(أ) العقل والحدس
التمييز بين العقل والحدس هو نقطة
البداية في منهج برجسون لمعرفة الأشياء
بديلًا عن نظرية المعرفة التقليدية
والصياغات الفلسفية والرياضية.
العقل بالنسبة للحدس أشبه بمصباح يضيء في
دهليز الشمس التي تنير العالم.
٢ العقل جزء، والحدس كل. العقل
محدود، والحدس غير محدود. الحدس هو أن تشرب
كل الكائنات الحية من كأس الماء وتتذوق
الشهد الذي وضعته الطبيعة على حافته دون
تذوُّق الباقي. أما العقل فينظر إلى أسفل
الكأس كي يرى قاعدته حيث لا شراب ولا ذوق.
الحدس يشرب من أعلى الكأس، والعقل يرى أسفله،
٣ وهو التقابل التقليدي في
تراثنا القديم بين الذوق والنظر.
العقل يطير فوق الواقع والحدس يغوص فيه.
الأول مثل الطيار الذي يرى الحُطام من
الهواء، والثاني مثل الغاطس الذي يغوص في أعماقه.
٤ العقل معرفة خارجية، والحدس
معرفة داخلية. العقل معرفة على السطح،
والحدس معرفة في العمق.
العقل مناط التخصص والتجزئة، وهل يمكن أن
يُعرف البناء إلا بعد مشاهدة متصل الأحجار؟
٥ الحدس رؤية كلية للبناء كمعمار
فني متكامل؛ فالهرم عظيم في هيئته وليس في
أحجاره. الحس المشترك اتجاه سلبي للروح
الذي ينتظر في وسط الليل أن يلمع البرق
ويسطع النور.
٦ ويتجاوز الحدس الحس المشترك
الذي يختلط فيه الحس والعقل والعادة
ومتطلَّبات العمل. ولغة النور هي اللغة
الأثيرة عند الصوفية. وفي الفن يختار
الهاوي حلًّا من الحلول الجاهزة كما يختار
السياسي الحزب الذي ينضم إليه. في حين أن
الفيلسوف هو الذي يبدع حلًّا جديدًا غير مسبوق.
٧
العقل مربوط ببقرة شغالة بجهد شاق، تشعر
بعضلاتها ومفاصلها ثقل المحراث ومقاومة
الأرض؛ مهمته أن يقوم بدوره وهو شق سلاح
المحراث الأرض. العقل إذن ليس حرًّا بل
مقيد، وهو ما يعني في العربية عَقْل البعير
أي ربطه. عمله شاق ولكنه ضروري، يحتاج إلى
زمن طويل ونتائج ملموسة. في حين أن الجهد
الفلسفي والعلمي هو استخراج القوانين
واحدةً تلو الأخرى بالحفر في الوقائع التي
تُغطِّيها، كما يُعَرَّى الأثر المصري
بالجاروف وسط رمال الصحراء.
٨
والحدس كالخيط الذي يصعد إلى أبعد نقطة
في الأرض،
٩ كالكشاف الذي ينير، كالشعاع
الذي إذا واجه موضوعًا أضاءه. الحدس يجمع
حالات الشعور كما يضم الخيطُ حبات العقد.
١٠ هو رؤية مباشرة بلا توسط على
عكس هيجل الذي لا يتم الإدراك لديه إلا
بالتوسط والتخارج. أما الحدس فلا يتجاوز
الحِس، الشيء في الزمان والمكان، لا فرق
بين كانط في الحساسية الترنسندنتالية في
«نقد العقل الخالص» وهيجل في الإدراك الحسي
في «ظاهريات الروح».
(ب) الصورية والتجريبية
وهي أحد أشكال ثنائيات برجسون الشهيرة،
ثنائية المثالية والواقعية، الروحية
والمادية، العقلية والحسية اللتين تمثلان
فم الوعي الأوروبي المفتوح وفكيه
المتباعدين؛ الأول إلى أعلى، والثاني إلى
أسفل، منذ ثنائية ديكارت في بداية العصور الحديثة.
١١
وينقد برجسون الصورية أو العقلانية أو
المثالية مستعملًا عدة صور؛ فلا توجد الفكر
قبل الفكرة، كما لا توجد الحرارة قبل الكرة الحارة.
١٢ فالواقع يسبق الفكر، ولا يوجد
فكر إلا إذا وُجد الواقع قبله. الفكر فكر
الواقع، والواقع واقع الفكر.
