثاني عن الموضوع. ويشمل «الفكر والمحرك»
تسعة موضوعات: اثنان منها مقدمة. الأولى «نحو
الحقيقة»، «الحركة التراجعية للحقيقي».
والثانية في «وضع المشاكل». والثالثة «مقدمة
إلى الميتافيزيقا». وثلاثة تطبيقية «الممكن
والواقعي»، «الحدس الفلسفي»، «إدراك التغير».
والثلاثة الأخيرة دراسات حول أهم الأعلام الذين
أثَّروا فيه وكتب عنهم: «فلسفة كلود برنار»،
«حول البرجماتية عند وليم جيمس»، «الحقيقة
والواقع»، «حياة رافيسون وعمله». وقد كتب هذه
الدراسات التسع على مدى عشر سنوات (١٠٠٣–١١٢٠م)
وعمره ما بين ٤٤–٦١ عامًا، وكتب خمسةً منها عام
١٩١١م، واثنان قبلها ١٩٠٣ –١٩٠٤م واثنان بعدها ١٩١٣– ١٩٢٠م،
٣ وكل مقال قائم بذاته بالرغم من
دخول المقالات التسع كلها تحت عنوان واحد هو
«الفكر والمحرك». وهما ليسا عنوان مقال، بل إن
الفكر ليس مصطلحًا برجسونيًّا، «والتغير» هو
المصطلح البرجسوني وليس المحرك.
ويعترف برجسون في أول هامش لمقاله «مقدمة إلى
الميتافيزيقا» أنه منذ هذا العصر كانت مهمة
الفلاسفة تحديد معاني هذه الألفاظ؛
«ميتافيزيقا» و«علم». والفيلسوف حر في أن يعطي
الكلمة المعنى الذي يريد عندما يريد تحديدها.
ولا شيء يمنع من تسمية «علم» أو «فلسفة»، وكما
تم ذلك من قبلُ ولمدة طويلة كل نوع من المعرفة،
بل يمكن أن يضم الكل في الميتافيزيقا. ومع ذلك
تُحيل المعرفة إلى اتجاه معينٍ عندما تحصل على
موضوعها من أجل قياسه. وتسير في اتجاهٍ آخر
عندما تتخلَّص من كل خلفية فكرية حول العلاقة
أو المقارنة من أجل التعاطف مع الواقع.
يتفق المنهج الأول مع دراسة المادة، والثاني
مع الروح. وهناك تداخل بين الموضوعين، واعتماد
متبادل بل وتعاون بينهما. في الحالة الأولى يتم
التعاون مع الزمان المكاني والمكان، وفي
الثانية مع الديمومة الفعلية. وظهر أنه من
المفيد من أجل توضيح الأفكار تسمية الحالة
الأولى «معرفة» والثانية «ميتافيزيقا». ولصالح
الميتافيزيقا يقيم برجسون «فلسفة علم»، أو
«ميتافيزيقا علم» التي في ذهن كبار العلماء
داخل علومهم والملهم غير المرئي لهم. وفي هذا
المقال يعمل برجسون لصالح العلم؛ لأن العلماء
قد تناولوه أكثر ممَّا تعامل معه
الميتافيزيقيون.
وقد كتب هذا المقال في عصر يُقبل فيه النقد
عند كانط والقطعية التي وقع فيها خلفاؤه كنتيجة
أو على الأقل كنقطة بداية للتأمل الفلسفي.
٤
ويذكر برجسون من الفلاسفة أفلاطون وكانط
كنموذجين للمعرفة العقلية، وتين ومل كنموذجين
للمعرفة التجريبية. كما يذكر جاليليو أحد مؤسسي
العلم الحديث. ومن القدماء يذكر أفلوطين
وأرسطو، ومن الشعراء هوميروس «الإلياذة».
٥
(٢) مقدمة إلى الميتافيزيقا٦
كُتب هذا المقال الطويل بين «المادة
والذاكرة» (١٨٩٦م) و«التطور الخالق» (١٩٠٧م)
ليحدِّد برجسون فيه المنهج وتصوُّره
للميتافيزيقا؛ أي الفلسفة الخالصة والعلم، وهو
ما كان سائدًا في عصره. وهي نفس المشكلة التي
وضعها ديكارت في «شجرة المعرفة الشهيرة»، ثم
كانط في «المقدمات لكل ميتافيزيقيا مستقبلة
تريد أن تصير علمًا ليبين ارتباط الفلسفة
بالعلم».
وبمقارنة تعريفات الميتافيزيقا يلاحَظ أن
الفلاسفة وبالرغم من اختلافاتهم الظاهرية قد
ميَّزوا بين طريقتين مختلفتين لمعرفة الشيء؛
الأولى الدوران حوله، والثانية الدخول فيه.
يتوقف الأول على وجهة النظر ورموز التعبير.
والثانية تتجاوز وجهة النظر ولا تستعمل أي رمز.
الأول يتناول النسبي في حين يتعامل الثاني مع
المطلق. مثال ذلك حركة الشيء في المكان، يمكن
إدراكها من الخارج من وجهة نظر المتحرك والثابت
طبقًا لمحاور الحركة الدائرية؛ أي طبقًا
للرموز، وهي المعرفة النسبية. أما الحركة
المطلقة فتُعزى إلى المتحرك من الداخل أو
كحالات للنفس؛ أي التعاطف مع الحالات والنفاذ
إليها بقوة الخيال كما هو الحال عند الروائي.
الأولى معرفة متوسطة، والثانية معرفة مباشرة.
الوصف والتاريخ والتحليل يقدِّم معرفةً نسبية.
في حين أن الاتحاد مع الشيء يعطي معرفةً مطلقة؛
لذلك كان المطلق هو الكمال. أما الصور الضوئية
وترجمات الشعر مثل شعر هوميروس من النوع الأول.
المطلق شيء بسيط، وهو شيء آخر إذا تمَّت رؤيته
من الخارج. لا يُدرَك المطلق إلا بالحدس، في
حين يدرَك النسبي بالتحليل. والحدس هو التعاطف
الذي يمكن من خلاله النفاذ إلى الموضوع من أجل
الاتحاد بما يتفرَّد به، ولا يمكن شرحه. في حين
أن التحليل على العكس، هو العملية التي تجمع
حول الموضوعات معلومات معروفةً سلفًا؛ أي
المشتركة بين هذا الموضوع وغيره من الموضوعات.
التحليل هو التعبير عن شيء بغيره. وعلى هذا
الأساس كل تحليل ترجمة، تطور الرموز، تمثُّلات
جديدة متتابعة لنفس الموضوع أو قديمة معروفة.
الحدس يُحيط بالموضوع في إدراك واحد، في حين أن
التحليل يكرِّر إلى ما لانهاية وجهات النظر
المعروفة حوله لإكمال التمثُّلات الناقصة،
وإدخال التعديلات على الرموز غير الكاملة
بطبيعتها. مهمة العلم الوصفي التحليلُ بما في
ذلك علوم الحياة ورموزها المرئية، إلا أن علوم
الحياة في حاجة إلى معرفة مباشرة بدلًا من
المعرفة النسبية، والاتحاد معها بدلًا من تبني
وجهات نظر حولها، وإدراكها بالحدس وليس
بالتحليل وخارج كل ترجمة وتمثُّل رمزي، وهو ما
تقوم به الميتافيزيقا. الميتافيزيقا إذن: «هي
العلم الذي يتجاوز الرموز».
٧
والحدس مرتبط بالشخص، والشخص تعاطف عقلي أو
روحي، وهو مع الذات قبل أن يكون مع الموضوع.
الحدس قلب النظرة من الخارج إلى الداخل كما هو
الحال عند هوسرل. وفي الداخل هناك عالم الشعور
والذكريات والتطلعات، الحاضر المنفتح على
الماضي والمستقبل. هو زمان وديمومة وميول
واتجاهات. الوعي هو الذاكرة، وكما عرض برجسون
من قبل في «المادة والذاكرة» (١٨٩٦م).
والحقيقة أن الشعور ليس فك «رول» ولا ضمه؛
فلا توجد لحظتان متشابهتان في الشعور، فإذا
تشابهتا يصبح الشعور بلا ذاكرة، ويتحولان إلى
اللاشعور. تستبعد الديمومة كل فكرة عن التجاور
والتخارج المتبادل والامتداد. الفعل الحركي لا
ينقسم، وفعل التوتر حركة خالصة. ويمثِّل فك
«الرول» وحدة حركة تتقدَّم فتتكشَّف حالات
عديدة على امتدادها. الديمومة تواصل، والحياة
الداخلية تنوُّع من الكيفيات، تواصل للتقدم،
ووحدة الاتجاه. ولا يمكن تمثُّلها بالصورة ولا
بالتصورات؛ أي بالأفكار المجردة أو العامة أو
البسيطة. الصورة تعمِّم المتشابهات، والحدس
يفرد الخصائص.
موضوع الفلسفة يخلقه العمل، وتثيره عادات
الروح، ويفيد في الحياة العملية. وهو موضوع
عياني لا يمكن أن يُستبدل به حدس الديمومة الذي
يُدرك الشيء دون حجاب. ولا يمكن تناوله مع
تصوُّرات الوحدة والتعدُّد والتواصل والقسمة
النهائية أو اللانهائية. هذا هو الوهم، وهذه
أيضًا هي الخطورة. تفيد الأفكار المجرَّدة في
التحليل؛ أي في الدراسة العلمية للموضوع في
علاقاته المتشابهة مع الموضوعات الأخرى على
التبادل. ليس للتصور أي ثقل مثل ظل الجسم.
