(١) مقدمة: الموضوع والمنهج١
وبعد ربع قرن من التطور الخالق الذي صدر عام
١٩٠٧م وكان عمر برجسون ثمانيةً وأربعين عامًا
صدر «منبعا الأخلاق والدين» عام ١٩٣٢م وبرجسون
ثلاثة وسبعون عامًا، وهو نهاية المطاف؛ فقد
تُوفي برجسون بعد تسع سنوات. لم يكتب شيئًا
خلالها؛ لذلك يمكن القول بأن «منبعا الأخلاق
والدين» هو الذي يعبِّر عن فلسفة برجسون
الأخيرة في التجربة الصوفية.
ويكشف العنوان هذه المرة بوضوح عن الثنائية
المتعارضة في فكر برجسون والتي كشفت عنها
العناوين السابقة صراحةً مثل «المادة
والذاكرة»، «التطور الخالق». هناك منبعان
للأخلاق والدين، الثابت والمتحرك، العقل
والحدس، المجتمع والفرد، الواقع والمثال،
التكيف والبطولة، وبتعبير الأصوليين القدماء
«التنزيل» و«التأويل»، الفقه والتصوف، الشريعة
والحقيقة، العامة والخاصة. ولا فرق بين الأخلاق
والدين من حيث المنبع، الشكل والمضمون، القانون
والمحبة، اليهودية والمسيحية؛ فالدين أخلاق كما
هو معروف في الحديث: «إنما بُعثت لأتمِّم مكارم
الأخلاق»، وكما حُدد التصوف بأنه «أخلاق كريمة
في زمن كريم». فالتجربة الصوفية هي المصب
النهائي للدافع الحيوي كما يكتمل الوحي في
«الإسلام».
والكتاب مُوجَّه ضد كانط في الفصل الأول
«الإلزام الخُلقي»، وضد ليفي بريل في الفصل
الثاني «الدين الثابت». ومع التجربة الصوفية في
الفصل الثالث «الدين المتحرك»، وضد الحضارة
الآلية الحديثة في الفصل الرابع «ملاحظات
ختامية، الآلية والتصوف». ولا تُذكَر الأعلام
كثيرًا؛ فقد أصبحت نماذج لمذاهب وتيارات، وهي
أهم من الأعلام؛ فالحقائق مستقلة عن الأشخاص
الذين يُعلنونها.
ويمثِّل الأخلاق العقلية الأخلاق اليونانية،
أفلاطون وسقراط وأرسطو وأفلوطين والرواقية.
وينضم إليهم كانط واسبينوزا وليبنتز في العصر
الحديث، ومن الاتجاه الطبيعي روسو. ويمثِّل
الاتجاه التجريبي من القدماء أبيقور
والأبيقورية، ومن المحدثين ليفي بريل ودوركايم
وستيوارت مل وسبنسر وآدم سميث وكومت. ومن
الاتجاه النفسي وليم جيمس، ومن الاتجاه الحيوي
نيتشه.
ومن نماذج التصوف المسيحي جان دارك والقديس
بولس والقديسة كاترين من سينا والقديسة تيرزا.
ومن التصوف الشرقي بوذا والبوذية والبرهمانية
واليانية. ومن ديانات مصر القديمة إيزيس
وأوزوريس وإخناتون، وعبادة فرعون، وآلهة طيبة.
ومن بلاد الشرق تُذكر الهند والصين وإيران
ومصر. ومن الأبطال الروائيين مكبث.
٢
والكتاب مقسم إلى أربعة فصول دون مقدمة أو
خاتمة؛ الأول «الالزام الخلقي»، والثاني «الدين
الثابت»، والثالث «الدين المتحرك»، والرابع
«ملاحظات ختامية، الآلية والتصوف». أكبرها
الثاني «الدين الثابت»، وهو الدين من وجهة نظر
المدرسة الاجتماعية التي يحتلها ليفي بريل
ودوركايم، ثم الأول «الإلزام الخلقي» الذي
يمثِّله كانط، ثم الثالث «الدين المتحرك» الذي
يمثِّله الصوفية المسيحيون والشرقيون دون ذكر
للصوفية المسلمين أو اليهود، والرابع «ملاحظات
ختامية، الآلية والتصوف»، أصغرها عن نقد
الحضارة المادية الآلية الحديثة. بالرغم من
تعادل التفاؤل والتشاؤم في «الإلزام الخلقي»،
و«الدين الثابت»؛ لأن الدافع الحيوي ما زال
مستمرًّا بالرغم من قسمته الثنائية إلى فرع
يتوقف، وفرع يستمر، إلا أن التفاؤل يبلغ مداه
في «الدين الحركي» حتى ينتصر الدافع الحيوي
ويبلغ مداه في التجربة الصوفية. ثم يسود
التشاؤم في الفصل الرابع في وصف الحضارة
الغربية التي تحوَّلت من التصوف إلى الآلية،
وتوقف الدافع الحيوي نهائيًّا عندها بعد مقاومة
العالم له، وبلوغ الحضارة الأوروبية
منتهاها.
(٢) الإلزام الخلقي٣
منذ نعومة الأظفار ويتم المنع والتحريم
والالتزام بطاعة الآباء والمعلمين، فما مصدر
الأمر الاجتماعي؟ هل هو أمر طبيعي أم مضاد
للطبيعة؟ والأمر يستلزم طاعة الأدنى للأعلى،
ويتم تنفيذ العادات كمطلب اجتماعي؛ فالمجتمع
يعيش في كل عضو فيه. ومع ذلك، المجتمع الإنساني
مجموعٌ من الكائنات الحرة بإجماع الناس. وطاعة
العادات الاجتماعية لا تنفي حرية الأفراد.
ويُلزِم المجتمعُ أفرادَه، ولكنه لا يُحتِّم
عليهم أفعالهم. وهذا هو الفرق بين «ما يجب»
و«ما ينبغي أن يكون». علاقة الإلزام بالضرورة
مثل علاقة العادة بالطبيعة.
٤
يقوم الدين بتضييق المسافة التي ضاقت من قبلُ
بفضل العادات الاجتماعية بين أمر المجتمع
وقانون الطبيعة. وتقوم العادة اعتمادًا على
العقل والخيال بما يقوم به الدين بعد ذلك عن
طريق التضامن الاجتماعي وجماعة المؤمنين؛
فالأخلاق مُقدِّمة للدين وخاتمته، منبعه ومصبه،
بدايته ونهايته.
ويوجد الإنسان في المجتمع؛ فالإنسان كائن
اجتماعي كما قرَّر الفارابي من قبل.
٥ في حين جعل آدم سميث «الشاهد
المنصف» ذاتَ حاسةٍ خُلقية قادرة على الحكم والسلوك.
٦ وكما يعيش الإنسان في المجتمع يعيش
المجتمع في الإنسان؛ فالمجتمع كائن إنساني.
المجتمع بالنسبة للإنسان مثل علاقة الدائرة
بالمركز. وعلاقة الإنسان بالمجتمع مثل علاقة
المركز بالمحيط؛ ومن ثم فإن الإلزام الخلقي
الفردي الخالص عند كانط بصرف النظر عن الضرورات
الاجتماعية واللغوية والعملية لا وجود له.
والفرد الخالص الذي لا ينتمي إلى مجتمع من وضع
الخيال. وما يُظن أنه ضرورة فردية هو ضرورة
اجتماعية؛ لأن الفرد كائن اجتماعي. صحيح يستطيع
الفرد أن يقاوم المقاومة في حالة وجود توتر أو
تناقض بين أخلاق الفرد ومُتطلَّبات الجماعة.
وهي مقاومة اجتماعية وليست مقاومة الفرد لنفسه.
٧
«الأمر الجازم» أشبه بالأمر الحربي، ويُمثِّل
سقوطًا في التطور الصاعد عندما تنقسم أخلاق
الحياة إلى أعلى وأخلاق الواجب إلى أسفل؛
فالالتزام بقاعدة أقل تطورًا عن الاستمرار في
الحياة. ولا ينشأ الإلزام من العقل بل من
الحياة؛ أي من الدافع الحيوي؛ فالعقل في حاجة
إلى لغة وعادة، وإلزام الحياة طبيعة وتلقائية
دون أمر. في الإلزام الخلقي تغيب الحرية، وفي
إلزام الحياة تتخلَّق الأفعال الحرة.
٨
ينتمي الإلزام الخلقي إلى أخلاق المجتمعات
المغلقة، وهو معنى ما قاله ماكبث في رواية
شيكسبير الشهيرة: «الفعل جنون، والجنون فعل».
ليس الفعل إملاءً من العقل أو طاعةً لأمره، بل
هو تعبير عن اللاعقل أو الجنون. والتقابل بين
المجتمع والإنسانية هو نفس التقابل بين المغلق
والمفتوح، والخلاف بينهما هو خلاف في النوع
وليس فقط خلافًا في الدرجة. ولا ينتقل الإنسان
من المجتمع المغلق إلى المجتمع المفتوح إلا من
خلال الدين؛ أي الانتقال من حب الذات إلى حب
الإنسانية. في حين تقتصر الفلسفات على بيان
أهمية الإنسان، وكرامة الشخصية الإنسانية.
