(١) مقدمة: الموضوع والهدف
وبعد «المادة والذاكرة» بأحد عشر عامًا،
وعمره ثمانية وأربعون عامًا، كتب برجسون
«التطور الخالق» عام ١٩٠٧م.
١ وكما تُحيل «المادة والذاكرة» إلى
«رسالة في المعطيات البديهية للوجدان» كذلك
يحيل «التطور الخالق» إليها؛ ممَّا يدل على
وحدة الرؤية، وتنوُّع نقاط تطبيقاتها من
الديمومة إلى الذاكرة إلى التطور.
٢
والكتاب مُوَجَّه ضد الخطأ الشائع في نظرية
التطور الآلي عند داروين ولامارك وسبنسر. وهو
تصور التطور في خط متصل لا انقطاع فيه، وفي
تواصل دائم لا انكسار فيه؛ فالسابق يؤدي إلى
اللاحق بالضرورة. ولا توجد حلقات غائبة في
سلسلة الطبيعة وتطور الكائنات الحية. في حين أن
التراكم الكمي يؤدِّي إلى تغيُّر كيفي؛ ممَّا
يجعل الطبيعة تسير في خط منكسر نظرًا للقفزات
فيها، وعدم القدرة على التنبؤ بمسارها. في
الطبيعة كمون ثم طفرة بألفاظ أصحاب الطبائع من
المعتزلة. وهو نفس خطأ المذهب العقلي الذي
يتصوَّر التطور أيضًا كتقدُّم مستمر لا ينقطع.
وينشأ هذا الخطأ من وضع الجسد في بيئته،
وضرورات الحياة العملية. فلا فرق بين الطبيعة
الحتمية والمنطق الصارم. كلاهما ينقسم إلى
خلايا متجاورة كما ينقسم العقل المنطقي إلى
مقدمات ونتائج، ومصادرات وأوليات. فلا فرق بين
نظرية المعرفة عند العقليين ونظرية الحياة عند
التطوريين، الأولى تقع في آلية الرمز، والثانية
تقع في آلية المادة. وتستطيع التجربة الحية أن
تشق طريقًا ثالثًا بين هذين الخطأين.
٣
ومع ذلك يتوجه «التطور الخالق» إلى التيارين
الرئيسين في الفلسفة الغربية؛ العقلانية كما
يمثِّلها كانط واسبينوزا وليبنتز، والثاني
التجريبية كما يمثِّلها سبنسر وداروين ولامارك
وغيرهم من علماء التطور. ويندرج معهما زينون
الإيلي في إنكاره الحركة بحجج عقلية سوفسطائية.
ولا فرق بين العقل الصوري والمادة الخام في
النظرة الآلية للكون، النسق الصوري أو الحساب
المادي دون عالم متوسط بينهما هو عالم الحياة
أو الشعور. وهما نفس الخطئين؛ الصورية
والمادية، عند هوسرل وتصوره الوعي الأوروبي في
بدايته عند ديكارت كفم مفتوح، فك إلى أعلى، وهي
الصورية، وفك إلى أسفل، وهي المادية، واللسان
الممتد بينهما وهو عالم الحياة الذي اكتشفه
دلتاي ودريش وبرنتانو وأوكن وكل فلاسفة الحياة.
٤
وإذا تكوَّنت «رسالة في المعطيات البديهية
للوجدان» من ثلاثة فصول، و«المادة والذاكرة» من
أربعة فصول، يتكوَّن «التطور الخالق» من أربعة
فصول كذلك؛ الأول «تطور الحياة»، الآلية والغائية؛
٥ والثاني «الاتجاهات المتباعدة
لتطور الحياة، الثقل، العقل، الغريزة؛
٦ والثالث «في معنى الحياة»، نظام
الطبيعة وصورة العقل؛
٧ والرابع «الآلية» السينماتوجرافية
للفكر والوهم الآلي، نظرة شاملة إلى تاريخ
المذاهب الفلسفية، الصيرورة الفعلية والتطورية الزائفة،
٨ ويوجد تصدير ولا توجد خاتمة.
٩ وهو فصل لمراجعة تاريخ الفلسفة في
تياريها الكبيرين منذ ثنائية العصور الحديثة
ابتداءً من ديكارت، العقلانية والمادية،
فبالرغم من الاختلاف بينهما إلا أنهما يشاركان
معًا في النظرة الآلية للعالم، وما سمَّاه
برجسون الوظيفة السينماتوجرافية؛ أي تحويل
العالم إلى صورة عن طريق الوهم وخداع البصر كما
تفعل السينما في تصويرها للحركة.
وعناوين الفصول مُركَّبة من أكثر من عنوان أو
اثنين أو ثلاثة على الأقل؛ ممَّا يدل على أن
لكل فصل هدفًا وغاية مُحدَّدة وحدسًا رئيسيًّا
مُجملًا في العنوان.
(٢) تطور الحياة: الآلية والغائية١٠
الوجود المعروف هو وجود البشر، وهو وجود
ينتقل من حال إلى حال، وليس وجودًا ثابتًا.
والتغير قانون الوجود، والديمومة أحد مظاهره.
وما يبدو ثابتًا في الظاهر هو متحرك في
الحقيقة. الحقيقة في تغير دائم، وهذا ما أعلنه
هرقليطس وأرسطو وهيجل من قبل، ومع ذلك، هناك
ثبات داخل هذا التغير وهو التغير ذاته، التغير
المتصل. والانقطاع مجرد مظهر خارجي، والديمومة
ليست لحظةً وراء لحظة، بل تغير مستمر ومتصل،
وهو ما أثبته «المادة والذاكرة» من قبل. ومع
ذلك، الشخصية واحدة، وإن حاول العقل تحديدها
فإن الإرادة تُعيد توحيدها. تنمو الشخصية وتكبر
كمحل مثنى ينمو في وجدان الفنان. الوجود يخلق
ذاته بذاته، وهو دائمًا وجود منقوص. ليس بناءً
هندسيًّا من الخارج لأنه حياة باطنية «ذاتية
غير منقسمة».
١١ وهو أشبه بما يقوله الوجوديون
المعاصرون من أن الوجود مشروع وجود، يخلق ذاته
بذاته بأفعال حرة دون تحقيق ماهيات
مسبقة.
أما وجود الأشياء فهو وجود مصمت، يتكوَّن من
أجزاء، لا حياة فيها. هو وجود مادي خالص، وجود
في المكان، موضوع العلم. وهذا هو الجسم
اللاعضوي الذي يتكوَّن من أجزاء متزامنة
متقابلة متجاورة بل ومتتالية. موضوع الهندسة
والفيزيقا والرياضة خالٍ من الديمومة والإرادة،
مثل وجود السكر في الماء. هو وجود موضوعي يوجد
في نَسَق هندسي أو طبيعي ثابت لا يتغيَّر.
١٢ ومع ذلك، العالم يدوم بمعنى أنه
يخلق أشكالًا جديدة باستمرار. تتخلَّله حركتا
صعود وهبوط. يكشف تاريخ العلم عن تطوُّره أكثر
ممَّا يكشف عن تطوُّر الموضوع، وتطوُّر إدراك
العالم أكثر من إدراك العالم نفسه.
وهناك موضوعات أخرى مُميَّزة، وهو الجسم
الحي، وهو جزء من الامتداد العام، متماسك مع
الكل، وخاضع لنفس القوانين الطبيعية
والكيميائية التي تحتكم في المادة. وهو مركب من
أجزاء مختلفة، مادة وروح، نفس وبدن، وجود
وفردية، حالات وميول. والخطأ هو التعامل معه
مثل التعامل مع الأشياء المادية وليس كزمان
سَيَّال يصب فيه الماضي في الحاضر عن طريق
التذكر، والمستقبل في الحاضر عن طريق التوقع أو التنبؤ.
١٣
هو وجود يولِّد وينمو، يحيا ويموت، يبدأ
وينتهي، يشيب ويهرم. هو واحد وكثير في نفس
الوقت، جوهر وأعراض، فردية ومحموم. حيث يوجد
شيء يحيا، هناك سجل يكتب فيه الزمان. وحيث توجد
فردية تُوجد الشيخوخة، وتعني الشيخوخة التقدُّم
إلى النهاية، وتحقُّق الغاية كما هو الحال عند
فشته في أولوية العلة الغائية على باقي العلل.
وهي العلة الفاعلة الحقيقية كما هو الحال عند فشته،
١٤ وليس سبب الشيخوخة سببًا عضويًّا،
بل سبب ميتافيزيقي خالص عبَّر عنه كانط من قبلُ
في مقاله «نهاية كل شيء» أو «غاية كل شيء»،
١٥ وقد استطاع جاليليو تأسيس
ميتافيزيقا طبيعية للروح الإنساني. ومع ذلك
هناك فرق بين النسق الطبيعي والنسق الاصطناعي،
بين نسق الحياة ونسق الموت، النسق البعدي
والنسق القبلي، النسق الفعلي والنسق الحدسي،
النسق العلمي والنسق الميتافيزيقي. لا يُعرف
الأول إلا بتحليل العضو الميت، في حين لا يُعرف
الثاني إلا بتوحيد العضو الحي؛ الأول في
المكان، والثاني في الزمان. الأول مجرد،
والثاني عياني. الأول ثبات، والثاني حركة.
الأول يُعد ويُحصى، والثاني لا أجزاء فيه. «إن
عالم الرياضيات عالم يموت ويحيا كل لحظة، وهو
العالم الذي تحدَّث عنه ديكارت عندما يتحدَّث
عن الخلق المستمر، أما العالم الحي فهو عالم
التواصل والتغيُّر، حفظ الماضي في الحاضر، عالم
الديمومة الحقة، عالم الخلق المستمر والنشاط
الواعي.
وهذا لا يعني الوقوع في مذهب التحول الذي
يقوم على تحول البذور، ولكنه لا يستطيع أن يرصد
المسار المتباعد للتحول بين النازل والصاعد،
بين الزواحف والطيور. وقد بيَّن دي فريز كيف
يحدث التحول فجأةً وعلى غير انتظار أو توقع.
وكلما استمرَّ التحول زاد احتمال السير في أكثر
من اتجاه. يستطيع العلم دراسة التحول، ولكنه قد
لا يستطيع دراسة التطور؛ أي التحول الفجائي.
١٦
ليست الحياة مجموعةً من التراكيب البيولوجية
والفيزيقية الكيميائية؛ فطبقًا لتجارب ويسمان
تُنقَل خلايا البلازما في العلاقة الجنسية
ممَّا تؤثِّر في تكوين شخصية الجنين واتصال
الحياة. تظهر الحياة كتيَّار من بذرة إلى أخرى
بواسطة عضو حي متوسط، وكأن العضو نفسه يتطوَّر
خارج نفسه. الاتصال العضوي دلالة على تواصل
الحياة وهو ما ظهر أيضًا في «رسالة في المعطيات
البديهية للوجدان». فالوعي مثل الحياة يخلق في
كل لحظة شيئًا جديدًا. وما لا يمكن التنبؤ به
بالعقل شيء أصيل؛ إذ يحكم العقل بأن الشبيه
يُنتج الشبيه، في حين أن الحي قد يُنتج
المختلف. الحياة لا تتبع مبدأ التكرار؛ فالتطور
خلق مستمر لِمَا لا يمكن التنبؤ به، ومن ثم لا
تعطينا الكيمياء ولا الفيزياء سر الحياة؛
فالحيوية لا تُرد إلى تركيباتها الكيميائية
والبيولوجية والفيزيقية. وما ينطبق على الحياة
ينطبق على الحركة والتقدُّم الذي يند عن
المعادلات الرياضية التي تُفسِّر فقط آلية
التحول والانتقال من وضع إلى آخر. الحركة لا
حتمية في حين أن التحول حتمي. يمكن تقليد
اللاعضوي ولكن لا يمكن تقليد العضوي لأنه غير
ثابت، وليس له شكل يمكن تقليده، وكل تقليد له
خلق جديد. لا يدرس العلم إلا التقليد وليس
النشاط الحيوي. وهذا ما انتهى إليه ويلسون عالم
وظائف الأعضاء في تجاربه بقوله: «يبدو أن دراسة
الخلية قد وسَّعت أكثر ممَّا ضيَّقت الهُوة
السحيقة التي تفصل بين العالم غير العضوي
وأشكال الحياة حتى الأولية منها.»
١٧
والنظرة الآلية الرياضية هي الوجه الآخر
للنظرة البيولوجية الكيميائية؛ كلاهما يخضعان
لمعادلات وحسابات وَضَع لابلاس بعضًا منها، كما
وضع ديبوا ريمون البعض الآخر، ووضع هكسلي بعضًا
ثالثًا. ولا يمكن التضحية بالتجربة لصالح
النسق.