خطورته ليست فقط في تغليفه الموضوع، بل في
تعدُّد رؤاه بتعدُّد المذاهب الفلسفية، وتقسيم
الوحدة الفعلية للموضوع في تعبيرات رمزية،
وتقسيم الفلسفة إلى مدارس متميِّزة. كلٌّ منها
يصارع من أجل جزء أو ادعاء تمثيل هذا الجزء
للكل. وتتحوَّل الميتافيزيقا إلى لعبة أفكار،
في حين أن دور الميتافيزيقا هو تجاوز هذه
الأفكار للوصول إلى الحدس. تتضارب الرؤى
المتعدِّدة ممَّا يحتاج إلى جهد الخيال للتوحيد
بينها للوصول إلى وحدة الشيء من خلال وحدة
الديمومة المتغيرة الحركية الحية الملوَّنة،
وليست الوحدة الثابتة المجردة الفارغة كما هو
الحال في تصدُّر الوحدة الخالصة.
٨ لا خلط إذن بين دور التحليل ودور
الحدس وهو سبب السجال بين المذاهب والمدارس
الفلسفية.
ويستعمل علم النفس التحليل مثل باقي العلوم؛
يفك الذات كحدس أولي بسيط إلى إحساسات وعواطف
وتمثُّلات … إلخ. يدرس كلٌّ منها على حدة،
ويجعل هذه العناصر أجزاء الموضوع الواحد،
الشخصية الإنسانية. الماضي والحاضر والمستقبل،
تيار شعوري واحد، لا تجريد فيه ولا قسمة، لكل
شخصية وحدتها وتفرُّدها ولونها وخصائصها
المستقلة. لا تتكرَّر؛ لذلك نشأ «علم النفس
الفردي» بجوار «علم النفس العام»، وكانت
النتيجة تشَظِّي الشخصية الإنسانية إلى عناصر
وتعبيرات جزئية. ليست الحروف أجزاءً تكوينية في
العبارة، بل تعبيرات جزئية عن وحدات كلية
بالرغم من قسمة الشعر إلى بحور، والعبارات إلى
تراكيب، والإنسان إلى مجموعة من الأجهزة
العضوية، والذَّرَة إلى جزيئات.
ولا فرق في ذلك بين التجريبية والعقلانية؛ إذ
يأخذ كلاهما التعريفات الجزئية وكأنها أجزاء
فعلية، خلطا بين وجهتي النظر التحليلية
والحدسية، العلمية والميتافيزيقية؛ الأولى تجعل
الإنسان مجرد حالات نفسية. وهو خطأ جون
استيوارت مل، وتين، وخلط بين وجهة نظر الحدس
ووجهة نظر التحليل، والبحث عن الأصل في
الترجمة. وترتكب العقلانية نفس الخطأ؛ إذ تعتبر
الحالات النفسية كشذرات مُتقطِّعة لذاتٍ تحاول
تجميعها. وفي كلتا الحالتين، يتم الاستدلال على
عناصر الترجمة كأنها أجزاء حقيقية.
٩
الشخصية وحدة واحدة، والسؤال هو أي وحدة وأي
تعدد وأي واقع؟ الحدس هو حدس الذات لنفسها
بنفسها، وكل معرفة للأشياء هي معرفة عملية
متجهة إلى مدى الفائدة منها. في حين أن الفلسفة
هي اتجاه نحو الموضوع بقوة الحدس.
ومسار التصورات مسار ثنائي متعارض، دعوى
ونقيض الدعوى، والواقع محاصَر بينهما، ويتحرَّر
من خلالهما. والتفكير هو الانتقال من التصورات
إلى الأشياء، وليس من الأشياء إلى التصورات.
التصورات والمُخطَّطات التي يستعملها التحليل
ثابتةٌ في حين أن الموضوع متحرك؛ ممَّا يؤدِّي
إلى المفارقة بين التصورات والأشياء، والعلم
الحديث دحرج البِلية على سطح مائل لدراسة
الحركة من أعلى إلى أدنى. ولم يكتفِ بدراسة
مفاهيم الأعلى والأدنى كالعلم القديم.
١٠
يتجه التحليل نحو الثابت، في حين يتجه الحدس
نحو المتحرك، وهي الديمومة. يبحث التحليل عن
التعريف، وهو مخطط، إعادة بناء بسيط، وعادةً ما
يكون مجرد رمز. الخطأ هو اعتبار هذه التمثلات
والتصورات والمخططات بديلًا عن الواقع. وحروف
القصيدة ليست أجزاءً منها، بل عناصر لرمز.
ويرتبط الرمز بالعادات وطرق التفكير وأساليب
التعبير. وإذا أمكن للتحليل أن يتناول الحدس
ويحوِّله إلى تصورات جاهزة، فإنه ينتهي إلى
تصورين متعارضين؛ فهناك تعدد حالات الشعور
المتتالية، وهناك أيضًا وحدة تجمعها.
كما لا يوجد شعور بلا ذاكرة، لا يوجد تواصل
في الحالات الشعورية دون قوة أو ضعف، زيادة أو
نقصان، دون إحساس بالحاضر وتذكر اللحظات
الماضية. وهذه هي الديمومة الداخلية، الحياة
المستمرة للذاكرة من الماضي إلى الحاضر، ومن
الحاضر إلى المستقبل. وبقاء الماضي في الحاضر
ليس هو الديمومة بل هي اللحظية. الديمومة في
صيرورة مستمرة بعيدًا عن الزمن الحسابي الكمي
المجرد.
ومشكلة الحركة مشكلة قديمة منذ خلط زينون
الإيلي بين المكان والزمان، بين ما ينقسم وما
لا ينقسم. أما الديمومة الفعلية فإنها لا تنقسم
ولا تتعدد ولا تتبخر في لحظات لا يدوم أي
منها.
منهج برجسون يتجاوز المثالية والواقعية،
ويبدِّد الغموض المتراكم حول المشاكل الفلسفية
الكبرى عن طريق الحدس. وهو ليس فعلًا واحدًا،
بل سلسلة من الأفعال اللامتناهية.
١١
وهناك فرق بين خلود الموتى وخلود الأحياء.
التحليل أي التقسيم ثم التوحيد للتصورات خلود
الموتى. أما الحدس، حدس الحالات الشعورية، فهو
خلود الأحياء.
والواقع حركة مثل الحدس؛ فالموضوع والذات من
نفس النوع وهي حركة تدريجية على النحو
الآتي:
- (١)
هناك واقع خارجي، معطًى مباشر
للذهن. وهو ما يؤيده الحس المشترك
ضد المثالية والواقعية عند
الفلاسفة.
- (٢)
هذا الواقع حركة وليس أشياء
جاهزة، بل أشياء في طريق الوجود؛
ليس حالات ثابتة، بل حالات متغيره.
كل واقع إذن هو ميل واتجاه في حالة
النشأة والتكوين.
- (٣)
عندما يتبع الذهن مساره الطبيعي
يبدأ بالإدراكات المتينة من ناحية
وبتصورات ثابتة من ناحية أخرى؛
فالذهن يتمثل حالات وأشياء،
إحساسات وأفكار.
- (٤)
يمكن للفكر استخراج تصورات ثابتة
من واقع متحرك، ولكن لا يمكن تكوين
حركة الواقع من ثبات التصورات.
الخلاف بين المذاهب لأسباب عملية
أكثر منها نظرية.
- (٥)
البراهين على نسبية المعرفة لها
عيب رئيسي؛ فإنها تفترض مثل
القطعية التي تنقدها أن كل معرفة
لابد أن تبدأ بالضرورة من التصورات
بحدودها المغلقة للوصول إلى الواقع
السيال. وهذا عيب النظريات
المثالية والنقدية ومذهب
الشك.
- (٦)
التفلسف هو قلب الاتجاه العادي
لعمل الفكر، والبحث عن تصورات
كيفية تواكِب الواقع المتغيِّر.
هذه هي الفلسفة الارتقائية
الطبيعية وليست الفلسفة الثابتة
المصطنعة.
- (٧)
موضوعات الميتافيزيقا
الاختلافاتُ والتكاملات الكيفية،
وعيب الرياضيات الحديثة التعامل مع
أشياء اكتملت، وهي في طريق
الاكتمال، بهدف التحقق العملي،
والفلسفة لا شأن لها به. لا تنطبق
الرياضيات إلا على الكميات وليس
الكيفيات في حالة النشوء.
الرياضيات الشاملة مجرد سراب
الفلسفة الحديثة وقع فيه ليبنتز
وهوسرل.
- (٨)
المعرفة النسبية هي المعرفة
الرمزية بتصورات مسبقة، موجودة
سلفًا من الثابت إلى المتحرك،
وليست المعرفة الحديثة التي تقبع
في المتحرك، وتتبنَّى الحياة بما
في ذلك حياة الأشياء. وهو الحدس
القادر على الوصول إلى المطلق، ولا
شأن له بطرق التعبير أو التطبيق
والعادات. يؤسَّس العلم من أجل
العلم. ويمكن تطبيقه في العلم
والميتافيزيقا على حد سواء.
وتتواصل الحدوس فيما بينهم كما
يتواصل موضوعها.
- (٩)
هناك إذن طريقتان لمعرفة الأشياء؛
أن يكون للعلوم المختلفة جذور في
الميتافيزيقا وهو موقف القدماء؛
فالعمل ضعف التأمل، والديمومة صورة
خادعة وحركة لخلود لا يتحرك. النفس
سقوط للفكرة وهي فلسفة أفلاطون
وأفلوطين، في الثابت أكثر مما في
المتحرك، والانتقال من الثابت إلى
المتحرك عن طريق التصغير. والعكس
هو الحقيقة، في المتحرك أكثر مما
في الثابت، والانتقال من الثابت
إلى المتحرك عن طريق التكبير.