٩
هذا الاختراق الرأسي يسمِّيه برجسون «نداء
البطل»، والبطل هو إنسان غير عادي مثل القديس
في المسيحية أو حكيم اليونان أو نبي إسرائيل أو
براهمة البوذية وغيرهم. الأخلاق المفتوحة هو
هذا النموذج؛ فالأخلاق الكاملة نداء من أعلى
إلى أسفل كما يقول عمر الخيام.
سمعت صوتًا هاتفًا في
السحَر
نادى من الغيب غفاة
البشر
وهو النداء الذي سمعته جان دارك لتحرير فرنسا
من الاحتلال البريطاني. في هذا النداء يتوحَّد
الإنسان مع النموذج، والخاص مع العام، والفرد
مع الشامل، ويصبح مبدأً للفعل أو قوةً سارية في
الوجود أو دافعًا حيويًّا للسلوك. وهو صوت
الضمير عند بتلر. الإلزام الخلقي إذن هو إلزام
اجتماعي بالرغم من أن العقل يظنه من طبيعته
وإملائه، وبين الأخلاق الاجتماعية والأخلاق
الإنسانية هناك اختلاف في النوع وليس فقط
اختلافًا في الدرجة؛ نظرًا لأن الإنسان كائن اجتماعي.
١٠
والنفس الإنسانية أيضًا نوعان: نفس مغلقة،
ونفس مفتوحة. النفس المغلقة هي والبدن والمجتمع
شيء واحد، تتجه نحو المنفعة والمصلحة الشخصية.
في حين أن النفس المفتوحة يحرِّكها حب العائلة
وحب الوطن وحب الإنسانية، ويوجِّهها دافع الحب.
١١
وهناك فرق بين الدافع والانفعال، الدافع أقرب
إلى الحس والغريزة عند العامة، في حين أن
الانفعال أقرب إلى الوجدان والتعاطف والمشاركة
عند الخاصة. وهو بداية الفن والأخلاق.
١٢
الانفعال بداية الإبداع بعد أن يتوقف العقل
مع الغريزة والعمل ومتطلبات المجتمع؛ لذلك أبدع
جان جاك روسو لأنه بدأ بالانفعال وليس بالعقل،
بالتجربة الحية وليس بالكتاب والنظرية، بالعودة
إلى الطبيعة وليس بالعودة إلى النص. وهي تجربة
الشرق عامةً واليابان خاصةً في الفن والدين، في
الحب والأخلاق. وفي هذه التجربة يتم الاتصال
بين الإنساني والإلهي.
ويتسم الانفعال بالجدة، ويتضمَّن معاني.
الوجدان والعاطفة والإحساس وهو تيار متصل بين
الماضي والحاضر والمستقبل، وتوتر بين حالتين.
يتجه نحو الإحساس من أدنى ونحو التمثل من أعلى،
ويحل إلى ما تحت العقل مرةً وإلى ما فوق العقل
مرةً أخرى. هو أقرب إلى الطابع «النسوي» منه
إلى الطابع الذكوري لرقته وعذوبته. وتخرج
الأعمال الفنية الكبرى من الانفعال الأصيل
بالتوحُّد بين الفنان وموضوعه عن طريق الحدس
والتعاطف مع الشيء ضد التقليد والتفاهة والفن
الرخيص، وهو ما سمَّاه شيللر الفرح الذي يقضي
على تقاليد الموضة.
١٣
ويتحوَّل قدرٌ كبير من الانفعال إلى
التمثُّل، ونفرح عندما نظن أن الدين إذا ما أتى
بأخلاق جديدة فإنه يفرضها عن طريق
الميتافيزيقا؛ أي العقائد واللاهوت، والآراء
حول الله العالِم والعلاقة بينهما. يُحكَم على
سمو الأخلاق بسمو الميتافيزيقا وعمقها، في حين
أن العقل لا يستطيع الحكم على سمو الأخلاق.
والفلسفة في النهاية تُضاف إلى الفلسفات الأخرى
دون أن يُحدث ذلك تقدُّمًا في الأخلاق. قبل
الأخلاق الجديدة والدين الجديد هناك الانفعال
الذي يُشع كدافع حيوي في الإرادة وفي العقل.
تُعبِّر الميتافيزيقا والأخلاق عن نفس الشيء،
ودور المُصلحين والصوفية والقديسين هو التعبير
عن انفعالات خاصة لنفسٍ متفتحة انفصلت عن
الطبيعة التي سجنتها فيها وفي المدينة.
١٤
ومن هنا أتت أهمية التحرُّر من العقبات
المادية أمام النفس، التحرُّر من مغالطات زينون
لنفي الحركة وللَّحاق بالحركة ذاتها، التحرُّر
من قسمة الحركة إلى وحدتها، من سير السلحفاة
إلى قفزة أشيل.
١٥
وعلى هذا النحو تستطيع الإنسانية أن تتقدَّم
إلى الأمام؛ فحب الإنسانية يحرِّك النفس، ومن
ثم تنقسم الأخلاق في اندفاعها إما إلى أسفل نحو
المجتمع، وإما إلى أعلى نحو الإنسانية؛ الأولى
العادات والأعراف والأخلاق الاجتماعية المرتبطة
بغريزة حب البقاء، والثاني الحب والتعاطف
الوجداني. ليس الالتزام أمرًا خلقيًّا، بل دافع
حيوي كما قال جويو من قبل. رُوَّاد الإنسانية
يخرقون سياج المدن، ولإرادة الحياة أصالتها
وعبقريتها القادرة على تحدي كل الحواجز.
وبتعبير اسبينوزا تتحرَّر الإنسانية من الطبيعة
المطبوعة بواسطة الطبيعة الطابعة. علاقة
الأخلاق الأولى بالأخلاق الثانية هي علاقة
السكون بالحركة، والواقع بالممكن، والمكان
بالزمان، والكم بالكيف، والامتداد بالتوتر،
والضرورة بالحرية.
١٦
الأخلاق الأولى أخلاق مغلقة، والثانية أخلاق مفتوحة.
١٧ الأولى تقوم على المجتمع المادي أو
العقل الصوري، والثانية على الدافع الحيوي وحب
الإنسانية. الأولى أخلاق المادة، والثانية
أخلاق الروح، وقد عبَّرت «المواعظ على الجبل»
عن هذه الثنائية في صياغة «قيل لكم … وأنا أقول
لكم.» الأولى الأخلاق الثابتة، والثانية
الأخلاق المتحركة. الأولى أخلاق محلية خاصة بكل
شعب، والثانية أخلاق عامة شاملة لكل
الشعوب.
لقد استطاع القدماء الوصول إلى الهندسة
والفكرة والمثال، ولكنهم لم يتوصَّلوا إلى
الدافع الحيوي الذي يجعل الثابت ينقلب إلى
المتحرك، ومن مواطن المدينة إلى مواطن العالم.
لقد اقتربت المسيحية والرواقية من الأخلاق
الثانية إلى حدٍّ ما دون أن تعبر إليها. وقد
بعث حب بجماليون في التمثال الحياة كما صوَّر
محمد إقبال ذلك في «ضرب الكليم»، وتفجير موسى
المياه من الحجر بضربة من عصاه. وبالحماس تسري
النفسُ إلى باقي النفوس كالحريق.
ومن فلاسفة اليونان اقترب سقراط من ذلك،
بالنشاط العقلي والوظيفة المنطقية للروح عن
طريق استعمال السخرية لاستبعاد كل ما هو مضاد
للروح المشينة مبينًا تناقضاتها. وهكذا أخبرت
كاهنة معبد دلفي عن رسالة سقراط، فقير مع
فقراء، منخرط وسط الشعب، ويتحدَّث بلغة شعبية.
لا يكتب شيئًا حتى يبقى فكره حيًّا، من القلب
إلى القلب، تحرَّر من مطالب الجسد، يصاحبه
شيطان يُنبِّهه إذا ما حاد عن الطريق. دافع عن
نفسه أمام القضاء، واستُشهد كما فعل كبار
المتدينين والصوفية. تعاليمه عقلية، ولكنها
تجاوزت العقل. وأشعل سقراط لدى تلاميذه النار؛
هذا هو موقف الحكيم.
وقد كان ذلك بدايةَ الجدل الأفلاطوني كما
عبَّر أفلاطون عن ذلك، ثم طوَّر أفلاطون
السقراطية إلى نظريته في النفس في محاورة
«فيدون» المتحرِّرة من البدن وانفعالاتها
الخلاقة. وكان ذلك قلبَ الميتافيزيقا اليونانية
مع بعض الأفلاطونية الجديدة في
الإسكندرية.
وقد تسرَّب ذلك كله إلى روح الإنجيل؛ لذلك
تحدَّث الآباء عن القديس سقراط. وظلَّت
الأفلاطونية تيارًا رئيسيًّا في المسيحية،
تعبِّر عن جوهرها الأول قبل أن تتحوَّل إلى
أرسطية، عقلية مادية، تكلَّست باللاهوت
العقائدي، والقوالب المدرسية. كان سقراط
مساويًا ليسوع.
ثم سقط ذلك كله من جديد في التجريبية
الأخلاقية عند الأبيقورين والقورينائين. وضاعت
روح الشرق من الفلسفة اليونانية كما ضاعت
الديمقراطية الأثينية، وضاع معها الحدس
والإلهام. وانتهت الغنائية والشاعرية من
الفلسفة اليونانية، ووقعت في التجريبية
الساذجة.