لذلك يرفض برجسون «الآلية الجذرية» لصالح
«الغائية الجذرية» مؤقتًا، وهي غائية ليبنتز
التي يعطي فيها كل شيء، وهي آلية عكسية تقوم
على نفس المصادرات التي تقوم عليها الآلية
الجذرية مع خلاف واحد؛ أن الآلية الجذرية
تتعامل مع الأشياء، في حين أن الغائية الآلية
تتعامل مع الأفكار والتصوُّرات. يُرد الزمان
عند ليبنتز إلى إدراك مختلط، منظور إنساني
يختفي كما يختفي الضباب الساقط بسبب الذهن الذي
يتوسَّط الأشياء. ومع ذلك فالعلل الغائية أفضل
من العلل المادية، وتمتد إلى ما لا نهاية، على
عكس العلل المادية النهائية في الآلية الجذرية.
عيبها أنها علل خارجية وليست داخلية، فلا يعقل
أن يُخلق العشب للبقرة، والحَمَل للذئب، وكما
قرَّر المعتزلة مسبقًا في الصلاح والإصلاح،
وابن رشد في دليل العناية.
وكما وضع برجسون الغائية الجذرية في مقابل
الآلية الجذرية فإنه يضع «المبدأ الحيوي» في
مقابل الغائية الجذرية. والمبدأ الحيوي لا
يتضمن غائيةً داخلية ولا فردية، هو أقرب إلى
البيولوجيا الحيوية الخالصة. وهو مبدأ يُرفض أو يُعدَّل.
١٨ يبحث برجسون عن عالم متوسط بين
طرفين، الآلية والغائية، يختلفان في الظاهر،
ويتشابهان في الباطن.
خطأ الغائية الجذرية هو نفس خطأ الآلية
الجذرية، المغالاة في تطبيق بعض التصورات
الطبيعية على العقل، والتفكير من أجل العمل.
التفكير ترف، والعمل ضرورة. يقتضي العمل وضع
غاية وخطة ثم يتم البحث عن آلية للتنفيذ وعن
علة فاعلة تتحوَّل إلى علة آلية يُعبَّر عنها
رياضيًّا وتدعمها العادة على نحو لا شعوري،
وتربط نفس العلل بنفس المعلولات.
لذلك تتشابه الغائية الجذرية مع الغائية
الآلية في عدة نقاط؛ يرفض كلاهما خلق أشكال
جديدة لا يمكن التنبؤ بها؛ إذ يقوم كلاهما على
التشابه والتكرار، كلاهما فعل الهندسة وليس
الفن، من صنع المهندس وليس من خلق الفنان. كل
شيء معطًى ولا شيء جديد. لذلك ينسل الزمان،
وتَمَّحي الديمومة الفعلية، وتقع في المجرد
الذي يحدث فيه تكرار التشابه. لا يُفكِّر
الإنسان في الزمان الفعلي، بل يعيشه؛ لأن
الحياة تنسل من العقل وتهرب منه. وهذا هو الفرق
بين سطح الواقع وعمقه، بين الخارج والداخل، بين
البراني والجواني بتعبير أحد فلاسفتنا
المعاصرين.
وبتجاوز الآلية والغائية يظهر الواقع كانبثاق
متصل من الجدة من أعماق الحياة الباطنية. كل
عمل تحقيق لقصد أو نية، في حين أن الواقع
يُقدِّم جديدًا. هو مشروع بداية في الحاضر،
وإعادة تنظيم للماضي. والفعل الحر لا يُقاس على
الفكرة، فشتان بين الديمومة والعقلانية.
١٩
ويَدَّعي العقل أنه قادر على حل التعارض
القائم بين المذاهب الفلسفية، ومع ذلك يظل
الواقع خارج هذه الملابس المفصَّلة على المقاس.
والحقيقة أن العقل لا يعرف إلا النسبي، والمطلق
ليس هدفًا له، وقد ضحَّى أفلاطون بالواقع في
سبيل الفكرة، وبالعالم في سبيل المثال.
الحياة لها قانونها الخاص، الانتقال من
المتجانس إلى اللامتجانس، ومن الشبيه إلى
المختلف، ومن الواحد إلى الكثير. هذه هي
الطبيعة الحقة وقانون تطورها، وهو ما تستطيع
فلسفة الحياة الوصول إليه بتجاوزها الغائية
والآلية.
تقوم الغائية على الانسجام، والانسجام ميل
إلى الخلف وليس إلى الأمام، والأمام مفعم
بالاختيارات الحرة، لا تحدِّده غاية مسبقة خارج
الزمان، ولا يمكن التنبؤ بالمستقبل؛ فهو إما
واسع جدًّا أو ضيق جدًّا، وفي كلتا الحالتين لا
يمكن رؤيته. الواقع خلَّاق يُنتج أشكالًا لا
تتجاوزه. وتغالي الطبيعة عندما تتصوَّر أن
المستقبل مُحدَّد سلفًا في الحاضر كفكرة. ولا
فرق بين حتمية الطبيعة وحتمية العقل؛ كلاهما
آلية، وإن اختلفت صورها.
ولمَّا كانت النظريتان الآلية والغائية لا
يمكن التحقُّق من صدقهما بالتجربة، أصبح البحث
عن معيار للصدق ضروريًّا، وهو معيار في الحياة
ذاتها؛ إذ تبدأ الحياة متصلةً في واقع حيوي
واحد ينقسم إلى مسارات متعدِّدة مثل
الشجرة.
أمَّا الداروينية فإنها تقوم على أن الحياة
تسير في خط متصل واحد لا ينقطع ولا ينكسر ولا
ينقسم. ويحدث تراكم كمي لا يتحوَّل بالضرورة
إلى تغيُّر كيفي، مبدؤه الآلي أن نفس الأسباب
تُنتج نفس المسببات. في حين يقوم افتراض آخر
على مبدأ الاستبعاد، استبعاد ما لا يتكيَّف؛
فالطبيعة تتشابه وتتكرَّر، تتجانس وتتقدَّم، لا
فرق بين النبات والحيوان، كلاهما تكوين بيولوجي
كيميائي واحد، والأمر كله يقوم على الانتخاب الطبيعي.
٢٠ والمثال الآثير على ذلك بنية
العين؛ إذ تخضع لتكوين بيولوجي كيميائي، ولكن
الرؤية لا تتم إلا بالانتباه، وهو فعل شعوري داخلي.
٢١
وهناك افتراضان في نظرية التطور؛ الأول: حدوث
تغيُّرات عرضية، والثاني: حدوث تغيُّرات
مُوجَّهة نحو معنًى معين تحت تأثير الظروف
الخارجية. ويتبنَّى داروين الافتراض الأول. ومع
ذلك، تظهر في نفس الوقت صفات جديدة مختلفة عن
الصفات السابقة. وهو ما لاحظه بيتاسون وهوجو دي
فريز عالم النبات من ظهور أشكال غير متوقعة،
وهو ما لاحظه داروين أيضًا وسمَّاه التغيرات
اللاملموسة.
وهناك افتراض آخر يقوم على التغيُّرات
الفجائية بالمصادفة، وهو عكس قانون الارتباط
الذي وضعه داروين، وعلى أساسه تنشأ صفات
متضامنة مع غيرها ومتكاملة مع بعضها. ومن ثم،
فإن التغيرات العَرَضية هي في الحقيقة
التغيُّرات غير المحسوسة في عبقرية النوع التي
تضم هذه التفسيرات وتُوحِّد اتجاهها المتصل.
٢٢
والافتراض الثاني حدوث التغير ليس عن طريق
أسباب عرضية داخلية، بل عن طريق تغيُّر الشروط
الخارجية المباشرة بالمصادفة، وضرورة تكيُّف
الحياة معها كما عرض إيمر في تجاربه
البيولوجية. يقتصر دور المادة على التطبع
السلبي، ويستطيع السبب أن يفعل بالدفع أو
الاندفاع أو التدحرج مثل كرة البلياردو. هذا هو
التضامن بين العلة والمعلول؛ في الحالة الأولى
يختلف كم المعلول وكيفه عن كم العلة وكيفها،
وفي الثانية لا يتغيَّر كيف المعلول أو كمه
بتغيُّر كيف العلة وكمها، وفي الثالثة يتأثر
المعلول بالعلة كمًّا وليس كيفًا. في الحالة
الأولى تفسير العلة معلولها وليس في الحالتين
الأخريين. وتنتهي الطبيعة إلى نتائج متشابهة في
الأنواع المتجاورة.
ويحدث هذا التقارب طِبقًا لمبدأ توجيه داخلي،
وهو ما لا يظهر في نظرية داروين، ولا في افتراض
التغيرات العَرَضية الفجائية، ولا في النظرية
التي تعي توجهات محددة لتطور الأعضاء المختلفة
بنوع من التركيب الآلي بين القوى الخارجية
والقوى الداخلية.
٢٣
واللاماركية الجديدة تنويعات على نظرية
التطور. تفرض مبدأ باطنيًّا للتوجيه نحو تقارب
المعلولات، وهو ما لا يوجد في الداروينية ولا
الداروينية الجديدة التي تقول بالتغيرات
العَرَضية اللامحسوسة، ولا في الافتراض القائل
بالتغيُّرات العَرَضية الفجائية، ولا حتى في
النظرية التي تُعيِّن اتجاهات مُحدَّدةً لتطور
الأعضاء المختلفة بنوع من التركيب الآلي بين
القوى الخارجية والقوى الداخلية.
يعزو لامارك للكائن الحي قوة تغيير استعمال
أو عدم استعمال أعضائه ونقلها بعد اكتسابها إلى
الأجيال السابقة، وهي مشكلة الاكتساب والوراثة،
وهو ما يتبنَّاه عديد من علماء البيولوجيا، وقد
يدخل في ذلك الوعي والإرادة كما هو الحال عند
عالم الطبيعة الأمريكي كوب.
٢٤ تعترف اللاماركية الجديدة وحدها من
بين نظريات التطور بمبدأ باطني؛ فهناك فرق بين
مجرد التغير في المقدار والتغير في الصورة،
والصورة هي التي تُحدِّد المادة كما هو الحال
عند أرسطو. ووراء الجهد نفسه يوجد سبب أكثر
عمقًا. وإذا كان سبنسر قد سأل عن موضوع وراثة
الصفات المكتسبة، إلا أن نظريته في التطور سارت
في اتجاه آخر. ومن ثم، من الضروري إعادة بناء
علم النفس عند سبنسر، ومنه يخرج قسط كبير من
الفلسفة. وقد أنكر ويزمان وراثة هذه الخصائص،
وأثبت براون سيكار وراثة حالة صرع بالرغم من
اعتراض وايزمان. كما أثبتت تجارب فوازان وبيرون
إمكانية توريث بعض الخصائص حتى على نحو
كيميائي. وهو ما أثبتته أيضًا تجارب شاران
ودلامير وموسو. ولا توجد حتمية في قانون
الوراثة؛ فقد تأخذ العناصر الوراثية شكلين
مختلفين من الأب في الأبناء.
٢٥ لذلك يُفرِّق برجسون بين وراثة عن
بُعد والشخصية. قد ترث الشخصية الجديدة من بعيد
عناصر وراثية، ويرثها آخر عن قرب. وهذا يدل على
أن النقل الوراثي هو استثناء من القاعدة. وقد
يكون الداروينيون الجدد على صواب عندما يُثبتون
أن الأسباب الحقيقة للتغيُّر هي الاختلافات
الحالَّة في الخلية التي يحملها الفرد وليس
مسار هذا الفرد.
٢٦
والنتيجة أن نظرية التحولات غيَّرت
الداروينية؛ إذ تُقر بأنه في لحظة معينة بعد
مدة طويلة يتغيَّر النوع كله في اتجاه آخر. وهو
ليس مجرد عَرَض كما يَدَّعي دي فريز. ويرى إيمر
أن التغيرات من خصائص مختلفة تتوارث من جيل إلى
جيل في اتجاه محدد، وهو رأي معقول لأن تطور
العالم العضوي لا يتحدَّد مُسبقًا في مجموعه.
ومن ذلك يظل الجهد الواعي للفرد والإرادة غير
الجهد العضلي للحيوان، ولا يتوارثان إلا
كاستثناء من القاعدة.
٢٧
وتنتهي كل هذه الافتراضات إلى مفهوم الدافع
الأصلي للحياة. يتسم العضو مثل العين بتركيب
البنية وبساطة الوظيفة.
