الديمومة والتزامن، والضحك
(١) الديمومة والتزامن١
لم يصمت برجسون تمامًا على مدى ربع قرن بين «التطور الخالق» عام ١٩٠٧م و«منبعا الأخلاق والدين» عام ١٩٣٢م؛ فقد صدر له كتاب «الديمومة والتزامنية» عام ١٩٢٣م وعمره أربعة وستون عامًا. وهو سجال مع أينشتين حول نظرية النسبية. وبتواضع العلماء واحترامه للعلم انسحب برجسون من السجال بعد أن رد أينشتين عليه. لم يشعر برجسون أن معلوماته الرياضية والفيزيقية قادرة على أن تجعله يستمر في السجال. فتوقف، ومنع إعادة «طبع الديمومة والتزامنية» بعد الطبعة الثالثة لأنه أقل من المستوى العلمي المطلوب. وكالعادة أُعيدت طباعته عشرات المرات دون الالتزام بوصية الفيلسوف بعد وفاته. وأُدرج في الطبعة المئوية الكاملة لمؤلفاته ١٩٥٩م.
ويُعتبر من أصعب كتب برجسون فهمًا لأنه يتطلَّب معلومات رياضيةً وفيزيقية عن النسبية. يأخذ طابعًا حجاجيًّا وليس برهانيًّا. تنقصه الصور الفنية التي اشتهر بها برجسون لمزيد من الفهم. ولا يمكن تلخيص فصوله في قضايا فلسفية عامة.
يتبع فيه ذكر النصوص الطويلة، ومراجعة تجارب علماء الفيزياء كما هو الحال في المناهج التعليمية للمبتدئين، وكما كان يفعل مصطفى عبد الرازق في ذكر النصوص الطويلة من القدماء قد يقرؤها المحدثون.
(أ) البنية والهدف
وينقسم الكتاب إلى ستة فصول: الأول: «النسبية النصفية»، والثاني: «النسبية الكاملة»، والثالث: «في طبيعة الزمان»، والرابع: «في تعدد الزمان»، والخامس: «أشكال الضوء»، والسادس: «المكان والزمان ذو الأبعاد الأربعة». أكبرها الرابع، وأصغرها الثاني والخامس. وهناك تصدير للطبعة الثانية (١٩٢٣م) ومقدمة، وملاحظة ختامية وملاحق ثلاثة؛ الأول الرصاصة، والثاني «التبادلية والسرعة»، والثالث «الزمان الفعلي وخط العالم».
أما المقدمة فإنها تُبيِّن أن الغرض من هذا الكتاب هو الكشف عن الخلاف بين تصور أينشتين وتصور برجسون للزمان. ويعترف برجسون بالقيمة العلمية الكبرى لأينشتين وتخصصه الدقيق وبأن تصور برجسون للزمان تغلب عليه عمومية التصورات الفلسفية والعلوم الإنسانية وليس فقط الرياضة والفيزياء. كما أن منهج برجسون منهج تجريبي مباشر دون التعرض لقضية الزمان الشامل. يركِّز برجسون على تناقضات تصور أينشتين للزمان المتعدد الذي يتسارع أو يتباطأ، وتتابُع المتزامنات وتزامُن المتتابعات عند تغيير المنظور. وهي نظريات دقيقة تدل على قراءة عبقرية لمعادلات لورنتز، لفظًا بلفظ. يبحث برجسون عن الوقائع المطابقة لها في عالم التجربة، في حين ينتهي أينشتين إلى الاعتقاد الشائع عند كل الناس بوجود زمان واحد وشامل. وقد لا يكون الخطأ من أينشتين بل ممن يحاول نقل نظريته إلى ميدان الفلسفة؛ فهناك نظريتان مختلفتان للنسبية؛ الأولى مجردة، والثانية خيالية. الأولى ناقصة، والثانية كاملة. والنظريتان متداخلتان. وبتبديد الخلط يرتفع التناقض.