وبين النفس المغلقة والنفس المفتوحة هناك
النفس التي تتفتَّح في فترة تحوُّل من الثابت
إلى المتحرك، وهو طريق العقل اليوناني الذي وصل
إلى قمة العقل الاستنباطي، ولكنه ظلَّ دون
الحدس والإلهام. كان العقل مرتبطًا بالمنطق،
غلق العقل على نفسه، وبالعلم، توجيه العقل نحو
المادة. كان مجردَ تخطيط كما عبَّر عن ذلك كانط
في «التخطيط الترنسندنتالي»، يُدخل مادةَ
الحساسية في فراغ المقولات؛ لذلك انهارت
الأخلاق اليونانية.
يؤرِّخ برجسون للأخلاق اليونانية كأحد مراحل
تطور الوعي الأخلاقي كما فعل هيجل من قبلُ في
«ظاهريات الروح».
كان المكسب من هذا التفريع الأول بين الأخلاق
الاجتماعية والأخلاق التي تسمو عليها، بين قوتي
الطرد والجذب، الطرد الاجتماعي والجذب الصوفي،
هو احترام الذات. وكانت الذات هي الذات
الاجتماعية، ذات الجماعة، أو بتعبير
الاجتماعيين «العقل البدائي» عند ليفي بريل.
١٨ فالجماعة هي التي تحرِّك الفرد،
والفرد مجرد مُعبِّر عن الجماعة بكلِّ ما تطلبه
من غرور. وقد تجلَّى ذلك في المجتمع الروماني،
والإحساس بالشرف.
١٩
ثم تتكامل كل المفاهيم الخلقية وتصب في مفهوم
واحد هو العدالة.
٢٠ وتتضمَّن أيضًا مفاهيم المساواة
والتعويض، وهي من معاني التوازن والاعتدال، وهي
مقياس اجتماعي يوجد في كل المجتمعات ضد الإيذاء
والإضرار والإهانة للغير؛ لذلك تتضمَّن أيضًا
إجراءات العقاب كما هو واضح في «العين بالعين
والسن بالسن». والعقاب مماثل للجريمة وهو
القصاص
وَالْجُرُوحَ
قِصَاصٌ. العدالة مفهوم اجتماعي،
تُمارَس داخل المجتمع بطبقاته الاجتماعية،
وعليها أقام أفلاطون جمهوريته. وهو مفهوم تجاري
تبادلي نابع من طبيعة المجتمعات القديمة. وهو
مفهوم كَمي يتضمن القياس والزيادة والنقصان،
كما يتضمن الخطأ كما حدث لزينون في حُجَجه ضد
الحركة القائمة على القسمة. تُنكر القفزة
والنقل الفجائي والتي أقام عليها كيركجارد نقده
للجدل الهيجلي قبل أن يُقيم عليها برجسون نقده
للتطور الكمي المتصل الحلقات.
والحقيقة أن مفهوم العدالة الإنسانية الكمي
يتم تجاوزه بمفهوم العدل الإلهي كما هو واضح
لدى أنبياء بني إسرائيل، وهي عدالة السماء التي
تجبُّ قوانين الأرض، وكما هو واضح في مسرحية
«أنتيجون» ليوريبدس عندما رفض كريون أن يواري
جثةَ أخيها الثرى طبقًا لقانون الأرض، وأصرَّت
أنتيجون أن يوارى طبقًا لقوانين السماء. وهي
عدالة قائمة على اختيار «يهوه» لبني إسرائيل
وكما عبَّر عن ذلك أشعيا في دفاعه عن العدل
الشامل. وهو في رأي برجسون ما يُميِّز إسرائيل
عن باقي الشعوب بفضل العهد أو الميثاق الذي
عقده «يهوه». معه ومع ذلك يظل هذا المفهوم
الجديد للعدل داخل حدود المدينة ليس اليونانية
بل الشعب المختار. ويتوقف التقدم من جديد، وهو
نفس السؤال الذي وضعه أفلاطون: هل البشر من أصل
واحد وجوهرهم واحد؟ وأجاب بالنفي لتبرير نظام
العبودية ولقسمة الناس إلى أحرار وعبيد، يونان
وبرابرة، مواطنين وأجانب؛ الأولون أصحاب حقوق
بلا واجبات، والآخرون أصحاب واجبات بلا حقوق.
وظلَّت هذه القسمة لدى الشعوب القديمة التي لم
تدخل المسيحية.
واستطاعت الصين أن تصل إلى مبادئ أخلاقية
سامية، ولكنها لم تُقدِّمها للإنسانية جمعاء،
بل ظلَّت للحين وحدها.
ومع الرواقية ثم المسيحية ظهرت الأخلاق
الشاملة التي تعلن أن البشر جميعًا إخوة، وهو
ما أكَّده الإسلام بعد ذلك في حديث «وأنا شهيد
على أن عباد الله إخوان». خلق الناسَ جميعًا من
نفس واحدة ومن أصل واحد و
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ، «كلكم لآدم، وآدم من
تراب.» وانقضت ثمانية عشر قرنًا حتى يؤكِّد على
ذلك، عندما أعلن المتطهِّرون الأمريكيون «حقوق الإنسان»،
٢١ ثم أكَّدتها الثورة الفرنسية، وكان
الإنجيل قد وضع بذورها.
وانبثق من مفهوم العدالة مفهوم الحرية، حرية
الفرد دون النيل من حرية الآخرين. كما انبثق
مفهوم المساواة في الحق والحرية؛ فكل الأفراد
في المجتمع أحرار متساوون. وتولَّدت الأفكار من
بعضها البعض كما تتولَّد الألحان، فالأخلاق هي
موسيقى الضمير.
والخلاصة أن التطور الاجتماعي هو أساس مفهوم
الواجب، ليس تطورًا بمجتمع بعينه، بل تطور
الهيئة الاجتماعية؛ الأول تطور، والثاني تقدم.
الأول يعطي العدالة المغلقة، بينما يعطي الثاني
العدالة المفتوحة، وهو ما يدل على أن الإلزام
الخلقي له معنيان.
وينشأ هذان المنبعان من قوتين: الضغط
والتطلع؛ الضغط من أعلى إلى أسفل مثل القهر
والتسلط، والتطلع هو الجذب من أسفل إلى أعلى
كالإلهام والنداء والاختيار؛ الأول من الخارج،
والثاني من الداخل إلى الخارج. الأول ضغط،
والثاني رفع. وبلغة التراث القديم، الأول فقه
والثاني تصوف. الأول «تنزيل»، والثاني «تأويل».
الأول للعامة والثاني للخاصة، الأول واقع
والثاني ممكن، الأول ضرورة والثاني
حرية.
وتستمر ثنائيات برجسون بين الاكتساب
والموهبة، والوراثة والطبيعة، والتقليد
والتجديد، والمحافظة والتحرر، والمنطق والتصوف،
والعقلانية والدافع الحيوي.
٢٢ الأول أوامر مملاة طبقًا لمقتضيات
اجتماعية لا شخصية، في حين أن الثاني نداء إلى
الضمير الإنساني لأشخاص يمثلون ذروة الإنسانية.
الأول تحت العقل، والثاني فوق العقل. وكلاهما
يعملان على مستويين مختلفين من النفس
الإنسانية، العقل والحدس. وقد أعطى كانط المثل
على ذلك عندما عهد صديق إلى صديقه بمبلغ من
المال كأمانة للحفاظ عليها؛ فالأمر الأخلاقي هو
الحفاظ على الوديعة بأي ثمن تحت أي ظرف حتى ولو
كان في ذلك التضحية بالنفس. وهو نفس المثل الذي
أعطاه جويو من قبلُ بإعطاء أم طفلها مبلغًا من
المال لشراء حاجة لها من عند البقَّال على
الجهة الأخرى من الطريق وصدم عربة له وهَرَع
الأم إليه والطفل يمد يده إليها قابضًا على
النقود وهو يُحتضر: أماه! لم أفرِّط في
الأمانة! وهي أخلاق «الإتيكيت» «والبروتوكول»
و«الموضة»، والآداب الاجتماعية التي بدونها
تتحوَّل الحياة الاجتماعية من النظام إلى
الفوضى. وهو الفرق بين الفنان المُقلِّد
والفنان المبدع، بين قواعد المنطق والتفكير
الطبيعي، بين القبلي والبعدي بلغة كانط، بين
الاختيار العقلي المسبق والقفز الإرادي، بين
النصيحة والطبيعة، بين السلحفاة وأشيل.
٢٣
أمَّا الدافع الحيوي فيتجلَّى في العباقرة
وليس في المجتمعات البشرية كلها أو في
الإنسانية كلها التي يتحكَّم فيها العقل أو
العادة أو المادة. لديهم انفعال خلاق، يدفع
النفوس المتميزة فتشع حماسًا وحرارة دون إكراه
لَا إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ، ومن ثم يظهر التقابل بين
«الضغط الاجتماعي» و«دافع الحب». وبالرغم من
تناقضهما إلا أنهما متكاملان؛ فالحياة تتطلَّب
كليهما معًا، الزواج الرتيب والحب العاشق،
وتمثِّلهما الشقيقتان «كيتي» و«أنا» في «أنا
كارنينا لتولستوي».