٢٨ وتسير الحياة طبقًا لقانون. إن
الحياة لا تسير طبقًا للارتباط وإضافة العناصر،
بل طبقًا لفك الارتباط والانقسام الثنائي.
٢٩ وهكذا تبدو الآلية وكأنها لا تُرى
في أي مسار إلا كنقاط، ولا ترى فيه الغائية إلا
النظام، مع أن جوهره هو الحركة. لا تنقسم
بالعقل ولا تجتمع بالفكر، وذلك مثل صلة العين
بالرؤية. وهناك فرق بين الصنعة والتنظيم. تذهب
الصنعة من المحيط إلى المركز أو من الكثرة إلى
الوحدة. أما التنظيم فيبدأ من المركز إلى
المحيط. والصنعة أكثر تأثيرًا، في حين أن
التنظيم يتضمَّن عنصر انفجار. يتعامل العلم
الطبيعي مع الصنعة، والفلسفة مع التنظيم. ولا
تُمثِّل مادية الآلة مجموع الوسائل المتبعة بل
مجموعةً من المصاعب المقلوبة؛ فهو نفي أكثر منه
واقعًا وضعيًّا.
الحقيقة هو ما يقوم به الدافع الحيوي الأصيل.
الحياة ميل للفعل على المادة الخام، ولا
يتحدَّد مسار هذا الفعل مسبقًا؛ لذلك لا يمكن
التنبؤ به، ويظل حادثًا ممكنًا. ويتضمن
الاختيار تمثلًا مسبقًا لعدة أفعال ممكنة.
ويُمثِّل الجسم بحدوده وسيلة تحقيق هذا
الفرض.
(٣) الاتجاهات المتباعدة لتطور الحياة: الثقل،
والعقل، والغريزة٣٠
يصف برجسون في هذا الفصل مسار التطور الطبيعي
كما فعل هردر وكانط وفشته من قبل، والتحول من
فلسفة الطبيعة إلى فلسفة التاريخ، ومن تطور
الطبيعة إلى تطور الحضارات. يبدأ التطور من
نقطة واحدة ثم يتشعَّب ويتحدَّد وتتباعد
مساراته كالشجرة، من الجذع إلى الفروع، وكالنهر
من المنبع إلى المصب حيث تتشعَّب فروعه كما هو
الحال في دلتا كل الأنهار مثل نهر النيل ونهر
السند. وهناك دوافع للتطور ضد الثقل الطبيعي
للمادة، منها الغريزة كما هو الحال في الحيوان،
والعقل كما هو الحال في الإنسان، والحدس كما هو
الحال عند الأبطال والصوفية والأنبياء.
تتشعَّب الحياة إلى أنواع وأفراد، في سلسلتين
من العلل، وتواجه الحياة مقاومةً من المادة
الخام والقوة المتفجرة التي تُمثِّلها الحياة
بسبب عدم توازن القوى فيها. في الحياة اتجاهات
متباعدة ومتكاملة، تنقسم باستمرار في تطورها
إلى قسمين، لافقريات وفقريات، لاثدييات
وثدييات، نبات وحيوان، حيوان وإنسان. وفي كل
مرة ينتهي قسم لثقل المادة، ويستمر القسم
الآخر. تجمُّعات النمل والنحل تقف، والتجمُّعات
الإنسانية تستمر، بالرغم من أن الأولى مُنظَّمة
ومُتَّحدة، ولكنها متكلِّسة ومتوقفة عن النمو.
في حين أن الثانية مفتوحة على التقدم بالرغم من
قسمتها وصراعاتها مع نفسها. والمَثَل الأعلى هو
مجتمع في تقدُّم وفي توازن مستمرين، وهو مثال
قد لا يتحقَّق. وقد تتكامل الاتجاهات، الحيوان
يأكل النبات ليستمر في النمو، والإنسان يُطعم
الحيوان ليستمر في العيش.
٣١
وشرط التطور هو التكيف مع البيئة. ومع ذلك
يظل السؤال: ما هي الأسباب الأولى للتطور
بالإضافة إلى الأسباب الخارجية؟ ترفض المدرسة
الآلية وجود أي افتراض لدافع أصلي أو دفعة
باطنية تُعطي أشكالًا متنوعة من الحياة أكثر
تعقيدًا وسموًّا. وهو واقع مرئي. والحقيقة أن
التكيف يُفسِّر انعطافات الحركة التطورية وليس
الاتجاهات العامة للحركة أو الحركة ذاتها.
والتوجهات قد لا تعني المقاصد بالضرورة، بل
مجرد الدافع الحيوي الذي يشق طريقه بقوة
الاندفاع كالنهر المندفع أمام الصخور. وتظل
خالقةً لمسارها وأشكال تطورها. وكما يخلق
التطور أشكال الحياة الجديدة، يخلق أيضًا
الأفكار التي تسمح للعقل بالفهم؛ فالمستقبل
يسوق الحاضر ولا يمكن أن يحدِّده في فكرة. وهذا
هو الخطأ الأول للغائية، ويجر وراءه خطأً أعظم
وهو أن الانسجام ليس في الأمام بل في الخلف. خط
التطور ليس مستقيمًا بل مملوء بالتوقف والتراجع
والانكسار والصعود والهبوط. وهو ليس خطةً
موضوعة سلفًا تُغلِق المستقبل. والعقل أحد
مظاهره وتوقفاته. الانسجام تفرضه الحرية
بأفعالها الفجائية غير المتوقعة من الداخل وليس
من الخارج، بفعل الدافع الحيوي وليس بقسمة العقل.
٣٢
وفي مسار التطور لا ينفصل النبات عن الحيوان
من حيث الخصائص العامة. الفرق فقط في النسب؛ أي
في التركيز على جانب دون آخر. ولا تتحدَّد
المجموعة بامتلاك بعض الخصائص، بل بالميل إلى
التأكيد عليها. وأولى هذه الخصائص طريقة
التغذية؛ النبات يغذِّي الحيوان. كلاهما متحرك،
النبات من البسيط إلى المركب، والحيوان من
المركب إلى البسيط. حركة الحيوان في المكان،
والمكان ثقل يُربَط التطور به.
وبين الحركة والوعي هناك علاقة واضحة.
والحقيقة أن الجهاز العصبي قد نشأ مثل باقي
الأجهزة من تقسيم العمل، لا يخلق الوظيفة بل
يقوم بمهمة مزدوجة، النشاط المنعكس والنشاط
الإرادي؛ الأول دقيق آليًّا، والثاني متردد
عقليًّا. والعضو الحي يتحرَّك بحرية، وهو العلة
والمعلول في آنٍ واحد.
أما النبات فالأرض التي يُنبت فيها جذوره
ثابتة، وهو لا يشعر إلا في آخر سلسلة منه والتي
يقترب فيها من الحيوان الذي يتميَّز عن النبات
بالحس والوعي واليقظة، في حين يتصف النبات
بالوعي النائم وعدم الحساسية. وهي مثل تحليلات
العصر الوسيط عن النفس النباتية والنفس
الحيوانية والنفس الإنسانية. النبات ثابت لا
يُمس، والحيوان متحرك. وعي النبات يخضع لقوانين
آلية، والحيوان له بعض الإرادة. النبات انطباعي
شرطي، والحيوان فعَّال وإرادي. النبات ظاهرة
آلية كيميائية، والحيوان كائن حي بيولوجي. ونفس
الدافع الذي جعل الحيوان يعطي الأعصاب والمراكز
العصبية يعطي النبات وظيفة التنفس عن طريق الكلوروفيل.
٣٣
وهذا يعني أن الجهد يستعمل طاقةً سابقة وجدها
في حوزته وما هو إلا وسيلة للنجاح. يأخذ من
المادة طاقةً متراكمة ممكنة لاستعمالها في
تحقيق الأفعال، وذلك مثل الطاقة المستمدة من
الشمس. والمادة سبب النسيان، وعلة إيقاف الدافع
الحيوي كالصخرة التي يرتطم بها الماء، تألف
مملكتين متكاملتين وليستا متعارضين. ثم يتجاوز
الحيوان النبات في مجال أكثر اتساعًا. ويقسم
إلى اثنين؛ حيوان سفلي وحيوان علوي مثل
الشمبانزي الأعلى. يحكم المسار قانون تقسيم
العمل. وينتقل برجسون من المجتمع كما فعل
دوركايم إلى الطبيعة. ومع الارتباط يوجد
التقارب، ومع الفصل يوجد التوحيد. وتظهر حالات
نفسية أولى تساعد الإحساس، وتُخرج الحيوان من
الثبات وعدم الحساسية إلى الحس والحركة.
٣٤
ويمكن وصف مخطط الحياة الحيوانية بمَلَكة
استعمال الآلية من أجل الحفاظ على الأفعال
المتفجرة لطاقة ممكنة متراكمة. ويبدأ الانفجار
بالمصادفة دون اختيار اتجاه. تنحصر في سلاسل
الجهاز العصبي، وأحيانًا تتحرَّر فجأةً وتنطلق
كطاقة كامنة. ودور الطعام في الحيوان الأعلى
معالجة الأنسجة وأعضاء الطاقة، وتحل الطاقة
الممكنة في الجهاز العصبي الحركي لتنظيم الحياة
العضوية. ثم تتدخل حرية الاختيار في الكائن
الحي عن طريق الإحساس والحركة، فيبدأ تقاطع طرق
جديد. دور الحياة هو إدخال اللاتحدد في المادة؛
أي ما لا يمكن التنبؤ به، تزدوج الحياة في
خطَّين ولكن مع وجود خطوط أخرى ممكنة؛ فالدافع
مخزن لتطور غير محدد، وكأنه عمل مصطنع. وكذلك
تتطور الحياة بقانون العمل والنتيجة. والعادة
توقف الاندفاع، والآلية تترصده، والفكر يضعه في
قوالب. والكلمة تعارض الفكرة، والحرف يقتل
الروح كما هو الحال عند فشته والصوفية. الحياة
هي الحركة، والثابت عارض عليها. وبدلًا من أن
يصعب الخط يتحوَّل إلى دائرة، ويصبح التطور
حلزونيًّا؛ فهناك تقدُّم وسقوط الكائن الحي
مكان لنقل جوهر الحياة في الحركة التي ينقلها.
٣٥
وتتطوَّر الحيوانية لأن الحياة تتجه نحو أكبر
قدر من الفعل الممكن وأقل جهد ممكن. وهما
حركتان متعارضتان، ومن ثم، كانت صور الحياة
بطبيعتها متغايرة. وأهم شكلين: النبات
والحيوان؛ الأول يتجه نحو الثبات، والثاني نحو
الحركة عن طريق الجهاز العصبي. ويحاصَر
الحيوانُ في إطار محكم تصيب حركَته بالشلل
فتتوقَّف بعض أشكاله فجأة، وتستقر الأخرى نصف
خاملة. ويظل الدافع في الحيوان نحو مزيد من
الحركة والانقسام إلى أسماك وطيور وزواحف
وفقريات. وتتغيَّر أشكال الأجسام طِبقًا للبيئة
الجديدة حتى يظهر الإنسان مستقلًّا عن الحيوان
نحو الدقة الهندسية. ويظل إمكانية للتقدم في
بيئات متعددة وأمام عقبات متنوعة بحيث تمتلئ به
أكبر مساحة من الأرض. والنوع الحيواني الذي
ينتشر فوق الأرض كلها يريد السيطرة ومن ثم يكون
نوعًا أعلى؛ لذلك يُمثِّل النوع الإنساني أعلى
مرحلة في تطور الفقريات مثل الحشرات والنمل
الذي أصبح سيد ما تحت الأرض مثل الإنسان سيد ما
فوق الأرض.
٣٦
ومع توقف النبات عن طريق الثِّقل المادي
يستمر الحيوان في التطور من الغريزة إلى الفعل؛
فالثقل النباتي، والغريزة والعقل، تُمثِّل
أشكال الدافع الحيوي المشترك في النبات
والحيوان وفي أشكال أخرى من الحياة غير متوقعة.
الخطأ الأكبر هو هذا الذي نشأ منذ أرسطو وأضل
معظم فلسفات الطبيعة «وهو اعتبار الحياة
النباتية والحياة الغريزية والحياة العقلية
ثلاث درجات متتالية لنفس الاتجاه الذي يتطوَّر،
في حين أنها ثلاثة اتجاهات متباعدة لنشاط ينقسم
كلما كبر». الخلاف بينهما ليس مجرد خلاف في
التوتر أو اختلافًا في الدرجة، بل اختلاف في
الطبيعة. الغريزة والعقل نقيضان، ومع ذلك
متصلان. كل منهما يعيش في الآخر مع اختلاف في
النسبة. يتناقضان ويتكاملان، يتباعدان
ويتقاربان، يختلفان ويتشابهان، وهما ميلان
وليسا شيئين مكتملين، إمكانيتان وليسا شيئين
متحققين.