(ب) النسبية النصفية المحددة٥
لم تقم النسبية النصفية عند ميكلسون-مورلي على التجربة، ومع ذلك تكشف عن الخلاف بين النظرة النفسية والنظرة الفيزيقية، بين الزمان بالمعنى الشائع والزمان بالمعنى الذي يقصده أينشتين. هناك رؤيتان للنسبية: الأولى جذرية وتصورية، والثانية مخففة وخيالية. ويقوم البرهان كله على الفرق بين زمن الساعة والزمان الشعوري. الأول ينقسم إلى خطوط، والثاني لا ينقسم. ويرجع الخطأ إلى وضع نسق تزامني داخل نسق حركي. والزمان غير التزامن، الزمان ديمومة، والتزامن تجاور متحرك مع ثابت. وهناك فرق كذلك بين الزمان المجرد الذي لا يعيشه أحد والزمان الذي يعيشه أينشتين باعتباره فردًا، زمان زيد أو عبيد من الناس.
(ﺟ) النسبية المتكاملة٦
إذا كانت النسبية النصفية هي النسبية الأحادية الطرف فإن النسبية المتكاملة هي النسبية المتبادلة. احتفظت نسبية أينشتين بتقلص الأجسام حين الحركة، ومد زمانها، وفك التزامن المتتابع.
لقد تحدث ديكارت من قبلُ عن تبادل الحركة. وتبدو لنا كذلك أكثر مما يبدو التغير الداخلي المطلق. ورؤية ديكارت هي رؤية العلم في عصره متجاوزًا ميكانيكا نيوتن، ثم تتجاوز النسبية رؤية ديكارت للعلم منذ جاليليو؛ لذلك تبدو ديناميكا نيوتن منفصلة عن تطور ميكانيكا ديكارت.
(د) طبيعة الزمان٧
يختلط الزمان مع ديمومة الحياة الداخلية والتحول من الشيء إلى الحالة. الديمومة تذكر، وليست ذاكرةً شخصية خارجة تنفصل عن الماضي بل هي ديمومة داخلية تتغير، ذاكرة يمتد فيها السابق إلى اللاحق، وليست لحظات منفصلةً مثل اللحن الموسيقي. والصعوبة هي الانتقال من الزمن النفسي إلى زمن الأشياء، ومن ثم فالديمومة الشاملة اللاشخصية التي تربط بين الأفراد تجريد ووهم. الديمومة شخصية، ولكلٍّ إيقاعها. ولا يمكن تحويلها إلى رياضة كما حاول أينشتين. الزمان الفعلي زمان معيش، وليس متصوَّرًا. ولا يمكن تحويله إلى لحظات متعاقبة. هو حركة متواصلة. ليس الزمان كمسار خيط أو مسار كرة متحركة. الزمان المعيش ليس مجموع لحظات متزامنة أو متعاقبة، أجزاء من الديمومة، زمان تحوُّل إلى مكان خط، وأصبح رمزًا للزمان.
التزامن في اللحظة غير تزامن تيار أشياء متميزة على التبادل. دون تزامن التيار لا يدرَك تزامن اللحظات في الحالات الثلاثة: تواصل الحياة الداخلية، تواصل الحركة الإرادية التي يُمدها الفكر إلى ما لانهاية، وتواصل حركة ما في المكان. لا تتساوى إذن الديمومة الفعلية مع الزمان المكاني، ومن ثم لا وجود لزمان عام. لا يوجد إلا زمان شخصي لكل فرد. ولا يمكن حسابه إلا بتزامن اللحظات. ولمعرفة تزامن لحظات الساعة تتزامن الحركات مع الديمومة الداخلية. هناك إذن قضيتان؛ الأولى تزامن لحظتَي حركتين خارجتين تسمح لنا بقياس المسافة. والثانية تزامن هاتين اللحظتين مع لحظتين في الديمومة الداخلية بحيث يمكن قياسها. وقد بيَّن برجسون منذ ثلاثين عامًا أن الزمان المكاني هو في الحقيقة البعد الرابع للمكان. هذه التزامنيات هي اجتماع لحظات، لا تشارك في الزمان الفعلي لأنها لا تدوم. هي مجرد رؤًى من الذهن تقفز فوق وقفات ضمنية في الديمومة الشعورية كذلك تتحول الحركة الفعلية من المكان إلى الزمان. الديمومة الحقيقية معيشة؛ إذ نشعر بأن الزمان يمر.