١٢
والعلم الحديث ابتداءً من جاليليو درس الحركة
من أعلى إلى أدنى كما وضح في مفهوم الجاذبية
عند نيوتن دون تحليل مفهوم الأعلى والأدنى كما
فعل أرسطو في تحليله الحركة. ويخلط العلم
الوضعي بين الطبيعي والصناعي، بين معطيات الحدس
المباشر وعمل التحليل الضخم الذي يقوم به الذهن
خارج الحدس وحوله مما؛ أدى إلى افتراض نسبية
المعرفة. وهو مجرد ادعاء ينطبق على التحليل
وليس على الحدس.
١٣
كيف
كان أساطين الفلسفة الحديثة ميتافيزيقيين
مجددين للعلم على غير وعي بالتواصل الحركي
للواقع؟ كيف نسوا الديمومة العيانية؟ لماذا
الاستمرار في استعارة لغة أفلاطون ونموذج نظرية
المثل، والتأكيد على عقلانية سهلة، والنفس خلقه
في الحياة، بل واعتبار النفس فوق الفكرة في
الفلسفة الحديثة؟ ثم سار العلم الحديث في اتجاه
معاكس لاتجاه الفلسفة القديمة. وأحاط نفسه
بمجموعة من الرموز من اختراعات الذهن تم نقلها
من العلم إلى الميتافيزيقا، وأصبح العلماء
ميتافيزيقيين والميتافيزيقيون علماء. ليس العلم
الحديث واحدًا ولا بسيطًا بالرغم من قيامه على
أفكار واضحة، ولكنه فقد الاتصال بالواقع
المباشر. أما أرسطو فقد وضع المنطق في الأشياء،
وكان هذا هو اكتشافه وهو أفضل من اكتشاف
المحدثين.
وقد بدأ كانط هذا الخطأ عندما دفع
الميتافيزيقا والعلم إلى حدهما الأقصى في
الرمزية بالحدس العقلي؛ فالعلم نسبي،
والميتافيزيقا مصطنعة، ثم تحوَّل العلم
والميتافيزيقا من الفلسفة النقدية إلى مذاهب
قطعية عودًا إلى الأفلاطونية ونظرية المثل في
المعبد اليوناني بفعل العقل والتمثُّل
التصوُّري والأفكار الواضحة. «نقد العقل
الخالص» نوع من الرياضيات الشاملة أو
الأفلاطونية أو النسَق العقلي أو الانسجام
المسبق؛ وبذلك استحالت الميتافيزيقا. انتهى
«نقد العقل الخالص» إلى أن الأفلاطونية غير
شرعية إذا كانت المُثُل أشياء، وشرعيةً إذا
كانت المُثُل علاقات واختزال المثال الجاهز من
السماء إلى الأرض، وهو الأساس المشترك للطبيعة.
يقوم «نقد العقل الخالص» على مصادرة أن العقل
عاجز عن إدراك أي شيء إلا الأفلاطونية؛ أي حسب
كل تجربة ممكنة في قوالب مسبقة. ومع ذلك قضى
كانط على النقد بنقائض العقل، ومن ثم انتهت
الميتافيزيقا الحديثة والعلم الحديث كما بدآ معًا.
١٤ الفلسفة النقدية نموذج للرؤية
الخارجية على عكس هوسرل الذي أعاد بناءه على
مستوى الشعور دون رفضه والبحث عن بديل له في
الحدس كما فعل برجسون، ماتت الميتافيزيقا عند
كانط، وتجسَّدت في دعاوى ودعاوى مضادة، وقد
كانت من قبلُ حيةً عند الفلاسفة، بل إن
اختلافهم كان يكشف عن أصل مشترك.
ليس الحدس سرًّا، بل هي مَلَكة طبيعية موجودة
لدى كل إنسان، وبالرغم من أن العلم الحديث قد
أمات العلم، إلا أن الحدس الميتافيزيقي قادر
على تركيب المعرفة، ليس للميتافيزيقا أي علاقة
مع تعميم التجربة. ومع ذلك، يمكن اعتبارها
التجربة الشاملة.
(٣) مقدمة (الجزء الأول): نحو الحقيقة، الحركة
التراجعية للحقيقي١٥
تنمو الحقيقة كما تنمو الكائنات الحية من
الأميبة إلى الإنسان، وكما يتطور الوحي من أول
الأنبياء إلى آخر الأنبياء. كل مرحلة سابقة تصب
في المرحلة اللاحقة. وكل مرحلة لاحقة تتراءى
بدورها في المرحلة السابقة. تتقدَّم الحقيقة
إلى الأمام، وتتراجع إلى الوراء. وليست الحقيقة
ثابتة. يكتمل أفلاطون في كانط، وكانط في هيجل.
ويتراءى برجسون في هرقليطس وأوغسطين ومين دي
بيران ووليم جيمس وهويتهد ورافيسون.
وأهم ما تحتاجه الفلسفة هي الدقة، وتعني
الدقة القد على حسب الواقع، لا أكثر كما هو
الحال في المثالية، ولا أقل كما هو الحال في
الواقعية. إذن، تحتاج المذاهب الفلسفية إلى أن
تُقد طبقًا للواقع؛ لذلك يُوجه هذا الجزء الأول
من المقدمة ضد المذهبين الشائعين؛ المثالية كما
يمثِّلها كانط، والواقعية كما يمثِّلها سبنسر وكومت.
١٦
وقد وقع برجسون في شبابه في غواية الفيلسوف
الآلي سبنسر بعد قراءة كتابه «المبادئ الأولى»
بالرغم من غموض عمومياته وإسقاط مفهوم الزمان
كما فعل زينون الإيلي من الحساب؛ فالزمان
الفعلي يند عن الرياضة وعن تجاور الأجزاء،
وقياسه عن طريق مسار المتحرك في خط مستقيم مع
أن الخط ثابت وجاهز من قبل. الزمان هو الشعور
المتحرِّك، الزمان الداخلي الذي لا ينقسم.
والحياة الداخلية تيار متصل وليس ارتباطًا بين
الظواهر وتداعي المعاني.
١٧ تند الحياة الداخلية عن قوانين
الارتباط وتداعي المعاني. صحيح أن فلسفة سبنسر
فلسفة تطوُّرية من أجل إدراك الواقع في حركة
وتقدُّمِه ونضجِه الداخلي. تستبعد الديمومة،
وتكتفي بالتجاوز والتتابع. وتُعبِّر الديمومة
عن نفسها بالموسيقى، وتُدرك بالحدس وليس باللغة
وعادات التعبير وأساليبه الشائعة. ليست مهمة
العلم تعميم الديمومة وتغطيتها وحجبها والتستر
عليها سواء فيما يتعلَّق بالحركة أو بالتغيُّر.
ليست الحركة مجرد سلسلة من المواضع، بل هي موضع
واحد. ولا تنقسم إلى لحظات. لحظات الزمان
ومواضع المتحرك مجرد لحظات وضعها الذهن على
تواصل الحركة والديمومة.
١٨
لذلك من الضروري استعادة الزمان الفعلي،
واكتشاف تيار الشعور بعيدًا عن حجج زينون
الإيلي والمفاهيم المصطنعة للعلم الحديث؛
حينئذٍ تصبح الميتافيزيقا التجربة نفسها، وتظهر
الديمومة كخلق مستمر، وانبثاق لا ينقطع من
الجدة. الديمومة حركة فعلية وليست حركةً
متوهَّمة مثل الحركة السينماتوجرافية التي تقوم
على وهم الحركة عن طريق السرعة وملاحقة الصور
بعضها بالبعض الآخر في الزمان وبقائها في
الذاكرة. يتراءى الحاضر في الماضي في التعرُّف
على الأشياء وكأنه تمَّت رؤيتها من قبل. يُحيل
برجسون إلى أوغسطين، وكانط إلى أفلاطون، وهيجل
إلى أرسطو. وهي حقيقة شعورية وإن كان وهمًا
موضوعيًّا. وتقوم علوم القراءة والتأويل على
هذا الترائي للحاضر في الماضي. وفي تاريخ
النبوة محمد هو آدم وإبراهيم وموسى وعيسى. كل
الأنبياء صور مُتكرِّرة منه. وهو ثمرة الشجرة
بعد أن اكتملت في التاريخ. فالجديد قديم،
والحاضر ماضٍ، وكل حقيقة وقتية هي حقيقة خالدة؛
فالحقيقة ليست ثابتةً في مكانها، جاهزة في
إدراك الحاضر، بل هي ممتدة في الماضي كبذور وفي
المستقبل كتحقق. المنطق تراجعي. والآن بعد
اكتشاف تيار الشعور، يُعاد اكتشاف الرومانسية
في القرن السابع عشر عند روسو وشاتوبريان
وفينيي، وهوجو. وهو منطق الضمني والممكن وليس
منطق العادات.
١٩
وينبثق من الديمومة اختيار حر لا يمكن التنبؤ
بمساره. هي أشبه باللحن الداخلي. هناك فرق بين
التطور وفك «الرول»؛ حيث تتجاور فيه الأجزاء
سواء كان الفك سريعًا أم بطيئًا. الديمومة أشبه
بالمنطاد الذي يشتد ويرتخي، يمتد وينكمش. وكلما
كان الشعور في حالة توتر كان في حالة خلق وإبداع.
٢٠
هناك معطيات مباشرة كما عرض برجسون من قبلُ
في رسالته الأولى «رسالة في المعطيات البديهية
للوجدان» (١٨٨٩م).