ويظهر الإنسان على الأرض في الوقت الذي تصنع
فيه الأسلحة والأدوات الأولى. وتتحقَّق الأفعال
بالتقليد والارتباط الآلي بين الصور، ويصنع
الإنسان الآلة أو الشيء المصنوع بالاعتماد على
التجارب السابقة. كان ذلك بداية الإبداع. وما
دام ظهر العقل الإنساني ظهر الإبداع الآلي.
وبسبب العادات الفردية والاجتماعية تضيع الجدة،
ويتوقف الإبداع. لم تبدأ الحياة الإنسانية
بالإنسان العاقل بل بالإنسان العامل. العقل
باعتباره مسارًا أصليًّا هو ملكة صُنع الأشياء
المصطنعة، خاصةً الأدوات التي تصنع الأدوات من
أجل تنويع أشكال الصنعة إلى ما لا نهائية. «ولا
تستطيع الغريزة الوصول إلى ذلك». الغريزة
المكتملة هي ملكة استعمال أو في صناعة آلات
منظمة. والعقل المكتمل هو «ملكة صناعة واستعمال
الآلات غير المنظمة».
٣٧
وتجد الغريزة أمامها الآلة الملائمة. تستعمل
ما قدَّمته الطبيعة لها من تعقيد في التفاصيل
وسهولة في الوظيفة. الغريزة بطبيعتها متخصصة،
وهي ليست إلا استعمال آلة معينة في موضوع معين،
في حين أن الآلة التي يصنعها العقل غير كاملة.
تحتاج إلى جهد ومراجعة شاقة. يمثِّل العقل
والغريزة حلَّين متعارضين وذكيين لمشكلة واحدة.
وهما نوعان مستقلان للمعرفة.
الغريزة واعية إلى حدٍّ ما أحيانًا، وغير
واعية إلى حدٍّ ما أحيانًا أخرى. الغريزة في
النبات واعية إلى حدٍّ ما، تصاحبها بعض
الإحساسات. والغريزة في الحيوان تزداد درجة
وعيها. البعض من ليس له وعي والبعض الآخر غاب
عنه الوعي، وكلاهما وعي في درجة الصغر؛ الأول
ليس لديه وعي بالسقوط مثل الثاني، ويصل
التمثُّل إلى طريق مسدود بسبب الفعل. لم تخلق
العقبة أي شيء إيجابي فيه. غياب التطابق بين
الفعل والتمثل هو ما يسمَّى الوعي. وهو النور
الباطني في ميدان الأفعال الممكنة حيث يوجد
النشاط الضمني الذي يخلق الفعل المتحقِّق في
الكائن الحي، ويعني التردد أو الاختيار. التمثل
والمعرفة طريقان مختلفان، وينبثق الوعي بصدمة
العقبة ومن ثم «يتم تعريف وعي الكائن الحي
بالفرق الحسابي بين النشاط الضمني والنشاط
الفعلي، وبقياس المسافة بين التمثل والفعل».
٣٨
ويُفترض أن يكون العقل متوجِّهًا نحو الوعي،
والغريزة نحو اللاوعي، والطبيعة تختار، والوعي
وراء التمثُّل من أجل الفعل مثل الغريزة دون أن
يُتلفه بسبب المسافة بين الفعل والفكرة. الوعي
هنا مجرد عرض، والنقص حالة طبيعية للعقل. وكل
إشباع طبيعي يتطوَّر إلى ظهور حاجات جديدة.
تتضمَّن الغريزة والعقل معًا معارف، في الغريزة
لا واعية وفي العقل واعية؛ الأولى لعب، والثاني
فكر. وهو اختلاف في الدرجة وليس في الطبيعة.
إذا كانت المعرفة موجودة فهي ضمنية، تتخارج في
مسار محكم بدلًا من أن تتحول إلى الباطن؛ أي
إلى وعي.
يعلم العقل أشياء دون تحصيلها، وهذا لا يعني
بالضرورة أنها فطرية، ولكن يمكن اعتبار الغريزة
والعقل موروثين دون معرفة شيء مُحدَّد.
وبالإضافة إلى الأشياء هناك العلاقات، «وإذا
تصوَّرنا في الغريزة وفي العقل معرفةً فطرية،
فإنها تكون في الغريزة أشياء، وفي العقل
علاقات».
ويُميِّز الفلاسفة بين صورة المعرفة ومادتها.
تعرف الغريزة المادة دون الصورة، ويعرف العقل
الصورة دون المادة. «العقل بما فيه من أفكار
فطرية معرفة بالصورة، في حين أن الغريزة معرفة
بالمادة». والمعرفة بالصورة لها شكلان: اليقين
والظن. المعرفة الباطنية قطعية يقينية،
والمعرفة الخارجية ظنية افتراضية؛ الأولى ملاء،
والثانية خلاء. الأولى تتعلَّق بامتداد الشعور،
والثانية بفهمه. الأولى محدودة، والثانية لا
محدودة. الأولى مادة بلا صورة، والثانية صورة
بلا مادة.
٣٩
هذا التقابل بين الغريزة والفعل تقابل في
النظر وليس في العمل؛ فكلاهما واجهتان لمَلَكة
واحدة. وإذا كانت الغريزة هي مَلَكة استعمال
الآلة الطبيعية المُنظَّمة، فإنها تطور المعرفة
الفطرية الضمنية أو اللاشعورية. الغريزة هي
المعرفة الفطرية بالشيء، والعقل هو ملكة صناعة
الآلات غير المنظمة أو المصطنعة. ويحتوي الكائن
العاقل على القدرة على تجاوز ذاته. الغريزة
مادة والعقل تأمُّل. هناك أشياء يستطيع العقل
وحده البحث عنها، ولكن لا يمكن العثور عليها
بمفرده. في حين تجدها الغريزة دون البحث عنهما
على الإطلاق.
٤٠
مهمة العقل إيجاد الوحدة وراء الظواهر
المتعدِّدة، يبدأ بالتوحيد ثم لا يوجِد
العلاقة، ثم يضع التفكير. كما يقوم العقل
بالتحليل بدلًا من التركيب، وبالقسمة بدلًا من
التوحيد. وهي معرفة نسبية حتى ولو بدا العقل
مطلقًا. العقل الإنساني نسبي خاضع لمفردات
العمل، وليس مستقلًّا، ولا تعتمد المعرفة عليه.
ليست المعرفة من نتاج العقل لأنها بمعنًى ما
جزء لا يتجزَّأ من الواقع. وقد ظنَّ سبنسر خطأً
أن العقل هو مجرد أثر من آثار الخصائص العامة
للمادة. وإذا كان العقل يتجه إلى الصنعة، فإن
الصنعة تتعلَّق بالمادة الخام. «العقل الذي
يخرج من الطبيعة موضوعُه الرئيسي المادةُ
الصلبة غير المنظمة». والتمثيل العقلي للتواصل
تمثيل سلبي لأن العقل لا يتمثَّل إلا
المنقطع.
والأشياء متحركة في تقدُّم، والحركة هي
الواقع نفسه، والسكون ليس إلا ظاهرًا أو
نسبيًّا، والعقل عندما يتمثَّل الحركة يوقفها
أو يجعل لحظاتها متجاورة. وهذه هي خطورة النظام
التأمُّلي ولاشرعيته. ويخطئ الفلاسفة عندما
ينقُلون إلى ميدان التأمل منهجًا يتعلَّق
بالفعل؛ فالعقل لا يتمثَّل بوضوح إلا الساكن،
والساكن لا يكون إلا في المكان، في وسط متجانس
وفارغ ومنقسم إلى ما لا نهاية. وهو واقع لا
يُدرَك بل يُتصوَّر. خاصية العقل اللامحدودة
للتفكيك طبقًا لأي قانون وإعادة التركيب طبقًا
لأي نظام.
٤١
ولا يعيش الفرد منعزلًا بل في جماعة؛
فالإنسان كائن اجتماعي له أفعاله الجماعية،
وتقوم هذه الأفعال على الغريزة؛ أي على أشكال
الأعضاء. العلامة الغريزية علامة ملاصقة، في
حين أن العلامة العقلية علامة متحركة، وهي
علامة اللغة. وتستطيع اللغة أن تمتد ليس فقط
إلى الشيء المدرك، بل أيضًا إلى التذكر والصورة
المراوِغة وتمثُّل الفعل؛ أي الفكرة؛ عندئذٍ
يدرك العقل أنه مبدع للفكرة فيبحث عن نظرية ليس
فقط عن المادة الخام، بل أيضًا عن الحياة
والفكر. دور اللغة الإحالة إلى الأشياء لا
أكثر؛ لذلك تبحث عن الوضوح والتميز، وهما شرطا
الفكر عند ديكارت. وكي يتحقَّق الشرطان يتعامل
الفكر مع الموضوعات المتقطعة؛ فالتصورات
خارجية، والموضوعات في المكان، وكلاهما ثابت
يُكوِّنان العالم العقلي. وتتحوَّل الصور إلى
رموز. المنطق والهندسة نظام واحد ينطبق على
المادة، ومهمة العقل تحويل المادة إلى آلة
للفعل؛ أي إلى آلة بالمعنى الاشتقاقي للكلمة.
٤٢ وهي الحياة الخارجية. ليست مهمة
الفكر إدراك التطور؛ أي التواصل والتقدير
والزمان، بل التقسيم في المكان والتثبيت في
الزمان. يتصوَّر العقل الصيرورة كسلسلة من
الحالات المتشابهة، وليس كتغيُّر وحركة الحالات
الداخلية. لا يستطيع العقل إدراك الجديد في كل
لحظة في التاريخ، ولا يعترف بعدم القدرة على
التنبؤ، ويرفض كل إبداع، ولا يتعامل مع عالم
العواطف والوجدان. الغائية من صنع الذهن،
ولكنها لا تُدرِك الانبثاق الذي لا ينقسم، ولا
ترى عبقريته وأصالته.
يتعامل العقل مع المنقطع والثابت والمؤلف،
وهو غير قادر على التعامل مع عدم الفهم الطبيعي
للحياة. أمَّا الغريزة فإنها أكثر اقترابًا من
عالم الحياة. يتعامل العقل آليًّا، في حين
تتعامل الغريزة عضويًّا. الوعي في الغريزة نائم
وفي العقل يقظ. قد يتحوَّل العقل إلى الداخل
فيصبح معرفةً أو إلى الخارج فيصبح فعلًا. إذا
سُئل يجيب، بل ويُجيب عن أدق أسرار الحياة عن
طريق التصوير عن بُعد، أما الغريزة فقادرة على
التوحد مع القوة المولِّدة للحياة.
وهناك درجات للكمال في الغريزة، وتقوم على
مبدأ الانتقاء في الداروينية الجديدة. هي عقل
ناقص. تطوُّرها من بذرة إلى بذرة، وليس من فرد
إلى فرد، وعقبتها الشلل وليس الموت، وتقوم على
الانعكاس المركب. وهو أيضًا نوع من التعاطف
المادي وليس الوجداني. فإذا أصبحت واعيةً
تحوَّلت إلى حدس. ويعيش الحدس أكثر ممَّا
يتمثَّل، يتعاطف أكثر ممَّا يتصور. ودَور العلم
هو تحويل كل إدراك إلى ألفاظ اللمس؛ لذلك يدعو
الفلسفة إلى التعامل مع الأشياء من منظور آخر.
العلم من صنع الفعل، يخضع لضرورات اللغة، أمَّا
الفلسفة فإنها من صُنع الغريزة، تعبير عن دفقة
الحياة مثل التجربة الشعرية والفنية والصوفية.
٤٣
وعند الإنسان مَلَكة جمالية بجوار الإدراك
العادي. وهو قصد الحياة. هي حركة بسيطة تربط
بين الأشياء. لا تدخل الحياة في مقولة الكثير
ولا الواحد ولا العلية الآلية ولا الغائية.
الحياة إبداع مستمر. هي حياة الشعور، الوعي
الذي يتخلَّق من خلال المادة. تتركَّز نظرية
المعرفة أساسًا على التمييز بين العقل والحدس،
وهما واجهتان للواقع.
يظهر الشعور في تناسب مع قوة الاختيار في
الكائن الحي. يتضمَّن الأفق الضمني الذي يغلِّف
الفعل، ويقيس المسافة بين ما تمَّ فعله وما
يمكن فعله، وهو ليس معلولًا بل علة. الشعور آلة
للفعل كما أن الفعل آلة للشعور. وهي الطريقة
الوحيدة للتحرُّر من الشعور التجريبي والتوازي
النفسي الفيزيقي. هناك تكامل وليس توازيًا،
تكامل يحافظ على المستويات.
