(أ) العقلانية
ويتضح من كشف أسماء الأعلام الأولويةُ
المطلقة لديكارت مؤسس العصور الحديثة؛ لأن
برجسون ينهيها، والنهاية تُحيل إلى
البداية، والبداية تُحيل إلى النهاية.
الحقيقة قراءة الحاضر في الماضي، والماضي
يتراءى في الحاضر. ومع ديكارت يظهر التيار
العقلاني عند كانط، وليبنتز، واسبينوزا،
وأفلاطون، ومالبرانش، وبسكال، وكوزان،
وإيفيلين، وبرنشفيج وغيرهم، ويصرف النظر عن
الترتيب الزماني.
بدأ برجسون حياته وهو ما زال طالبًا
مُهتمًّا بالرياضيات، وكان عمره تسعة عشر
عامًا. ودخل فيها المسابقات كي يبتعد عنها
لصوريتها كما فعل هوسرل في المرحلة الثانية
من حياته بعد أن حاول أن يبحث عن أُسُسها
النفسية في المرحلة الأولى في «فلسفة الحساب».
٢
وكتب رسالةً إلى ليون برنشفيج حول الحرية
الأخلاقية من أجل عدم الخلط بين الحرية
الأخلاقية والحتمية الفيزيقية.
٣
ويناقش برجسون المواد الفلسفية التي
وضعها لالاند في «القاموس الفلسفي» خاصةً
مفهومَي «مباشر» و«لا يمكن معرفته»، وفي
مقال آخر، مفهوم الحدس باعتباره عمليةً
أصيلةً للروح لا يمكن رده إلى الأفكار المتناثرة.
٤
كما يُلخِّص برجسون محاضراته حول الكتاب
التاسع من التاسوع السادس لتاسوعات أفلوطين
وحول «تاريخ فكرة الزمان».
٥ ويكتب كذلك مادةً حول «الحرية
وهي الضرورة الداخلية».
٦
ويكتب تقريرًا عن كتاب «سعادة العقل»
لأوسيب لسورييه حيث يعرض المؤلف مفهومَين
للسعادة: واقعيًّا يقوم على الملكية،
ومثاليًّا يقوم على الرغبة، ومصدرها الحب
والفن والعلم والحرية.
ويكتب تقريرًا عن كتاب «التركيب العقلي»
لفلهوزر الذي يُميِّز فيه بين الحياة
النفسية والحياة الروحية. تخضع الأولى
للقوانين النفسية، بينما تند الثانية عن
الحتمية، معتمدًا على أعماله السابقة
«المادة والذاكرة» و«التطور الخالق».
٧
وفي تقرير عن كتاب «نشأة العقل» لجورج
بون، يُثني برجسون على الكتاب لأنه قام على
التمييز بين الوظائف العليا الدنيا للعضو
الحي المرتبطة بالدماغ والوظائف العليا.
٨
وفي رسالة إلى مؤتمر ديكارت وهو في نهاية
العمر ومهموم بمقدمات الحرب العالمية
الثانية كما كان في قلب الحرب العالمية
الأولى، وبمناسبة ديكارت، يتعرَّض للمشاكل
السياسية والاقتصادية والاجتماعية
والدولية؛ فديكارت هو عبقري التأمل، وروح
مساوقة للعالم. «مقال في المنهج» بداية
العصور الحديثة، وهو نقل للرياضيات الشاملة
على مستوى الفكر. خلق اتجاهًا روحانيًّا
بتمييزه بين النفس والبدن، ووضع أُسُس
المثالية الحديثة، كما خلق الميتافيزيقا
الحديثة بمنهج التأمل الباطني. الفضيلة
الأولى لديه هي الكرم أو الأريحية. وإذا
كانت فيزيقا أرسطو لفنان فإن فيزيقا ديكارت
لمهندس؛ أحال البيولوجيا إلى فيزيقا. وقد
انتهت الفلسفة في بدايتها إلى نوع من
البرجماتية الميتافيزيقية. وينهي برجسون
الرسالة بمجاملاته العادية من خلال عُصبة
الأمم والتحية إلى ألمانيا والمجر وسويسرا
وهولندا وإنجلترا. وباجتماع ديكارت وبيكون
في بداية العصور الحديثة يُلخِّص برجسون
الديكارتية بأنها العمل كرجل فكر، والتفكير
كرجل عمل.
٩
وفي رسالة إلى جاك شيفالييه يُبيِّن
برجسون أن الفكرة الخاطئة تترك مكانها
طبيعيًّا للفكرة الصحيحة طِبقًا للقوة
الباطنية في الحقيقة، «إنما بقاء الباطل في
غيبة الحق عنه». وهذا هو السبب في أن حلَّ
كتاب «رسالة في المعطيات البديهية للوجدان»
محلَّ كانط، وبيان إمكانية الحدس الذي يفوق
الحس إذا ما فُهم العقل بمعنًى أوسع كما
أعطاه له كانط. الحدس يفوق العقل، عمل للروح.
١٠
وكتب برجسون تقريرًا عن مسابقة لجائزة
تقدَّم بها إيفيلين بكتابه «العقل الخالص
والنقائض»، وبيلو بكتابه «دراسات في
الأخلاق الوضعية». وبالإضافة إلى الهدف من
العرض فإن إثبات نقائض العقل في الجدل
الترنسندنتالي يكشف عن عجزه عن الإدراك؛
ممَّا يُفسح المجال للحدس. أما التقرير
الثاني عن «دراسات في الأخلاق الوضعية»
لبيلو فإنه يُبيِّن حدود الخطأ الثاني في
الوعي الغربي منذ ثنائية ديكارت، وهو
التجريبية عند جون استيوارت مل، أو الوضعية
عند كونت وليفي بريل ودوركايم.
١١
وفي تلخيص محاضرات برجسون حول «الشخصية»
و«رسالة في إصلاح الذهن» لاسبينوزا، ما
أبعد الموضوعين عن بعضهما البعض في الظاهر.
١٢ الأول أقرب إلى الفلسفة
المعاصرة، الثاني في لب الفلسفة الحديثة.
أمَّا إذا اعتُبر مفهوم «الشخصية» مثل
مفهوم «الجوهر» مفهومًا ميتافيزيقيًّا،
فهنا يظهر التشابه بين الموضوعين بالرغم من
الطابع النفسي للأول، والعقلي للثاني.
الشخصية حالات شعورية وليست جوهرًا ثابتًا.