وعلاقة الشعور بالمادة مثل علاقة الرداء
بالمشجب. إذا وقع المشجب وقع الرداء، وإذا
تحرَّك المشجب تحرَّك الرداء، بل قد يخرق
المشجب الرداء أو يخرمه؛
١٣ فالفكر محمول على الواقع،
والواقع حامل الفكر.
وعلاقة المخ بنشاط الذهن مثل علاقة عصى
قائد الأوركسترا بالسيمفونية؛ فالمخ هو
الذي يوجِّه نشاط الفكر وإن كان مسئولًا
عنه؛ فالموسيقى مستقلة عن عصا المايسترو،
ولكنها تتوجَّه بحركته.
١٤
ويكفي فك قلاع المركب الشراعي حتى يتراقص
المركب فوق الموج؛ فأي تغيُّر طفيف في جوهر
المخ قد يُحرِّك الذهن، وهي علاقة الحامل
بالمحمول والدال بالدلالة كما يعبِّر عن
ذلك هوسرل.
١٥
ليس الاتساق المنطقي مقياسًا للحقيقة،
وقد يخرج المجنون عن عقله وفي نفس الوقت
تتفق استدلالاته مع قوانين المنطق.
١٦
والبحث عن أصل العالم في علة أولى مثل
الشاكِّ الذي يغلق النافذة ثم يعود
ليتحقَّق من هذا الغلق، ثم يعود ليتحقق من
هذا التحقق، إلى ما لا نهاية.
١٧
ويُضرَب المثل في الوحدة والكثرة على
التماثل والاختلاف بين الوحدات بقطيع
الخراف الذي تتماثل فيه كل الخراف في
الشكل، ومع ذلك تتعدَّد على الأقل بتعدُّد
أمكنة الخراف؛
١٨ فالمشكلة ليست ميتافيزيقية، بل
واقعية؛ فالإنسان واحد والآخرون كثيرون،
والخروف واحد، والخراف كثير، والقمر واحد
والأقمار كثيرة.
وأصل التجريد في الواقع. إذا يُفترض أن
النقاط كرات قبل أن تتحول إلى نقاط مجردة.
١٩ والطفل يعد على أصابعه حبات
البرتقال قبل أن يجرِّد العمليات الحسابية
وبعد ذلك المعادلات الجبرية، في جبر
الحساب. ليس للتصور أي ثقل، هو مثل ظل
الجسم؛ أي مجرد تابع وهمي، مجرد خيال،
انعكاس لشيء آخر.
٢٠ والفيلسوف الذي يريد القبض على
الموضوعات بالتصورات مثل الأطفال الذين
يُريدون القبض على الدخان بأيديهم،
٢١ هو مثل الطفل الذي يُريد أن
يصنع لعبةً فعلية من ظلال حوائط طويلة،
٢٢ وهو مثل الراعي النعسان الذي
يرى أمامه الماء يسيل ولا يراه ولا يتحرَّك
ليشرب؛ فالدخان تابع للنار، والنار تابع
للشيء المحترق. والماء الذي يسيل ليس
سرابًا، بل هو ماء بالفعل لا يراه الفيلسوف النائم.
٢٣
الأفكار العامة مثل أوراق النقد بدلًا من
غطائها الذهبي. إذا كثرت قلت قيمتها وإذا
قلت زادت قيمتها؛
٢٤ فالتصورات أوراق مالية بلا
رصيد إن لم يكن تستند إلى واقع، والتصورات
الصادقة كالأوراق المالية التي لها رصيد من
غطاء ذهبي. فائدة الأفكار العامة المجردة
مثل فائدة الأوراق المالية، الفعل.
٢٥ «نقد العقل الخالص» عند كانط
أشبه بالتلميذ المعاقَب الممنوع من أن يحرك
رأسه إلى الوراء ليرى الواقع كما هو عليه،
وهو مشابه لأسطورة الكهف عند أفلاطون.
٢٦
واختلاف الفلاسفة المثاليين لا ينفي وجود
قاع مشترك بينهم لنفس المحيط بالرغم من أنه
يقذف على السطح مواد مختلفة.