والوعي هو المبدأ المحرِّك للتطور، والإنسان
له مكان مُتميِّز فيه. بينه وبين الحيوان
اختلاف في النوع وليس فقط اختلافًا في الدرجة.
الوعي يستمر حين تتوقَّف المادة، ويبدو هذا في
المقارنة بين مخ الحيوان ومخ الإنسان. لا
يتعدَّى مخ الحيوان العادة والحركة الآلية، في
حين يخترق الإنسان الآلية إلى حرية
الشعور.
وباختصار، وبألفاظ الغائية، يتحرَّر الوعي من
نفسه فينقسم إلى جزئين متكاملين؛ النبات
والحيوان، الغريزة والفعل، ومن الحيوان إلى
الإنسان قفزًا.
٤٤
(٤) معنى الحياة، نظام الطبيعة، وصورة العقل٤٥
ظهر التمييز من قبلُ بين اللاعضوي والعضوي،
وأن الحياة تيار وليست شيئًا، وأن هناك تمييزًا
بين المصمت والحي. كما ظهر التمييز بين الغريزة
والعقل وانبثاق الوعي من خلالهما. لقد ارتبطت
العقلانية بالمادية؛ كلما مال الوعي نحو العقل
اتجهت المادة نحو المكان.
بالرغم من أن فشته أكثر فلسفيةً من سبنسر،
ويقدِّر النظام الحقيقي للأشياء، فإنه لا يختلف
كثيرًا عنه لأنه يأخذ الفكر في حالة التركيز
الشديد ويذيبه في الواقع. ويبدأ سبنسر بالواقع
الخارجي ويعيد تركيزه كعقل. ويحاول معظم
الفلاسفة التأكيد على وحدة الطبيعة، وتُمثَّل
هذه الوحدة في صورة هندسية مجردة. ولا يرون
الفرق بين المنظَّم وغير المنظم، ويبدأ البعض
باللاعضوي محاولًا تركيب الحي، ويبدأ آخرون
للحياة وينتهون إلى المادة الخام بالتناقص
التدريجي. وعند الجميع في الطبيعة، هناك اختلاف
فقط في الدرجة، درجة التعقيد في الافتراض
الأول، ودرجة التوتر في الافتراض الثاني. العقل
في نفس اتساع الواقع لأنه قادر على إدراك ما هو
هندسي فيه؛ وبالتالي يصبح كل شيء معقولًا ومن
ثم، لا يختلف فشته عن سبنسر كثيرًا.
٤٦
ومن المفترض أن تكون مَلَكة المعرفة متناهيةً
مع مجموع التجربة وليست محتويةً لها؛ إذ يرى
البعض أن العقل يحتوي الواقع، بينما يرى البعض
الآخر أن العقل لا يحتوي إلَّا على شبح. وسواء
كانت القطعية أو النقدية، فإن الفلسفة رؤية
شاملة لكل شيء، تحاول فلسفة برجسون تكميلها
وإكمالها. ليس العقل هو ما يعرضه أفلاطون في
أسطورة الكهف بعيدًا عن الواقع. العمل هو معرفة
العمل، الاتصال بالواقع وحياته. يعيش العقل على
عكس تكوينه الخاص. إلا أن الإنسانية تتجاوز
ذاتها. خطأ النظرية أنها تظن أنها تقدر على
معرفة شيء آخر بالعقل. وهي مخاطرة يحسمها
الفعل، ويفك العقدة التي ظنَّ العقل أنها لا
تُفك. لا يعرف العقل شيئًا آخر إلا عن طريق
القفزة؛ لأن العقل لا يستدل خارج قدراته. وإذا
أراد شيئًا آخر تتغيَّر الأشياء فجأةً حتى يخرج
العقل خارج حدوده. وهناك يتحوَّل العقل إلى
حدس، والعلم إلى ميتافيزيقا.
٤٧
يتعامل العلم الطبيعي مثل الفيزيقا والكيمياء
مع المادة الخام، وتتناول علوم البيولوجيا وعلم
النفس تجليات الحياة. أما الفلسفة فإنها
مُحاصَرة بين العلمين. تأخذ الوقائع والقوانين
من العلم وتبحث عن عِلَله الأولى في الحياة.
وهي الميتافيزيقا. هناك إذن تقسيم عمل، وليس
خلطًا أو توازيًا بين العلوم الطبيعية والعلوم
الإنسانية؛ الأولى للمادة، والثانية للصورة
بتعبير أرسطو. الأولى من صنع العقل الخالص،
والثانية من إدراك الحدس. ويحدث الخلط عندما
ينصب العقل على الحياة فيُحوِّلها إلى موضوع
مصمت. وواجب الفيلسوف أن يتدخل من أجل إدراك
الحياة دون غاية نفعية أو هدف عملي. يقبل
التصور الآلي لعلوم الطبيعة، كما يقبل قبليًّا
نظرية الوحدة البسيطة للمعرفة، والوحدة المجردة
للطبيعة والشك. ولا دخل لله في ذلك؛ فالمادة
أبدية بالنسبة للعلم، والحياة أبدية والصورة
خالصة بالنسبة للفلسفة. هناك خط فاصل بين الميت
والحي، بين الصامت والدال. وتستطيع الفلسفة أن
تعبر هذا الخط بالاعتماد على التجربة، وتؤسَّس
الميتافيزيقا على التجربة، بالرغم من أن
المعرفة التي تقدِّمها لنا الحياة معرفة رمزية
تتطلبها دواعي العمل.
٤٨
العقل والمادة، وبتعبير الفلاسفة الفكر
والواقع أو الذات والموضوع متماهيان. ويظل عالم
الذاكرة والإرادة خارجًا عنهما، ينبثق من بين
الثنايا؛ فتظهر «الروحانية» في مقابل
«المادية»، وتتجلَّى الديمومة والحرية لتعبِّر
عن جوهر الروحانية. ويظهر التقدُّم في الحياة
الروحية، والحياة وهي تتخلَّق في أفعال جديدة
ابتداءً من الإحساس؛ فالفيزيقي هو نفسي مقلوب،
كما أن اللاهوت هو ناسوت مقلوب. تجد الحياةُ
نفسَها في الأشياء ثم تفارقها. وتنظر إلى
المادة بعين الروح، ومهما تمَّ تقسيم العالم
بالعقل فإن الحدس يُعيد إليه وحدته؛ لذلك كانت
الحساسية الترنسندنتالية عند كانط مجرد بداية
وليست نهاية، عقل يقود إلى الروح، وعالم ينتهي
إلى المفارقة؛ لذلك رفض كانط النزعة التجريبية
الخالصة عند لوك وهوبز خاصةً هيوم، نزعة الشك
دون أن يقع في نزعة القطع مسرعًا إلى اليقين.
المكان له صورة قبلية في العقل بالإضافة إلى
الحس. والوجود أشكال بلا ذهن. ويظل «الشيء في
ذاته» بعيد المنال. بين العالم والعقل هناك
انسجام مسبق بتعبير ليبنتز، ومع ذلك يُميِّز
كانط بين درجات في المكان؛ فلا العقل يُكيِّف
نفسه طِبقًا للأشياء كما هو الحال عند هيوم،
ولا الأشياء تُكيِّف نفسها طِبقًا للعقل كما هو
الحال في الثورة الكوبرنيقية. هناك تماهٍ غريب
بين الأشياء والروح لدرجة الاتحاد بينهما.
فينبثق الحدس الذي تتجلَّى فيه هذه الوحدة بين
الطبيعة والروح كما هو الحال عند شيلينج.
فبرجسون هو شيلينج فرنسا، كما أن شيلينج هو
برجسون ألمانيا. وكما حاول هيدجر تأويل
الحاساسية الترنسندنتالية عند كانط لاكتشاف
الوجود عودًا إلى العالم خارج الحساسية وقبل
نظرية المعرفة، حاول برجسون تأكيد تماهي العقل
والمادة من أجل إفساح المجال للحدس والديمومة
والحياة، الشيء في ذاته عند كانط.
٤٩
وبتماهي العقل والمادة ينشأ النسق الهندسي؛
فالثلاثة نظام مُجرَّد صوري إحصائي عددي، ينقسم
إلى وحدات للتحليل والتركيب. والفلسفة ليست من
هذا العالم، تصعد منه أو تهبط إليه، تستقريه أو
تستنبطه ولكنها لا تعيشه. وهو نَسَق ينفي
ظانًّا أنه يضع، يُغيِّب الأشياء تحت وهم أنه
يُحضرها، غارق في الغائية الفارغة وهو يحسب أنه
وسط الموضوعية الساذجة. وهو غير موقف الشاعر من
الحياة الذي يُحس ويشعر وينفعل ويُعبِّر
بالصورة عن واقع أكثر واقعيةً من الواقع الساذج
موضوع العلم. الامتداد في المكان اختراع بجهد
عضلي من الإنسان، بِناءً على مطالب الحياة
العملية وتكيُّفًا مع ضروراتها.
وفي هذه الحالة لا فرق بين عمليتَي الاستقراء والاستنباط.
٥٠ يبدأ الاستنباط من فكرة قبلية كما
هو الحال في المُصادَرات الهندسية، ويستنبط
منها أبنيةً متسقة، والمثال على ذلك هندسة
إقليدس. وتتطابق مع صفات الأشياء في المكان
الثابت وليست مع مقاديرها المتحركة وإلا
تحوَّلت إلى علم آخر هو علم «الميكانيكا» أو
بتعبير القدماء «الأكر المتحركة». يُولِّد
السابق في اللاحق، ويخرج اللاحق من السابق،
وليس كعالم الروح الذي تتخلَّق فيه الأشياء على
نحو جديد كل يوم. والاستنباط ضعيف في مواجهة
العلوم النفسية والأخلاقية؛ إذ لا يمكن رد
النفس إلى البدن، ولا السلوك إلى الفيزيقا مثل
الهندسة والفلك بالرغم من اعتمادها على
الاستنباط والتجربة في آنٍ واحد. تتكرَّر
الظواهر في العلم طِبقًا لمبدأ الاطراد؛ لذلك
تحكمها القوانين. في حين لا تتكرَّر الظواهر في
الفلسفة؛ إذ إن الحياة لا تخضع لقانون، بل
تتميَّز بالطفرة والانبثاق والدافع الحيوي. في
عالم الهندسة وعالم الفيزيقا يغيب الزمان. وإن
حضر، فإنه مجرد صفات متجاورة كمقادير كمية.
٥١
للطبيعة قوانينها؛ فظواهرها متعاقبة
ومُطَّردة، والقانون قادر على التنبؤ بمسارها،
في حين أن ظواهر الروح تتجدَّد دائمًا، ولا
يمكن حصرها في قوانين. وليس لكليهما أي وجود
واقعي فعلي، بل هي اتفاقات ومواصفات؛ فعالم
الطبيعة عالم الامتداد في حين أن عالم الروح
عالم التوتر؛ الأول عالم الضرورة، والثاني عالم
الحرية كما هو الحال عند اسبينوزا.
٥٢
ولا تتأسَّس نظرية المعرفة على علوم الطبيعة
أو على علوم الروح، بل على التحليل النفسي
للأفكار كما هو الحال عند وليم جيمس. مثال ذلك
تحليل مفهوم «الفوضى»؛ فالفوضى «غياب النظام»،
غياب المتوقَّع وهو النظام؛ فهو مفهوم سلبي
وليس مفهومًا إيجابيًّا. يعتمد على الإدراك
وعلى اللغة والانتباه. مثال ذلك تحديد الشعر في
إحدى مسرحيات موليير بأنه ما ليس نثرًا وتحديد
النثر بأنه ما ليس شعرًا. كذلك كان تحديد الله
باستمرارٍ سلبًا. لا يموت ولا يفنى، لا يعجل
ولا يعجز، ليس أعمى أو أصمَّ أو أبكم أو يتبع
الأهواء. التحديد إذن باستمرار تضايف مع شيء
آخر مثل الكبير والصغير، النظام والفوضى. يفترض
الشعور أن الواقع مُنظَّم، فإذا خاب توقُّعه
حكم بأنه فوضى. النظام هو اتفاق الذات والموضوع
والروح مع عالم الأشياء. فإذا غاب الاتفاق وغاب
التوقع حدث الحكم بالنفي في الفلسفة، والضحك في
الحياة. وبغياب النظام تغيب الغائية على عكس ما
توقَّع الشعور من نظام فوقى أو نظام تحتي، وقد
يحضر النظام في سيمفونية لبيتهوفن بأصالتها
وعبقريتها وإبداعها؛ أي بعدم القدرة على التنبؤ
بمسارها. فالنظام على غير ما يبدو عليه
التوقُّع من ترتيب وتنسيق خارجي مكاني، حسابي
وعددي، هندسي وكمي. وفرق بين النظام الفيزيقي
والنظام الحيوي؛ الأول يمكن التنبؤ به، والثاني
خلق وتجدُّد وإبداع.