تُوحِّد بين حالات الشعور المتعدِّدة. كما
حلَّل أمراض الشخصية وقضايا الشعور
واللاشعور. أما «رسالة في إصلاح الذهن»
فإنها تتضمَّن أنواع المعرفة كما هي معروضة
في كتاب «الأخلاق». ومنها المعرفة الحدسية،
والفكرة الحقيقية. وهو ليس فقط ديكارتيًّا،
بل له فلسفته الخاصة التي لا يمكن ردها
لديكارت.
والعجيب أن يجمع برجسون في محاضراته بين
نقيضَين كما يبدو في ملخَّص محاضرته حول
«فكرة التطور» و«المبادئ العامة لفلسفة
اسبينوزا». موضوع حقيقي وهو التطور،
والثاني زائف وهو جوهر اسبينوزا. فطبقًا
لعبارة برجسون الشهيرة: «لكل إنسان
فلسفتان؛ فلسفته الخاصة وفلسفة اسبينوزا.»
الأولى صحيحة والثانية وهم. يمكن التحقق من
موضوع التطور بالتجربة، في حين أن المبادئ
العامة لفلسفة اسبينوزا في «الأخلاق»
و«الرسالة القصيرة» يمكن استنباطها من
العقل البسيط.
١٣
وفي رسالة إلى ليون برنشفيج بمناسبة
الاحتفال بمرور مائتي عام على وفاة
اسبينوزا، يصرِّح برجسون بأن اسبينوزا هو
نموذج الفلسفة الخالدة طِبقًا لعبارته
الشهيرة؛ فالمعرفة الداخلية للحقيقة
تتحدَّد مع الفعل الخالد الذي يضع هذه
الحقيقة ذاتها، وتجعلنا نشعر بهذا الخلود
في كل مرة تقرأ كتاب «الأخلاق».
١٤
وفي مختصر لمحاضراته عن «تكوين الأفكار
العامة وقيمتها» و«مبادئ المعرفة» عند
بركلي، يحلِّل برجسون نشأة الأفكار من وجهة
النظر النفسية ثم كيفية تعميمها.
١٥ كما عرض كتاب «رسالة في مبادئ
المعرفة الإنسانية» لبركلي لتوضيح معنى
المثالية.
ويرد على مقال بوريل «تطور العقل
الهندسي» الذي يُسيء فهم بعض الآراء
الواردة في «التطور الخالق» ويتهم برجسون
بأنه تصوَّر العقل الهندسي جامدًا لا
يتطوَّر كما كان الحال عند اليونان.
ويتبنَّى فكرة وحدة الفكرة الرياضية دون أي
رؤية للخيال. في حين يرى برجسون مع آخرين
أن الرياضي الحقيقي هو الشاعر؛ أي ضرورة
الخيال، ومن ثم ينطبق مفهوم التطور في
«التطور الخالق» أيضًا على الرياضيات.
١٦
وقد لخَّص برجسون محاضراته حول «طبيعة
الروح وصلة الروح بعمل المخ وعن محاورة
سيريس» لبركلي، وهما تياران متعارضان؛
السيكوفيزيقا من ناحية والمثالية
الأفلاطونية الجديدة من ناحية أخرى.
١٧
ويدافع برجسون ضد اتهامه بإنكار دور
العقل في فلسفته في خطاب إلى أجنور بيتي في
كتابه «برجسون والعقلانية». فالعقل ما زال
له دور في الميتافيزيقا والفلسفة. وفي
ميدان المادة يستطيع العقل الوصول إلى
المعرفة المطلقة، كما يستطيع الوصول إلى
الحقيقة إذا ما تحوَّل الروحي إلى مكاني.
وقد أصابت الدراسة في تحليل وتعميق أفكار
برجسون عن عادة العقل في التفكير في الوجود
من خلال العدم.
١٨
(ب) التجريبية
ثم يظهر التيار التجريبي عند القدماء؛
لوكريس، وأرسطو، وأبيقور، وعند المحدثين،
أوجست كومت، وكوندياك، وسبنسر، وتين، وجون
استيورات مل.
١٩
وأهمية لوكريس هو تعليم الطلاب شعر
الطبيعة والانتباه إلى الواقع؛ لذلك اختار
برجسون بعض المقتطفات منه لتعليم الطلاب مع
شرحها لمساعدتهم على اكتشاف الواقع،
وباللغة الأصلية «اللاتينية».
٢٠ وبالرغم من أن لوكريس ضد الدين
وبرجسون مع الدين، إلا أن نقطة البداية عند
كليهما واحدة، وهي الطبيعة والشعر؛ فكلاهما
فنان. بيَّن برجسون أصالة لوكريس وشاعريته
ومعه ديموقريطس وأبيقور. وينقد فيزيفا
لوكريس وكلَّ الطبيعيات القديمة التي تقوم
على الذرَّة. ولا يختلف عنه فرجيل في شعر
الرعاة. كما ينقد لغته القديمة من أجل
تعليم الطلاب حُسنَ استخدام اللغة.
وكذلك يُلخِّص برجسون محاضراته في
الكوليج دي فرانس حول الكتاب الثاني من كتب
الطبيعة لأرسطو وحول مخطط لتاريخ فكرة
الزمان في علاقته بالمذاهب الفلسفية.
٢١ كما لخَّص محاضراته على الكتاب
الثاني عشر من ميتافيزيقا أرسطو و«تطور
نظريات الذاكرة».
٢٢
ويدرس في علم النفس ظاهرة اللاشعور
والتنويم المغناطيسي،
٢٣ وهي الظواهر التي درسها برجسون
فيما بعد، مثل ظاهرة التراسل الروحي عن
بُعد، بالرغم من أنه لا يُسلِّم بوجود
اللاشعور كما هو الحال عند فرويد والذي لا
يذكره إلا نادرًا. وقد اعتمد على التجربة
الفعلية التي قام بها روبينيه.
وفي بحث «التوازي السيكوفيزيقي
والميتافيزيقا الوضعية» يبدأ برجسون اللجوء
إلى التجربة؛ من أجل البحث عن دلالة الحياة
ومن أجل إقامة ميتافيزيقا وضعية.
٢٤
وفي تقرير عن كتاب «مفهوم الضروري عند
أرسطو والسابقين عليه» لجاك شيفالييه
يُبيِّن برجسون أن الدراسة لميتافيزيقا
أرسطو أرادت الجمع بين الفردي في الطبيعة
والضروري في المنطق، مع مقارنة مع سابقيه
خاصةً أفلاطون؛ فالواقع عند اليونان عقلي،
ومهمة العلم تحويل الواقع إلى عقل أو إلى
علم. موضوع العلم العام، والواقع فردي. في
حين أرادت الفلسفة الحديثة أن تُبيِّن
الفرق بين الواقع والفكر؛ لذلك زاوج المثل
الأفلاطوني بين الجنس المنطقي والعلة
الفيزيقية. ويُبين الكتاب الاتجاهين في
الفلسفة اليونانية، المنطقي والفيزيقي، وهو
ما يُعبِّر عنه اسبينوزا في مذهبه في إطار
الضرورة. كما جمع أرسطو بين النظرة الآلية
والنظرة الغائية؛ لذلك كان الله عند أرسطو
ليس خالقًا للعالم.