٢٧ يشترك الفلاسفة في وحدة
البركان الكامن في قاع المحيط، ثم يختلفون
في انبثاقاته وانفجاراته المتعددة على
السطح. ويكشف لنا تاريخ الفلسفة الصراع
الأبدي بين المذاهب، واستحالة إدخال الواقع
في ملابس مصنوعة، وهي التصورات الجاهزة،
وضرورة التفصيل على قد المقاس.
٢٨ فالمثالية ثوب فضفاض على
الواقع، والواقع ثوب ضيق على المثال،
وبرجسون هو الذي يقد الفلسفة على قد
الواقع، ويؤسِّس الميتافيزيقيا على
العلم.
الفكرة الواضحة الجليَّة بذاتها هي
الفكرة الجديدة تمامًا، فكرة الفيلسوف،
وليس فكرة الكتبة والفريسيين؛
٢٩ فشرط الفكرة الجدةُ والإبداع،
وليس فقط الوضوح والتميز أو النقل الصحيح
بتعبير القدماء؛ «موافقة صحيح المنقول
لصريح المعقول».
وأكثر التصورات إحكامًا في التجميع وأكثر
الاستدلالات إحكامًا في المنطق تنهار كقصور
من ورق عندما تُصدَم بواقعة.
٣٠ فالواقع هو الأساس، والتصورات
انعكاسات لها. المذاهب الشامخة كالبالونات
منتفخة، يكفيها «دبوس» من الواقع حتى
«تفسي». الصورة الجديدة التي يمثِّلها
الإنسان كالشكل الذي يعطيه صانع الفخار للآنية؛
٣١ فالصورة خارجية محضة، أقرب إلى
الشكل منها إلى الجوهر أو المضمون عكس
أرسطو واسبينوزا؛ فالصورة عندهما جوهر
الشيء.
كتاب «الأخلاق» لاسبينوزا كالدبابة، جسم
ضخم على أرض أقل ضخامة، قوتها في ثقلها
وليس في الأرض التي تسير عليها،
٣٢ عَظَمتها في حجمها وليس في
مناورتها. وفي حرب أكتوبر استطاع الصاروخ
الصغير على كتف الإنسان تدميرها.
ومذهب بركلي كمن يضع الخل في الزيت،
تمثُّلات وإحساسات ذاتية، ووضع للعالم
الخارجي فيها، ويبقى الخل والزيت منفصلين
غير مختلطين. العالم عالم، والفكر فكر،
٣٣ وهو ما قاله الصوفية بالنسبة
لحلول اللاهوت في الناسوت ودون اتحاد
به.
العقل أقرب إلى الفعل والسلوك وتلبية
متطلبات الحاجات العملية، العقل بالنسبة
للسلوك كالغريزة بالنسبة للنحل، حركة
طبيعية من أجل البقاء.
٣٤ لا يثور ولا يغضب. هو عقل
راضٍ، يرى العالم صورةً في مرآته؛ فهو
العاكس للحقائق، وفيه يتجلَّى كل شيء، وهو
على علم بكل شيء، لا تخفى عنه خافية.
٣٥ هو خزينة معلومات وليس مصدر
علم.
حياة الإبداع مثل كرة مطاطية تنتفخ
تدريجيًّا، وتأخذ أشكالًا غير متوقعة.
والعقل يتصوَّرها فارغة؛ فهناك شيء وراء
العقل يُعطيه شكله ويُحدِّد قدرته واتجاهه.
٣٦
إن حجج زينون الإيلي أشبه بطفل يحبو على
أربع، ويطلب أن تُنتزع إليه الكواكب،
٣٧ فالخطأ لا يؤدي إلى الصواب،
والوهم لا يوصل إلى الواقع، وقسمة العقل
غير تواصل الحدس. ومع ذلك، هي الحجج التي
أيقظت برجسون من سباته فاكتشف الخلط بين
المكان والزمان، بين المنقسم وغير المنقسم،
بين المنقطع والمتصل.
الواقع هو الأرضية التي تنبت فيها الحقيقة.
٣٨ وهنا يبدو برجسون أقل نقدًا
للتجريبية منه إلى نقد المثالية. المهم أن
تكون التجربة هي التجربة الخالصة العميقة،
وليس التجربة السطحية الساذجة. الواقع بلا
حقيقة صحراء جرداء، والحقيقة بلا واقع نبت
شيطاني.