٢٤
وهو التقابل أيضًا بين الغطاء والكشف، والستر
والتجلي بلغة الصوفية. وعليهما تقوم مناهج
التربية، النقل والإبداع، ومناهج التفكير،
العقل والحدس، والحياة اليومية، حياة الجماعة
وحياة الفرد، ونمطا المعرفة، الدين والعلم،
ونمطا الدين، القانون أو المحبة. وهو الصراع
الشهير لدينا بين الفقهاء والصوفية، بين
«التنزيل» و«التأويل»، بين الظاهر والباطن، بين
أهل النظر وأهل الذوق، بين العلم الإنساني
والعلم اللدني، بين التحصيل والتعلم والاكتساب
من ناحية والبروق والهوامع واللوامع من ناحية
أخرى، بين الفعل والجذب، وبين النوم واليقظة؛
«الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»، وعند برجسون
بين الإلزام القاهر والدافع الحيوي، بين الغموض
والوضوح، بين التعقيد والبساطة.
٢٥
(٣) الدين الثابت٢٦
الدين الثابت هو الدين الاجتماعي الذي عرضه
أوجست كومت وليفي بريل ودوركايم، وظيفة
اجتماعية للتكيف مع الواقع وإدخال السعادة
الوهمية في قلوب البشر، وهو مهين للعقل
الإنساني يحكم العقل عليه بأنه دين خاطئ،
ومناقض للعقل، ومجموعة من الضلالات، تمارس
العنف وتدَّعي الخلود. يحل أحيانًا محل العلم
والفن والفلسفة لدى عديد من الشعوب. يُعارضه
الإنسان العاقل، خاصةً إذا عمَّت الخرافات
والخزعبلات. قد يخلو مجتمع من الفلسفة أو الفن
أو العلم ولكن لا يوجد مجتمع خالٍ من الدين.
والإنسان أيضًا هو الوحيد الذي يستطيع أن
يعلِّق وجوده على اللامعقول.
تحدَّث الاجتماعيون عن «العقلية البدائية»
لدى الشعوب المتدينة. وقد كانت كل الشعوب كذلك
في مرحلة أولى من مراحل التطور. وهو ما لاحظه
ليفي بريل في رحلاته المتعددة. وقد تطوَّر
العقل البشري منذ ذلك العهد البائد حتى الآن،
بل إن المنطق الطبيعي قد يتجاوز العقلية
البدائية. وأحيانًا يبدو الإنسان وكأنه لم
يتغيَّر؛ إذ يمارس الإنسان العاقل الحديث ما
كان يمارسه الإنسان البدائي من لا معقول، وقد
تساءل من قبل: لماذا يبحث الإنسان عن العقول
الفردية وراء هذه الأشياء في حين أنها من الخلق
الجمعي؛ أي من العقل الاجتماعي. المشكلة إذن هي
كيف استطاعت الخرافات أن تحكم حياة الكائنات
العاقلة؟ وإذا كانت العقلية البدائية تنطبق على
الشعوب الأولى فإنها ما زالت مستمرةً لدى
الإنسان المعاصر في بنائه النفسي. والحديث عن
التمثلات الجماعية لا يحل مشكلة البناء النفسي الفردي.
٢٧
يقوم الدين قديمًا وحديثًا بوظيفة الأسطورة
في حياة الإنسان.
٢٨ وتشمل الأسطورة الحلم والخيال
واليوتوبيا والعالم البديل. وهو ما لاحظه ماركس
من قبلُ من أن الدين من صنع الوهم كما هو معروف
في المثل العامي، «العجان يحلم بسوق العيش»
و«اللي يخاف من عفريت يطلع له». هي وظيفة يجتمع
فيها الحي والذاكرة والخيال والروح. وهو ميدان
الأدب، والرواية الخيالية، والأساطير. قد
يستغني شعب عن الآداب والأساطير ولكن لا يستغني
عن الدين الأسطوري. لم يكن الدين على الإطلاق
من صنع العقل بل من وضع الخيال. ليست وظيفته
الفهم بل التصوير والتخييل بعبارة القدماء. هي
حاجة اجتماعية قبل أن تكون حاجةً فردية، هي
بداية الهلوسة. لا يطابق شيء منها الواقع أو
العقل أو التجربة. هي مجرد أسطورة تقوى فيها
الصورة، وتسيطر على الحس، وتؤثِّر في سلوك،
وتمنع آخر. لا يتعلَّق الأمر بصواب أو خطأ،
بعقل أو خَبَل، بواقع أو خيال، بل بوظيفة
اجتماعية، التكيُّف مع الواقع، وإشباع الحاجات
الفعلية أو الوهمية؛ فالوظيفة الأسطورية من عمل
الذهن من أجل المنفعة. وهذا هو قصد الطبيعة؛
تقوم بدور الغريزة من حيث المحافظة على البقاء؛
لذلك يستمر الدين طالما بقي الإنسان على الأرض،
وإن تغيَّرت أشكاله من بدائية إلى متحضِّرة، من
لاعقلية إلى عقلية؛ إذ يقوم في كل الحالات
بوظيفة ملء الفراغ بين الذات والعالم أو السقوط
بين الأنا والواقع إذا ما توقف الدافع الحيوي،
واستمرَّت القدرة على الخلق والإبداع. الدين
الأسطوري بهذا المعنى من اختراع الوهم طِبقًا
لضرورات الحياة العملية، وهو الوهم
السعيد.
والدافع الحيوي مفهوم تجريبي خالص مثل
الظواهر البيولوجية والفيزيولوجية والكيميائية.
ويسير طبقًا لقانون الانتقاء والوراثة. وهو
مفهوم بسيط طبقًا لمبدأ اقتصاد الفكر في العلوم
الوضعية. إنما الفرق بينه وبين القوانين
العضوية أنه ليس العقل الآلي للعلل الخارجية،
بل هو دافع باطني من جذر إلى جذر خلال الأفراد،
يحمل الحياة في اتجاه معين، من البسيط إلى
المركب. هو أشبه بالسبب الخاص مضافًا إلى
المادة؛ لأن المادة آلة وعقبة في نفس الوقت.
يقسم ما يَبين مثل القسمة إلى الغريزة والعقل
في تطور الأحياء. ولا يمكن التنبؤ بالصور
المستقبلية التي يتجلى فيها الدافع الحيوي ولا
بقفزاته ووثباته مهما عرفنا الآلية والغائية.
ولا يمكن استنباطه من صور سابقة. يشعر الفرد به
وبعدم قسمته ووحدته وديمومته المتصلة. هي إرادة
الحياة المناهضة لكل العقبات من أجل التجاوز
والاستمرار في الوثبة الحيوية.
في الإنسان إذن قُدرتان: العقلانية
والاجتماعية، القدرة على التفكير والقدرة على
المشاركة الاجتماعية. ويتفرَّد بالعقلانية، ولا
يُشاركه فيها أحدٌ من الكائنات الحية. أمَّا
المشاركة الاجتماعية فيُشاركه فيها النحل
والنمل؛ لذلك خصَّهما القرآن بسورتين. وتتميَّز
هذه الوظيفة بالنظام والتقدُّم كما لاحظ أوجست
كومت، وكلاهما مقتضيات للعمل وللحياة الاجتماعية.
٢٩
وللوظيفة الأسطورية دور اجتماعي؛
٣٠ فالاجتماعي جوهر الحيوي. «الدين رد
فعل دفاعي من الطبيعة ضد قوة الفصل العقلية».
يقوم بدور تكيُّف الإنسان مع الواقع الاجتماعي
لتحقيق التوازن. الدين من صُنع الوهم والخيال
والقدرات الإبداعية للإنسان. الدين والعقل
نقيضان. ما لا يدركه العقل يملؤه الدين، وما
يدركه العقل يستبعد الدين. فإذا لم تتحقَّق
العدالة في الأرض تتحوَّل إلى عدل في السماء
للتكيُّف مع الظلم. وكل ما يحدث من اضطراب على
الأرض يتحوَّل إلى قانون في السماء؛ فهناك
ارتباط بين القانون الطبيعي والقانون الأخلاقي،
بين حياة الناس في الأرض وإحباطاتهم وعدالة
السماء وشمولها والأمل فيها.
٣١
وهنا تنشأ الشخصية المتعدِّدة الجوانب،
العملية في جانب والأسطورية في جانب آخر،
العقلانية في جانب، والسحرية في جانب آخر من
أجل الثقة في مواجهة الاضطراب والإحباط حتى
تستمرَّ الحياة، وتحويل العالم إلى نظام وأمل.
هنا ينشأ الدين. كما يتظاهر الحيوان بالموت
لتفادي العدو، وهو ما نفعله نحن تمامًا، ومن ثم
«الدين رد فعل دفاعي من الطبيعة ضد تمثُّل
العقل لحتمية الموت»، وهو ما حدث في الدين
المصري القديم. الدين تعويض نفسي عن الناقص حتى
يتحمَّل الإنسان عذاب الأرض ويستمر في الحياة
حتى ولو كان واهمًا وإلا أُصيب بالغم والموت.