٢٥
وفي تقرير عن كتاب «الداروينية في العلوم
الأخلاقية» لبولدوين المترجَم إلى
الفرنسية، وهو تطوير لبحث سابق عن أثر
داروين في العلوم النفسية والأخلاقية
بمناسبة المئوية الأولى لميلاد داروين
والخمسية لظهور «أصل الأنواع» يكتفي برجسون
بعرض الكتاب فصلًا فصلًا مقارنًا بينه وبين
نظريات فيسمان. ويكفي برجسون أن ينتهي
المؤلف إلى أن التطور ليس آليًّا بالضرورة
بين العلل والمعلولات؛ لأن الطبيعة تتضمَّن
مظاهر الجِدة فيها.
٢٦
فإذا كان كانط وسبنسر قد أيقظا برجسون من
سُباته؛ الأول ضد العقل، والثاني ضد
التطور، فإن إعجاب برجسون بالتيار المادي
ظل قائمًا ممثَّلًا في المدرسة التطورية
عند سبنسر، والاجتماعية عند ليفي بريل.
فكتب تقريرًا عن محاضراته حول «نظريات
الإرادة» وحول بعض فصول «مبادئ علم النفس».
حاول تحليل الإرادة وبوجه خاص الجهد
بأبعاده الثلاثة؛ العضلي، والشعوري
(الانتباه)، والإرادي (الاختيار الحر).
ويربطهما معًا الإحساس بالجهد الذي يربط
بين الإحساسات والصور والأفكار والحالات
النفسية المتنوعة.
٢٧
وفي تقرير عن «التعدُّدية، دراسة في
الانقطاع واللاتجانس في الظواهر»
لبوكس-بوريل يقرأ فيه برجسون موضوعه عن
التواصل والانقطاع في مسار التطور. التواصل
عند سبنسر وداروين، والانقطاع بسبب الطفرة
عند برجسون.
٢٨
ودفاعا عن «التطور الخالق» ضد متهميه من
المحافظين واللاهوتيين والتطوريين بأنه
إنكار للخلق وأن الخالق هو التطور وليس
الله، كتب رسالةً إلى مدير مجلة الشهر
ردًّا على مقال لودانتك عن «التطور الخالق»
الذي لم يحالفه التوفيق في الحكم على فلسفة برجسون.
٢٩ ويعتمد الكاتب على مقال سابق
وهو «مقدمة في الميتافيزيقا» يحاول أن
يُميِّز بين النسبي والمطلق؛ المتحرك كشيء
نسبي، والحركة كحالة نفسية مطلقة؛ أي
دائمة. وهي نفس القِسمة الديكارتية بين
المتحرك وفكرة الحركة. وهو ما عرضه برجسون
من قبلُ في «رسالة في المعطيات البديهية
للوجدان» في مفهوم الديمومة الفعلية.
٣٠
وفي رسالة إلى تونكيديك يكشف برجسون أنه
في «التطور الخالق» يتكلَّم عن الله عندما
يتكلَّم عن الحياة، والطاقة الروحية،
والدافع الحيوي، والخلق، ولكن بطريقة
مخالفة لطريقة اسبينوزا.
٣١
وفي رسالة أخرى له يعطي الحق في نشر ما
يشاء فيها والعبارات المقتبسة من «التطور
الخالق» التي تتعلَّق بطبيعة الله. ولا
يضيف برجسون شيئًا كفيلسوف لأن المنهج
الفلسفي يقوم على التجربة الداخلية أو
الخارجية، ولا يُسمح بإصدار أحكام على ما
يتجاوزها. ولا تدخل العقائد الشخصية كجزء
من التحليل الموضوعي. «رسالة في المعطيات
البديهية» عن الحرية، و«المادة والذاكرة»
عن واقعية الروح، و«التطور الخالق» عن
الخلق كواقعة، ومن ثم يمكن استنتاج وجود
إله خالق حر مصدر المادة والحياة. يستمر
خلقه في الحياة من خلال تطور الأنواع
وتكوين الشخصية الإنسانية، وبالتالي يمكن
تفنيد الواحدية ووحدة الوجود. أما المشاكل
الخلقية فهي موضوع آخر في حاجة إلى برهان فلسفي.
٣٢
وفي خطاب إلى فلوريس ديلاتر يُعبِّر
برجسون عن رأيه في كتاب «التطور» لبتلر
مبينًا أوجه التشابه بينهما دون التأثر به؛
فقد عرفه برجسون بعد ١٩١٤م، في حين صدر
كتاباه «التطور الخالق» ١٩٠٧م و«المادة
والذاكرة» ١٨٩٦م. وأثناء مكوث برجسون في
إنجلترا أحضر معه بعض مؤلفات بتلر مثل
«الحياة والعادة»، «التطور، القديم
والجديد»، «الله المعروف والله غير
المعروف»، وقد كتب بروح ساخرة ناقدة
للداروينية. والواقع لا يوجد تشابه حقيقي
بين أفكار برجسون وأفكار بتلر حول التطور
والحياة والذاكرة والعادة، وأحيانًا يوجد
بعض التعارض. ويتفق برجسون معه في عدم
كفاية الداروينية، وهو ما يعترف به كثير من
علماء البيولوجيا. لقد أخطأ داروين في
اعتبار المنافسة الحية والاختيار الطبيعي
كمبادئ تكفي لبقاء الأحياء. والمشكلة
الرئيسية هي تحديد أسباب التنوع. يقترح
بتلر مبدأ الغائية فحسب، وهو عود إلى نظرية
التطور عند لامارك السابقة على نظرية
داروين، وتقول بأن الجهود الفردية تنتهي
إلى عادات تتحوَّل إلى وراثة. في حين أن
«التطور الخالق» عند برجسون ينفي أن تصبح
العادات المكتسبة وراثية، وهي أنها ليست
نتيجة المجهود الفردي، بل تنبثق فجأةً عند
أفراد النوع، بالإضافة إلى أن غائية التطور
تتضمَّن جِدةً مستمرة.