٢١ لا فرق إذن بين كانط وسبنسر، بين
العقلية والوضعية، بين القطعية واللاأدرية، بين
الكانطية ومذهب الارتباط أو تداعي المعاني في
تجاهل الديمومة. في حين أن وظيفة العقل في
الإبقاء على بعض العادات من أجل الحياة
العملية؛ لذلك يستعمل تصورات مصطنعة وأخرى
زائفة من أجل إحداث الأثر المطلوب.
٢٢
(٤) المقدمة (الجزء الثاني): في وضع المشاكل٢٣
وواضح من العنوان الطابع المنهجي للموضوع؛
فكيفية السؤال تتضمن نصف الإجابة، خشيةً من وضع
السؤال وضعًا خاطئًا منذ البداية فتخطئ الإجابة
عليه. وقد كُتبت هذه المقدمة أساسًا ضد
العقلانيين الذين يضعون المسائل الفلسفية وضعًا
خاطئًا؛ لذلك كثرت الإحالة إلى الكانطية
والأرسطية واسبينوزا وشيلينج وشوبنهور
والأفلاطونية وفشته وهيجل وغيرهم من العقلانيين
الخُلَّص أو الحدسيين.
٢٤ أما فلاسفة العلم فقد ذُكروا فقط
في الهوامش.
٢٥
الديمومة هو الموضوع الرئيسي في الفلسفة،
والحدس هو المنهج الملائم لها. وهناك فلاسفة
للحدس مثل شيلينج وشوبنهور، غير العقلانيين
الخُلَّص مثل ديكارت واسبينوزا. عارضوا الحدس
بالعقل؛ فالحدس هو البحث المباشر عن الخالد،
والعقل المجرد الذي يعتمد على التصورات غير
قادر على الإدراك مثل الحدس. الحدس مَلَكة فوق
العقل. يخرج من الزمان كديمومة؛ إذ لا يدرك
العقل إلا الزمان المكاني، الزمان الاعتيادي
الشائع في الحياة اليومية. في حين يُدرك الحدس
الديمومة في حركة الواقع وليس في ثوابت الفكر:
الجوهر، الذات، المثال، الإرادة … إلخ. ليست
الفلسفة استنباطًا من مقولات سابقة ولا عن
تصورات مصطنعة، بل هو إدراك حدسي لتموُّجات
الواقع. العالم واحد بالتجربة وليس كمصادرة
مبنية يفرضها العقل. الحدس إدراك للديمومة في
تواصلها من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل.
إنها رؤية الروح بالروح بعيدًا عن اللغة، ألفاظ
ومقولات، وبالدخول في الحياة الباطنية. يعني
الحدس الوعي المباشر، ورؤية الشيء بالاتحاد به
ضد المنطق الصارم والمعادلات الرياضية. إنه
التعاطف مع الموضوع والاتحاد معه لإدراك
ماهيته. إنه الحدس الحيوي وليس فهم الصوري،
رؤية العياني وليس تصور المجرد. موضوع العلم هو
الآلي الخالص الثابت الكمي الرياضي دون مشاركة
روحية. العلم يتناول المجرد والمتواضع والمتفق
عليه وما يمكن بناؤه وقسمته بالذهن والحس
المشترك والتعبير عنه باللغة. يتجه الحدس نحو
الديمومة وليس اللحظي، نحو المتحرك وليس الثابت.
٢٦
صحيح أن الوضوح والتميز من شروط صحة الفكرة،
ولكنها الفكرة الجديدة وليست الفكرة القديمة في
نظام جديد. هي الفكرة الجديدة تمامًا والبسيطة
للغاية لأنها خالية من العناصر والتي يمكن
فهمها بلا جهد. تضيء بذاتها على ذاتها وعلى
غيرها. لا تحتاج إلى لغة أو تصورات أو تقطيع
وتحليل وتجزئة ولا إلى تعميم وإطلاق. الفكرة
الواضحة الجديدة فعل حر للوعي خارج نطاق
الحتمية العقلية والعلم واللغة والحس المشترك
والذهن. هي فكرة الفيلسوف وليس فكرة الكتبة والفريسيين.
٢٧
موضوع
الميتافيزيقا هو الروح ومنهج خاص هو الحدس، ومن
ثم تتميَّز الميتافيزيقا عن العلم، والحدس عن
العقل، ولكل منهما قيمته المتساوية. يقوم العلم
الوضعي على الملاحظة الحسية، ثم يجرِّدها
ويُعمِّمها ويُصدِر أحكامًا، ويُقيم استدلالات
بالعقل. ويستعمل الرياضيات الخالصة في
الميكانيكا ثم الفيزيقا ثم الكيمياء وأخيرًا في
البيولوجيا. يتعامل مع المادة المصمتة، ويربط
الظواهر الفيزيقية بالكيميائية والحيوية. وتبدأ
المشكلة إذا ما تناول العلم الطبيعي الروح. وهو
موضوع غامض وليس في متناول اليد، صورة مجازية
وصياغات متشابهة.
٢٨ واستدلالاته قد تند عن العقل الذي
ما زال مرتبطًا بالحس. وقبل التأمُّل هناك
الحياة، والحياة تسبق التأمل. يتجاوز العلم
موضوعه دون أن يُغيِّر اتجاهه. والعقل متكيِّف
مع المادة، والآلة من نفس نوع الموضوع، وبينهما
علاقة تكوين وبناء وإعادة بناء. بينهما معايير
النسق والتطابق. بدأ ذلك عند اليونان من قبل،
واستمرَّ في العصور الحديثة. المادة والعقل من
نفس النوع، لهما نفس الخصائص، الثبات والقسمة
والنسق، وكلاهما قاصران عن الوصول إلى المطلق.
يتعرَّضان للخطأ، والوقوع في الوهم، وتشويه
الصور، والأبنية الخاطئة، في حين أن الروح
مطاطي غير مستقر. ومن ثم المادة والروح نقيضان،
كما أن العلم والميتافيزيقا ضدان. ولا يمكن
إقامة ميتافيزيقيا للمادة أو علم للروح. لكل
علم ميدانه وموضوعه ومنهجه ومستواه، الخارج
والداخل، وأُفُقه، المنفعة والحكمة. المادة
تنحرف بالروح كما أن الروح تنحرف بالمادة إذا
تم الخلط بينهما. ترى الروح الروح، وتعقل
المادة المادة، وقد يُعبِّر الحدس عن نفسه
بالعقل، ويستعمل اللغةَ والأساليب المجردة أو
الطرق البيانية من استعارة ومجاز ومقارنة ولغة
مجردة ومعادلات.
والخلاف بين العلم والميتافيزيقا ليس فقط
خلافًا في الموضوع والمنهج، بل هو أيضًا خلاف
في القيمة؛ إذ يبحث الأول عن النسبي، في حين
يبحث الثاني عن المطلق. يبدأ كلاهما بالتجربة
نحو الأدنى أو نحو الأعلى. الأول يتعامل مع
تصورات جاهزة، ويتعامل الثاني مع حقائق ما زالت
في سبيل النمو وطور التكوين؛ لذلك يحتاج العلم
الحديث إلى إصلاح يرفع مستوى العلم، كما تحتاج
الميتافيزيقا المعاصرة إلى إصلاح بإنزال
مستواهما الأفلاطوني الكانطي العقلي المجرد إلى
مستوى عالم الحياة.
خطورة
المذاهب الفلسفية تغليف الواقع أكثر من تعريته،
وتغطيته أكثر من كشفه، وإظلامه أكثر من إنارته؛
فهي تتبع منهج العلم في الميتافيزيقا، وطريقة
استنباط الحقائق بدلًا من البدء بالتجربة. مالت
نحو الأفلاطونية والأفلاطونية الجديدة، بل وأحد
جوانب الأرسطية، وهو الجانب المنطقي. واستمرَّ
ذلك في العلم الحديث في تحويل الطبيعة إلى
رياضة، والكيف إلى كم، والنفس إلى بدن، والدين
إلى اجتماع، والأخلاق إلى عادات شعبية. ظن
العلم الحديث أن أكبر ضمان له في الفكرة خارج
التجربة. بل إن الله نفسه يستنبط من الفكر. هو
المحرك الأول والعلة الأولى ومثال المُثُل كما
كان عند قدماء اليونان. هو الله الثابت وليس
المتحرك.
كُلُّ مَنْ
عَلَيْهَا فَانٍ *
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ
وَالْإِكْرَامِ و
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا
وَجْهَهْ وليس
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ.
خلط العلم الحديث بين الفكرة الشارحة والفكرة
الفعَّالة، وآثر التمثيل الذي يقوم على
المواضعة والعلامات مستبعدًا الشيء في ذاته عند
كانط، والجوهر عند اسبينوزا والأنا عند فشته،
والمطلق عند شيلينج، والتصور أو الفكرة عند
هيجل أو الإرادة عند شوبنهور. الخطأ الرئيسي في
المذاهب الفلسفية أنها تدَّعي أنها تدلنا على
المطلق بمجرد تسميته. والتصور فارغ بلا مضمون.
والحقيقة أن الوجود لا يعطي إلا من خلال
التجربة. والتجربة رؤية واتصال مباشر، كما أنها
إدراك حسي. التجربة حدس أشبه بالطريق الصوفي.
والفلسفة ترفع الفيلسوف إلى ما هو أسمى من
الوضع الإنساني.
٢٩
والتصورات في الكلمات، وهي التي تُسمَّى
الفكرة العامة. التصورات ألفاظ. لها وجود في
اللسان وليس في الأذهان ولا في الأعيان كما
يفصِّل المناطقة المسلمون. الدوافع عملية
ومقتضيات اجتماعية؛ فاللغة أداة الفعل الجماعي.
أمَّا الفلسفة فإنها تبحث عن المسألة ثم تجد
لها حلًّا، ليس على سبيل الكشف بل على سبيل الاختراع.