(ﻫ) تعدد الزمان٨
لا يوجد زمان واحد وشامل يمكن حسابه على مستوى الكون، بل يوجد زمان شعوري فردي خاص لزيد وعبيد من الناس يعيش زيد زمانه الخاص، ويعتبره نقطة إحالة له. يضع نفسه في هذا الزمان المنفرد داخل كل نظام. ويترك عبيد إطاره المرجعي الخاص به. يترك وجوده كعالم طبيعي، ويترك شعوره ولا يرى نفسه إلا من خلال رؤية زيد. هناك إذن انقطاع بين زمان زيد وزمان عبيد لا يمكن وصله. وكلما زادت السرعة ابتعد أكثر عن سكونه. العلم موضوعي، والزمان ذاتي، ولا يمكن أن يتحول الزمان من إحساس داخلي كما يقول هوسرل إلى موضوع حسابي كما يحاول أينشتين.
ومصدر الخلط أن افتراض التبادل لا يمكن ترجمته رياضيًّا إلا في الأحادية؛ لأن ترجمة اختيار أحد البديلين، رياضيًّا هو اختياره. والاختيار لا يمكن حسابه؛ لذلك تتشاور النسبية الأحادية مع النسبية التبادلية. ونظرًا لأن منهج أينشتين في البحث وإجراءاته في التدوين تؤكد على التعاون بين كل تمثلات العالم من كل وجهات النظر الممكنة، من حقه أخذ وجهة نظره الخاصة (وهو ما لا تقبله الفيزياء القديمة) وكل علاقة بإطاره المرجعي، ويحافظ على التمايز بين الكم الحسابي والكيف الشعوري، بين الحركة كامتداد والحركة كتوتر. ولا يوجد شعور مثالي قادر على أن يجمع بين الاثنين إلا إذا كان الشعور الإلهي بتعبير المدرسيين.
وإذا شملت هذه القوانين قوانين الكهرومغناطيسية تكون قد تمت صياغتها في افتراض إمكانية تحديد التزامن والتتابع الفيزيقي عن طريق المساواة واللامساواة التي تبدو في المسارات المتحركة: بصرف النظر عما إذا كانت فعليةً أو إجرائية. وتُستخدم من أجل الاعتراف بالتزامن الطبيعي لأنها علامته. ويمكن قلبه إلى تزامن حدسي وهو ما يسمى التزامن.
كل ما يحدث في الواقع يحدث في ذهن عالم الفيزياء. ولا يوجد شيء متتابع في الخارج يمكن تدوينه. وإدراك ما في الحركة هو إدراك حاضرها. وكلما زادت السرعة قل ترائي المستقبل. وكله رؤية للحاضر؛ فالحاضر هو في الأساس ترائي الماضي وتوقع المستقبل فيه.
(و) أشكال الضوء٩
تفرض الصور الصارمة للمكان شروطها على صورة الضوء في الفيزياء القديمة. في حين تفرض صور الضوء شروطها على الصور الصارمة في الفيزياء الحديثة، وقد فرضت الحركة صورًا مشوَّهة في ثلاثة أنحاء؛ الأول: الأثر العرضي الذي يطابق ما تسميه نظرية النسبية إطالة الزمن. والثاني: الأثر الطولي، وهو فك التزامن. والثالث: العرض الطولي، وهو تقليص لورنتر.
(ز) المكان والزمان ذو الأبعاد الأربعة١٠
ما يعُطَى باعتباره حركةً في مكان في عدد ما من الأبعاد يمكن تمثُّله كشكل في مكان له مكان زائد. وعيب الصور أنها تخضع للآليات السينماتوجرافية؛ أي تخيل الصور متحركةً في المكان وهي في الذهن نظرًا لسرعتها المتلاحقة، فتبقى صورة وراء أخرى. وتبدو الحركة في الواقع وهي في الذهن؛ فلا يوجد شيء في الواقع حدث، بل في طريق الحدوث، وهو ما لاحظه أفلاطون من قبلُ عندما تصور الزمان نقصًا في الخلود أو غيابًا له، لا يوجد أي فرق بين الزمان والمكان الآن. طول الزمان يجعل الشعور يتحرك كما لاحظ عالمَا الفيزياء سيبلرشين وويلز. وجوهر النظرية النسبية هو وضع النظرة الفعلية والنظرة الضمنية على نفس المستوى دون تمييز فلسفي بين الواقع والممكن، أو أرسطي بين ما هو بالفعل وما هو بالقوة.