٣٣ تقوم نظرية بتلر على رد الحياة
إلى نوع من المقارنة بين التطور العضوي
و«ذاكرة لا شعورية» يحتفظ بها العضو الحي
أثناء تطور الأجداد. وهذه مجرد استعارة،
وصورة ذهنية لحسن التعبير. هذه الواقعة هي
جزء من الواقع، والأهم هو عدم القدرة على
التنبؤ، والخلق المستمر. وهو تطور الحياة
الذي يسميه برجسون الانتباه أو الوعي في
«التطور الخالق». الجانب السلبي؛ أي نقد
الداروينية في نظرية بتلر، أفضل من الجانب
الإيجابي، إعطاء البديل. ويشبه الجانب
السلبي نظيره عند برجسون وهو وقوع داروين
في نوع من الآلية في تفسير الحياة على نقيض
المدرسة الحيوية في الفلسفة.
والمسئول عن ذلك هو ندرة المصطلحات
الفلسفية أو سوء استعمال الموجود منها
والتي عانى منها برجسون أيضًا أثناء كتابة
«التطور الخالق» و«منبعا الأخلاق والدين»،
ممَّا يضطرُّه أحيانًا استعمال الاستعارة
والمجاز والصور الفنية والمقارنات. فلا
يوجد تصور يُعبِّر عن فكرة ممَّا يضطر
المؤلف إلى اقتراح لفظ آخر؛ لذلك استعمل
برجسون «الدافع الحيوي» كصورة فنية ليس من
أجل فن الأسلوب، بل من أجل غياب أي مصطلح
فلسفي للتعبير عن مضمونه. كما استعمل بتلر
تعبير «قوة الحياة» واستعمل غيره المبدأ الحيوي.
٣٤ في حين توجد مصطلحات أخرى
ملائمة مثل «الآلية» و«الغائية». وهناك صور
مجدبة مثل استعمال شوبنهور تعبير «إرادة
الحياة»؛ فاللغة مسئولة إلى حدٍّ كبيرٍ عن
نقص المصطلحات بالإضافة إلى الرؤية الجزئية
إلى الواقع وتحويل الكل إلى أجزاء،
واللامنقسم إلى منقسم، بسبب العادات
الاجتماعية وضرورات الحياة العملية؛ لذلك
تتحول الفلسفة إلى عمل الهواة، ولا تبقى
صنعة المحترفين. التفلسف هو خلق المشكلة
وخلق الحل. الهاوي هو الذي يختار حلًّا بين
الحلول الجاهزة، في حين أن الفيلسوف هو
الذي يُبدع حلًّا.
وفي خطاب إلى هارولد هوفدينج بمناسبة
صدور كتاب «فلسفة برجسون»، يمدح برجسون
حياد المؤلف وقدرته على استعمال منهج لا
يبتسر النصوص ولا يسيء تأويلها. ومع ذلك،
من الصعب دخول باحث أصيل في فكر مفكر أصيل؛
إذ ما زالت صعوبة عند المؤلف في فهم علاقة
الوعي بالجسم عند برجسون، ومشكلة الله في
«التطور الخالق»، والتماثل بين الفلسفة
والفن.
ويرد برجسون على سوء الفهم الأخير
مُبيِّنًا الفرق بين الفن والفلسفة؛ الفن
يتعلَّق بالحي اعتمادًا على الحس، في حين
تتعلَّق الفلسفة بالمادة والروح على حدٍّ
سواء اعتمادًا على العقل والحدس بالرغم من
أولوية الحدس. كما أن الحدس الفلسفي يذهب
أبعد من الحدس الفني، ويأخذ الحيوي قبل
تناثره في صور، في حين يتعامل الفن مع هذه
الصور. الحدس في الفلسفة هو حدس الديمومة،
أما الحيوي في «التطور الخالق» فإنه موجَّه
ضد الآلية في علوم الحياة والتي لا تُفسِّر
كيف تتحوَّل الحياة إلى تاريخ؛ أي تتابع لا
يتكرَّر. فكل لحظة هي لحظة فردية. حدس
الديمومة إذن والآلية الشاملة نقيضان، بل
ويستطيع حدس الديمومة أن يُفنِّد الآلية
الشاملة على نحو تجريبي.
أما التمييز بين الغريزة والعقل والحدس
فلا تنفي أن تكون المُمارسة معرفةً للشيء
في ذاته والواقع المطلق. مهمة العقل
السيطرة على المادة غير المنظمة، وهو قادر
على معرفتها. وكذلك الغريزة قادرة على
معرفة مكنونات الحياة، ومن ثم فالحدس قادر
على معرفة الإنسان معرفةً كاملة. ولا تُصبح
المعرفة العقلية أو الحدسية نسبيةً إلا إذا
تم تطبيقها في غير موضوعها. تُطبَّق معرفة
الحياة على المعرفة التصورية كما تفعل
الآلية أو تطبيق معرفة المادة على الصور
المستمدة من الحياة.
٣٥
كان هذا رد برجسون على كتاب هوفدينج في
هذا الوقت العصيب الذي تمر به فرنسا دفاعًا
عن حقوق الإنسان والشعوب صغيرةً أم كبيرة.
وتشارك في الحرب بعيدًا عن روح الأنانية
والطموح والمصلحة المادية، تحارب قضية
الفكر الذي أخلصت له، وهو ما يكوِّن
عَظَمتها.
وفي رسالة إلى السيدة كارين ستيفن يمدح
كتابها «سوء استعمال العقل، دراسة في نقد
برجسون للعقلانية»، وتمييزها بين المادة
والواقعة، المادة قبل الإدراك والواقعة بعد
أن تصبح حيةً في الشعور.
٣٦
وقد أضرَّ التخصص بالعلم، وانزوى كل علم
في ميدانه، وحدثت أزمة في كل علم. في حين
أن الرؤية الكلية للعلم هي القادرة على
حماية كل علم من النظرة الضيقة لموضوعه
ومنهجه، وهو ما يُسمَّى الآن بالعلوم البينية.
٣٧ يجعل التخصص العالم عبوسًا،
والعلم مجدبًا. صحيح أن تقسيم العلوم شيء
طبيعي حين كان العقل البشري في طفولته لا
يطمح لمعرفة كل شيء. وكان هذا هو خطأ
الفلسفة. كان العلم علم الأشياء الإنسانية
والإلهية. ولمَّا اتضح أن العالم أوسع من
العقل، وأن الحياة قصيرة، والتعليم طويل،
والحقيقة لا متناهية، قل الطموح، واكتفى
بوضع اليد على حقيقة جزئية؛ فنشأت العلوم
المتخصصة الكثيرة، لكل منها موضوعه ومنهجه؛
ثم بدأت أزمة العلوم بسبب هذه النظرة
الضيقة؛ إذ تتكامل العلوم في موضوعاتها
ومناهجها. وزادت التجربة من تضييق مفهوم
العلم، وتحول النظر إلى العمل.
