البيئة الفلسفية
لم تأتِ فلسفة برجسون من فراغ، بل هي رد فعل على التيارات الفلسفية في عصرها، عقلانية ومادية العصور الحديثة وعلوم الحياة المعاصرة. وهي نفس التيارات التي خلقت الظاهريات؛ فبرجسون وهوسرل يمثِّلان نهاية العصور الحديثة كما يمثِّل ديكارت بدايتها.
وإذا أتت النزعة الروحية عند برجسون من التراث الفرنسي عند مين دي بيران ورافيسون، فإن النزعة الواقعية أتت من الفلسفة الأنجلوسكسونية التي طالما كانت إغراءً للفلسفة الفرنسية وإكمالًا لها منذ فولتير وفلاسفة دائرة المعارف. لذلك ارتبط العقل في الفلسفة الفرنسية بالحس، والمثال بالواقع، وكان مشروع رافيسون الجمع بين النزعتين الروحية والوضعية كما حاول دي بيران منذ القرن الثامن عشر إثبات النفس من خلال البدن والتقاء كليهما في تجربة الجهد والمقاومة.
(١) الفلاسفة الكبار: رافيسون، وليم، جيمس، كلود برنار
ويمثل الفلاسفة الثلاثة الذين اختارهم برجسون للكتابة عنهم في «الفكر والمحرك» التيارات الثلاثة في الوعي الأوروبي؛ التيار المثالي أو العقلي الذي يمثله رافيسون بالرغم من محاولته الجمع بين الروحية والوضعية، والتيار الواقعي أو العلمي الذي يمثِّله كلود برنار بالرغم من محاولته توسيع مفهوم التجربة، والتيار الشعوري أو النفسي الذي يمثِّله وليم جيمس.
(أ) رافيسون١
ورافيسون هو أستاذ برجسون المباشر. خَلَفَه برجسون في الأكاديمية الفرنسية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، وطِبقًا للتقليد، كتب عنه تقريظًا بمجرد أن شغل كرسيه. ومن الصعب أن يكتب فيلسوف عن فيلسوف آخر دون قراءته ووضعه في إطار الفيلسوف الكاتب؛ من أجل التوضيح والتطوير في آنٍ واحد.
ولمَّا أُسِّست أكاديمية العلوم الإنسانية والاجتماعية عام ١٨٣٢م، اقترح كوزان عضو الأكاديمية مسابقةً بعنوان «ميتافيزيقيا أرسطو» لبيان أهميته وأثره على المذاهب الفلسفية التالية، والخطأ والصواب فيه، وما تبقَّى منه في العصر الحاضر. فدخل رافيسون المسابقة ببحثه «رسالة في ميتافيزيقيا أرسطو» في جزأين؛ صدر الأول عام ١٨٣٧م، والثاني بعده بتسع سنوات عام ١٨٤٦م.
وأرسطو عبقرية نسقية، لم يبنِ نسقًا. يحلِّل التصورات ولا يقدِّم تركيبًا. يأخذ الأفكار المتضمنة في اللغة ويجدِّدها ويعيد تفصيلها طبقًا للمعطيات الطبيعية ويطوِّرها، ويسير تدريجيًّا حتى يكتمل الموضوع للبحث عن العناصر المتضمنة في الفكر أو الوجود: المادة، الصورة، العلية، الزمان، المكان، الحركة … إلخ. يبحث تحت الأرض عن الأسس كي يتقدَّم إلى الأمام، ويُظهر ما يخفى منها. ولم يتوقف رافيسون عند كل مشكلة، بل اكتفى بالمسار العام كما يفعل الفيلسوف.
في الجزء الأول عرض ميتافيزيقيا أرسطو ككلٍّ واحد مُنظَّم، والتعبير عنه بلغة سهلة وسيالة وكأن أرسطو نفسه يعرضها كتجارب معيشة بصرف النظر عن مدى دقة الترجمات أو التحليلات التفصيلية كما يعرفها مؤرخ الفلسفة الوضعي. وفي الجزء الثاني مقارنة ميتافيزيقيا أرسطو بالفكر اليوناني والتعرف على الروح الأرسطية عبر التاريخ.