الدين دعوة إلى الاستمرار في الحياة حتى في
أحلك الظروف. يعطي الأملَ في المستقل إن أظلم
الحاضر وانسد الطريق.
٣٢
وتُفرز الوظيفة الأسطورية النافعة من أجل
استمرارها القوانينَ والمؤسسات والأبنية الفخمة
مثل الكاتدرائيات والمساجد الكبرى، والعبادات
والشعائر والموالد والاحتفالات، وكل ما تحتاجه
الأساطير من عبادات، والأديان من مؤسسات. وهو
ما سمَّاه كانط الدين المؤسسي في «الدين في
حدود العقل وحده». وهي مظاهر الدين الشعبي الذي
يتداخل فيه كل شيء مع كل شيء، الله والتمثال،
النبي والمولد، الحواريون والصحابة والأبطال،
القديسون والأولياء، مساجد الخلفاء والبابوات،
وأكواخ الصوفية والفقراء، لا فرق بين الحس
والخيال، بين الواقع والوهم، بين الصواب
والخطأ، بين الحلال والحرام.
٣٣
وينتشر الخَبَل واللامعقول كما ينتشر الروح
في الأشياء في الديانات الطبيعية مثل «المانا»
و«الواكندا» و«الأورندا» و«البانتانج».
ويتطلَّب هذا الروح الساري في الأشياء قدرًا
كبيرًا من الخرافات والسحر للسيطرة على مساره
وجلب خياراته، وتجنُّب مضاره.
٣٤
كما ينشأ الدين للاطمئنان على المجهول، وما
لا يمكن التنبؤ به مثل حتمية الموت كما هو
الحال الدين المصري القديم.
٣٥ ولمَّا كان الدافع الحيوي دافعًا
متفائلًا فقد استجاب لهذا التساؤل بالخلود وكل
أشكال الأخرويات. وكلها ردود أفعال دفاعية من
الطبيعة ضد التمثل من العقل، ومن هامش يائس من
معرفة المجهول بين المبادرة والأثر المطلوب.
٣٦
كما تنشأ الخرافة من إرادة النجاح، ورغبة
الإنسان في التدخل في القوانين الآلية بعوامل
خارجية للسيطرة عليها.
٣٧ وقد شخَّص ليفي بريل العقلية
البدائية بأنها تتجاهل العلل الثانية لحساب
العلل الصوفية؛ فالعقل المتحضِّر يعرف قوانين
الطبيعة، والعقل البدائي يفرض عليها قوانين من
خارجها من التمثلات الجماعية وعلوم السحر السائدة.
٣٨ ويتجاوز السحر العلاقة بين السابق
واللاحق، علاقة التتابع التي تخضع بدورها
لقانونٍ لحساب المصادفة التي تخضع للسحر، علاقة
العلية، والربط الضروري بين العلة والمعلول.
ويُعطي ليفي بريل في «العقلية البدائية» نماذج
عليها. لا شيء يخضع فيها للمصادفة، فلو وقع حجر
على رأس إنسان فإنه من صُنع الروح الشرير، ودفع
تمساح لقارب ليس مصادفة، بل من صنع ساحر، وقتل
سهم لمحارب أيضًا من رمي الشيطان.
٣٩
والحقيقة أن العقلية البدائية توجد أيضًا عند
الإنسان المتمدين؛
٤٠ إذ يظن أنه بالعقل وآليات المادة
قادر على السيطرة على ظواهر الطبيعة فيخلط بين
الأنثروبولوجيا والطبيعة، بين الذات والموضوع
كما في الإنسان البدائي إلى الدين؛ خوفًا من
الطبيعة. وهو نفس رد الفعل الذي حدث عند وليم
جيمس إثر الزلزال الذي ضرب سان فرانسيسكو
بكاليفورنيا في أبريل ١٩٠٦م ودمَّر جزءًا من
المدينة. فتحدَّث عن الزلزال وكأنه كائن
مُشخَّص في إله أو شيطان؛ ففي مواجهة الخطر
يلجأ جيمس إلى أنسنة الطبيعة حتى يزول الخوف
عنه. فلا فرق بين الروح الذي يسري بين الأشياء
«المانا» عند الإنسان البدائي والعقل الذي
يتحكَّم في مسارها عند الإنسان المتحضِّر،
وهمًا بوهم، وأسطورةً بأسطورة.
٤١ لا فرق بين السحر والعلم، كلاهما
قوة للسيطرة على الطبيعة. كلاهما تجربتان، وكل
منهما له آلياته، ويتجه كلاهما نحو العمل.
٤٢
يتجه الفعل نحو العمل والتأثير في الأشياء؛
لذلك يتطلَّب العلم جهدًا مزدوجًا، جهد الخاصة
العباقرة لإبداع شيء جديد، وجهد العامة لتبني
العلم والتكيُّف معه. يدفعه قلق العقل في البحث
والاستقصاء. وهو اختيار الرجل المتحضر. ومع
ذلك، ينبثق الحلم والرغبة المكبوتة، وتنشأ
الحاجة إلى التجاوز.
وهنا ينشأ السحر عند الإنسان البدائي، وعلاقة
السحر بالدين والفلسفة في حيرة بين الانضمام
إلى العلم أو الالتحام بالدين. إذا انضمت إلى
العلم فهي رياضيات أو فيزيقا، وإذا انضمت إلى
الدين فهي إشراق وذوق وإلهام. فالسحر خاصة
والدين عامة إفراز الطبيعة من بعض المخاطر التي
تهدِّد الكائن العاقل. وهنا تنشأ حاجة الإنسان
إلى طاعة الأوامر وإلى الصلاة.
٤٣
وللسحر مصادره النفسية. الحياة تسبق الفلسفة،
والعمل يسبق النظر. ويقوم السحر على أثر الشبيه
بالشبيه؛ فكلٌّ يعمل على شاكلته، وهو مغروز في
الطبيعة البشرية، استخراج رغبة تملأ القلب.
٤٤ ويتلخَّص موضوع السحر في عنصرين؛
الأول: الرغبة في عمل أي شيء يمكن الحصول عليه،
والثاني: ملء الأشياء بمادة سائلة إنسانية. وهو
ما يحل قضية العلاقة بين السحر والعلم، وقضية
العلاقة بين السحر والدين.
وتنشأ الحاجة إلى الاعتقاد بالأرواح، فتنتقل
الإنسانية من الاعتقاد إلى التعظيم والتبجيل،
ومن الإيمان إلى العبادة. يخرج الدين من فلسفة
طبيعية، هي «النفسانية» التي تعتقد بوجد النفس،
سارية في كل شيء. تبدأ بمرحلة سابقة وهي مرحلة
التنفُّسية عندما تُخيِّل الإنسانية قوةً لا
شخصيةً مثل المانا ساريةً في كل شيء، وأن
العالم مصنوع له، واتجاه الأشياء الحسنة أو
السيئة نحو الإنسان. ثم تتحوَّل الأرواح
الفردية إلى فكرة الجوهر اللاشخصي، وقد تُحوِّل
حضارة الفن الأرواح الفردية إلى آلية أبطال في
الأساطير، نصفها آلهة ونصفها بشر. وفي ديانات
الشرق الهند والصين واليابان مرحلة تعدُّد
الآلهة والأساطير كما هو الحال عند اليونان.
٤٥
ويتم التعامل مع الحيوان كنوع يتم عبادته.
٤٦ وهي مرحلة متوسطة بين الروح
السارية في الأشياء والآلهة الإنسانية. ظهر هذا
الدين في مصر القديمة، وأصبح كل حيوان رمزًا
لشيء، الثور للقوة، واللبؤة للتدمير، والنسر للأمومة.
٤٧ وتحوَّل الحيوان في أفريقيا وباقي
الشعوب البدائية إلى «توتم»، مصدر السحر
والقداسة والخوف.
٤٨
وأخيرًا ينشأ الاعتقاد في الآلهة وبداية
التحوُّل من الدين الثابت الخارجي إلى الدين
المتحرك الداخلي بعد استبعاد مخاطر آليات ما
تحت العقل والعودة إلى الطبيعة؛ لأن الإنسان
يمثِّل مرحلةً حيوية في التطور. وهي الحركة
المستمرة إلى الأمام؛ فقد توقَّف الإنسان مع
العقل الذي ساهم في خلق الوظيفة الأسطورية وما
يتعلَّق بها من سحر وروحية بدائية طِبقًا
لحاجات الأفراد والمجتمعات، وتلبية طموحاتهما.
فتحوَّل الإنسان من أدنى العقل إلى ما فوق
العقل. ومرحلة الاعتقاد بالإله مرحلة متوسطة في
هذا التحول، وهي مرحلة الأساطير؛ فالإله شخص،
له عيوبه ومزاياه، وطباعه وأسماؤه، وفي علاقة
مع الآلهة الأخرى. ويقوم بوظائف هامة. وهناك
آلاف من الأرواح الهائمة في البلاد الأخرى تقوم
بنفس الدور مثل «المان» و«البينات»، ولها حضور
فعَّال. يمثِّل تعدُّد الآلهة تقدُّمًا في
تاريخ الحضارة. ويذكر برجسون عددًا من آلهة
الشعوب القديمة مثل آلهة مصر في طيبة؛ آمون،
وأمون رع، وإخناتون، ومارذوك إله بابل، وآلهة
نيبور، وزيوس إله اليونان ونشاطو الآلهة
أكسنيوس وهوركيوس وجينثليوس وباقي آلهة
الأولمب. وهناك آلهة سوريا والصين واليابان
وروما وتأليه البشر مثل فرعون والقيصر. ولكل
إله وظيفة مثل آلهة الرومان؛ مثل جانوس حارس
الباب وفستا حارس البيت. وتتواصل الآلهة
القديمة؛ فأوزوريس أقرب الآلهة إلى البنثيون،
أدونيس اليونان، ونيشابا بابل. ومن آلهة الهند
إندرا وآجني؛ الأول للمطر، والثاني للنار.