(٢) الضحك، محاولة في دلالة المضحك
والمقال الأول «المضحك بوجه عام، المضحك في الأشكال والمضحك في الحركات، قوة نشر المضحك». وهو أطول العناوين وأكثرها تركيبًا. والثاني المضحك في المواقف وفي الكلمات. والثالث «المضحك في الشخصية». وتتساوى فيما بينها تقريبًا من حيث الحجم. وبالإضافة إلى المقدمة هناك ملحق بعنوان «في تحديدات المضحك وفي المنهج المتبع في هذا الكتاب»؛ مما يدل مرةً ثانية على أن المقالات الثلاثة كانت لسبر صحة المنهج.
(أ) المضحك بوجه عام، المضحك في الأشكال، والمضحك في الحركات، قوة انتشار المضحك٢٤
من الصعب حصار المضحك منذ البداية في تعريف، والأفضل وصف تجربة أو موقف مضحك مع أقل قدر ممكن من التحديد النظري ثم الانتهاء إلى التحديد الدقيق بعد التجربة وليس قبلها. وهو منهج برجسون التجريبي الذي يقيم عليه الميتافيزيقا. وهو نتيجة للحدس الذي هو التعاطف العقلي مع الأشياء من أجل إدراك ماهياتها. تحاول تعريفات «المضحك» جعله علاقات مجردةً يدركها الذهن بين الأفكار؛ فهو «تقابل عقلي» أو «تناقض حسي» … إلخ. وقد تكون تعريفات دقيقة، ولكنها لا تُبيِّن لماذا الضحك؟ من الأفضل جعل الضحك ظاهرةً اجتماعية، وظيفةً نافعة وهي وظيفة اجتماعية.
وأول موضوع هو الانتباه؛ فلا يوجد مضحك خارج الرؤية الإنسانية؛ فالإنسان حيوان ضاحك. وتصاحب الحساسية الضحك. ويتطلَّب الضحك من أجل إحداث أثره شيئًا مثل التخدير المؤقت للقلب. ويتجه إلى العقل الخالص. المهم هو أن يبقى العقل في اتصال مع باقي العقول.
- (١)
إسقاط التصلب على حركة الحياة عن طريق المفاجأة أو التقابل أو التخفي. يقوم على منطق الخيال وليس منطق العقل، وعلى منطق الحلم وليس منطق اليقظة، وعلى منطق المجتمع والعادات والأعراف وليس على منطق البداهة والوضوح؛ فالجانب الاحتفالي في المجتمع غطاء له مثل ملابس الفرد. وتعني الآلية تكيف الحركة على ثبات الصياغة؛ أي إدخال الآلية في الطبيعة، وإدخال المجتمع في قواعد؛ وبالتالي استبدال القواعد الإنسانية بقواعد الطبيعة، ووضع الحياة في قواعد إدارية، وإدخال الجسم الإنساني في قواعد مصطنعة، واستبدال الصناعي بالطبيعي.
- (٢)
وينشأ إسقاط الآلي على الحي، وهو مصدر الضحك، من النفس أكثر ممَّا ينشأ من البدن، بل إن حاجات الجسم تنال من النفس. الضحك حادثة تستدعي الانتباه حول جسم إنسان في حين أن النفس هو السبب. يخطو الجسم فوق النفس، والشكل يريد التقدم على المضمون، والحرف يشاكس الروح. المضحك هو استبدال الوسيلة بالغاية، والشكل بالمضمون. تتوقف الروح على بعض الأشكال، ويرتكن الجسم على بعض العيوب بحيث ينتقل تركيز الانتباه من المضمون إلى الصورة، ومن المعنوي إلى الحي.
- (٣) الآلية شيء؛ أي التحول الوقتي للشخص إلى شيء؛ فنضحك كل مرة يظهر فيها الشخص كشيء.٢٩
(ب) المضحك في الموقف، المضحك في الكلمات٣٠
بعد المضحك في الأشكال والاتجاهات والحركات هناك المضحك في الأفعال والمواقف؛ فالمسرح تبسيط فج للحياة. ونستطيع التعلم من الكوميديا قدرَ تعلمنا من الحياة. وألعاب الأطفال أولى محاولات لعب الكبار التي تبعث على الضحك. المضحك كل تنظيم أفعال أو حوادث يعطينا وهمُ الحياة والإحساس بالترتيب الآلي لها. مثال ذلك الشيطان اللولبي في مسرح العرائس وتكرار أفعاله. في التكرار المضحك للكلمات هناك لفظان: عاطفة مركَّزة تمتد كلولب، وفكرة تتلهى بضغط العاطفة من جديد. ومثال آخر الدمية المتحركة بالخيط، وكرة الثلج. فالضحك حركة اجتماعية تُبرز وتقهر بعض لهو الناس والحوادث عن طريق التكرار والقلب وتداخل الخيوط. يكون الموقف مضحكًا عندما ينتمي إلى خطين مستقلين، يمكن تفسيره بطريقتين مختلفتين. المضحك أن يترك الإنسان لأثر التصلب أو السرعة وعدم الرغبة في قول أو فعل شيء. ويمكن الحصول على كلمة مضحكة بإدخال فكرة متناقضة في قالب عبارة مختارة. الضحك هو تحويل الانتباه إلى الفيزيقي في حين أن المعنوي هو السبب. ويحدث الضحك عندما يُفهم شيء حقيقةً وهو مجاز أو بالتركيز على مادية مجاز تصبح الفكرة مضحكة، ويحدث الضحك بعد تغيير التعبير الطبيعي عن الفكرة بأسلوب آخر.