بدأ الفكر اليوناني حسيًّا بالبحث عن العنصر الحسي في الطبيعة، ووجده في العناصر الأربعة، ثم وجده الفيثاغوريون في الأعداد، والأفلاطونيون في المُثُل، ثم أسَّسها أرسطو في العقل والواقع بمنهج فلسفي حتى أصبح هو الفلسفة ذاتها. وهو أشبه بما فعله ابن رشد في تأريخه للفلسفة اليونانية في إيقاع ثلاثي من سقراط إلى أفلاطون إلى أرسطو.
ثم استمرت الروح الأرسطية عند الإسكندرانيين مع اختلاف واضح بين أرسطو وأفلاطون، وتفضيل أفلاطون على أرسطو. واتضح أن هناك طريقتين للتفلسف؛ الأولى خارجية عقلية، والثانية باطنية حدسية، وهي تفرقة برجسون قارئًا رافيسون. الأولى مجردة، والثانية عيانية.
لقد حلَّل رافيسون «ميتافيزيقيا أرسطو» كتابًا كتابًا دون تركيبها كنسق كلي، وأكمله بأفلاطون الجانب المقابل حتى تكتمل الحقيقة؛ فالفلسفة هي الجمع بين رأيَي الحكيمين كما فعل الفارابي من قبل، وكما حاول رافيسون في الفلسفة المعاصرة في الجمع بين الروحانية والمادية، بين المثالية والواقعية دون أن يشق طريقًا ثالثًا كما فعل برجسون وهوسرل.
ذهب رافيسون إلى ألمانيا لمقابلة شيلنج؛ فرافيسون هو شيلنج فرنسا. خضع لتأثيره. كان شيلنج يوحِّد بين الروح والطبيعة كما يريد رافيسون. وكان أرسطو إمامهما الأول في الجمع بين العقل والطبيعة، بين المنطق والتجربة.
وكتب رافيسون رسالةً للدكتوراه «في العادة» كنوع من فلسفة الطبيعة؛ فالعادة تبدأ بالاكتساب ثم تتحوَّل إلى طبيعة ثانية، تبدأ بالآلية ثم تتحول إلى الفطرة، وهي ثنائية برجسون الشهيرة بين الآلية والحيوية؛ فالآلية وحدها لا تكفي. أصبح بعدها رافيسون عضوًا بأكاديمية العلوم الإنسانية وعمره أربعون عامًا، ولكن لم يشغل على الإطلاق كرسي الفلسفة.
ثم أرادت وزارة التعليم العام الكتابة في تعليم الرسم؛ فكتب رافيسون مقالين «الفن» و«الرسم» ونشرهما في القاموس التربوي عام ١٨٨٢م، مُبيِّنًا أن الفلسفة والفن ينبعان من وعي الفيلسوف والفنان، وليسا تطبيقًا لنماذج مسبقة. وهو ما عرضه برجسون فيما بعد. وهو التيَّار الذي بدأه بستالوتزي في الفن الطبيعي مُتَّبعًا مسار الأشياء الطبيعية وخطوطها وأشكالها في أشكال رياضية كما تراها العين؛ فالجمال في الشكل.