٣٠
وهذه هي نشأة الأفكار العامة وقيمتها في
تاريخ الفلسفة.
٣١ هي تمثُّلٌ يتضمن عددًا لا
نهائيًّا من أشياء تندرج تحت هذا الاسم؛ فكل
الكلمات هي أفكار عامة. السؤال هو كيف يتم ذلك،
وبأي تمثُّل، ولصالح أي بنية للواقع؟ فمثلًا في
علم النفس تعرف أولًا، الدلالة الحية ومظاهر
الحياة الأولى مثل الذاكرة والخيال والتصور
والإدراك، والتعميم. الفكرة العامة هي نسيج
الكائن الحي بالرغم من التجريد والعمومية. تبدأ
بالتصور والإدراك طبقًا للغرائز والحاجات. ثم
يبدأ التعميم بناءً على أوجه التشابه بين
الأشياء. وهو ما يميِّز الإنسان عن غيره من
الكائنات الحية، التعامل مع الأجناس والأنواع،
وليس فقط مع الأفراد. وهو ما قاله علماء الكلام
في علم الله بالكليات من أجل سرعة العمل
والتعامل. ويدخل التقليد كأحد العوامل في
التعميم، كما تدخل اللغة والتسمية، وإطلاق اسمه
واحد على مسميات عديدة. وأخيرًا تدخل العادات
الحركية والانتقال من ميدان العمل إلى ميدان
الفكر، ثم تصبح الأفكار العامة نماذج لبعضها
البعض لأن الفرد يعيش في مجتمع. وبتداخل
الأفراد تتداخل النماذج من أجل إيجاد لغة
مشتركة في الحوار بين الأفراد. ووجود وسائط
للتفاهم هي الأفكار العامة، الموضوعية الداخلة
في نسيج الأشياء.
وهناك ثلاثة أنواع من التشابه:
-
الأول: المجموعة البيولوجية.
فالحياة تعمل وكأنها تتضمن أفكارًا
عامة. وهي الأجناس والأنواع التي
تتفرَّع بدورها إلى فرعين، وتنقسم
إلى قسمين. وتعني الغائية إعطاء
المادة الحية بعض الخصائص.
-
الثاني:
من المادة الحية إلى المادة
الصلبة، من العضوي إلى اللاعضوي،
حيث توجد أنواع فعلية من نوع آخر،
صفات مثل الألوان والمذوقات
والمسموعات إذا تم الانتقال إلى
عالم الأشياء. وهناك الأوزان
والحرارة. ويؤدِّي هذا التشابه إلى
التقارب، والتقارب إلى التماثل.
ويتم الصعود في الأجناس والأنواع
من الكيميائي إلى الفيزيقي، ومن
الفيزيقي إلى الرياضي. وينتهي
المنطق البسيط إلى أن التشابه
تماثُل جزئي، والتماثل تشابه كامل.
التماثل هندسي، والتشابه حيوي؛
يقوم الأول على المقياس، والثاني
على الفن. وتكرار المحسوسات
يُحيلها إلى تماثل. وتتدخَّل
الحرية الإنسانية أحيانًا لتكسر
رتابة هذا التكرار، وتجعله يتفرَّع
إلى فرعين مختلفين؛ فالحياة تسير
طبقًا لقانون الهُوية والاختلاف،
جمع المتشابهين وتفريق المختلفين.
كل منهما نظام من المقدار.٣٢ ويتحدَّد الاختيار
بالقدرة على الفعل. وتُطابق
الأفكار العامة خصائص المادة
وأفعالها بفضل الرياضيات الحالَّة
في الأشياء، وتقابل الهندسي مع
الحيوي، والحيوي مع التشابه
والتماثل.
-
والثالث: الأفكار العامة عن طريق
التأمل والفعل الإنساني؛ فالإنسان
صانع بالأصالة. والعقل كقدرة على
الاختراع قادر على ذلك، بِناءً على
نموذج مُدرَك أو مُتخيَّل. وتقوم
كل المدنية على عدد معين من
الأفكار العامة تُعرف مضامينها
وقيمتها، وهو ما يؤدِّي إلى
الألوهية سواء في الفلسفة القديمة
أو الحديثة. ولا تنطبق الصناعة فقط
على المادة، بل على المجموعات
الثلاث من الأفكار العامة العضوية
واللاعضوية والإنسانية لتحقيق
ثلاثة أهداف: تسهيل شئون الحياة
الاجتماعية أو لتسهيل التأمُّل
الخالص أو من أجل المتعة. وعلاقة
الفرد بمجتمع هي علاقة حوار وفعل،
مشافهة وممارسة، حديث
وإنجاز.
وأحيانًا يستبعد الإنسان الفكر التصوُّري أو
على الأقل يحاول إصلاحه بالفكر الحدسي،
والابتعاد من المنظور الاجتماعي، والتحول من
الإنساني إلى الإلهي؛ فالدافع الحيوي هو نفسه
الذي يولِّد الأفكار العامة والذي يدفع نحو
الذروة في الإلهي.
وخطورة الأفكار العامة الوقوع في أشباح
المشاكل أو المشاكل الزائفة،
٣٣ ومنها مشكلة «أصل الوجود» المادة
أو الروح أو الله، وهي مشكلة النظام بوجه عام،
وحلها الأسهل العلة الأولى.
ومن المشاكل الزائفة الفوضى والعدم مع أن
الفوضى هي غياب النظام المتوقع، والعدم غياب
الوجود المتوقع. الفوضى نظام سلبي، والعدم وجود
سلبي، فهما لفظان مفرَّغان من المعنى بسبب
التأمل وضرورات الحياة العملية. هي مشاكل
تُعطِّل التقدم إلى الأمام. ومن هنا أتت أهمية
الشك القديم والنقد الحديث خاصةً «نقد العقل
الخالص» عند كانط. فالميتافيزيقا مستحيلة إن لم
تبدأ بالتجربة.
هذا هو خطأ العلم والعقل،
٣٤ وحِرصًا على تقدُّم العلم والعقل
تُبين حدودهما معًا حتى يمكن بعد ذلك معرفة
إمكانية الوصول إلى المطلق بنفس الوسائل أم
بوسائل أخرى. وكما أن المصطنع لا يُعرف إلا
بالمصطنع، فإن الطبيعي لا يُعرَف إلا بالطبيعي.
ليس الفيلسوف مطالَبًا بوضع كل الفلسفة
كالأستاذ، بل بالاقتراب منها كالتلميذ.
كما تمنع العادات العقلية من التفلسف، وذلك
مثل تصور الأشياء ثابتة. مسميات لأسماء، يمكن
تصورها بالعقل كما يفعل أرسطو من أجل مقتضيات
اجتماعية، وتلبية حاجات عملية، وهو ما يقتضي
الانقلاب على الذات وعادات التفكير كما حاول
كانط في النقائض التي هي من صنع الإنسان حتى
يتحرَّر الإنسان منها، وينطلق إلى رِحاب أوسع
واكتشاف منهج آخر للحياة الباطنية بعيدًا عن
التجاور والجواهر ليبحث عن الديمومة الخالصة
كاللحن الذي يدخل فيه الماضي في الحاضر.
٣٥
تستطيع التجربة المباشرة القضاء على المشاكل
الزائفة والعادات العقلية والتمثلات الذهنية
والصور الخيالية. تلجأ التجربة المباشرة إلى
حركة الواقع وتطور الأشياء بعيدًا عن الشذرات
كما تقتضيه ضرورات الحياة العملية.
٣٦ وتنبثق الحربة من التجربة المباشرة
متجاوزةً كل البراهين العقلية على الاختيار
الحر أو الحرية الطبيعية. ولا تستطيع أي نظرية
أن تقاوم الواقع، ولا تستطيع أي نظرية
فيزيولوجية أو نفسية أو سيكوفيزيقية الصلح بين
النفس والبدن، وأن تثبت أو تنفي الحرية كتجربة
مباشرة إلا عن طريق الانتباه إلى الحياة
واللجوء إلى التجربة الباطنة. ولا تستطيع
الوظائف العقلية أو الذاكرة أو تداعي الأفكار
أو التجربة أو التعميم أو التفسير أو حتى
الانتباه أن يصل إلى شيء لأنها كلها مرتبطة
بالسيكوفيزيقا.
وللقضاء على المشاكل الزائفة يتم التدقيق
فيها وإحكامها وضبطها مثل النظام الميتافيزيقي
القائم على فهم الروح للمادة، ويُنهي الصراع
التقليدي بين المثالية والواقعية، بين الذات
والموضوع أو بين الروح والمادة، وتنتهي مشكلة
بركلي كما أنهاها «المادة والذاكرة» وكل الخلاف
بين الكانطيين وأعداء الكانطيين، ومن ثم من
الضروري إعادة تحديد العلاقة بين الذات والموضوع.
٣٧
ونقد العلم يؤدِّي أيضًا إلى نقد العقل.
ويعني نقد العقلانية وممارسة النفي ونقد
اللفظيات التي تشوِّه جزءًا من المعرفة. العقل
هو طريقة التفكير من أجل توجيه السلوك،
والسيطرة على الطبيعة، وسهولة التحرك في المكان
غير المنظَّم. يتجه إلى الصنع كما يتجلَّى في
فن الميكانيكا، وبلغة تُعلِن عن العلم. في حين
أن العقلية البدائية اعتقاد وتراث. يتجه التطور
الطبيعي للعقل نحو العلم والتقنية وما يُثيرانه
من رياضيات ما زالت غامضة؛ فالعلم والفن آليتان
للمادة ولكنهما ليسا طريقين للمطلق؛ في حين
تلجأ الميتافيزيقا إلى الحدس. وبوجود علوم
الحياة الأخلاقية والاجتماعية والعضوية
والعقلية والحدسية تحوَّل الشعور إلى ميدان علم دقيق.