التجربة الخالصة أو التجربة الجذرية
كالنهر الذي يفيض دون تحديد اتجاه مسبق؛
٣٩ فالحرية جوهرها، والديمومة
نسيجها، الطاقة بدايتها والحركة مسارها،
والتوقف نهاية طبيعية للدافع
الحيوي.
ويعرض برجسون فلسفة رافيسون وكيف أن
أرسطو بالنسبة له كان يبحث في باطن الأرض،
وأقام نفقًا تحت الأرض يعرض فيه كالمهندس
الذي يحفر نفقًا من أماكن متعدِّدة ثم يوصل بينها،
٤٠ ولا يبني قصورًا في الهواء كما
فعل أفلاطون.
ووليم جيمس أول من أدرك أن الحقيقة تتجه
إلى الأمام مثل كرستوفر كولومبوس أول من
اكتشف أمريكا.
٤١ الحقيقة تتقدم ولا تثبت، تخلق
ولا تعطي، حركية وليست ثابتة؛ لذلك كانت
الحقيقة الصوفية أكثر حقيقةً من الحقيقة
الرياضية.
لقد أخطأت المثالية والواقعية معًا. أعطت
المثالية الواقع أكثر ممَّا يستحق، وأعطته
الواقعية أقل ممَّا يستحق. لقد حفر
التجريبيون تحت الواقع خندقًا عميقًا، وبنى
المثاليون فوقه جسرًا جميلًا، والنهر الذي
يُحرِّك الأشياء يمر بين هذين العملين
الفنيين دون مَسِّهما.
٤٢
المشاكل الفلسفية الكبرى كالكوب يحكم
عليها البعض بأن نصفها مملوء، والبعض الآخر
بأن نصفها فارغ؛ فهناك مِلاء في زجاجة
نصفها مملوء، وفراغ في زجاجة نصفها فارغ.
٤٣
ومنهج برجسون هو إلقاء التراب في أعين
الخصوم من أجل إيقاعهم في التناقص والخطأ
وتعرية الوهم كما كان يفعل سقراط مع محاوريه.
٤٤ يحفر في الشيء ليرى تكوينه
بعيدًا عن الإسقاطات العقلية عليه، فينحاز
القارئ إلى برجسون وينضم إليه ضد خصومه؛
لذلك انتشرت «البرجسونية» كمنهج وليس
كمذهب، وكثر البرجسونيون أثناء حياته وبعد
موته.
(ﺟ) الزمان والديمومة والحرية
الزمان غير المكان. الزمان تجربة باطنية،
والمكان فضاء خارجي. وهي قسمة لا تبعد
كثيرًا عن تمييز كانط بين الزمان والمكان
كصورتين للحساسية الترنسندنتالية، الزمان
للظواهر الداخلية، والمكان للظواهر
الخارجية. وهي نفس قسمة العصر الوسيط إلى
حواس خمس داخلية، الوهم والذاكرة والحافظة
والمخيِّلة والحس المشترك بالإضافة إلى
الحواس الخمس الخارجية. وهي نفس الثنائية
بين الكيف والكم، بين التوتر والامتداد،
بين ما لا ينقسم، بين المتصل والمنقطع …
إلخ. والخلط بين الزمان والمكان كوضع العصا
في العجلة ليُحرِّكها؛ فالزمان هو المحرك.
٤٥
والزمان سِجل للتدوين. حيث يوجد شيء
يحيا، هناك سجل يُكتب فيه الزمان وهو
الذاكرة. ويدرك برجسون أن هذه مجرد استعارة.
٤٦ وفي إحدى أغانينا الشعبية
الوطنية «سجل يا زمان».
والزمان عند ليبنتز «غائية جذرية»؛ إذ
يُرد الزمان إلى إدراك مختلط من منظور
إنساني يتبدَّد كما يُبدِّد الذهنُ الضبابَ
وسط الأشياء.
٤٧ الزمان ينقشع بفضل حرارة
الذهن، ويتبدَّد كما ينقشع الضباب إذا سطع
ضوء الصباح.
والشعور بالزمان مثل خيط من المطاط، يشد
ويرخي. ويُرسم هذا التوتر على أنه خط منقسم
رياضيًّا، وهو حركة واحدة لا تقبل القسمة.
٤٨ الزمان لا هو سائل يتعامل معه
الذهن، ولا هو صلب تتعامل معه الحواس. هو
مادة مطاطية تطول وتقصر، تشتد وترخي، «يزيد
وينقص» كما يقول القدماء في الإيمان،
مستعملين لغة الكم لوصف موضوع كيفي
خالص.