ويكتب برجسون مقدمةً لمحاضرة القس هولار
حول «الوقائع التي لا يستطيع العلم
إدراكها». فالعلم له منهجه الخاص بالوقائع،
وله موضوعاته المحدَّدة. في حين أن الفلسفة
لها منهجها التأملي الاستبطاني وموضوعاتها
العامة. ومن ثم فإن محاولة إقامة فلسفة
علمية، تربط بين الاثنين لا تلزم الفلسفة
ولا العلم. العلم نسبي والفلسفة أكثر من
نسبية. واليقين العلمي تجريبي، في حين أن
اليقين الفلسفي ظني. موضوع العلم ما يقاس،
وموضوع الفلسفة لا يقاس. الأول كمي،
والثاني كيفي، طِبقًا لثنائيات برجسون
الشهيرة. حدود العلم لحساب إطلاق الفلسفة،
وربما إطلاق الفلسفة لحساب إطلاق الدين.
٣٨
وبعد سماع برجسون لمحاضرة أينشتين في
الجمعية الفلسفية، استأنف نقاشًا معه
دوَّنه من قبلُ في «الديمومة والتزامن» حول
نظرية النسبية العامة مدافعًا عن الديمومة
كتيَّار سَيَّال لا ينقسم في الحياة
الباطنية. ولمَّا كانت الحياة الباطنية
أساس الإدراكات الحسية، والإدراكات الحسية
تنصب على الأشياء، لتوَهَّمنا أن الديمومة
الداخلية على علاقة بالأشياء الخارجية.
والزمان فردي شخصي وليس زمانًا عامًّا كما
هو الحال في النظرية النسبية. النسبية
تتعامل مع الزمان باعتباره تزامنيةً وليس
ديمومة. التزامن يقتضي إدراكًا حسيًّا
لحظيًّا، ومشاركة الانتباه فيه دون تقسيمه.
أما أينشتين فيُميِّز بين زمن الفيلسوف
وزمن الفيزيائي؛ الأول نفسي، والثاني
موضوعي. الأول ذاتي، والثاني مستقل عن
الأفراد، ويتعلَّق بالأشياء. ويؤيد بييرون
برجسون ضد أينشتين.
٣٩
(ﺟ) فلسفة الحياة
ثم يظهر التيار الثالث، فلسفة الحياة عند
المحدثين، علماء نفس وفلاسفة وشعراء مثل
بيير جانيه، ومين دي بيران، وإدوار لوروا،
وألفرد بينيه، وروسو، وفوييه، وجيو، وبتلر، وبولدوين.
٤٠
فيعرض برجسون المصادر النفسية للاعتقاد بالعلِّية،
٤١ وهي بحوث مثل بحوث وليم جيمس
عن الأسس النفسية للأفكار الميتافيزيقية.
والمصدر الرئيسي للعلية هي الحاجة إلى ربط
الإدراكات البصرية من أجل خلق عادات بصرية.
هناك إذن انطباعات حسية وميول حركية.
ويُؤصِّل نفس الموضوع عند الإسكندر الأفروديسي.
٤٢
ويعرض برجسون كتاب «تخطيط لمذهب علم نفس
عقلي» لإميل لوباك، وهو لا يختلف عن علم
النفس السيكوفيزيقي في الموقف من التجربة؛
الأول الاستبعاد، والثاني الخلط.
٤٣ ويدخل في نقاش مع مجموعة
دراسات حول الظواهر النفسية.
٤٤
وقد شارك برجسون في مناقشات «جماعة دراسة
الظواهر النفسية» في موضوع الدورات
التنفسية أثناء التنويم المغناطيسي،
محاوِلًا فهم العلاقة بين الظاهرة النفسية
والظواهر الجسمية المصاحبة.
٤٥
يعرض برجسون كتاب جويو «تكوين فكرة
الزمان» مع مقدمة لفريد فوييه بعدما عرض
برجسون في «رسالة في المعطيات البديهية
للوجدان»؛ فقد ميَّز جويو بين الصورة
السلبية والصورة الإيجابية للزمان، وفصل
فيه بين أربعة عناصر: الاختلاف والتشابه
والعدد والدرجة. ويُركِّز برجسون على
التمييز كالعادة بين المكان والزمان،
وإزاحة الخلط بينهما في المكان الزماني أو
الزمان المكاني؛ فالزمان هو الصياغة
المجردة لتغيرات العالم.
٤٦
كما حلَّل برجسون كتاب «مبادئ
الميتافيزيقا وعلم النفس» لبول جانيه
وتأسيس علم النفس الوصفي أو الفلسفة على
أُسس نفسية كما هو الحال عند وليم جيمس
وبرنتانو وهوسرل وبرجسون نفسه من أجل إنقاذ
علم النفس من السيكوفيزيقا، وإنقاذ الفلسفة
من التجريد، وتأكيد مسئولية الفلسفة.
ويُعدِّد برجسون المذاهب الفلسفية الممكنة
من المادية إلى الظاهرية إلى النقد إلى
وحدة الوجود إلى الروحانية. والروحانية
تعترف بالإنسان المفكِّر.
٤٧
ودخل برجسون في مناقشة مع بينيه حول
«الروح والذاكرة» في موضوع الإدراك الحسي
الخارجي منذ ديكارت وليبنتز حتى علم النفس
الحديث، وبيان برجسون التمييز بين الحس
الخارجي والحس الداخلي، بين الإدراك الحسي
والانتباه الشعوري.
٤٨
وبِناءً على طلب وليم جيمس سيرةً ذاتية
من برجسون ردَّ عليه برجسون بكل تواضع بأن
سيرته الذاتية لا شيء يسترعي الانتباه فيها
موضوعيًّا. ويركِّز على أثر سبنسر عليه،
وتوجُّهه نحو فلسفة العلوم، ثم بداية
اهتمامه بمفهوم الزمان في الميكانيكا
والفيزيقا ثم تغييره تمامًا، واكتشاف أنه
زمان لا يدوم. وفي هذا الكتاب رسالته
للدكتوراه «رسالة في المعطيات البديهية للوجدان».
٤٩
وفي رسالة أخرى يعبِّر برجسون عن مدى
سعادته لتوارد الخواطر واتفاق الأفكار بينه
وبين وليم جيمس خاصةً في «مبادئ علم النفس»
و«أنواع الخبرة الدينية»، خاصةً هذا الأخير
المُوجَّه ضد القطعية الدينية القديمة.