وأنهى رافيسون حياته بكتابه «الوصية الفلسفية» عام ١٨٨٧م، متضمنًا أفكاره الرئيسية في محاولاته وتقاريره السابقة، منضمًّا إلى عظماء الفلاسفة من طاليس إلى سقراط، ومن سقراط إلى أفلاطون وأرسطو، ومن أرسطو إلى ديكارت وليبنتز، في مسار فلسفي واحد سماه ديكارت «الأريحية» ومتبعًا نصيحة أوغسطين: «أحبوا ثم افعلوا بعد ذلك ما تشاءون». ليس الشر في لامساواة الظروف، بل في الآثار الناجمة عنها. ومعالجة الشر بالإصلاح الخلقي والانسجام الطبقي والتعاطف المشترك عن طريق التعليم الحر من أجل غرز قيم الحرية، وتحرير النفس من العبودية، خاصةً الأنانية، ولا فضيلة أسمى من «الزهد» كما هو الحال عند آدم سميث. وهو ما سُمِّي في اللاهوت المسيحي «الرحمة». وتتجلَّى الرحمة الإلهية في الحب الإنساني، ويشعر الفنان والشاعر بذلك كما يشعر الفيلسوف.
(ب) حول برجماتية وليم جيمس (الحقيقة والواقع)١٤
ربما يكون وليم جيمس أقرب الفلاسفة الأمريكيين إلى برجسون، كانت بينهما معرفة متبادلة عن طريق الرسائل وإن لم يتمكَّنا من اللقاء في لندن.
وقد حُرِّف فكر وليم جيمس كثيرًا وأُسيء فهمه والتقليل من شأنه. ولا يمكن فهمه إلا إذا تغيَّر مفهومنا عن «الواقع» بوجه عام مع التمييز بينه وبين مفهوم العالم ومفهوم الكون؛ فالعالم بسيط ومركب في آنٍ واحد، العالم يوحِّد بين الأشياء بصرف النظر عمَّا إذا كان الإنسان ماديًّا أو روحيًّا أو مؤمنًا بوحدة الوجود. كما يحدِّد بعض المبادئ البسيطة لتفسير عديد من الأشياء المركبة. والعقل بطبيعته بسيط يقوم على مبدأ اقتصاد الجهد والتفكير في الطبيعة بأقل جهد.
والأهم من ذلك هو ما تعطيه التجربة؛ فبينما يعطي العقل طبقًا للعادة العلل والمعلولات، فإن ما يعطيه العقل، «ما يكفي»، وما تعطيه الطبيعة «أكثر ممَّا يكفي»، أكثر من هذا، وأكثر من ذلك، وأكثر من كل شيء. فالواقع عند جيمس فيَّاض ومعطٍ وواهب، كما يقول هوسرل في الشعور إنه واهب المعاني. صحيح أن التجربة غير متسقة، ولكن العلاقات بين الأشياء علاقات واقعية يمكن ملاحظتها مباشرةً ولو بطريقة عائمة.
ليست البرجماتية نوعًا من الشك. تُرد الحقيقة إلى ما هو أقل منها، وإخضاعها إلى منفعة مادية، وأنها لا تتجه نحو البحث العلمي المُنزَّه. البرجماتية حب للحقيقة وتأسيس للعلم من التشريح إلى الفيزيولوجيا إلى علم النفس إلى الفلسفة. تلاحظ البرجماتية، تُجرِّب وتتأمل. وبما أن ذلك لا يكفي فإنها تفعل قليلًا كي تُلِم بالتجارب العادية والجهود التي تفوق الطاقة الإنسانية كي تتواصل حتى إلى ما بعد الموت كي تعمل لصالح العلم ولصالح الحقيقة.
(ﺟ) فلسفة كلود برنارد١٨
أراد كلود برنار أن يبيِّن كيف تتعاون الفكرة مع الواقعة في البحث التجريبي. تُدرك الواقعة، ثم تقترح الفكرة للتفسير، ثم يطلب العالم التحقق من صدقها في التجربة. وكلما استأنف التجربة يبقى مستعدًّا لترك الاقتراض أو تعديله على الوقائع. البحث العلمي إذن حوار بين الروح والطبيعة. توقظ الطبيعة حب الاستطلاع، وتطرح عليها الأسئلة وتعطي أجوبتها. وللحوار منعطفات لا يمكن التنبؤ بها، مثيرةً أسئلة جديدة تجيب عنها الطبيعة من جديد مقترحةً أفكارًا جديدة، وهكذا إلى ما لانهاية. وعندما يصف كلود برنار هذا المنهج ويعطي أمثلةً ويذكر التطبيقات لِمَا يعرضه، يبدو لنا بسيطًا وطبيعيًّا، فتسهل الموافقة عليه.