٣٨
والأهم من ذلك كله هو «النقاش» أو الحوار حتى
وإن لم يكن مضبوطًا، وهو منبع النقد. النقاش هو
تبادل الأفكار عن طريق اللغة والكلمات وعادات
الكلام وأساليب التعامل الاجتماعي. فالإنسان
مدني بالطبع كالنملة في مجتمع النمل مع فرق أن
النملة تمتلك وسائل جاهزةً للوصول إلى غرضها،
في حين أن الإنسان يخلق وسائلة وطرقه. وقد أتقن
اليونان منطق اللغة وأساليب الكلام في البلاغة
والخطابة والنحو، الثلاثي في الفنون الحرة
السبعة. وسُمي الحوار. ويعني اشتقاقًا الحديث
المزدوج
δaλEγείν.
وهو الفن الذي أتقنه أفلاطون. الإنسان
التخصُّصي هو الذي يتعامل مع العلم والعقل،
والإنسان الذكي أو العاقل هو الذي يُحسن
الكلام. الإنسان هو الإنسان العامل. ومن تفكيره
على العمل يصبح الإنسان الحكيم، ثم يصبح
الإنسان المتكلم من التفكير على الكلام.
فالحقيقة جزء من الحراك الاجتماعي.
٣٩
التوتر والتركيز كلمات تُعبِّر عن منهج
الروح؛ فلكل مشكلة جديدة جهد جديد. وهو الفهم
الذي اتَّبعه برجسون في «مؤلفاته التطبيقية
السابقة» «رسالة في المعطيات البديهية
للوجدان»، «المادة أو الذاكرة»، «التطور
الخالق». مهمة الفلسفة إعادة وضع المشاكل وضعًا
صحيحًا ثم رؤية موضوعاتها بالحدس، وتلك مهمة
الكتاب الفلسفي.
٤٠
(٥) الحدس الفلسفي٤١
الحدس الفلسفي هو الروح الفلسفي، والروح
الفلسفي هو كل الفلسفة. والفلسفة بلا حدس مجرد
نظريات فلسفية. والميتافيزيقا هذه اللحظة تريد
أن تُبسِّط نفسها وأن تقترب أكثر من الحياة.
ولا شيء جديد في ذلك، بل حاوله كثير من
الفلاسفة من قبل. وتجميع الحروف أي المذاهب
الفلسفية قد تُذهب الروح. لقد غرق تاريخ
الفلسفة في رصد المذاهب الفلسفية الكاملة
وإحكام أنساقها كأبنية شامخة سرعان ما تتهاوى
على معاوِل التجربة. والمذاهب نفسها تيارات
فلسفية عاش الفيلسوف بينها. ولها رائد أو مؤسس.
وبدلًا من الالتفاف حول أفكار الفيلسوف يمكن
النفاذ إليها.
٤٢ الحدس الفلسفي بسيط على عكس
المذاهب الفلسفية المُعقَّدة والتي يمكن النفاذ إليها.
٤٣ ومعرفة الحدس الأول الذي قامت عليه
قبل أن تُغلِّفه التمثُّلات والتصورات
والتراكيب العقلية.
ويأخذ الحدس صورةً متوسطة بين بساطة الحدس
العياني والتعقيد المجرد الذي يُعبِّر عنها.
وهي صورة مراوغة هاربة تتراءى إلى الذهن دون أن
يدركها. وما يميِّز هذه الصورة أولًا هي قدرتها
على النفي مثل شيطان سقراط. وهو ما يهمس في أذن
الفيلسوف بالاستحالة بعدما اعتقد أن الحل ممكن
وواقعي ويقيني. وتأتي الاستحالة من الخلط.
وتتنوع طرق الإثبات ولكن النفي واحد، وهو ما
سمَّاه علماء الكلام اللاهوت السلبي الوحيد
الممكن في نفي ما يستحيل على الله في حين
يتعدَّد اللاهوت الإيجابي في إثبات ما يجب له.
٤٤
وتأتي الصورة المتوسطة لحل الخلاف بين
التيارات الفلسفية المتعارضة في كل عصر.
٤٥ فالفيلسوف بهذا المعنى ابن عصره في
تصوره للعلم والفلسفة وفي الصراع بين القديم
والجديد؛ فالحديث يكرِّر القديم، تطويرًا له
ومتطوِّرًا منه. الفلسفة كائن معنوي أكثر منها
كائنًا تجميعيًّا، ولا تقول إلا نفس الشيء
بلغات متعددة وبطرق مختلفة وأساليب متباينة.
الحدس واحدٌ لا يتغيَّر، في حين تتعدَّد
تطبيقاته. الحدس رؤية أكثر منه تركيب مذهب،
واقع وحركة وليس بناءً معماريًّا. العصر مجرد
مظهر، والحدس حقيقة.
٤٦
وقد عاش برجسون هذه التجربة عندما اختير
أستاذًا في الكوليج دي فرانس وقام بتدريس بركلي
واسبينوزا لمدة طويلة مع التمييز بين العرض
والجوهر، والصورة والمضمون في المذهب والعمل
مثل «كتاب الأخلاق» لاسبينوزا، ومقولاته
الرئيسية: الجوهر، الصفة، الفكر، الامتداد،
بالإضافة إلى مقالات ثقيلة أخرى من التراث
الديكارتي والأرسطي. مع أن الحدس بسيط، الإحساس
بالاتحاد بين فعل الإدراك الكامل والفعل الإلهي
ذاته الذي منه تتولَّد الأفعال. وهي فكرة
الإسكندرانيين؛ أي أفلوطين ومدرسته في الفيض.
يخرج كل شيء من الألوهية ويعود كل شيء إليها؛
فالفلسفة فعلان، ذهاب وإياب، أو بتعبير اللاهوت
سقوط وخلاص.
٤٧
ويقال نفس الشيء بالنسبة لبركلي الذي يمكن
تلخيص فلسفته في أربعة دعاوى: الأولى تُعَد
نوعًا من المثالية انطلاقًا من نظرية الرؤية،
وخلاصتها أن المادة مجموعة من الأفكار، وهي
تُشبه مذهب المناسبة عند مالبرانش وربما أيضًا
عند ديكارت. والثانية أن الأفكار المجردة تُرَد
إلى كلمات كما هو الحال في الاسمية. وهي من
مشاكل العصر الوسيط قبل أن تُصبح جزءًا من
الفلسفة الحديثة عند هوبز، والثالثة الجمع بين
الروحية والإرادية كما هو الحال عند دنزسكوت
وديكارت، والرابعة التأليه وهو وضع وجود الله
على اعتبار المادة وحدها، وهو ما يوجد في اللاهوت.
٤٨
فلسفة بركلي، وهو أكثر الفلاسفة ذكرًا في
نظرية الرؤية، تتكوَّن إذن من ديكارت ولوك
وهوبز، ضد القطعية الرياضية لأسقف فيلسوف أراد
المصالحة بين العقل والإيمان (بوسويه) مع بعض
صياغات الأفلاطونية الجديدة. وقع بركلي في
الاسمية والمثالية المجدبة مع إلغاء وجود الجسد
إلا في الذهن الإلهي؛ فالمادة مشارِكة في
الامتداد مع التمثل. الوجود هو المظهر، والشيء
مخزن للإمكانيات. المثالية والاسمية شيء واحد.
المادة التقاء إرادتين؛ إرادة الإنسان وإرادة
الله. يشارك الذهن الإنساني والمادة، والعقل
الإلهي في نفس الوظيفة.
٤٩
وفرق بين مقولات المذهب وروحه؛ فالمذهب كائن
حي. والصورة المتوسطة مادة، ولكنها أيضًا روح،
يدركها الحدس. وفي حالة بركلي هناك صورتان
متوسطتان. المادة رقيقة شفافة بين الإنسان
والله تكشف الله للإنسان، وتكشف الإنسان لله من
خلال الرؤية. وهناك طريقتان للتعبير، التصور
والصورة. التصور فارغ، والصورة مملوءة بالحياة.
التصور كمي، والصورة كيفية.
٥٠
ليست علاقة المذهب الفلسفي بالمذاهب السابقة
علاقةً كمية، أثر ومتأثر، بل علاقة كيفية عن
طريق روح المذهب؛ أي مسار الفكر واستمراره من
السابق إلى اللاحق أو انقطاعه.
الفلسفة هي العلم الشامل وليست حصيلة العلوم
الجزئية التي عاصرها الفيلسوف الذي يبحث عن
توحيد المعارف الإنسانية. ويمكن أن يكون لكل
علم جزئي فلسفة، وهذا لا يغني عن الرؤية
الشاملة للعلم.
٥١ ليست الفلسفة تركيبًا من علوم، بل
ديمومة متصلة على مستوى الفكر والشعور؛ فالمادة
والحياة في داخل الشعور الحدس الفلسفي هو هذا
الاتصال. الفلسفة هي الدافع، والعلم مجرد تخارج
بدافع من الأعماق. ولا يتجه الفيلسوف إلى
الوحدة التي خرج منها.
٥٢
والعلم عامل مساعد للفعل. ويهدف الفعل إلى
تحقيق غاية. يبحث العالم عن المتكرِّر والثابت.
ويحاول تطويع الطبيعة بل وخداعها أحيانًا. وقد
وضع بيكون قاعدة العلم من الطاعة «أجل
القيادة». والفيلسوف لا يطيع ولا يأمر، بل
يحاول التعاطف. جوهر الفلسفة هو روح البساطة.