٥٠
وفي رسالة أخرى بعدم استطاعة قراءة الزند
أفستا لفشنر الذي ينصحه به وليم جيمس،
يُسلِّم برجسون بموافقته على «روح الأرض»
والتسليم بموجودات متوسطة بين الله والإنسان.
٥١
كما يُعبِّر برجسون في رسالة أخرى له عن
موافقته على تمييز البرجماتية بين الواقع
والحقيقة، في حين أن الميل الطبيعي يميل
إلى الاتجاه المعاكس بسبب عادات اللغة إلى
الأفلاطونية. فالحقيقة هي ميلنا نحوها
بمجموعة من الخيالات أو السراب حتى يُصبح
الواقع والحقيقة من نفس النوع؛ لذلك يخطئ
الكثيرون في تأويل البرجماتية.
٥٢
ويأخذ وليم جيمس حَيزًا كبيرًا من
المراسلات بينه وبين برجسون حول أهم كتاب
لجيمس وهو «أنواع الخبرة الدينية» والتأكيد
على أن الدين عاطفة وليس عقلًا كما هو
الحال عند كانط، ولا مجتمعًا كما هو الحال
عند ليفي بريل ودوركايم. وفي خطاب آخر
يُحيل إلى نفس الكتاب، مُقارِنًا إياه
بكتاب «المادة والذاكرة» من خلال تحليل
معنى «أكون أو لا أكون»، عبارة هاملت
الشهيرة من أجل إثبات وحدة الأنا.
٥٣
وفي رسالة أخرى لوليم جيمس، يُعبِّر
برجسون عن اتفاقه إلى حدٍّ كبير معه
باستثناء «التجريبية الجذرية» ودور
اللاشعور الحاضر حضورًا واضحًا عند جيمس
والأقل حضورًا عند برجسون، خوفًا من الوقوع
في التصور الماهوي أو الجوهري للحياة،
وعالم الشيء في ذاته. برجسون أقرب إلى
الحضور الدائم واللاشعور متداخل فيه وليس تحته.
٥٤
وفي رسالة أخرى له يُعبِّر فيها عن رأيه
في مقالة «كيف تستطيع العقول أن تعرف شيئًا
واحدًا؟». هناك التجربة الخالصة، وهي ليست
ذاتيةً ولا موضوعية، بل هي صورة تجمع بين
الاثنين أو ما سمَّاه جيمس امتلاك الشعور
لهذه التجربة، أو ما سمَّاه هوسرل القصدية.
٥٥
وفي رسالة أخرى يبدي برجسون إعجابه بكتاب
«البرجماتية» والبرنامج الموضوع لفلسفة
المستقبل خاصةً الفصل الخاص بعنوان
«البرجماتية والنزعة الإنسانية».
ويوافق على وصف جيمس بأنه بالنسبة
للعقلاني الواقع سابق التجهيز وكامل إلى
الأبد، في حين أنه بالنسبة للبرجماتي ما
زال في التكوين؛ فقد ابتعد كلاهما عن سحر
الأفلاطونية؛ فالحقيقة متغيرة ومتحركة،
والواقع كذلك، والحقيقة مُواكَبَة الواقع.
٥٦
ويُبدي برجسون إعجابه بمقالتَي وليم جميس
«المعادل الأخلاقي للحرب» و«اقتراح
للتصوف»؛ الأول خاص بعدم ضرورة الحرب،
والثاني خاص بالتجربة الصوفية، وأهمية
القيم العقلية لحالات الفكر الشاذة، وكما
عرض جيمس من قبلُ في «أنواع الخبرة الدينية».
٥٧
وفي رسالة إلى مدير «المجلة الفلسفية»
يوضِّح برجسون نفسه علاقته بجميس وارد
ووليم جيمس.
٥٨ فقد نشرت المجلة مقالًا
لجاستون راجو عن أثر وارد وجيمس على برجسون
في تصوره لتيار الشعور الداخلي في «رسالة
في المعطيات البديهية للوجدان»، وأولوية
العمل كما عرض جيمس نفسه في محاضرة له عن
برجسون في الولايات المتحدة. ويدافع برجسون
عن نفسه بأن «رسالة في المعطيات البديهية
للوجدان» صدر عام ١٨٨٩م، وبدأت كتابته في
١٨٨٣–١٨٨٧م. في حين صدر كتاب وليم جيمس
«مبادئ علم النفس» في ١٨٩١م، ومن ثم فإن
فكرة برجسون عن «الديمومة» لا شأن لها
بمفهوم جيمس عن «تيار الفكر». ولم يكن
يُعرَف من مؤلفات وارد إلا دراساته الجادة
عن الجهد والانفعال.
كما يُنكر برجسون أي أثر له على وليم
جيمس؛ فبعد أن قرأ جيمس «المادة والذاكرة»،
أخطر برجسون بأنه يقوم بعدة أبحاث في نفس
الاتجاه؛ فلا وجود لأثر «المادة والذاكرة»
على «مبادئ علم النفس». صحيح أن كليهما درس
العلاقة بين الفلسفة وعلم النفس، ولكن في
مسارين مختلفين؛ فقد انتقل جيمس من علم
النفس إلى الفلسفة، في حين انتقل برجسون من
الفلسفة إلى علم النفس.
وفي رَدٍّ له على كاليه عن علاقة فلسفته
بالفلسفة الأمريكية بوجه عام وفلسفة وليم
جيمس بوجه خاص، يعترف بأن المسافة بين
الفلسفتين قليلة للغاية. صحيح أن جيمس كان
ديمقراطيًّا في الميتافيزيقا إلى حدٍّ دفع
التعددية نحو الفوضوية، وكذلك دفع برجسون
نحو الوحدة إلى حد الملكية. وبرجسون لا
يستنبط من أفلاطون، بالرغم من تقديره له.
فكرة الديمومة من القدماء ولكن الخلود هو
الذي نزل من السماء إلى هذه الديمومة
لاعتناقها وإعادة خلقها. كما أن برجسون لا
يُقر بوجود حقيقة مطلقة منفصلة عن الظواهر
كما يفعل القدماء، بل إن الحقيقة المُطلقة
هي ما نشعر به باستمرار ونُساهم في خلقها.
لا توجد وحدة داخلية قبل الكثرة، بل كلاهما
رؤية للواقع، والواقع ليس أحدهما بل
كلاهما. وهي الكثرة الكيفية أو كثرة ذات
نفاذ متبادل؛ أي صيرورة.
صحيح أن جيمس قد وصل إلى فكرة «تيار
الشعور» بطُرق نفسية خالصة، وتوصَّل آخرون
لها بنقد الفكرة الميتافيزيقية أو
الفيزيائية للزمن. وبمقارنتها بالواقع وصل
برجسون إلى فكرته عن الديمومة الواقعية.