وتكثر صور الديمومة نظرًا لمركزتيها في
فلسفة برجسون؛ فهي ديمومة في الأشياء دون
أن تكون شيئًا تسري فيها وتربط بينها. «تعض
الديمومة على الأشياء وتترك آثار أسنانها عليها».
٤٩ وتحت قطع الكريستال المشطوفه
جيدًا، ووراء هذا التجميد المفتعل هناك
تواصل مستمر. هذا هو جَدَل الخارج والداخل
في الشعور.
٥٠
وهي ديمومة في العالم. تسطع كالشمس
وتُشِع نورها وحرارتها ربما على أبعد
الكواكب، ومع ذلك تسير الكواكب في فلكها
وفي مسار خاص. هناك ديمومة واحدة مباطنة في
العالم كله.
٥١ تُوحِّد بين أجزائه، وتجمع بين
متفرِّقاته.
وهناك ديمومة الأفكار؛ إذ تتولَّد
الأفكار من بعضها البعض كما تتولَّد
الألحان. يتولَّد مفهوم الحرية، ثم يتولَّد
منه مفهوم المساواة، ثم يتولَّد منه مفهوم العدالة.
٥٢ تُطِل بعض الأفكار في الأعماق،
وأخرى تظهر على السطح كأوراق ميتة على ماء
مستنقع، وهي الأفكار الجاهزة.
٥٣
والصلة بين الانفعال والتمثُّل كالصلة
بين النار والرماد. ولو أزحنا الرماد
لوجدنا النار مشتعلة، بل وتزداد اشتعالًا؛
فالتمثُّل كالتصور مجرد رماد لا يُحييه إلا الانفعال.
٥٤
ويسري الحماس من نفس إلى نفس كما يسري الحريق؛
٥٥ فالنفوس المتفرِّدة هناك نفس
واحدة تجمعها
هُوَ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ. ومع ذلك حالات
الشعور مثل إبرة من ثلج تلمسها اليد.
٥٦ لا يمكن تثبيتها ولا تجميدها؛
توجد لتهرب، وتظهر لتغيب، دون أن يكون
الوجود عدمًا.
الديمومة أشبه باللحن الداخلي،
٥٧ يصدح في النفس دون جَوقة للعزف
وآلات للاستعمال. هو هاتف في السحر، صوت
للضمير، إلهام شاعر، ورؤية صوفي.
كل شعور هو تيار سائل أشبه بفك «رول». لا
يوجد شعور إلا ويتخلَّق ويتكشَّف ويتجلَّى.
٥٨ الشعور قد ينضوي على نفسه وقد
ينفتح، قد ينقبض وقد ينبسط بلغة الصوفية.
يسكر ويصحو، يغيب ويحضر، ينام ويستيقظ،
يخمل وينشط، بلغة هوسرل. هو أشبه بفتح
المروحة بسرعة أو ببطء ثم الرسم عليها.
٥٩ وتصعب رؤية الرسم والشعور في
حالة قبض، وتسهل الرؤية والشعور في حالة
بسط. وهو مثل كوب الرحلات ينغلق فيصبح
علبة، وينفتح فيصبح كوبًا. تنساب من الماضي
إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى المستقبل،
ديمومة واحدة، كاللحن الموسيقي.
٦٠ وتحت تأثير عصًا سحرية لقائد
الأوركسترا، يتم استدعاء أشياء جديدة
للتمثل ممَّا قد أدرك من قبل.
ليس المهم في تيار الشعور المتصل الجواهر
المعلَّقة في العقد، الماضي والحاضر
والمستقبل، بل الخيط الذي يربط هذه الجواهر
في تيار واحد.
٦١ التيار اتصال، والحدوس
كالجواهر مُعلَّقة عليه.
والذكريات كلٌّ متضامن كالهرم الذي
تتحرَّك قمته باستمرار، ويتحد مع الحاضر،
اندفاعًا نحو المستقبل
٦٢ فلا فصل بين لحظات الديمومة الثلاث.
٦٣ الذكريات المتراكمة في الشعور
في حالة كمون أو طفرة، إحجام أو إقدام، فعل
أو انفعال.