التعقيد مصطنع، والبناء زائد، والتركيب ظاهري.
التفلسف فعل بسيط.
٥٣ الفلسفة تحيي، ومن ثم عليها أن
تخرج من المدرسة إلى الحياة. التجربة علم ناشئ
والعلم إدراك بالغ، والحركة سلسلة من المواضع،
والتغير سلسلة من الكيفيات، والصيرورة سلسلة من
الحالات. يتضمَّن الحدس مستويات من التوتر،
والفلسفة مستويات من العمق، الفلسفة لحن متصل
لا تنقسم، ويدركها الحدس.
وقد أخطأ كانط في اعتقاده أنه في الإمكان
تجاوز الشعور والوصول إلى المتعالي، في حين أن
الحقيقة في الباطن تحت الأبنية الذهنية.
الفلسفة كالفن بداية مستمرة أو كما أطلق عليها
هوسرل بداية جذرية. يستطيع العلم أن يعدنا
بالحياة الراضية أو حياة المتعة، في حين أن
الفلسفة تعطينا السعادة.
٥٤
(٦) إدراك التغير٥٥
يمكن إدراك التغير بالحدس المباشر وليس
بالتصور العقلي. التغير موضوع للإدراك ولكنه لا
يُرى. وهو موجود؛ إذ إن كل شيء يتغيَّر؛
فالتغير هو قانون الأشياء. ومع ذلك يتدخَّل
الاستدلال، ويتعامل مع التغير وكأنه غير موجود،
ومن ثم، من الضروري أولًا لإدراك التغير
استبعاد كل الأحكام المسبقة المصطنعة التي
أصدرها التأمل الفلسفي المجرد، وكذلك الأحكام
التي تقوم على الاعتقاد الشائع والحس المشترك.
التصور أسوأ منهج إذا لم يسبقه الإدراك. دور
الاستدلال هو ملء فراغ الإدراك أو من أجل دفعه
إلى حده الأقصى. ومما لا شك فيه أنه لا يمكن
إنكار مدى الفائدة من الأفكار العامة المجردة.
ولا يمكن إدراك حقيقةٍ إلا إذا كانت واقعة، أو
تصور شيء إلا إذا كان مدرَكًا.
وعدم كفاية ملكات الإدراك أحد أسباب نشأة
الفلسفة. ويدل على ذلك تاريخ الفلسفة نفسه.
كانت أفكار اليونان القدماء قريبةً من الحس،
مثل إدراك العناصر الأربعة، ثم حاول فلاسفة
إيليا إنكار التغير والحركة عن طريق الحجج
السوفسطائية التي تقوم على القسمة، وتحويل
الكيف الحاكم. هذا النقص في الإدراك الحسي هو
الذي دفع الفلاسفة إلى تكملته بالتصورات
المجردة، والنظريات المصطنعة، والمذاهب المركَّبة.
٥٦ وإذا توقف الأمر على ذلك، الأفكار
المجردة العامة والاستدلالات المصطنعة من
ناحية، والإدراك الحسي الساذج من ناحية أخرى،
تنتهي الفلسفة، ولا يبقى إلا فلسفات متعدِّدة
ومتضاربة خارجة عن الموضوع. ويتحوَّل الموضوع
من كيف إلى كم.
لذلك كان من الضروري توسيع الإدراك خارج
ميدان الرؤية الحسية إلى الانتباه المركز
الواضح كما يفعل الفنان الذي يدرك ما لا يدركه
الإنسان العادي، وكما يفعل الشاعر الذي يستوحي
الواقع ويستلهم الطبيعة، وكما يفعل الرسام مثل
كورو وتيرنر. يثبت الفن إذن أنه يمكن توسيع
مجال الرؤية كما هو الحال عند الصوفي، مع أن
الصورة الشائعة عن الفنان أنه مثالي أو أنه
تائه. إدراك الواقع في حاجة إلى
خطوة إلى
الوراء حتى يتخلَّص الإدراك من ضرورات الحياة
العملية، وتقسيم الأشياء إلى وحدات صغيرة. ثم
يتحول الإدراك عن الفنان من ضرورة الفعل إلى
الإدراك من أجل الإدراك، لذة الإدراك، مستقلًّا
عن العمل.
٥٧
المطلوب إذن هو قلب الانتباه أو ما يسميه
هوسرل قلب النظرة، والتحول من الإدراك الخارجي
إلى الإدراك الداخلي؛ أي من الإحساس إلى
الإدراك، ومن الانطباع الحسي إلى الانتباه. فكل
فعل هو ضعف في التأمل طبقًا لأفلوطين، ومن
ضرورة التحوُّل من الظاهر إلى الباطن، ومن
الخارج إلى الداخل، ومن ثم خداع الحواس إلى
حقيقة الموضوع، وهو ما ركَّز عليه كانط في
العصر الحديث في «نقد العقل الخالص» بالتحول من
الظاهر إلى الشيء في ذاته؛ فالظاهر لا يعطي إلا
نقائض، والميتافيزيقا هي مجرد كيمياء عقلية.
وتحوَّل كانط من الحس البسيط إلى العقل المجرد،
تاركًا ميدان الشعور القادر على الرؤية. أراد
كانط أن يتجنَّب خطأين؛ القطيعة والشك، فوقع في
خطأ ثالث وهو التركيب بينهما على نحو آلي مجرد
مصطنع، المضمون والصورة، البعدي والقبلي،
الخارجي والداخلي، ومن ثم استحالة الميتافيزيقا.
٥٨ لا فرق بين زينون وأفلاطون وكانط؛
زينون بحجه ألغى الحركة لصالح الثبات عن طَرق
حجج سوفسطائية تقوم على قسمة الحركة، وجعل
أفلاطون الحقيقة ثابتة، وربط كانط الميتافيزيقا
بالزمان والمكان الحسيين؛ لذلك كان هؤلاء
الثلاثة أكثر الفلاسفة ذكرًا.
٥٩
الحركة والتغير لا ينقسمان،
٦٠ ولا يُوجد ثبات حقيقي؛ الثبات من
متطلبات الفعل، يخترعه الإنسان ويحوِّله إلى
مطلق. وهذا هو خطأ زينون في قسمته حركة أشيل
التي لا تنقسم. الحركة موضع ثم موضع جديد،
والذهن هو الذي يتصوَّرها على خط مستقيم، يسير
عليه متحرك. كل حركة فعلية لا تنقسم.
٦١
ولا تحتاج الحركة إلى حامل متحرك أو ثابت؛
٦٢ هناك حركة، ولكن لا يوجد تحتها
أشياء تتحرك. هناك حركات ولكن لا يوجد شيء مصمت
لا يتغيَّر يتحرَّك؛ فالحركة لا تتضمن متحركًا.
لا تتطلب الحركة عربة، الحركة في الحقيقة هي
حركة الحركات.
والعين هي أداة البصر، وهي المسئولة عن رؤية
الحركة في مكان ومسار، له بداية ونهاية. وتؤيد
ذلك باللمس ووضع اليد على المتحرك فوق السطح،
بل يؤيد ذلك السمع عندما يقترب المتحرك أو
يبتعد، والشم عندما يقترب المشموم من الأنف أو
يبتعد. والحقيقة أن الحركة لا تُرى ولا تُلمس
ولا تُسمع ولا تُشم. الحركة هي الديمومة الحقة،
وتُسمى الديمومة الفعلية الزمان، وليس المكان
المنقسم، ما قبل وما بعد. ويحتاج الفكر إلى
نقطة ثابتة يرتكز عليها؛ فالفكر المجرد والحس
البسيط هما المسئولان عن نفي إدراك التغير.
٦٣
التغيُّر الفعلي هو تغيُّر الزمان، والقبل
والبعد هما الماضي والمستقبل، والنقطة الثابتة
هي الحاضر، والزمان تيار متصل عكس المكان،
والحاضر منفتح على الماضي عن طريق التذكر، وعلى
المستقبل عن طريق التطلُّع والتوقع والانتظار،
والمسار ليس متصلًا بل قد تتخلَّله قفزات
ومفاجآت وانبثاقات وطفرات.
٦٤
يعيش الماضي ويبقى في الشعور،
٦٥ ولا يحتاج إلى تفسير؛ فقد اخترعت
الطبيعة آليةً من أجل توجيه الانتباه نحو
المستقبل و«نقله من الماضي بعد أن يسقط جزء منه
لضرورات الحياة العملية، وتحوُّلِه إلى ذكريات.
ويصبح أشبه بتداعٍ سينماتوجرافي تتوالى فيه
الصور، ليس لها مركز في المخ بل مطوية في
الشعور الخالص، وحفظ الماضي في الحاضر ليس
شيئًا آخر سوى عدم قابلية التغير للقسمة.
العالم ليس أشياء بل حالات، والحركة والتخير
حالات وليست أشياء، والحياة صيرورة شاملة كما
هو الحال عند هيجل. ويساعد الفن على اكتشاف
كيفيات ودقيقات أكثر ممَّا يُدرَك بالحس
الطبيعي. ورؤية الأشياء في العمق وليس في
السطح. لا يظهر الواقع في حالة سكونية، بل في
حالة متحركة. كل شيء يتحرك في الشعور، ويحيا في
الشعور، بفعل دافع حيوي يخترق الأشياء.
(٧) الممكن والواقع٦٦
الموضوع هو الخلق المستمر على غير انتظار
لأشياء جديدة مستمرة في العالم، تحدث في كل
لحظة. في حين أن التمثُّل تغيُّر مجرد وهيكلي
خالص بالنسبة للشيء الجديد. وكل تحقيق يتضمَّن
معه عدم القدرة على التنبؤ.