(ﺟ) المضحك في الشخصية٣١
ويكون عن طريق التصلب في الحياة الاجتماعية أو عن طريق وجود بعض العيوب الخلقية في الناس. وأهم صفات الضحك من الشخصية عدم اجتماعيتها أو عدم حركتها. بدلًا من التركيز على الأفعال يتم التركيز على الإيماءات. ويتم الضحك من الشخصية غير الاجتماعية ولامبالاة المشاهد. يركز الفن على الفردي، في حين يحدث الضحك من العام. المضحك منطق التناقض.
(٣) خاتمة: برجسون والبرجسونية
هل توضع خاتمة في آخر كل فصل أم في آخر كل قسم أم في آخر الكتاب؟ وخشية التكرار في مؤلف يكرِّر هو نفسه باستمرار، جمعتُ الملاحظات الختامية في آخر الكتاب بفصوله العشرة وقسميه الاثنين.
تكشف فلسفة برجسون عن اطلاع واسع على الثقافة الفرنسية في عصره، كتبًا ومقالات في المجلات العلمية للعصر، واستعمالها كمصادر ومراجع في الهوامش كما يفعل طلاب الدراسات العليا للماجستير والدكتوراه.
يقرأ كثيرًا ويكتب قليلًا. يقرأ عشرات السنين، ويكتب ربما في سنة واحدة حتى يختمر الموضوع ويظهر حدسه وخطأ الآخرين. ويكتب دفعةً واحدة كما هو الحال عند الموسيقي الذي يستجمع ألحانه في وجدانه على عدة أيام أو أسابيع أو شهور، ثم يدوِّنها فجأةً في لحظة واحدة.
لذلك امتلأت كتبه بأسماء الأعلام، فلاسفة رياضيين، مؤلفين وكتَّاب، علماء وفنانين، مفكرين ووجهاء. وتختلف نسبيًّا من تطبيق إلى تطبيق؛ فبينما تزيد في «المادة والذاكرة»، تقل في «منبعا الأخلاق والدين».
طالت عناوين الفصول حتى أصبحت عبارات شارحةً تتضمن أكبر قدر ممكن من الحدوس؛ لذلك يبدو الكتاب أحيانًا تأليفًا مصطنعًا في تقسيمه فصولًا. بل إن بعض المؤلفات يبدو مقالات مجمعةً في كتاب، وليس فقط «الطاقة الروحية» أو «الفكر والمحرك» أو «كتابات وأقوال».
وبالإضافة إلى المصادر المنقولة يلجأ برجسون إلى تحليل التجارب الذاتية كي تطابق الحقيقةُ النصية الواقع التجريبي؛ إذ يلجأ برجسون إلى تحليل التجارب الذاتية حتى أصبحت مشهورةً في أذهان الناس مثل تذويب قطعة من السكر في الماء والدعوة إلى الانتظار حتى يذوب السكر للإحساس بالفرق بين زمان الكوب، الزمان الموضوع، وزمان الذات؛ أي الزمان الذاتي.
تحليل العموميات، دعم التكرار والاستطراد. ويرجع كله إلى حدس أولي واحد، التفرقة بين الزمان والمكان. يتكرَّر في أشكال متعددة لإثبات الحرية في «رسالة في المعطيات البهية للوجدان»، ولإثبات استقلال النفس عن البدن في «المادة والذاكرة»، ولإثبات الخلق في «التطور الخالق»، لإثبات صدق التجربة الصوفية والدين والإيمان في «منبعا الأخلاق والدين». ومن ثم غاب الجديد، وأصبحت النتائج هي المقدمات، معروفة سلفًا، لا جديد فيها. يستطيع القارئ أن يتنبأ بتكرارها؛ فالإنسان صاحب حدس واحد يتكرَّر في نقاط تطبيقية مختلفة.