وللآلهة وظائف متشابكة مثل آلهة الأرض في
اليابان وديمتير عند اليونان. وفي بابل آنو إله
السماء والأرض مثل زيوس في اليونان، وبوزيدون
إله البحر، وهادس إله الجحيم، ومترا إله الشمس
في إيران. وهو هليوس عند اليونان، هناك قنوات
إنسانية مشتركة بين آلهة الشعوب، تُلبِّي
الحاجات المادية. وتتمثَّل قيمًا أخلاقية عندما
تتقدم في السن. ميترا في الهند بطل الحقيقة
والقانون، وأوزوريس إله الفيض والعدل، تحمي
البشر وترعاهم.
توجد الآلهة إذن بمعنى تأدية الوظائف
الإنسانية وتلبية الحاجات المادية. التاريخ
معرفة، والدين سلوك.
٤٩ وكان لتعدُّد الآلهة والأساطير أثر
مزدوج وهو السمو بقوى الإنسان المرئية
واللامرئية، وهو ما تحاوله الفلسفة بالرغم من
الفرق بين الاثنين، وهو اهتمام الفلسفة بالنظر
والدين بالعمل، «إنه رد فعل دفاعي من الطبيعة،
ضد ما قد يكون محبطًا للفرد ومفككًا للجماعة
وفي ممارسة العقل».
وللأدب أيضًا وظيفة أسطورية.
٥٠ الدين والأدب يخضعان لوظيفة
أسطورية خيالية واحدة؛ الدين أدب، والأدب دين.
الدين فن، والفن دين. والنبي شاعر، والشاعر
نبي. وهو ما لم يعرفه زينون بإنكاره الحركة عن
طريق القسمة العقلية لأنه لم يكن شاعرًا ولا
نبيًّا، بل سوفسطائيًّا مأجورًا. وفي كليهما
خلق فني، وإبداع أدبي.
٥١
وتتمثَّل وظائف الدين في أنها تحافظ على
النظام وعلى الترابط الاجتماعي من خلال الشعائر
والعبادات الجماعية.
وتقديم القرابين والضحايا من بقايا الديانات
القديمة حتى المناولة والضحية بالحيوان بدلًا
من الضحية بالإنسان.
هناك تضامن بين الدين والأخلاق بالرغم من أن
التاريخ يُثبت العكس؛ فقد كان الخطأ ضد الآلهة
أكثر من الخطأ ضد مبادئ الأخلاق. يقوم الدين
بمهمتين؛ أخلاقية ووطنية يتم الخلط بينهما
باستمرار.
وهناك الدين الطبيعي، دين الحياة بين دين
العقل والمجتمع، ودين الأرواح والآلهة. ومن دين
الطبيعة يخرج الدين الحركي تعبيرًا عن الطبيعة.
الصلاة في الدين الحركي يكفيها القلب، والتقوى
الباطنية دون ألفاظ أو حركات أو مساعدة
قسيس.
(٤) الدين الحركي٥٢
ينطلق تيار من الطاقة الخلَّاقة من المادة
ليحصل على ما يستطيع. ولا ينجح أي جهد خلَّاق
إلا على مسار التطور الذي ينتهي إلى الإنسان.
وبعد أن يمر بالمادة يأخذ الشعور وكأنه في قالب
صورة العقل الصانع. وينمو الاختراع الذي يأتي
به التفكير فيتحوَّل إلى حرية؛ فللعقل أخطاره؛
إذ لا يعيش الإنسان العاقل فقط في الحاضر. ولا
يوجد تفكير بلا توقع، ولا توقع بلا قلق، ولا
قلق دون إطلاق مؤقت والارتباط بالحياة. ولا
توجد إنسانية بلا مجتمع. ويطلب المجتمع من
الفرد التجرد الذي لا يعطيه العقل لأنه لا يهتم
إلا بالأهداف العملية، وتحقيق المصالح الشخصية
والمنافع الاجتماعية؛ لذلك يستدعي العقل شيئًا
سواه قادرًا على فعل لا يتجزأ. وهي الوظيفة
الأسطورية التي منها يتخلق الدين.
٥٣
والدين له معنيان: الدين الثابت والدين
الحركي؛ يربط الأول الإنسان بالحياة، بالفرد
وبالمجتمع. وتُقص له حكايات شبيهة بقصص الأطفال
من صنع الوظيفة الأسطورية. وهو وضع طاقة حرة
خلَّاقة كوديعة في المادة. الإنسان وحده هو
الذي يتطور إلى ما لا نهاية، في حين أن المادة
عصية على التطور وتقاومه. وكلما زاد هم
المستقبل زاد قلق الإنسان على نفسه. أما الدين
الحركي فهو التصوف حيث يستمر فيه الدافع الحيوي
بلا توقف.
٥٤
والتصوف، وهو الدين الحركي، موجود في كل
الحضارات. هناك التصوف اليوناني حول الأسرار
الوثنية، وكان على اتصال بآلهة مصر القديمة
وآلهة بابل كما لاحظ هيرودوت؛ فلا فرق بين
ديونيزيوس والأورفية وإيزيس وأوزوريس في مصر.
وقد قدَّم وليم جيمس أيضًا للتصوف المقارن بين
مصر واليونان وبابل. ويتمثل التصوف اليوناني في
الأورفية والفيثاغورية والأفلاطونية
والأفلوطينية، والتصوف السكندري. وظل التصوف
اليوناني مُخلِّصًا للعقل اليوناني، ولم
يتجاوزه إلى حالات الجذب الصوفي. ولم يتجاوز
نظرية التأمل عند أفلوطين.
٥٥
وهناك التصوف الشرقي في البرهمانية واليانية
والبوذية من أجل خلاص الإنسان من الشهوات
والأهواء، وإمكانية السيطرة على انفعالات
النفس. التصوف الشرقي قفزة خارج الطبيعة، وفي
الهند «اليوجا» طريق إليه. ويحاول بوذا تخليص
الإنسان من الآلام. وظلت البوذية أقل من التصوف
الكامل الذي يدور حول الفعل والخلق والمحبة.
وتستطيع الذات بعد الخلاص أن تثق بذاتها
وقدرتها على تحريك الجبال. ومن كبار صوفية
الهند راما كريشينا وفيفكانندا. كان تصوفًا
مفعمًا بالتشاؤم، والعقل فيه إلى أضيق الحدود.
وعرفت إيران التصوف، وهو التصوف الإسلامي عند
سعديا وحافظ الرومي. ولم يعطِ برجسون نماذج منه
كما أعطى هيجل وجوته وشوبنهور؛ فقد كان أقل
علمًا بحضارات الشرق من الفلاسفة الرومانسيين
في ذروة الوعي الأوروبي.
٥٦
وتجاوز التصوف المسيحي التصوفين اليوناني
والشرقي جامعًا بينهما.
٥٧ وهو التصوف الكامل، التصوف الخالص
بجهد جديد، ونمو الحيوية، وشجاعة زائدة، وقدرة
على التحقيق؛ وذلك عند القديس بولص والقديسة
تريزا والقديسة كاترين من سينا والقديس فرانسوا
وجان دارك، وقد ساعد هؤلاء جميعًا على نشر
المسيحية. ولا تنفصل صورة التصوف عن مادته كما
هو الحال لدى جان دارك. ويمثِّل التصوف المسيحي
قفزةً إلى الأمام بالاعتماد على الإرادة،
ونظرية النور، والوحدة الشاملة، والمعرفة الخالصة.
٥٨
ويصل التصوف إلى حالة الجذب وهي حالة تأمل
قصوى، ورؤية بالقلب وتجدُّد مستمر. يشارك فيه
الصوفي كل الصوفية كما يشارك الفلاسفة في العقل
الفعال. والحب طريق إليه، والقرب منه والاتحاد
معه كي يصبح الإنسان لها. ويُعاد تأكيد دور
العقل في القلب، والفلسفة في الإشراق. وعلاقة
الدين بالتصوف مثل علاقة العلم للجميع بالعلم
الخاص. واللاهوت المستمر هو من يتحد بالتصوف
مثل أنسيلم وإيكهارت وكما هو الحال في الإشراق.
٥٩ ويستأنف التصوف المسيحي دعوة
أنبياء بني إسرائيل بعد تحويلها من رسالة وطنية
لشعب خاص إلى رسالة شاملة للشعوب جميعًا. ولا
يذكر أمثلةً من القبالة اليهودية ولا من
«الهجادا» لإعطاء نماذج من التصوف اليهودي، ولا
يذكر نماذج من التصوف الإسلامي على الإطلاق
بالرغم من وجود عديد من دراسات المستشرقين عن
الحلاج وابن عربي وغيرهما.