ويفسِّر هذا الاختلافَ في المصدر الاختلافُ
في الوظيفة وفي التيار. تيار الفكر له قوة
في التفسير النفسي، في حين أن الديمومة لها
قوة على الشرح المعرفي؛ أي الميتافيزيقي،
وبين المفهومين لا يوجد تعارض بل تكامل
وتجانس مسبق.
٥٩
وفي خطاب إلى فلوريس دلاتر بمناسبة كتابه
«وليم جيمس برجسونيًّا»، يقول برجسون إنه
عندما يرى الثابت فإن الإدراك أو التصور
يُجمِّد الواقع. فالسكون ليس إلا لحظةً من
حركة انتقال هو الواقع نفسه. هذه هي
الديمومة، نقطة البداية، ونقطة النهاية،
وهو ما أثار مشاكل فلسفية. وهو ما دعا إلى
تأكيد عدم قابلية الواقع للقسمة باعتباره
تواصلًا في الزمان. أما الزمان المتجانس
فهو الذي تتعامل معه الفيزيقا والميكانيكا.
لقد تكوَّنت مَلَكات الإدراك والتصور من
أجل ضرورات العمل التي تزيد من نسبة الثبات
والحركة كواقع. ولا تتبدَّد الصعوبات
الفلسفية إلا بعد تجاوز هذه العادات في
التفكير لاكتشاف أن الحركة هي المعطي
الوحيد الواقعي، أما الثبات فهو وجهة نظر
عليه.
وقد قارن وليم جيمس باقتدار بين الحياة
النفسية بطير عصفور، مُميِّزًا بين أماكن
الطيران وأماكن الهبوط. هذا هو تيار الفكر.
أما برجسون فإنه يتعامل فقط مع الديمومة
الواقعية التي لا يوجد فيها إلا الطيران،
ولا يوجد فيها الهبوط، ولا توجد أماكن ولا
طيران ولا هبوط.
٦٠
وفي مقدمة كتبها برجسون لمختارات من
المراسلات بينه وبين وليم جيمس وترجمها
فلوريس يلاتر يُثني على كتاب جيمس «مبادئ
علم النفس»، كما يُثني على أول من أسَّس
معملًا لعلم النفس التجريبي من أجل دراسة
علم النفس المرضي. كما استطاع جيمس أن
يتبنَّى وجهة نظر تعدديةً في «أنواع الخبرة
الدينية» من أجل إفساح المجال للبحوث
الفلسفية المتنوعة، والبحث عن وحدتها، كما
هو الحال عند أفلاطون. أما البرجماتية
فإنها تركِّز على أن الحقيقة للعمل، والنظر
للفعل. هذه هي أصالة جيمس التي لا تبعد
كثيرًا عن أصالة برجسون.
٦١
وفي رسالةٍ إلى جاك شيفاليه ردًّا على
كتابه «وليم جيمس وبرجسون» يُثني برجسون
فيها على دِقة المقارنة ورسم الشخصيات مثل
وليم جيمس المتواضع الكتوم الصامت عن عمد.
والدين أو التجربة الصوفية تجمع بين
الاثنين، وفيها يظهر مدى التقارب بين الروح
الأمريكية والروح الفرنسية، ومدى جمعها بين
المثالية والواقعية، بين الميتافيزيقيا
والعلم؛ لذلك أُنشئت جمعية الصداقة
الفرنسية الأمريكية. لقد نشأت الولايات
المتحدة نفسها كفعل نبيل، ليس فقط كواقعة
استعمارية، بل كحدث أخلاقي؛ لذلك نشأت كبرى
الجامعات مثل هارفارد في الساحل الشرقي!
فجيمس يُعبِّر عن الروح الأمريكي كما
يُعبِّر عن الروح الفرنسي!
ونظرًا لأهميته؛ مين دي بيران، كوسيط بين
ديكارت وبرجسون، وهو فيلسوف الجهد والحياة
الباطنية والمقاومة العضلية، كتب برجسون
تقريرًا عن «مذكرات عن مين دي بيران»
بمناسبة جائزة بوردان،
٦٢ وهو بحث بعنوان «مين دي بيران
ومكانته في الفلسفة الحديثة» ويشمل ورقتين؛
الأولى: مين دي بيران، كانطنا (عبارة
لاشيلييه) دراسة للأعمال المطبوعة
والمخطوطة. وتدرس أخلاق الفيلسوف وكيف أنه
انتقل من الأبيقورية إلى الرواقية، ومن
الرواقية إلى المسيحية. يبدأ من حسية
كاندياك، ومن خيرية الطبيعية عند روسو،
ومُؤكِّدًا على أهمية الإرادة. فإذا قال
كانط «يجب عليك أن تقرِّر»، يقول مين دي
بيران «لا تقرِّر، ومع ذلك يجب عليك». تقوم
فلسفته على سيكولوجية الجهد جامعًا بين
روسو وبستالوتزي. وفي مرحلة أخيرة في
فلسفته يغرق المؤلف في الألوهية. أما عن
مكانته في الفلسفة الحديثة فإنه يستأنف
فلسفات ديكارت وليبنتز وكانط وفشته. وله
الفضل في تركيزه على أن حياة الروح تبدأ
بأول جهد مرغوب فيه.
٦٣
وفي خطاب إلى فاليمت-مونتبران يرحِّب
برجسون بأن يرأس جمعية أصدقاء مين دي بيران
لأنه هو الذي شقَّ طريق الميتافيزيقا.
٦٤
ويأخذ برجسون ألفرد بينيه محاوِرًا
رئيسيًّا له كعالِم نفس في كتابه «النفس
والبدن»، وقد كتب بنفس روح «المادة
والذاكرة» لتجاوز السيكوفيزيقا، ومعطيًا
الأولوية لنشاط الروح على الحساسية الفيزيقية.
٦٥ وفي رسالة أخرى يؤكِّد أهمية
علم النفس الفلسفي.
٦٦
ويعرض برجسون لمفهوم «الحس المشترك»
الشائع في الفلسفة الأنجلوسكسونية، وظيفته
معرفة الأشياء المادية من أجل تحقيق فائدة.
هي مَلَكة تلقائية غريزية في الطبيعة،
يتميَّز بسرعة القرار، وتعدُّد الوسائل،
ومرونة الشكل، ويُثير لدى الآخرين الحسد.