لا يخلق الفنان عمله الفني دفعةً واحدة، بل
يشرع فيه، ثم يتخلَّق بعد ذلك طِبقًا لطبيعة
الخلق. هكذا رسم رامبرارند وفالا سكويز.
٦٧ يشعر الفيلسوف بنفس الشيء في حياته
الباطنية. وأخطر شيء على الفنان هو التكرار
والتقليد. الواقع عياني حي وليس مجردًا يخضع
لقوالب مسبقة. والوعي يقظ باستمرار وليس
نائمًا. وقد تصوَّر القدماء أن هناك روحًا
سارية في العالم عن طريق التكرار وأشباه
التكرار. وهو تصور أسطوري. يعيش الكائن الحي
الديمومة. لا توجد محاولة دون بحث، ولا يوجد
بحث دون استقصاء. والمادة هو هذا التردد لأن
العالم الخارجي يخضع لقوانين رياضية، ويتطلَّب
عقلًا يفوق طاقة البشر لإدراك وضعه واتجاهه
وسرعته وكل مكوناته، وهو عالم مجرد. أما المادة
العيانية فإنها كائنات حية شعورية، شعور يقظ
وليس شعورًا غافلًا. لقد تصوَّر القدماء وجود
نَفْس تسري في العالم المادي. وبصرف النظر عن
الجانب الأسطوري في هذا التصور فإن العالم
اللامعنوي هو سلسلة من المتكرِّرات وأشباه
المتكرِّرات سريعة للغاية. تتجمَّع في تغيُّرات
مرئية يمكن التنبؤ بها. الكائن الحي يدوم
ويتجدَّد. والزمان هو هذا التجدُّد. لقد أسقط
سبنسر الزمان من الحياة، وتصوَّره
شيئًا.
وظيفة العقل هو التعامل مع عالم الأشياء في
أُحاديتها. وهو العقل وليس الفكر أو الروح. وفي
مقابل العقل هناك الإدراك المباشر لنشاط
الإنسان الخاص وللموقف الذي يعيش فيه؛ فالإنسان
خالق مقاصده، وصاحب قراراته، وسيد أفعاله،
ومنشئ عاداته، وباني شخصيته، ومكون حياته كما
هو الحال عند الوجوديين. الإنسان صانع حياته،
وفنان من المادة التي تُقدِّمها إليه الذاكرة،
بوراثة الموقف. يخلق هيئةً فريدة وجديدة
وأصلية، لا يمكن التنبؤ بها. كل فنان عالم
بفنه. وتحتاج الطبيعة إلى فعل وليس تأمل. المهم
أن يشعر الإنسان في نفسه بالدافع الحيوي والثقة
بأنه قادر على الفعل وإبداع مسار حياته.
تتكرَّر الأشياء، وتخلق الأفعال. وهنا يتكشَّف
عالم الإمكانيات، العالم الضمني وليس عالم
التصورات والتمثُّلات والأفكار والعلاقات
والقوانين الرياضية والقياسات الكمية. ويصل
الشعور إلى الإحساس بالمطلق كلما ركَّز على
الجهد الخالق.
٦٨
وتوضع المشاكل الميتافيزيقية وضعًا خاطئًا.
وتحتاج إلى تصحيح الوضع وتبديد الوهم؛ والسبب
في ذلك تحويل الإبداع إلى صنعة. ونُسلم الواقع
النامي الذي لا ينقسم والذي يتم إبداعه
تدريجيًّا إلى العقل ليقطع ويقسم فيه كما يشاء.
وعادة التحول من الفارغ إلى المملوء مصدر
المشاكل غير الموجودة. والمشاكل الزائفة هي
المشاكل المؤرقة ميتافيزيقيًّا. وهناك مشكلتان:
نظريات الوجود، ونظريات المعرفة.
والسؤال في النظريات الأولى هو لماذا وجود
شيء أفضل من عدمه؟ ويمكن تفسير ذلك باللجوء إلى
علة مفارقة. ويتوقَّف الإنسان عن التفكير حتى
لا يُصاب بالدوار. والحقيقة أن الإنسان هنا
يتعامل مع كلمات وليس مع أفكار؛ لأن لفظ «عدم»
أو «لا شيء» لا معنى له. هو لفظ من اللغة
العادية، يعني فقط غياب ما نبحث عنه، وما نرغب
فيه، وما نتوقَّعه. لا يوجد خلاء مطلق،
والحقيقة أن الفراغ لا وجود له ولا يُدرك إلا
المملاء. لا يختفي شيء إلا بعد أن يحل شيء آخر
محله؛ فالإلغاء يعني الإحلال، والإزاحة تعني
الاستبدال. وهو معنى النسخ عند الأصوليين
مَا نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا، ومن ثم
فإن أفكار الغياب والعدم واللاشيء والفراغ
والخلاء والخواء لا تنفصل عن أفكار الحضور
والوجود والشيء والملاء والواقع والضمني. إلا
أن الحياة العملية ومتطلبات الصناعة تقتضي
التعامل مع هذه الأفكار وكأنها واقع. ويسأل
المتدين لماذا وجود الله أفضل من عدمه؟ وقد
يقبل التناقض من أجل الإجابة بحثًا عن حل.
٦٩ وفكرة الفوضى من نفس النوع؛
فالفوضى تعني غياب النظام الذي نتوقعه؛ فهو
وجود سلبي، حضور غيابي. هو النظام الذي لا نبحث
عنه. ويرجع ذلك إلى أن الإنسان إرادة وغائية،
يبحث ويتوقع. فكل؛ نظام يتضمَّن شيئين: نظام
خارجي، ونظام داخلي. ولا يتطابقان. الفوضى هي
عدم التطابق بين النظام المتوقع والنظام الفعلي.
٧٠
والوهمان وهم واحد، وهو اعتبار أن هناك أقل
في فكرة الفراغ عن فكرة الملاء، وأقل في فكرة
الفوضى عن فكرة النظام. والحقيقة أنه يوجد
مضمون عقلي أكثر في أفكار مثل الفوضى والعدم،
ثم تحدث لعبة استبدال في الروح.
٧١
وهي نفس فكرة أن الممكن أقل من الواقع، ومن
ثم إمكانية الشيء تسبق وقوعه، ومن ثم يمكن
تمثُّله من قبل، قبل تحقيقه. والعكس هو الصحيح.
هناك أكثر في الإمكانية منه في الواقع؛ فالممكن
فعل للروح يرفض صورة الماضي الذي ينتجه، ولكن
عاداتنا العقلية تمنع من رؤية ذلك. وإذا عرف
الإنسان ما هو أفضل عمل درامي في الغد لأنجزه.
الممكن هو شيء تراجعي من الحاضر إلى الماضي بعد
أن يتحقَّق دون أن يتحقَّق كله. وكما يؤثِّر
الماضي في الحاضر يؤثِّر الحاضر في الماضي.
الممكن هو ترائي الحاضر في الماضي، ومصير
المستقبل أنه يتحوَّل إلى ماضٍ. والحاضر الآن
يتحوَّل غدًا إلى ماضٍ. هذا هو الوهم. فالممكن
يتضمن الواقع، ومن ثم يستلزم الممكن أكثر ما
يتطلب الواقع مثل هاملت لشكسبير. أما الممكن
المستحيل فهو ما لا يتحقق، الوهم هو مصير
المستقبل من قبل، وسَبْق الممكن للواقع؛
٧٢ لذلك لا يجوز قول «لو فإنها تفتح
باب الشيطان».
الخطأ هو اعتبار الأقل الأكثر، واعتبار
الأكثر الأقل. ولتصحيح ذلك التطور شيء غير
البرنامج؛ فالمستقبل مفتوح لعديد من الاحتمالات
طِبقًا لإمكانيات الحرية الإنسانية. خطأ تاريخ
الفلسفة هو وضع اللاحتمية في الحرية في العالم،
وكأن الحرية هي منافسة بين ممكنات واختيار
بينها مع افتراض وجود الممكن سابقًا على
الواقع. والواقع هو الذي يتحوَّل إلى ممكن،
وليس الممكن هو الذي يتحوَّل إلى واقع.
لم تحاول الفلسفة الدخول في هذا الخلق
المتواصل للجدة التي لا يمكن التنبؤ بها، ابتعد
عنها القدماء بسبب نظرية المُثل عند أفلاطون،
نموذج نظرية الثبات. والعالم يتغيَّر، ولا يمكن
إضافة شيء له، بل إنه تصغير وإقلال للمُثل، ومن
ثم أسقط القدماء الزمان من الحساب.
وأخذ المُحدَثون وجهة نظر جديدة؛ لم يروا
الزمان دخيلًا أو مُقلقًا للخلود، بل رَدُّوه
إلى مجرد مظهر؛ فالزمان صورة مختلطة للعقلي.
أعطوا الخلود للقوانين التي تحكم في الظواهر
بدلًا من خلود العقل. وفي كلتا الحالتين لا
يتجاوز الأمر النظرية، ولا شأن لهما بالواقع.
الزمان مُعطًى على نحو مباشر، وهذا
يكفي.
تكسب الفلسفة عندما تجعل المطلق عالم الظواهر
المتحرك. ومعها يشعر الإنسان أنه أكثر سعادةً
وقوة، سعادةً لأنه يبدع، وقوةً لأنه يشارك في
إبداع الأعمال العظيمة. وبالتالي تقوى القوة
العملية. وبدلًا من الإذلال والخضوع والعبودية
إلى ضرورات الطبيعة، يصبح الإنسان مشاركًا مع
معلم عظيم. ليس الأمر مجرد إعادة نظر في موضوع
الممكن والواقع، بل هو تأهيل للإنسان كيف يعيش.
٧٣