يشعر برجسون بذلك ويُنبِّه عليه، ويُحيل إلى مؤلفاته السابقة. ويُنبِّه إلى أنه يكرِّر ويستطرد، ويستعيد ما قاله من قبل. ويعود إلى مسار فكره خطوةً خطوة حتى ينتهي من المقدمات إلى النتائج بعد عدة استطرادات وتمرينات فلسفية.
ومع ذلك، هناك فلاسفة لم يعرفهم برجسون على الإطلاق، ولم يُشِر إليهم، وهو يعرف الألمانية مثل هوسرل وشيلر. ذكر نيتشه مرةً واحدة في أحد كتبه ولكنه لم يذكر هوسرل وشيلر على الإطلاق، بالرغم من الاتفاق بينهما وبينه. وقد سمع هوسرل عن برجسون أول مرة من تلميذه رومان إنجاردن الفيلسوف البولندي، وصاح: «هذا هو تقريبًا ما أراه، كأنني برجسون.» ومع ذلك، عرف ماكس شيلر برجسون، ويُشير إليه كثيرًا؛ إذ إن فلسفته جماع هوسرل وبرجسون: الميتافيزيقيا في ألمانيا، والتجربة الذاتية في فرنسا.
وقد اتضح ذلك خاصةً ليس فقط في «التطبيقات» الخمسة، بل أيضًا في «كتابات وأقوال» التي جُمعت ونُشرت بعد وفاته رغمًا عن وصيته وعصيان أوامره بعدم نشر شيء خاص به بعد وفاته لم ينشره هو من قبلُ ويدقِّق فيه، ويطمئن إلى علمه الدقيق، واستبعاد كل ما هو انطباعات شخصية وآراء خاصة لبرجسون الإنسان والمواطن. عرض برجسون نفسه من خلال الآخرين. كان ذلك جزءًا من عمله في الأكاديمية، تقديم عروض نقدية لِمَا يصدر في تخصصه من كتب ومقالات. كان يعطي قراءةً برجسونية لإنتاج عصره لدرجة قد تبدو البرجسونية أنها «ساعات بين الكتب» بتعبير العقاد، أقل من قدره. كان يقرأ أكثر ممَّا يكتب، ولا يترك شيئًا صدر في تخصصه ووقعت عيناه عليه إلا ويقرؤه.
وهو نفس مشروع كانط في «المقدمات لكل ميتافيزيقا مستقبلة تريد أن تصير علمًا»، تأسيس الميتافيزيقا على العلم. وربما بالغ كلاهما في ذلك لدرجة قتل المنهج الموضوع لصرامة المنهج ورِقة الموضوع مثل الديمومة والحرية والإبداع. بل يغالي برجسون أحيانًا في المنهج العلمي، ويدقِّق في مناقشته للعلماء وزحزحته لهم عن سلطانهم في الموضوعات التي خلطوا فيها، كما فعل في «المادة والذاكرة» و«التطور الخالق» و«منبعا الأخلاق والدين».
كان الاعتزاز بالعلم وبالمنهج العلمي سمة القرن التاسع عشر، بأفراحه وأحزانه، بعظمته وبؤسه، بنجاحه وفشله. وأثَّرت المدرسة الوضعية في تصور برجسون للدين، كوظيفة أسطورية، تساعد الإنسان على التكيف في الحياة وتلبية متطلبات الحياة العلمية، بل إنه استعمل مصطلحاتها مثل «العقلية والبدائية ومتوحشي أفريقيا».
صحيح أن الوعي الفردي لا يُجمَع كما هو الحال في اللغة العربية، ولكن اللغة تحيل إلى الأشياء، وليست تعبيرًا فنيًّا أو شعريًّا. والإنسان خاضع لضرورات الحياة العملية يتحوَّل الفكر لديه إلى وظائف اجتماعية، وتتحوَّل الحقائق النظرية إلى آليات للتكيف الاجتماعي.