هي طاقة داخلية حاضرة في كل وقت تستبعد
الأفكار الجاهزة لصالح الأفكار التي ما
زالت تتكوَّن من خلال الواقع بفضل الجهد
المتصل. الحس المشترك إذن هو أحد أشكال
الحدس، وهو قادر على حل معظم المشاكل
الفلسفية العويصة، وهزِّ المذاهب الفلسفية
الشامخة. وهو أساس المناهج التربوية. هو
أقرب إلى البراءة الأصلية والإحساس الطبيعي
عند الطفل.
٦٧
ويقدِّم برجسون تقريرًا عن كتاب «أفكار
عامة لعلم النفس» للوكيه يتجاوز علم النفس
السيكوفيزيقي إلى علم النفس الخالص المستقل
عن حوامله الفيزيقية.
٦٨ وفي ملاحظاته حول تنظيم
مؤتمرات الفلسفة بعد التقرير الذي قدَّمه
دلاكروا حول المؤتمر الدولي للفلسفة في
هيدلبرج يُبيِّن برجسون أهمية نقد التوازي
السيكوفيزيقي من أجل تحرير الميتافيزيقا.
٦٩
ويكتب برجسون تقريرًا عن كتاب «علم النفس
المجهول» لبواراك، ويتضمَّن دراسةً تجريبية
للظواهر النفسية.
٧٠ ويصنِّفها إلى ظواهر تتعلَّق
بالتنويم المغناطيسي، وأخرى تسمح بتدخُّل
قوًى مجهولة، وثالثة عن الظواهر الروحية
التي تتضمَّن قوًى روحية نفسية؛ وكلها
ظواهر التراسل عن بُعد وما يدخل ضمن شبه
علم النفس مع نقد علم النفس التجريبي
الخالص عند بيكون ومل. ويكتب تقريرًا آخر
عن كتاب «اللاشعور في الحياة العقلية»
لدلزهاوفرز الذي كتب من قبل «التركيب
العقلي» من أجل مشكلة التعارض بين
الاتجاهين الواقعي ووالاسمي؛ الأول يعترف
بواقعيته، والثاني يعتبره مجرَّد اسم ملائم
لمجموعة من الظواهر النفسية غير الشعورية،
٧١ وقد قدَّم كتاب «صفحات مختارة»
لتارد أعدها أبناؤه. وترجع أهميته إلى
الربط بين الاجتماع وعلم النفس، ووضع قواعد
لعلم النفس الاجتماعي في ظواهر التقليد
والتجمع. فالحياة تسري في الظواهر
الاجتماعية، يتخلَّلها الدافع الحيوي.
الظواهر الاجتماعية ليست أشياء كما يَدَّعي دوركايم.
٧٢
ويُثني برجسون على بعض الدراسات عنه أو
القريبة منه مثل فلسفة إدوارد لوروا؛ ففي
رسالةٍ من برجسون له بعد مقالين عن
«الفلسفة الجديدة»، وهي فلسفة برجسون،
وبالإضافة إلى المنهج استطاع الباحث أن
يدرك «القصد والروح» ويدرك معنى الديمومة الواقعية.
٧٣ كما يمدح سوريل وقدرَته على
الاقتباس منه بدقة والاعتماد على أفكاره في
تطوير فلسفته الأخلاقية والسياسية.
٧٤
وقد كتب برجسون عدة كلمات بمناسبة كتاب
«البرجسونية» لتيبوديه. وهو مؤلف متعدد
المواهب يجمع بين الأدب والتاريخ والسياسة
وعلم النفس والأخلاق. أحبَّ المؤلف بسمارك
في حين فضَّل برجسون كافور. ركَّز على
أهمية المنهج في مؤلفات برجسون.
٧٥ وساهم في الكتابة في المجلة
الفرنسية الجديدة.
كما أرسل خطابًا إلى الأب سيرتيلانج
يوافق فيه على تمييزٍ بين العقل
والعقلانية؛ فبرجسون ليس ضد العقل بل ضد
العقلانية كمذهب في الميتافيزيقا. فالخطأ
في فهم برجسون راجع إلى فهم الخطأ في منهجه
وهو إقامة الميتافيزيقا على التجربة
الخالصة، وهي التجربة الداخلية التي
تتسرَّب إليها الميتافيزيقا على نحو لا شعوري.
٧٦
ومن الأقرباء منه رودولف إوكن من فلاسفة
الحياة، فقد كتب برجسون مقدمةً للترجمة
الفرنسية لكتابه «معنى الحياة وقيمتها»؛
فقد رفض الكتاب تصورين للحياة؛ الأول يُسقط
عليها مثالًا من خارجها يتعالى على الحياة
مثل أفلاطون وكانط. وهو التيار الصاعد في
الوعي الأوروبي منذ بداية العصور الحديثة.
والثاني التيار المادي الذي يُحوِّل الحياة
إلى أشياء والذي يُمثِّله التيار التجريبي.
الأول آلي، والثاني مادي. ومن ثم يخطئ
التياران في إدراك الواقع لأن الواقع ليس
تامًّا ولا جاهزًا، بل في حركة ونمو وتطور.
ولا يمكن وضع الحياة في قوالب وصياغات
عقلية أو علمية. الحياة نشاط مستمر للروح.
٧٧
وفي مقدمته لكتاب «بيولوجيا الأعصاب
والهلوسة» لمورج، يُبيِّن اتساع أفق
الموضوع، وجمعه بين علوم عديدة، علم النفس
والبيولوجيا والعلوم الطيبة. الهلوسة واقعة
نفسية لها أُسسها البيولوجية وتعبيرات
لغوية. ليست الهلوسة إسقاطًا خارجيًّا
لصورة داخلية تتموضع شدتها؛ فهو تصور ساذج
للحياة النفسية لأن الهلوسة ظاهرة أكثر تعقيدًا.
٧٨
ويكتب برجسون تقريرًا عن كتاب «جنون
الكتابة محاولة في علم النفس المرضي»
لأوسيب لورييه. وجنون الكتابة هو الرغبة
العارمة في الكتابة، واقع، وحصر، وانفعال
للكلمة مع استبعاد أي نشاط آخر. وهي صورة
أدبية للتعاطف، تُقلِّد الذات وتُكرِّر
وتنسخ مع الوهم بأن كل ذلك يأتي من عنده.
والمجتمع والإنسانية لا تستغني عن كتاباته
باسمه. وهو مثل كتابة الاسم على الكتب
والأشجار والمقاعد … إلخ. ويتضمَّن كتابات
خطابات لأشخاص لا يعرفهم. والحقيقة أن
الكتابة قد لا تكون جنونًا بل التزام
بقضية، أو وجود عصر التدوين، والحفظ على
تراث الأمة.
٧٩