لقد ظن الفلاسفة لمدة طويلة أن الواقع كلٌّ نسقي كمعمار ضخم يمكن للفكر بناؤه بفضل استدلال واحد وبمساعدة الملاحظة والتجربة. وبالتالي تكون الطبيعة مجموعةً من القوانين متداخلة في بعضها البعض طِبقًا للمنطق الإنساني. هي قوانين داخل الأشياء. ويتلخَّص الجهد الفلسفي والعلمي في استخلاصها بالبحث عن الوقائع التي تغطِّيها.
(٢) كتابات المجاملات
ونموذج المجاملات هو الخطاب الذي ألقاه في الأكاديمية الفرنسية يوم استقباله عضوًا فيها خلَفا للوزير «إميل أوليفييه». يقوم على ذكر المناقب لمؤرخ وكاتب سياسي ليس له باع في الفلسفة؛ لذلك لم يستطع برجسون قراءته «برجسونيًّا» أو ذكر أي موضوع فلسفي فيه إلا فيما ندر. ولا تظهر فلسفة برجسون إلا في أقل الحدود؛ منها أن الحرية خالقة، وأن الشعوب الحرة هي القادرة على الاختراع.
ونظرًا لعدم وجود هدف إلا الثناء على الفقيد فقد اتسم الخطاب بالغموض وعدم وضوح هدف آخر إلا التقريظ. وهو ما لا يتفق مع منهج برجسون. بل إن برجسون يرفعه إلى مصاف كبار الكتاب الفرنسيين مثل بسكال وبوسويه. لم يتجاوز الخطاب المرثية كنوع الأدبي. ربما كان السبب في ذلك المناسبة الرسمية، تأبين الفقيد الراحل ليحل العضو الجديد محله. وهي عادة كل الأكاديميات والمجامع اللغوية والعلمية، مجرد مناسبة عرضية بصرف النظر عن مدى دلالة الفقيد بالنسبة للعضو الجديد.
(٣) الموضوعات الفلسفية
(أ) الفلسفة والأخلاق والتربية
(ب) السياسة والقانون
(ﺟ) الفن والدين
وفي تقرير عن كتاب «فلسفة جديدة في التاريخ الفرنسي الحديث» لرينيه جيون، وهي دراسة لأعمال أرنست سيير عن فلسفة التاريخ في فرنسا في الماضي والحاضر واتجاهها نحو المستقبل. وتدور حول ثلاث موضوعات: الاستعمار، والتصوف، والعقل. الاستعمار هو الرغبة في الهيمنة، ووعي بالحياة. وهو مباطن للدافع الحيوي، روح الأفراد والشعوب في تطور مستمر نحو ما يفوق الطبيعة. ويتولد التصوف عن هذا الدافع، باعتباره إشباعًا لطموحات الأفراد والمجتمعات. الاستعمار والتصوف يتعاونان معا، ويكمل بعضهما بعضًا. كلاهما نتاج الدافع الحيوي. ثم يخضع كلاهما للنقل أي للتجربة الاجتماعية في التراث. ويتحول الكل إلى حضارة. ونماذج التاريخ في ذلك روسو، أبو العصور الحديثة، وليس مدام جيبون أو فنلون. يمثلان مجرد تصوف باطني. التصوف على أنواع: تصوف إمبريالي، مضمون ديمقراطي، تصوف اجتماعي، تصوف جمالي أو رومانسي، تصوف عرقي. وهناك تصوف التوراة أو التصوف الثوري. يعتمد على العقل والواقع. وعليهما يتأسس الوحي.
Bergson: Ecrits et Paroies, Textes ressemblés par R. M. Massé-Bastide., Vol. II, III, PUF., Paris, 1957.