وجود الله في التصوف وجود شخصي ذاتي لا
يبرهَن عليه بحجج اللاهوت ولا بالأدلة على وجود
الله عند الفلاسفة. لا يُعرف إلا بالتجربة. ولا
يحتاج إلى معجزات لإثباته كما فعل الأنبياء
السابقون. تصوَّره أرسطو المحرك الأول الذي لا
يتحرك، وجعل الله مبدأً وغاية، وجعله أفلاطون
مثالًا، تعبيرًا عن العقل الفردي والاجتماعي.
وهو الصانع للعالم. من مادة قديمة هي صور من
الدين الثابت. أما الدين الحركي فالله مرتبط
بالإرادة وبالحالات النفسية كما هو الحال عند
وليم جيمس.
٦٠
ومع ذلك للتصوف قيمة فلسفية، يتفق عليها جميع
الصوفية. هي التجربة الإنسانية الواحدة التي
يشترك فيها الجميع وليس اللاهوت. له قيمة
رمزية، وحدة البشر ووحدة الأديان كما هو الحال
عند ابن عربي. وهو قادر على هز العروش وإسقاط
الطغاة وإعادة صياغة علاقة الحاكم بالمحكوم
بالتواضع والعبودية. وإذا كانت العلوم
والفلسفات والديانات تفرِّق فإن التصوف يُوحِّد
بأفكاره عن الدافع الحيوي والتطور الخالق.
وتنطلق الطاقة في النهاية من مسار المادة حتى
مصب الروح. هو اكتمال غريزة الحشرات، وعقل
الإنسان. الغريزة حدسية، والعقل استنباطي
استدلالي. وهو مستقل عن اللاهوت والكنيسة، عن
العقائد والمؤسسة بعد أن توحدا بالدين وأصبحا
بديلًا عنه.
يعبِّر التصوف عن نفسه رمزًا. ومهمة الفلسفة
تأويله. ويترك الصوفية المشاكل الزائفة التي
تفرِّق أكثر مما تجمع والتي لا حل لها في
العقل. وهو يشبه نقد إخوان الصفا لعلم الكلام؛
وذلك مثل طبيعة الله بين التجسيم والتشبيه
والتنزيه. والله لا يُعرف إلا بالشعور به من
خلال العاطفة النبيلة، والوصول إليه بالرياضة الروحية.
٦١ كما لا يشعر باللحن إلا بالموسيقى.
والمحبة هي موسيقى التصوف حتى ترتقي الروح من
مستوى العقل والمجتمع إلى مستوى الخلق
والإبداع. والمحبة لا موضوع لها مثل الموسيقى.
والله في حاجة إلينا كما نحن في حاجة إليه.
وهذه هي العلاقة المتبادَلة بين الإنسان والله،
المشاركة في المحبة والخلق في حركة دائرية لا
تتوقف ولا تنقطع.
٦٢
ومن المشاكل الزائفة مشكلة الشر، وتتبع تطور
الدافع الحيوي وقدرته على الانطلاق من المنبع
إلى المصب، ومن المادة إلى الروح. لا شر في
العالم، بل توقُّف الدافع الحيوي عند بعض
المنعطفات واستمراره في مسار آخر مما يدفع إلى
التفاؤل كما هو الحال عند ليبنتز في «العدل
الإلهي». ويبقى هذا المسار في الذاكرة من
الماضي إلى الحاضر، ويتجه من الحاضر إلى
المستقبل؛ فالشر لا وجود له وجودًا قبليًّا أو
أنطولوجيًّا كما هو الحال في المانوية بل هو
خير متصاعد نحو الكمال. هي درجات في الكمال
وليست في النقص. العدم وجود سابق والوجود وجود
لاحق كما هو الحال في نظرية الفيض مع تغيير
محورها الرأسي إلى محور أفقي.
٦٣
ومشكلة الخلود أيضًا مشكلة زائفة لأن تجرد
النفس عن البدن كما هو الحال عند أفلاطون، حكم
قبلي مسبق مع أنه نتيجة لتطور الحياة، واستمرار
الدافع الحيوي؛ فبقاء النفس باستمرار الدافع
الحيوي. وهو قادر على كسر القشرة ونمو الشجرة.
٦٤
(٥) ملاحظات ختامية: الآلية والتصوف٦٥
لا ينتشر الدين الحركي بالصور والرموز الخاصة
بالوظيفة الأسطورية. وكثيرًا ما ينشأ الخلط بين
جوهر الدين وصوره وأشكاله. ومهمة الدين الثابت
ليست هينة؛ إذ إنها تقضي على الأنانية والغرور
أو تهرب إلى نظرية أفلاطون في المثل ومثال
الخير.
وهناك خطآن: الأول تمثيل الحركة كتناقص
تدريجي لمسافة بين وضع المتحرك الثابت ونهاية
الحركة وهي ثابتة أيضًا ومن ثم الخلو من
الحركة. والثاني خاص بتطور الحياة المتصل دون
رؤية المنعطفات والانكسارات والتفريعات.
٦٦ وهو ما أثبته «التطور
الخالق».
وأهم نتيجة توصل إليها برجسون هي التمييز بين
المغلق والمفتوح في الميدان الاجتماعي. المجتمع
المغلق يرتبط أعضاؤه فيما بينهم وحدهم بصرف
النظر عن الآخرين، مستعدين للهجوم أو للدفاع،
ومتحفزين باستمرار للقتال. الإنسان فيه كالنملة
في خلية النحل. ويتشعب التطور في مسارين:
الغريزة والعقل. مهمة الإلزام الخلقي الترابط
الاجتماعي مثل مهمة الوظيفة الأسطورية. وينتقل
برجسون من فلسفة الطبيعة التي أدَّت إلى التصوف
إلى الفلسفة الاجتماعية والسياسية.
والمسار من المجتمع المغلق إلى المجتمع
المفتوح، من أسوار المدينة إلى رحاب الإنسانية.
الخلاف بينهما في النوع وليس فقط في الدرجة.
الأول للعامة والثاني للخاصة. الأول إكراه
اجتماعي، والثاني تحرر فردي.
ويبقى الطبيعي في كلتا الحالتين طبقًا للمثل
القائل «اطرُد الطبيعي يعود إليك مهرولًا»؛ لأن
الطبيعي لا يمكن استبعاده، ومن ثم تخطئ التربية
لو قامت فقط على العناصر الموروثة دون
الطبيعية؛ لذلك هناك أخطاء عديدة: حب الذات في
غير مكانه، التفاؤل الساذج، الجهل بالطبيعة
الحقة للتقدم، والخلط الشائع بين الميل النظري
والمتوارث والمكتسبات من الآباء إلى الأبناء
بعد تعلقها على مشجب الميل الطبيعي كما هو
الحال عند سبنسر. الطبيعي هو الذي يخلق كبار
العلماء والفنانين والجنود والمتخصصين في كافة
أنحاء المعرفة، باستثناء كبار رجال الدولة
لأنهم يمثلون المجتمع المغلق.
٦٧
وقد أرادت الطبيعة أن تُكبِّر التجمعات
الصغرى إلى مجتمعات أكبر. كما وضعت شروط الحياة
بحيث أصبحت الحرب حتمية؛ فالحرب أحد أسباب
الإمبراطوريات، تكونت بالغزو مثل الإمبراطوريات
الآسيوية الكبرى، والإمبراطورية الرومانية؛
لذلك ظهر مبدأ الوطنية للحفاظ على التجمعات من
الاندثار وغناء الشعراء الشهادة في سبيله. كما
يُحافظ مبدأ الأنانية على وحدة القبيلة.
والنظام الملكي والنظام النخبوي، كل منهما
يقوم على الرئيس. يطيع الناس له طاعةً مطلقة.
والإنسان عاقل حر. وخطأ نيتشه هو قسمة الناس
إلى عبيد وأحرار كما كان الحال عند اليونان.
وقد أتت المسيحية للقضاء على هذه القسمة، ووضع
نهاية للعقوبات البدنية. فليس في الطبيعة سجن
أو نفي. لا تعرف إلا القصاص، وقد شاركت
البرجوازية وليس العمال في ثورة ١٨٣٠م وثورة
١٨٤٨م ضد مزايا الأغنياء. ثم طالب المثقفون
تعليم الجميع. تعتقد الأرستقراطية خطأً بتفوقها
الساذج الطبيعي واحترام الناس لها لأنها مضادة
للدين وللطبيعة على حد سواء.
٦٨
والديمقراطية أبعد نظام عن المجتمع الطبيعي
الذي تسيِّره الغريزة. لقد بدأت عند اليونان
كديمقراطية مزيفة قائمة على الاسترقاق. ميزتها
أنها استطاعت أن تتجاوز المجتمع المغلق.
واعترفت بحقوق الإنسان. ولكنها تحتاج إلى إنسان
قادر على تحقيقها؛ أي «مشرع وذات» كما يرى
كانط. وهو الحاكم عند هوبز، والأمير عند
ميكافيللي، والزعيم عند ماكس فيبر. تجمع
الديمقراطية النظرية بين الحرية والمساواة
والإخاء. وجوهرها من الإنجيل، ومحركها الحب،
وأصولها الوجدانية عند روسو، ومبدؤها الفلسفية
عند كانط، وأساسها الدين عند روسو وكانط معًا.