٥٣
ولا يوجد فرق بين القوانين والأنواع، كلاهما
عمليتان هندسيتان عرفهما الفكر القديم. فكان
الترتيب في أجناس وأنواع، والتقسيم أحد وسائل
التعريف. ما سمَّاه القدماء الأنواع سمَّاه
المحدثون القوانين. يطابق النوع الواقع
الموضوعي. انشغل أرسطو بقانون سقوط الأجسام من
أعلى إلى أدنى، في حين رأى المحدثون أن السقوط
يخضع لقانون جزئي في نسق من القوانين الكلية
كما هو الحال عند كبلر وجاليليو. أما علوم
الحياة فإنها لا تصف الشيء من خلال أعراضه، بل
تتحدَّد مع جوهره وتشعر بما فيه من حركة وجِدة
وخلق وإبداع دون تعميم. والإرادة جزء منه،
والمشاركة طريق إليه.
٥٤
تُقال الفوضى إذن في مواجهة نظامين: النظام
المرغوب فيه والنظام الآلي. هو تحول النظام
المرغوب فيه إلى نظام آلي؛ أي رؤية نظام غير
متوقع فيُحكم عليه بالفوضى مع أنه قد ينتمي
لنظام آخر، وكذلك يُحكم على شيءٍ آخر بالقبح مع
أنه قد ينتمي إلى نظام آخر من الجمال. الفوضى
هي حكم على الممكن الذي لم يتحقَّق. ولمَّا كان
الواقع ليس ممكنًا، حُكم عليه بالفوضى. وكل
نظام هو بالضرورة نظام ممكن بالنسبة للنظام
النقيض. ولا يوجد نظام مطلق. النظام المرغوب
ليس هو النظام الآلي، وبالتالي يُطلق عليه غياب
النظام أو الفوضى. الحكم بالفوضى تمسُّك
بالتوقع الأول دون تكيُّف مع الواقع الثاني.
وهي نفس تفرقة ليبنتز بين الإرادة المريدة
والإرادة المرادة؛ الأول الإرادة المتوقَّعة،
والثانية الإرادة الفعلية. الأولى ممكنة،
والثانية واقعية. وإن لم يتغيَّر الفاعل من
الأولى إلى الثانية أُصيب بالإحباط واليأس، وهو
ما يُناقض أفضل العوالم الممكنة؛ فالعلة
الغائية مشروطة بالعلة الفاعلة؛ أي
بالإمكانيات. والعلة الفاعلة مشروطة بالعلة
الغائية؛ أي بالقدرات والخطط والتوقعات. ويتم
الفعل عندما يوجد تناسب فعلي بين العلتين،
الفاعلة والغائية. وما يُقال على الفوضى يُقال
على المصادفة والنفي؛ فالمصادفة حكم على غير
المتوقَّع، والنفي حكم على غير المنتظر.
بل إن المادة نفسها ليست واقعةً ثابتة تم
صنعها، بل واقعة متحركة في طريق الصنع. المادة
لها تكوين مثالي، ويشارك الوعي في هذا التكوين؛
فالرؤية لا تنفصل عن الإرادة، والجدل ضروري
لاختبار الحدس. وما إن ينبثق الدافع الحيوي
يتخلَّى الحدس عن مكانه. الجدل إذن هو القادر
على أن يجعل الفكر مطابقًا لنفسه، ومن ثم تكون
العلاقة المتبادَلة بين الطبيعة والروح ضروريةً
مثل العلاقة المتبادلة بين الموضوع والذات في
القصدية عند هوسرل.
٥٥
وعندما يوضع الوجود في الإرادة، والإرادة في
الواقع، يبدو الواقع في نمو مستمر، وخلق لا
يتوقف. وهناك فرق بين الأبجدية والشعر؛
فالأبجدية هي الحروف التي تتكوَّن منها
المقاطع، والكلمات التي تُكوِّن الشعر. ولا
توجد الشاعرية في الحروف الأبجدية ولا في
الكلمات.
لا يوجد شيء معطًا سلفًا، سابق التجهيز كجوهر
إلهي أو أنساق يحكمها قانون مثل قانونَي حفظ
الطاقة وتناقصها. وبهذا المعنى يكون الكم كيفًا
يتوقف، والمادة حياةً منقطعة. فالمادة ثقل
وسقوط وجذب نحو الأرض، المادة تقدُّم إلى
الوراء، وصناعة تتفكَّك، وحالات تتحوَّل إلى
آلات، ووحدة تتجزَّأ، وعضو يتحوَّل إلى ذرَّات،
وخلق يتناقض، وواقع يتكوَّن عن طريق عدم
التكوين أو بتعبير أرسطو الكون عن طريق الفساد،
بل إن الله ذاته في حركة مستمرة. والتصوران في
القرآن؛ الثبوت في مَنْ
عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو
الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا
وَجْهَهُ، والحركة في كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي
شَأْنٍ. الصورة تحرُّك المادة وجزء
منها. والمادة تتحرَّك بالصورة وحامل لها؛ فلا
مادة بلا صورة، ولا صورة بلا مادة كما هو الحال
عند أرسطو. الحياة في حركة، والمادة هي الحركة
المضادة. الحياة في تقدُّم والمادة مانع له،
تُوقفه وتحرِّكه إلى الوراء. ويقابل ذلك في
الإنسان النشاط الآلي في مقابل النشاط الإرادي.
والغرض من كل هذه التحليلات إثبات أن الواقع قد
ينقلب من التوتر إلى الامتداد، ومن الحرية إلى
الضرورة الآلية.
تبدأ الحياة الحيوانية بعد تخزين الطاقة ثم
صرفها عن طريق مادة رخوة قدر الإمكان في
اتجاهات مُتعدِّدة، لا يمكن التنبؤ بمسارها.
هذه الطاقة هي الدافع الحيوي الذي يسري في
المادة. وهو دافع متناهٍ، لا يستطيع عبور كل
العقبات، فينقسم أمام عقبة إلى مسارين، النبات
والحيوان. ويظل الدافع الحيوي متجهًا إلى
الأفعال الحرة. يتميَّز التطور إذن بالحدوث أو
الإمكان. تتراكم فيه الطاقة ثم تتسرَّب في
قنوات ذات اتجاهات متعدِّدة. ونسق الحياة نسق
نفسي يتسم بالوحدة والتعدُّد، التعدُّد في
الخارج، والوحدة في الداخل. وتنقسم الحياة من
جديد إلى التفرد والارتباط، التوحد والمشاركة،
الفرد والجماعة. ويخضع هذا الانقسام إلى ضرورة
الخلق والإبداع، والتحول من التآزر الحسي
الحركي إلى حياة العضو الحي والشعور الواعي.
صحيح أن الكائن الحي مركز عصبي من أجل الفعل،
ومع ذلك ينبثق الوعي من العضو كما ينبثق
الانتباه من الدماغ، والذاكرة من مركز التذكر.
الحيوان مشروط بالمستوى الأول، والإنسان قادر
على التحول من الأول إلى الثاني، من العضو الحي
إلى الوعي اليقظ. وهناك فرق بين وعي الحيوان،
حتى الأكثر تطوُّرا، والوعي الإنساني. في الوعي
الإنساني اختيار حر، مفارقة بين الفعل الممكن
والفعل الواقعي؛ فالوعي خلق وإبداع، والإنسان
وحده هو الذي يستطيع عبور العقبة التي أمامه،
عقبة المادة؛ فالإنسان غاية التطور ونهايته؛
فالحياة تتجاوز الغائية. قد يكون هذا الإنسان
غير متخلِّق بعدُ وغامضًا، مانعًا مترددًا حتى
ولو كان إنسانًا متفوقًا. يحاول أن يتحقق وهو
لا يستطيع ذلك إلا إذا ترك على مسار التطور
جزءًا منه منضمًّا إلى الحيوانية والمادية.
٥٦
ويسير الحدس في مسار الحياة، في حين يتوقف
العقل وينهار إلى الاتجاه المعاكس. ودور
الفلسفة هو التأهيل إلى الحياة الروحية، وإلى
اكتشاف الحرية الإنسانية، وتأكيد الشخص
الإنساني واستقلاله عن المادة وكوجود مطلق.
للإنسان وضع متميز في الطبيعة وهو ما صاغه
العلم في «الإنسان سيد الطبيعة»؛ فلوَّثها،
وحطَّمها، وحصرها، وأساء استعمالها. كل فلسفة
للحدس نفي للعلم وتؤهِّل إلى حياة الروح،
تؤكِّد الحرية، وتُزيح العقبة. قد تُثقل مساره
ولكنها لا توقفه.
الوعي مستقل عن العضو الحي الذي يحرِّكه وهو
الدماغ، وهو في جوهره حر، ولا يستطيع تجاوز
المادة إلا بعد المرور من خلالها. وهذا هو
إعمال العقل، ومع ذلك لا يستطيع الخلقَ الجديد
ولا أن يكون حرًّا، أقصى قدراته التقليد
الزائف. مهمة الفلسفة ضم العقل في الحدس، وجعل
السلوك للحياة وليس للسلوك. وفي هذه الحالة
يستطيع تخطِّي كل العقبات بما في ذلك الموت.
٥٧
(٥) آلية الفكر «السينماتوجرافية» والخداع
الآلي، نظرة على تاريخ المذاهب الفلسفية،
الصيرورة الفعلية والتطور الزائف٥٨
وهو أقرب إلى الاستطراد خارج موضوع التطور
لأنه عرض لموضوع التطور من خلال رؤية المذاهب
الفلسفية له، وهو ما يدخل أيضًا تحت علم نفس
الإدراك أو علم النفس الفلسفي أو المدخل النفسي
للميتافيزيقا كما هو الحال عند وليم جيمس؛
فالتطور هنا في الفرد وليس في الطبيعة، في
الإنسان وليس في الكون. هناك وهمان نظريان
رئيسيان أو إدراكان، كلاهما خاطئ، وهما المادة
والروح. والواقع صيرورة بينهما، تنمو أو تموت،
تتقدَّم أو تتأخَّر. المهم أن الواقع يتخلَّق
ولم يُخلق، والدافع على هذا الوهم هو ضرورة
الحياة العملية، هو الاعتقاد بأنه يمكن التفكير
في الثابت بالثابت، وفي المتحرك بالمتحرك؛
ويرجع ذلك إلى العادات، ثوابت العقل عندما يُعد
الفعل في الأشياء، ويذهب من الثابت إلى
المتحرك، ومن الفارغ إلى المملوء أو من الخلاء
إلى الملاء.
٥٩
لم يهتم الفلاسفة بفكرة العدم بالرغم من أنها
المحرِّك للفكر الفلسفي. الإنسان موجود،
يُفكِّر في العدم عند التساؤل عن سبب الوجود.
وربما هو مبدأ ثابت دائم، يعتمد الوجود عليه
صعودًا أو هبوطًا. فلماذا وجود شيء أفضل من
عدمه؟ وهنا تنشأ الحاجة إلى البحث عن فكرة
العدم. كان العدم أولًا ثم أُضيف عليه الوجود؛
ومن هنا نشأت الفكرة الشائعة أن في الوجود
شيئًا زائدًا على العدم كما توهَّم بعض فلاسفة
الوجود المعاصرين مثل جان بول سارتر. وأساس هذا
الوهم هو عرض المسألة على مستوى العقل الخالص
في حين أن الوجود هو الديمومة والاختيار الحر؛
فأساس الوجود نفسي وليس منطقيًّا كما حاول
اسبينوزا وليبنتز.
ويمكن تحليل العدم كصورة نتخيَّلها أو كفكرة
نتمثَّلها، تنشأ للصورة حين غلق العينين
وتأمُّل الغائب الحاضر، الغائب في الإدراك،
والحاضر في الخيال. وهي صورة تجمع بين الذات
والموضوع؛ فالعدم في هذه الحالة هو الحد الذي
تنتهي إليه العملية. لا يوجد خلاء مطلق في
الطبيعة، ومن ثم فالعدم ذاتي وليس موضوعيًّا،
إدراك ومعرفة وليس وجودًا. وجوده في الداخل
وليس في الخارج كما هو الحال في وجود الشر عند
أوغسطين في نقده للوجود الموضوعي للشر عند
المانويين. ليس الخلاء في المادة بل في الشعور.