وكلما كان قدر الماضي الذي يحل في الحاضر
أكبر، كانت الكتلة التي تدفع نحو المستقبل
للإسراع في تحقيق الإمكانيات أعظم، مثل
السهم عندما ينطلق بقوة أكبر إلى الأمام
كلما اشتد القوس إلى الخلف.
٦٤ تلعب الذاكرة بالماضي
وتتخيَّله الروح؛ فعالم الشعور عالم
واحد.
الحفظ عن طريق الفهم كالورقة المالية
التي تتضمَّن النقود المعدنية؛ فهو حفظ عن
طريق التداعي الفعلي للأفكار، وليس مجرد
تراص مكتوب. حفظ له قيمة فعلية بقطع معدنية
وليس قيمةً رمزية بورقة مالية.
والحرية تجربة إنسانية خالصة تعبِّر عن
طبيعة الشعور وتياره المتصل الذي لا يمكن
التنبؤ بمساره. وهي أيضًا في الطبيعة،
إمبراطورية داخل إمبراطورية أو مستقلة عنها،
٦٥ فالتيار الحيوي لا يمكن التنبؤ
بمساره. ويفترق ويتشعَّب طفرةً دون اتباع
قانون مسبق. الحرية تعبير عن الدافع
الحيوي، انبثاق من الضرورة، حرية ضرورية أو
ضرورة حرة.
والأنا الذي يحيا وينمو وسط تردُّده،
ينبثق منه الفعل الحر «كما تسقط الفاكهة
الناضجة من على شجرتها».
٦٦ الفعل الحر ازدهار طبيعي للأنا
الحي، تحقُّق فعلي للأنا النشط، تعبير عن
الأنا الذي يضع ذاته حين يقاوم بتعبير فشته.
٦٧
(د) الطاقة الروحية والدافع الحيوي
والعلم
الطاقة يستمدها الجهد من المادة مثل الطاقة
التي تتولَّد عن الشمس.
٦٨ فصور الإنسان عن نفسه مستمدة
من صور الطبيعة. المادة طاقة كما يقرِّر
العلم، والإنسان باعتباره مادةً طاقةٌ
للجهد العضلي، وباعتباره روحًا طاقةٌ
روحية. فالطاقة الإنسانية مزدوجة المصدر،
وأثر الإرادة على الطاقة مثل الشرارة التي
تُفجِّر مخزنًا للبارود.
٦٩ الطاقة إمكان يتولَّد
بالإرادة، وتتفجَّر بالحرية. ولا يُكثر
برجسون من الصور الخفية للطاقة لأنها هي
نفسها صورة فنية للتعبير عن قدرة الإنسان
على الخلق، وقدرة الذات على الخلق.
ولا يؤخذ الإنسان بين القشرة والشجرة لأن
القشرة تتشقَّق، والشجرة الضيقة تنمو بدافع
جديد من غذاء النبات.
٧٠ فالطاقة الروحية في الإنسان لا
يمكن حبسها بين القشرة واللب، هي دافع حيوي
مباطن في الأشياء. الطاقة إمكانية، والدافع
الحيوي تحقق. الطاقة منبع، والدافع الحيوي
نهر يخرج منه. الطاقة بركان كامن، والدافع
الحيوي انفجاراته وحمائمه.
الواقع الحيوي أشبه بالشِّعر الذي يسري
خلال الحروف الأبجدية والكلمات.
٧١ ليس الشعر هو الأبيات
والقصائد، بل هي الشعرية التي تسري فيها.
الشعر هو الروح، والكلمات هي البدن. الشعر
لفحة نسيم، نفحة نفس.
وقد يتوقف الدافع الحيوي في الحياة،
ويعجز مؤقتًا عن السير كالطفل الذي ينحني
بقوةٍ في نهاية الانزلاق (الزحلقة).
٧٢ فالمانع يصد والجسم ما زال
يتحرَّك، فينشأ الانحناء. الحركة فعل،
الانحناء رد فعل على التوقف الفجائي؛ لذلك
وُضعت المساند الهوائية أمام الراكب
الأمامي حتى لا يصطدم بزجاج العربة في حالة
التوقف الفُجائي أو الارتطام بمانع.
وتؤثِّر العلة طبقًا للدوافع أو الاندفاع
أو التدحرج مثل كرة البلياردو.
٧٣ العالم مثل لفة كبيرة تتدحرج
كل يوم فينكشف جزء منها.