وترجع أفكار كانط إلى مذهب في القنوط، وروسو
إلى مذهبه البروتستانتي والكاثوليكي معًا. أما
الإعلان الأمريكي لحقوق الإنسان عام ١٧٩١م فهو
أيضًا صدًى من أصحاب مذهب التقوى أو القنوط. من
البديهيات أن الله أعطى كل البشر حقوقًا
متساوية لا يمكن خرقها. وخطأ تصور الديمقراطية
هو جعلها علمانيةً مجتثة الجذور عن أصولها
الدينية. أما المجتمع الديمقراطي فيتسم بالسلطة
والتراتبية والثبات. ومع ذلك الديمقراطية مَثَل
أعلى تتجه الإنسانية نحوه. هو احتجاج على ما
يحدث في العالم. وكل بند من حقوق الإنسان
يتحداه سوء الاستخدام له. وفي رأي إميل فاجيه
تأتي الديمقراطية حين يموت الناس من الجوع،
وليس من مبادئ الحرية والإخاء والمساواة.
٦٩
وتقع الحرب في المجتمع الطبيعي الذي يتسم
بالانغلاق على الذات والترابط الاجتماعي
والتراتبية وسلطة الرئيس المطلقة. ويعني كل ذلك
النظام وروح الحرب. الحرب طبيعية طبقًا لمبدأ
داروين في البقاء للأصلح. المبارزة والملاكمة
والمصارعة أمور طبيعية مع روح المعاصرة. وكما
أن الحرب طبيعية كذلك المقاومة طبيعية؛ لذلك
لزم وضع قواعد لتربية الشعوب اعتمادًا على
الآداب الإنسانية بالرغم من وجود قواعد متضاربة
مثل «الإنسان إنسان» و«الإنسان ذئب لأخيه
الإنسان». الأولى بين المواطنين، والثانية
للأغراب. وأحيانًا يكون الغرض من الحرب تدمير
الآخر كلية؛ لذلك فكَّر البعض في تأسيس «عصبة
الأمم» لمنع وقوع الحرب بين الشعوب دون أن يكون
لها القوة لفرض ذلك بالسلاح.
٧٠
وترتبط الحرب بالمجتمع الصناعي والعصر
الحديث؛ فالصناعة أداة الحرب بالإضافة إلى
عوامل أخرى مثل الزيادة السكانية، غلق المنافذ،
الحرمان من المحروقات والمواد الأولية. مهمة
المنظمة الدولية القضاء على هذه الأسباب أو
التقليل منها. وأخطرها الزيادة السكانية مما
يقتضي وضع سياسات لتحديد النسل. ويمكن قسمة
المواد الأولية بين الدول. ومبدأ سيادة الدولة
قادر على وضع الحلول.
ويمكن الاعتماد على التصوف باعتباره إحدى
وسائل التغيرات الأخلاقية. ويمكن أن يكون ميزان
تعادل مع عصر التصنيع في الغرب وتحقيق السلام
بين الشعوب. فلا الصناعة ولا الآلة وحدها قادرة
على إسعاد البشر.
٧١
قوانين التاريخ قوانين بيولوجية ما دامت
الظواهر الإنسانية ظواهر حية؛ لذلك تتحكم فيها
قوانين الحياة والموت، والصحة والمرض والقوة
والضعف. لذلك يسير التطور في تيارات وتيارات
مضادة، في أفعال وردود أفعال. مسار التطور
حلزوني أو مثل حركة البندول، القيام والقعود،
النهضة والسقوط، الجهد والإجهاد، العمل والتعب،
الإقدام والإحجام، التقدم والتأخر، الديمقراطية
والدكتاتورية، التعددية البرلمانية والحزب
الواحد، الحكم والمعارضة.
يسير التطور إذن في قسمة، وسعر مزدوج:
المادية والروحية، الكم والكيف، الامتداد
والتوتر، المكان والزمان، الغريزة والعقل،
العقل والحدس، الثابت والمتحرك، إلى آخر هذه
الثنائيات البرجسونية. والتكامل بين العنصرين
توازن وتعادل. وهو قانون لا يلغي الحرية؛ لذلك
تعشق الإنسانية المأساة (الدراما)؛ فالحياة
سيمفونية تجمع بين تقابل الأصوات والهارموني
دون وجود تنافر للأصوات فيها.
٧٢
لقد عرف الناس منذ القرنين الخامس عشر
والسادس عشر سهولة الحياة المادية واتساع
نطاقها. كما عرف العصر الوسيط نموذج الزهد.
هناك إذن جنون مزدوج؛ الدنيا والآخرة، المادية
والروحانية، الغنى والفقر. وقد يكون حمل هذا
الجنون المزدوج، والسُّعار الثنائي هو نموذج
الحياة البسيطة التي عرفها الرواقيون من قبل،
وعاشها ديوجين بعد أن استبقى وعاءً يشرب منه ثم
قذف به بعد أن رأى آخر يشرب بيده، تحقيقًا
لنموذج الحياة البسيطة. وتصبح العودة إلى
الطبيعة عند روسو العودة إلى البساطة عند
برجسون. والحياة البسيطة ضد حياة
الغرور.
وتعمل المرأة كي تكون مساويةً للرجل بدلًا من
انتظار حياة البذخ والترف واللذة والمتعة.
وتكون حياتها أيضًا نموذج الحياة البسيطة.
ويشهد بذلك تاريخ الأفكار؛ فقد انقسمت الفلسفة
بعد أعلامها الكبار إلى الأبيقورية والرواقية
بحثًا عن السعادة ووجودها في حياة الدنيا أو
حياة الآخرة. كل سُعر له سُعر مضاد؛ فالحياة مأساة.
٧٣
والخلاصة، هو جنون التقابل بين الآلية
والتصوف، وبلغتنا بين الدنيا والآخرة. وقد أصبح
الإنسان ضحية الاختراع الآلي الذي هو من صنعه،
وكما وصف ماركس في الاغتراب عندما يصبح العامل
ضحية نتاج عمله. ومع ذلك روح الاختراع هي التي
حافظت على مصالح البشرية. هناك الملايين من
الجوعى لا يجدون ما يسد رمقهم وكأن الأرض
ينقصها المدد. كان هدف الآلة تخفيف جهد الإنسان
وزيادة الإنتاج. ومع ذلك، الإنسان مجهد مع نقص
في الإنتاج. وتحوَّل العامل إلى آلة، ونمَّط
الإنتاج.
وقد اقترب التياران في القرن الثامن عشر في
دائرة «المعارف الفلسفية». وهبَّت ريح
الديمقراطية في بدايات العصور الحديثة. كانت
الكرامة في الأمن. ويُرى الحاضر في الماضي
كسراب. وهو أطلق عليه اللاوعي. وتراجعُ الحاضر
أساسُ الأوهام الفلسفية؛ لذلك نُسقط على القرون
الخامس عشر حتى الثامن عشر إنجازاتنا
الديمقراطية الحالية.
كانت روح الاختراع قويةً منذ الإصلاح وعصر
النهضة بعد أن أخذ المثل الأعلى المسيحي
أشكالًا مضادة. واستمر السُّعار الثنائي بين
الآلية والتصوف. يتعارضان ويتكاملان، يتناقضان
ويتعايشان كالبدن والنفس. وقد بين إرنست سيير
كيف تتحوَّل الطموحات الوطنية إلى أمانات
إلهية، ويتحول الاستعمار إلى تصوف، وتتبدل
إرادة القوة إلى رسالة إلهية. وهنا يأتي نداء
البطل لإنقاذ البشرية مما هي فيه من تضاد.
ويرفعها من حضيض الخطأ إلى سمو الخلاص.
٧٤
لقد ارتبط العلم بالمادة على مدى ثلاثة قرون
قبل دراسة الروح. واعتمد العلم على الرياضة
عامة، والهندسة خاصة. ثم ظهرت أخطاء
السيكوفيزيقا في دراسة الصلة بين البدن والنفس.
وحدث رد الفعل الميتافيزيقي والتفسير التعسفي
للوقائع في الميتافيزيقا الروحية. إذا ما اضطُر
البدن للفعل فإن الروح لا ترى. ليس الدماغ
خالقًا ولا حافظًا للتمثلات، بل ينظمها فقط
ليجعلها أكثر فاعلية. هي آلة الانتباه إلى
الحياة.
وينهي برجسون «منبعا الأخلاق والدين» بهذه
العبارة المتشائمة وهو المتفائل بالدافع
الحيوي: «تئن الإنسانية نصف مطحونة تحت ثقل
التقدم الذي صنعته، ولا تعلم أن مستقبلها يعتمد
عليها، وعليها أن ترى أولًا إذا كانت تريد أن
تستقر في الحياة. وعليها وحدها أن تتساءل بعد
ذلك إذ أرادت أن تحيا فقط أم تعطي جهدًا زائدًا
وضروريًّا حتى يتحقق على هذا الكوكب المقاوم
الوظيفة الأساسية للعالم؛ أنه آلة لصنع الآلهة.»
٧٥