تمثُّل الخلاء هو دائمًا تمثُّل مملوء يحلِّل
العنصرين الموضوعين؛ الفكرة الواضحة أو
المختلطة لتبديل ما، والشعور الفعلي أو
المتخيَّل لرغبةٍ أو ندم. الإلغاء استبدال لأنه
لا يوجد إلغاء لكل شيء، إلغاء الفكر لشيء يعني
استبداله، وقد لاحظ كانط من قبلُ أنه لا يوجد
فرق بين التفكير في موضوع والتفكير فيه
موجودًا؛ فوجود الموضوع لا ينفصل عن تمثُّله.
والفعل الذي نُعلن به أن موضوعًا غير واقعي يضع
مسألة وجود الواقع بوجه عام. في فكرة الموضوع
الذي يُدرِك غيرَ موجود، هناك أكثر من فكرة؛
موضوع يُدرك موجودًا؛ لأن فكرة موضوع غير موجود
هي نفسها فكرة موضوع موجود بالإضافة إلى تمثُّل
استبعاد هذا الموضوع من الواقع الفعلي في كليته.
٦٠
إذن النفي مثل الإيجاب، والغياب مثل الحضور؛
النفي مُجرد نصف الفعل العقلي وليس كله، والنصف
الآخر هو الحضور. النفي للحضور والحكم بالغياب
حكم بنفي الحضور. النفي استبعاد، لا ثبات.
«القضية المثبتة تعُبِّر عن حكم على موضوع،
والقضية النافية تُعبِّر عن حكم على حكم».
يختلف النفي إذن عن الإثبات بالمعنى الحرفي وهو
أنه إثبات من الدرجة الثانية. يُثبت إثباتًا
ينفي وجودًا؛ فالإثبات هو أساس النفي، وكما أن
الإثبات هو نفي النفي عند هيجل فإن النفي هو
إثبات الإثبات عند برجسون. النفي هو نصف الفعل
العقلي في حين يبقى النصف الآخر غير محدد.
الإثبات إثبات، والنفي إثبات من الدرجة
الثانية، أو إثبات من نفس النوع، ومن ثم لا
يمكن إثبات شيء غير موجود.
وهي نفس العلاقة الجدلية بين الممكن والواقع؛
الممكن واقع بالقوة، والواقع ممكن بالفعل
بتعبير أرسطو؛ فالممكن حاضر غائب، حاضر بالقوة
غائب بالفعل. والواقع حاضر غائب، حاضر بالفعل
غائب بالقوة.
العيب إذن في المنطق الصوري الذي جعل الوجود
والغياب نقيضين لا يجتمعان. نفي الرطوبة يعني
وجود اليبوسة، ونفي اليبوسة يعني وجود الرطوبة،
ونفي الحرارة يعني وجود البرودة، ونفي البرودة
يعني وجود الحرارة؛ فالعدم نتيجة النفي لا وجود
له، والنفي مجرد حكم، وليس موضوع حكم. فإذا
رفعت السمكة رأسها من فوق الماء وكانت الأرض
ليست مبتلة، فإن هذا يعني أن السمكة تتوقع أن
كل شيءٍ مبتل. فلما وجدَت أن الأرض غير مبتلة
نفت ما لم تتوقعه. النفي إثباتان؛ إثبات شيء ثم
إثبات الإثبات نفيًا. الأول نفي مُحدَّد وهو
نفي الإمكان، والثاني نفي غير محدد وهو نفي
الواقع.
والخلاصة أنه لا يوجد فراغ أو خلاء أو عدم،
لا يوجد إلا ملاء ووجود، ونفي الواقع من أجل
إثبات الممكن. إلا أن النفي له فائدة تربوية
واجتماعية؛ إذ يمثِّل القدرة على الرفض
والإيقاظ في «فلسفة اللا» (هي فلسفة النفي، كما
هو الحال عند باشلار).
مشكلة العدم إذن مشكلة زائفة. هل العدم
موجود؟ هل العدم شيء كما تساءل المتكلِّمون
المسلمون؟ هو شيء عند المعتزلة، وغير موجود عند
الأشاعرة.
والإنسان في حاجة إلى فعل، ولا يغامر بمسائل
نظرية لا تتجه نحو الفعل. الإنسان يفعل ثم
يتأمل، ولا يتأمل ثم يفعل. إن فَعَل تأمل، وإن
تأمَّل فلا يفعل. وكل فعل إنساني له بدايته في
إحساس بالحاجة وشعور بالغياب؛ فالغياب دعوى
للحضور، والعدم نداء للوجود، على عكس جان بول
سارتر، الوجود عدم. لا يقوم الوجود على شيء مثل
وجود البلغم والبصاق والزئبق، الوجود الهش عند
جابريل مارسل، الوجود من أجل الموت عند هيدجر.
الفعل يخلق وجه منفعته، والنسبي يقود إلى
المُطلق، والشر إلى الخير، والسالب إلى الموجب،
والشيطان إلى الإله.
وهنا تبرز قضية الصيرورة والشكل أو الصورة؛
فكل واقعة مكتفية بذاتها ليست واقعةً غريبة على
الديمومة. فكما ننتقل من فكرة العدم إلى الوجود
فإننا نعزو إلى الوجود صورًا رياضية ومنطقية
تعطينا تصورًا ثابتًا للواقع. والسبب أن النظر
من أجل النظر، وليس من أجل العمل. المطلق
يماسنا وأحيانًا يخترقنا ويعيش فينا. جوهره
نفسي وليس رياضيًّا أو منطقيًّا، ومع ذلك ينضوي
على نفسه؛ فهو الديمومة. دور العقل هو توجيه
الأفعال. وما يهم في الفعل هو النتيجة أكثر من
الوسيلة ما دامت تؤدِّي إلى النتيجة. والنشاط
الإنساني منغمس في العالم المادي. وحتى ينتقل
النشاط من فعل إلى فعل تتحوَّل المادة من حالة
إلى حالة. وهذا يتطلَّب في البداية التآزر
الحسي الحركي، ثم التطابق الكامل مع الإدراك
والفعل.
ومن هنا أتت ضرورة التمييز بين الجسم والصفة،
أو بتعبير القدماء بين الجوهر والعرض، أو
بتعبير اللاهوتيين بين الذات والصفات؛ الأول
ثابت، والثاني متحرك، والمتحرك يهرب باستمرار
من إدراك العلم.
وأول وظيفة للإدراك هو رؤية تغيُّرات مبدئية
في صورة صفات أو حالات بسيطة بعمل مُركَّز،
وأكبر منها قوة الفعل من نوع حيواني. ويحدث
التقدُّم من الأشياء إلى الصفات والحركات؛
فالحياة تتطوَّر في أشكال وصور مُتعدِّدة.
يُغيِّر الجسد صورته كل لحظة، والواقع تغيُّر
دائم للصور، والصورة لحظة على مسار التطور.
هناك إذن ثلاثة موضوعات للتمثل: الصفات، والصور
أو الماهيات، والأفعال. تُقابلها ثلاثة أنواع
من الكلمات: الصفات والأسماء والأفعال.
٦١
تتغيَّر الصيرورة إلى ما لا نهاية، وهي حركات
كيفية مُتعدِّدة؛ فالحركة كيفية وتطوُّر
وامتداد. الحركة في الخارج وهمٌ كما هو الحال
في السينماتوغرافية. حركة دائرية بسرعة أمام
العين تُنتج حركة الصورة، فيدرك وهم الحركة.
آلية معرفتنا العادية ذات طبيعة سينماتوغرافية.
وعلى هذا الأساس أقام زينون الإيلي حُجَجه لنفي
الحركة خلطًا بين المكان والزمان، بين المنقسم
والدائم. هناك صيرورة من المهد إلى اللحد، من
الطفولة إلى الشيخوخة. المهم هو انتزاع آلية
السينماتوغرافيا من الفكر.
ويمكن تأصيل آلية الفكر السينماتوجرافية عند
أفلاطون وأرسطو،
٦٢ وقد بدأت المدرسة الإيلية ذلك
بصدمة الصيرورة لعادات الفكر، وصعوبة وضعها في
إطار لغوي، فأصبحت ضحية وهم خالص. ردَّت
الصيرورة الكيفية إلى صيرورة تطورية امتدادية.
وتجد الروح ما هو عصي على التغير، الصفة،
الصورة، الماهية، الغاية. هذه هي موضوعات
الفلسفة في العصر القديم، فلسفة الصور أو فلسفة
الأفكار أو المُثل. ولكلمة فكرة
Eidos
ثلاثة معانٍ: الصفة، والصورة، أو الماهية،
والغاية أو الهدف لفعل التحقق. وهي وجهات نظر
ثلاث للصفة والاسم والفعل التي تطابق المقولات
الثلاث الرئيسية للغة. الصفة لحظة من الصيرورة،
والصورة لحظة في التطور، والماهية هي الصورة
المتوسطة. ويمكن الوصول إلى فلسفة المُثل
بتطبيق الآلية السينماتوجرافية للعقل في تحليله
الواقع، وينتج ذلك عن فيزيقا وكوسمولوجيا بل
ولاهوت. ولا توجد فلسفة شاملة مثل الفلسفة
اليونانية من أفلاطون إلى أفلوطين مرورًا
بأرسطو (وإلى حد ما بالرواقيين). وفي الفلسفة
اليونانية تبدو الغريزة السينماتوجرافية للفكر
على أوسع نطاق.
هناك في الحركة أكثر ممَّا في الأوضاع
المتتالية للمتحرك، وفي الصيرورة أكثر من الصور
المتعاقبة عليه، وفي التطور أكثر مما في الصور
المتحقِّقة. ثم يقلب العقل النظام ويجعل
الفلسفة القديمة من صنعه. يجعلها أقرب إلى
الثبات منها إلى الحركة، وإلى العدم منها إلى
الوجود، ومن الصورة منها إلى المادة. ويصعد
الخلود فوق الزمان عن طريق التجريد، ويصبح الله
الصورة المتحركة للخلود. بدأت الفلسفة القديمة
بالزمان والمكان، وانتهت إلى الخلود والمجرد.
الفيزيقا منطق مدلل، وفلسفة فطرية للذهن. ويسقط
المنطق في المكان والزمان، وتنشأ الحركة من
تساقط الثابت.
يقسم الفكر اليوناني الواقع إلى جزئين، مادة
وصورة، متحرك وثابت، ناقص وكامل، عدم ووجود.
الله عند أرسطو وأفلاطون الفكر أو المثال أحد
الطرفين، وعند أفلاطون وأفلوطين يتضمَّن وضعَ
الواقع المتزامن مع كل دورات الواقع المتوسطة
بينه وبين العدم الخالص. الله عند أرسطو هو فكر
الفكر.
وتتفق الفيزيقا الطبيعية مع العقل الإنساني
لاتفاق الطبيعة مع المنطق؛ لذلك ارتبط العلم
الآلي بالفلسفة القديمة.
ويبدأ العلم الحديث أيضًا مثل العلم القديم
بالمنهج السينماتوجرافي؛ إذ يتطلَّب التفكير في
الحركة جُهدًا زائدًا للذهن من أجل زيادة
أَثَرنا على الأشياء. ويتطلَّب الفعل إعادة
التكيُّف، والمعرفة من أجل الفعل.
لقد أرجع القدماء النظام الفيزيقي إلى النظام
الحيوي؛ أي إرجاع القوانين إلى الأنواع. في حين
أراد المحدثون حل الأنواع بالقوانين. لقد آمن
العلم القديم بأنه يعرف بما فيه الكفاية موضوعه
عندما يلاحظ لحظاته المتميِّزة، في حين أن
العلم الحديث يتعامل معه في كل لحظاته؛ فالصور
عند أفلاطون وأرسطو لحظات متميزة للمادة،
وطبيعيات أرسطو مقولات الأعلى والأسفل، والنقل
التلقائي، والنقلة الجبرية. أما جاليليو فلا
يعتبر في الطبيعة أيَّ لحظات متميزة؛ فكل شيء
يتحلَّل في الزمان من أجل الوصول إلى وصف كلي.
وعند كبلر وجاليليو لا يمكن تقسيم الزمان
موضوعيًّا لأنه لا يتضمَّن تمفصلات موضوعية، بل
نقسمه كما نشاء إلى اختلاف في الدرجة وليس في
النوع. وكلاهما خاضع للآلية السينماتوجرافية.
يكتفي العلم الحديث بالوصف الكيفي للموضوعات
التي يوجد بينها وبين الموجودات العضوية، وهي
تفسيرات كمية. ولم يحتَج كبلر إلى التجربة.