٧٤ وهو ما لاحظه ابن عربي في
«فصوص الحكم» في النبوة والخلق، في الوحي
والوجود، في الذات والموضوع؛ فالخلق مستمر،
وليس مرةً واحدة إلى الأبد؛ يحدث كل
يوم.
وفي التطور «الطريق الذي يصعد إلى
المدينة يُضطر إلى الهبوط على الجوانب،
ويتأقلم مع مرتفعات الأرض».
٧٥ فالحياة اندفاع وتكيُّف،
انطلاق وتوقف، إقدام والتفاف. «الحرب
خدعة».
ويشمل الدافع الحيوي الغائية لأنه يجمع
بين العلة والغاية، بين العلة الفاعلة
والعلة الغائية، بداية ونهاية، دفع وجذب،
انطلاق من أسفل وشد من أعلى. أما «الغائية
الجذرية» عند ليبنتز خارجية وليست داخلية،
أقرب إلى العلة الفاعلة منها إلى العلة
الغائية. فليس من المعقول أن العشب قد خُلق
للبقرة، والحَمَل للذئب.
٧٦ وهو ما يشبه قول المعتزلة
أيضًا في الغائية. في حين يركِّز فشته على
العلة الغائية وحدها باعتبارها هي العلة
الفاعلة الحقيقية، وعند إقبال تتخلَّق
الذات بالغايات.
ولا تهتم الآلية والغائية إلا بالنواة
المنيرة في المركز، وتتكوَّن هذه النواة
على حساب باقي الأشياء عن طريق التركيز
والتيار السيال من أجل إدراك الحياة الباطنة.
٧٧ هناك نواة أولى ينشأ منها
الكون، ونواة أولى ينشأ منها الإنسان؛
فالحياة انبثاق، كمون وطفرة، موهبة
واكتساب، عبقرية ومهارة. والفرق بين السبب
والعلة، بين المبدأ والقوة المنتجة، مثلُ
النهر الذي ينساب طبقًا لجريان المياه،
وكيفية جريان المياه وجزئياتها. الفلسفة
نتجت من السبب، والعلم عن العلة؛
٧٨ لذلك سُميت «الفلسفة
الأولى».
ويتصوَّر العلم الحديث العالم ككل شامل
منظَّم كالساعة؛
٧٩ لذلك وقعت في التصور الآلي
للعالم. العالم سلسلة من المتكرِّرات
المتشابهة للغاية، تتجمَّع في تغيُّرات
مرئية يمكن التنبؤ بها مثل ذبذبات بندول
الساعة؛ فهذه مرتبطة على لولب يربطها فيما
بينها، وترصد تقدمها. والأولى تنظيم إيقاع
الحياة والكائنات الواعية وقياس ديمومتها.
٨٠
وهو يبحث عن سيناء جديدة. ولمَّا كانت
سيناء هي مهبط النص، فالعلم الحديث في حاجة
إلى إعادة بناء.
٨١
أما العلوم الوضعية فهي مجرد مخبار أو
محبس أو مسبر في الديمومة الخالصة. وكلما
كان الواقع حيًّا كان المسبر أعمق.
والمسبار المقلي في البحر يُحضر معه كتلةً
من السائل تُجفِّفه الشمس بسرعة، وتُحوِّله
إلى حبات رمل صلبة ومُفكَّكة. وعندما
يتعرَّض حدس الديمومة لأشعة الذهن، يتحوَّل
إلى تصوُّرات مُجمَّدة متمايزة وثابتة.
٨٢
والحقيقة الوجدانية بالنسبة للحقيقة
العلمية كالقارب الشراعي بالنسبة للقارب البخاري؛
٨٣ الأول إنساني يقوم على الجهد
للسيطرة على مهاب الريح، وتوجيه القارب نحو
الهدف. والثاني آلي يسير بقوة القانون
والعقل العلمي. وهذا هو الفرق بين الفلسفة
والعلم.
وكما تبدو إجابات الطبيعة سهلةً على
الأسئلة الموجَّهة إليها، كذلك تعرض اللوحة
التي رسمها فنان عظيم الأصل. ونحن نعرف
الأصل والنموذج الذي رسمه.
٨٤ وهذا هو الفرق بين الفن
والعلم.
(ﻫ) النفس والبدن، والإنسان
والمجتمع
النفس سجين البدن طبقًا للتصور الشائع
عند الصوفية، تتحرَّر بتحرُّره. هذه القوة
النفسية السجينة في النفس مثل الرياح في
كهف من العصر الحجري تنتظر فيه فقط لتنطلق خارجه.
٨٥ وهو أيضًا التصور الأفلاطوني
القديم.
علاقة النفس بالبدن مثل علاقة المشجب
الذي تُعلق عليه الملابس؛ إذا انخلع المشجب
سقطت الملابس.
٨٦ علاقة محمول بحامل، ورُبان
بسفينة. الجسم في المكان، يشع خارجه من
خلال الإدراك عامةً والرؤية خاصة، حتى الكواكب.
٨٧ والنفس مصباحه الداخلي الذي
يضيء له الطريق، كشَّافه الباطني الذي
يُساعده على رؤية الأشياء.
والحياة الدنيا أشبه ببالون يُملأ
بالهواء ثم يفرغ بسرعة.
٨٨ هي حياة زائلة، حياة البذخ
والشهرة والبهرجة والغرور والظهور والوجاهة
الاجتماعية.
رحلة بدأت ولم تتوقف، وفي الطريق تزداد
الرغبة في الاستمرار فيما تم قَطعُه من قبل.
٨٩ والإنسان على راحلة، وقد صوَّر
الصوفية من قبلُ الرحلةَ في «رحلة الطير»
والهجرة إلى بلاد أخرى.
ويعرف الإنسان الغاية القصوى من الإبحار
بالرغم من مخاطره.
٩٠ يتجه إليها بإرادته أو قَدَره
المحتوم. حريته قدره، وقدره حريته. يختار
الصعاب ليجتازها. الحياة مغامرة، والفعل
مخاطرة، والقرار مقامرة، والوجود
رهان.
ويخفت ضوء المصباح في ضوء النهار عندما
تنحسر اللذة أمام السعادة.
٩١ ويبتلع الكل الجزء، وينضوي
الجزء تحت الكل؛ فاللذة ما هي إلا قطرة في
بحر السعادة، واللحظة ما هي إلا نقطة في
محيط الخلود.
والفرد في المجتمع المغلق كالنحلة في بيت
النحل. يعيش للجماعة، وتعيش الجماعة فيه
بلا فردية ولا وجود ذاتي.
٩٢ الإنسان للجماعة في الدين
الثابت عن طريق الفناء، وفي الدين الحركي
عن طريق المحبة والكرم والإيثار. لا مُنشد
بلا حلقة، ولا حلقة بلا مُنشد. لا شيخ بلا
طريقة، ولا طريقة بلا شيخ.
وتعمل المرأة كي تكون مساويةً للرجل
بدلًا من انتظار إشارة الحركة من قوس الموسيقى؛
٩٣ فالمرأة كِيان ووجود تتجلَّى
فيها الغريزة، ويسري فيها الدافع الحيوي
الذي يتوقَّف كلما تراكمت العقبات وازدادت
الموانع.
يدخل نهر الرون إلى بحيرة جنيف، ويبدو في
الظاهر اختلاط مائه بمائها. وفي الحقيقة
يخرج منه محافظًا على استقلال
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ
يَلْتَقِيَانِ. فالفردية لا
تذوب في الجماعة، وهي صورة الإنسان في
العالم، يدخل فيه ويخرج منه كما دخله. وهو
ما قاله أورتيجا في الدفاع عن الفرد ضد
الجمهور، وهيدجر في الدفاع عن الوجود
الإنساني ضد الإنسان المجهول.
٩٤
وفي تأكيده على أهمية التعليم يهيب
بالمربِّين: أعطوا العشب فرصة؛ فالتعليم
مثل الزرع، بَذر وري وحصد،
٩٥ وقد عاصر تولستوي في النصف
الأول من حياته؛ فالطبيعة هي خير
معلم.
والإنسان العبقري هو الذي يسطع كالبرق في
السماء الصافي.
٩٦ هو انبثاق وسط المسطح، موجة
عاتية وسط الماء المنبسط، بركان وسط الجبال
الهادئة، منبع وسط الصحراء، عمود نار وسط
الثلج.
السعادة أو الفرح مثل الأم التي تربِّي
طفلها وهي سعيدة لأنها تشعر بأنها هي التي
خلقته جسميًّا ونفسيًّا. وكذلك يسعد التاجر
الذي يُنهي أعماله، وصاحب المصنع الذي يرى
ازدهار صناعته.
٩٧