العلم القديم ينصب على التصورات في حين أن
العلم الحديث يبحث عن القوانين. يضع أرسطو
التصور، في حين أن كبلر يبحث عن القانون. ومبدأ
أرشميدس قانون تجريبي.
علم القدماء ثابت لا يهتم بالزمان، في حين أن
العلم الحديث عند جاليليو وكبلر يُدخل الزمان
في الاعتبار. يتحدَّد العلم الحديث بتطلُّعه
إلى أخذ الزمان كمعامل مستقل، المهم هو أي
زمان؟ هو الزمان الموضوعي بمعنى عدد الحركة كما
هو الحال عند أرسطو. فالحركة تُمثِّل الزمان،
والخط يُمثِّل تياره. ومن ثم يتحوَّل الزمان
إلى مكان، والتوالي إلى تجاور، والمتصل إلى
منقطع، والديمومة إلى عدد وحساب. الديمومة
مُطلق في الشعور، ديمومة العالم واحدة مع حرية
الخلق على اتساع الكون. وزمن القياس غير زمن
الخلق، وتقدُّم الوعي غير تطور المادة. إما أن
يكون الزمان اختراعًا وإما لا يكون شيئًا.
وباختصار، إذا تميَّزت الفيزيقا المعاصرة عن
القديمة بأنها تعتبر أيَّ لحظة في الزمان،
فإنها أيضًا تقوم على استبدال زمان الاختراع
بالزمان الخطي، ويتطلَّب زمان الاختراع جهد
التعاطف والمشاركة. المعرفة العلمية ترمز
للواقع وتُحوِّله إلى واقع إنساني أكثر ممَّا
تُعبِّر عنه. الأولى معرفة بالحَدس، والثانية
معرفة بالعقل. لقد أهمل القدماء الزمان، ووضع
المحدثون كل لحظاته على نفس المستوى. في حين أن
الزمان نمو متصل للمطلق في تطور الأشياء، وخالق
مستمر لأشكال جديدة. وبهذا المعنى العلم
والميتافيزيقا نقيضان. وفي كلتا الحالتين، يخضع
كلاهما لآلية الفكرة «السينماتوجرافية».
٦٣
وتتأرجح الميتافيزيقا بين الطريقين، ويتضح
هذا التأرجح عند ديكارت؛ إذ يؤكِّد الآلية
الشاملة ومن ثم نسبية الحركة وإطلاقية الزمان.
ومع ذلك يعتقد ديكارت باختيار الإنسان الحر،
ويضع فوق حتمية القوانين الطبيعية لاحتمية
الأفعال الإنسانية، وبالتالي الزمان الطويل
باعتباره ديمومةً حيث الإبداع والخلق والتتابع
الحق. وفي هذه الديمومة يظهر خلق الله
المتجدِّد. آلية ديكارت منهج أكثر منها نظرية.
ويستأنف المنهج السينماتوجرافي.
٦٤
واستأنف اسبينوزا وليبنتز عمل ديكارت، ووضعا
الفيزيقا في نسق واحد، عودًا إلى الفلسفة
القديمة عند أرسطو، وقسَّموا الواقع إلى نصفين،
كم وكيف؛ يتجه الأول نحو البدن، والثاني نحو النفس.
٦٥ وكان يمكن معالجة هذه الثنائية
بدلًا من أخذ نصف الواقع دون القسم الآخر على
التبادل، وترجمة أحدهما بلغة الآخر؛ لذلك لزمت
الحاجة إلى آلية إلهية للسيطرة عليه. جعل
اسبينوزا العالم فكرًا وامتدادًا كما جعلها
ديكارت من قبلُ الحركة والامتداد، وجعله ليبنتز
مجموعةً من المونادات، يتحكَّم فيها الوجود
الإلهي. وهي متماثلة كيفًا فيما بينها، والله
هو الجامع بينهما من خلال قانون
الانسجام
المسبق، وهو أشبه باللوح المحفوظ. والكل ليس له
أجزاء ولكنه يتكرَّر إلى ما لا نهاية، ويتكامل
مع بعضه البعض. والله هو الكل الشامل وليس وجهة
نظر، في حين أن الله عند اسبينوزا هو أحد جوانب
الواقع، الطبيعة الطابعة في مقابل الطبيعة
المطبوعة.
لقد خلط ليبنتز بين الزمان والمكان في الواقع
وفي الإدراك، فأصبح الزمان مجموع وجهات النظر
لكل موناد على نفسه. والمكان وجهات نظر كل
المونادات على الله، ومن ثم لم يختلف كثيرًا
اسبينوزا وليبنتز عن الفلسفة القديمة التي
جسَّدها أفلوطين في تصوره لعالم المعقولات. وفي
كلا المذهبين يُعطي الواقع وتُعطي الحقيقة
كليةً في الخلود. كلاهما يرفض واقعًا يتخلَّق
تدريجيًّا في ديمومة مطلقة.
ومع ذلك، ومن وسط هذا الخلود وعالم الأفكار،
خرج المحسوس موضوعًا لعلم تجريبي، الفيزياء أو
الكيمياء لدراسة المادة الصماء، والبيولوجيا
لدراسة الكائن الحي فيزيولوجيًّا وكيميائيًّا
باعتباره أيضًا مادةً صماء. ونشأ علم
السيكوفيزيقا آخذًا الكائن الحي موضوعًا له. في
حين أن التجربة الحية لها طريق آخر يُميِّز بين
الدماغ والوعي، بين المخ والشعور. انتهت
ميتافيزيقا ليبنتز إلى اعتبار الوعي أحد مظاهر
الطبيعة وليس الطبيعة كلها. هي ظاهرة هامشية،
وقد تجلَّى ذلك في علم الطب في القرن الثامن
عشر وفي مذهب الواحدية المعاصر.
ثم أتى كانط بفلسفة النقدية ليضع علمًا
شاملًا يضم الواقع في شموله، ويستأنف تأسيس
الميتافيزيقا الحديثة. الله هو وحدة المعرفة،
والفكر هو فكر الموضوع وفكر الذات في آنٍ واحد،
كما يتصوَّر أرسطو الله عاقلًا ومعقولًا. وضمَّ
الميتافيزيقا القديمة والعلم الحديث معًا،
أرسطو قديمًا واسبينوزا وليبنتز حديثًا في حِدة
المعرفة التي يُمثِّلها الله. وتساءل كانط إذا
كان هذا الافتراض ضروريًّا للعلم الحديث، وهو
افتراض القطعية التي مثَّلها فولف وليبنتز في
ألمانيا. الفكر ذاتٌ وموضوع، ولا يمكن للعلم أن
يكون نسقًا من القوانين دون أن يمر على العقل.
الفرق بين القطعية والنقد هو الفرق بين «يجب أن
يكون» و«يكفي أن يكون». وآثر أن يُؤسِّس عِلمًا
بطريقة جاليليو، وهو البحث عن العالم المعقول،
الناتج عن تماهي العقل والطبيعة. وهو علم رياضي
مجرد لا شخصي كما حاول ليبنتز من قبلُ في
«الرياضيات الشاملة». الله في الفلسفة النقدية
ليس جوهرًا مشخصًا، بل هو مثال للعقل، إله صوري
ليس إلهًا بعدُ، بل يمكن أن يصير إلهًا. وهو ما
وضح عند هيجل وكيركجارد ورينان في أن الله لا
يكون بل يصير، والتحول في تصور الله والعالم
والإنسان من الكينونة إلى الصيرورة، من كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا
وَجْهَهُ وكُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ
ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ إلى
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي
شَأْنٍ. العلم إنساني خالص، وهو ما
تجلى أيضًا من كانط إلى فشته في «نظرية
العلم».
ومع ذلك، هناك في نسق العلم عند ديكارت وكانط
عنصر لا عقلي هو «الصدق الإلهي» عند ديكارت
و«الشيء في ذاته» عند كانط. والحقيقة أن العالم
كما يتصوَّره برجسون عصي على العقل، وهو الفرق
بين التفاؤل في بداية الوعي الأوروبي والتشاؤم
في نهايته؛ فالنقد عند كانط هو قسمة العمل بين
العقل والطبيعة، بين الذات والموضوع كما عرض في
«نقد العقل الخالص»؛ فقد انتقل من الفيزيقي إلى
الحيوي، ومن الحيوي إلى النفسي. والتجربة قاصرة
على أن تصل إلى تخوم العقل، الحدوس حسية في
مستوًى أدنى من العقل. أصبحت المعرفة عند كانط
عالمًا رمزيًّا. وتعني أن المادة تتجه نحو
العقل كما يتجه العقل نحو المادة.
٦٦
ما نقص كانط هو عالم الديمومة بعد أن اعتبر
الزمان في المكان. «نقد العقل الخالص» مناقض
للحرف لو فُهم حرفيًّا، وللروح لو فُهم
مجازيًّا في آنٍ واحد. لا يعترف بعالم وسط بين
اللازماني والزماني؛ فكل حدس حسي بالضرورة، وكل
مقولة فارغة بالضرورة، ولا يوجد مكان لعالم
الحياة وعالم الشعور كعالم متوسط بين العالمين.
لا يوجد مكان للديمومة بدلًا من أن تتحول إلى
مجموعة من اللحظات. والتخطيط الترنسندنتالي
مجرد جامع للإحساسات المادية والقوالب الفارغة.
٦٧
لذلك اتجه الفلاسفة بعد كانط إلى حدس الخلود،
الحدس اللازماني كرد فعل على نسبية كانط،
وحاولوا وضع نظرية جديدة في العلم كما فعل
فشته، بها الديمومة والحياة والإرادة كرد فعل
على الآلية. وبدلًا من الآلية لجئوا إلى
التجربة الخالصة، وبدلًا من منهج التحليل
والقسمة استعملوا التركيب والتوحيد.
لم يعرف العلم في القرن التاسع عشر إلا علمَ
الوقائع الجزئية، ولم يعرف الديمومة العيانية
التي أخطأتها نظرية التطور والتي وضعت التقدم
في المادة وحدها، وليس في الروح أو في العقل
المتجه نحو الكمال، في الخارج وليس في الداخل.
فلا فرق بهذا المعنى بين كانط وسبنسر في تصوره
للتطور؛ فقد خرج سبنسر من كانط، وآلية سبنسر
نفسها هي آلية كانط، مرةً في العقل ومرةً في
المادة، وفي كلتا الحالتين لا يوجد تطور ولا
صيرورة لأنهما بعيدان عن عالم الحياة.
منهج سبنسر منهج مُصطنع يهدف إلى تصور التطور
من شذرات جزئية متطورة، وكأن التطور تراكم كمي،
عمليات حسابية. خطؤه هو تصوره للواقع في إحدى
صوره، يقطعه ويحوِّله إلى شذرات يركبها
ويجاورها من أجل خلق حركة بينها. أسقط الإرادة
لحساب الأفعال الشرطية المنعكسة كما هو الحال
في مَعامل علم النفس ومراكز دراسة الأعصاب
والدماغ. وقع في التوازي بين المادة والروح.
الطبيعة تنعكس في الروح، ويطابق البناءَ
الداخلي للفكر جزءًا جزءًا، بناءُ الأشياء. خطأ
سبنسر الرئيسي هو التعامل مع التجربة وكأنها قد
تمَّت، في حين أن المسألة هي كيف تمت التجربة.
ليست العلاقة بين الأشياء مجرد قوانين يضعها
الفكر حتى وإن تطابق. الخطأ هو قياس الاستدلال
على الكل بالاستدلال على الأجزاء، وهو ما رفضه
هوسرل أيضًا في المبحث الثالث «الأجزاء والكل»
في «بحوث منطقية»، وهو ما لا ينطبق على
الديمومة العيانية. ليس الواقع ماديةً خامًا
يمكن تقطيعها، بل حركة وطاقة، وتيار متصل. حياة
الوعي. المادة والهندسة صنوان، ولكنهما
متميزتان عن تيار الشعور. المادة حركة تسقط،
وليست وعيًا يرتفع. رسالة الفلسفة في هذا
التمييز بين المادة والروح، وهي ليست فقط عودة
الروح إلى ذاته، اتحاد الوعي الإنساني مع
المبدأ الحي مصدره، والاتصال بجهد الخالق. هو
تعميق الصيرورة، وهو التطور الحق، وبالتالي
التطور الحقيقي للعلم، بمعنى مجموعة من الحقائق
المبرهن عليها، وليس مدرسيةً جديدة نشأت في
النصف الثاني من القرن التاسع عشر حول فيزيقا
جاليليو كما نشأت الفيزياء القديمة حول أرسطو.
٦٨