وماذا لو غيَّر العلم تصوُّره ومضمونه؟ هل تتغيَّر الميتافيزيقا؟ وإذا ما تغيَّرت النظرة للكون من نيوتن إلى أينشتين هل تتغير البرجسونية ما دامت تريد تأسيس الميتافيزيقا على العلم؟ الفلسفة هي الفلسفة، والعلم هو العلم. وربطُ الميتافيزيقا بالعلم، قد يكون تضييقًا لرحابة الميتافيزيقا وسوء تأويلٍ للعلم في اتجاهين ميتافيزيقيين مختلفين. ويقوم العلم هنا بدور الدين في فلسفة الدين.
يُعطي برجسون قراءةً جديدة لنظرية التطور المادي لداروين ولامارك وسبنسر بحيث يجعل التطور روحيًّا يُحدث انكسارات في خط التطور المادي، وقفزةً من السابق إلى اللاحق، طفرةً بعد كمون، وانبثاقًا بعد انتظار.
وتقوم على تشخيص الطبيعة وإسقاط كثير من الرؤى الإنسانية على عالم النبات والحشرات والحيوان. وربما وقع في «التصور الروحاني» للعالم أو النزعة الروحانية التي تتصوَّر الروح ساريةً في كل شيء مثل «المانا» في الديانات الأفريقية. ويُغير الاسم إلى الدافع الحيوي.
ويعود إلى تصور العصر الوسيط للطبيعة، مراتب من العناصر الأربعة إلى النبات إلى الحيوان إلى الإنسان، من أدنى إلى أعلى أو من أعلى إلى أدنى كما هو الحال في نظرية الفيض أو الصدور عند القدماء طبقًا لمفهوم التقدُّم في العصر الحديث.
بل إن تطور الوعي الإنساني عند كانط، من الحسي إلى الغريزة إلى العاطفة إلى العقل، كما عرض في تاريخ العقل الخالص، هو أساس التطور عند برجسون، من العقل إلى الغريزة إلى الحدس، جاعلًا العقل أقل من الغريزة في التطور.
وهل للحديث عن الإنسان لا بد من المرور بعالم الحشرات والحيوان، فقريات ولافقريات؟ وماذا يُهم لو كان التطور متواصلًا آليًّا كما يريد داروين ولامارك وسبنسر، أو منقطعًا كما يريد برجسون؟ هل هذا خلاف علمي أم خلاف في الدين؟ داروين لا يهمه الدين موافقًا أم مخالفًا، في حين أن برجسون يهمه الاتفاق مع الدين، والدفاع عن تصور متكسر للتطور، وإضافة الطفرة إلى الكمون ليسمح بتدخل إرادة خارجية هي إرادة الخلق، ووضع الكيف في الكم، وإفساح المجال للروح في المادة.
ومهما أعاد برجسون تأويل نظرية التطور فإنها تقوم على الانتخاب الطبيعي، وبالتالي البقاء للأصلح. وتنقلب في الداروينية الاجتماعية عند سبنسر إلى دعوة للحرب، والنصر للأقوى، ومن ثم يقع تناقض بين التوازن والاندفاع؛ التوازن هو التوسط والاعتدال، والاندفاع هو التطرف والمغالاة.
وما رآه برجسون نموذجَ الخطأ في نظرية التطور عند داروين رآه الفكر العربي المعاصر نموذجَ الصواب عند شبلي شميل، ويعقوب صروف، وفرح أنطون، وإسماعيل مظهر، وسلامة موسى، كرد فعل على ثقافة الثبات السائدة.
والتقابل بين العقل والحدس تعارض تقليدي بين العلم والدين أو العقل والإيمان في شكل جديد؛ فالعقل ليس فقط هو العقل الاستدلالي النظري، بل أيضًا هو العقل الحدسي والرياضي. والعقل الصوري المجرد أحد أشكال العقل ووظائفه. هناك العقل الحيوي، والعقل التاريخي. كما أن الحدس في حاجة إلى التعبير عنه وتعقيله والتحول إلى إلهام فني أو صوفي أو نبوءة أو نبوة. حوَّلهما برجسون من مستوى المعرفة إلى مستوى الوجود، ومن مستوى الإدراك إلى مستوى التطور كما هو الحال عند كبار الصوفية خاصةً ابن عربي والفلاسفة الرومانسيين خاصةً شيلينج.
وثنائيات برجسون المثالية ثنائية دينية إيمانية صوفية مألوفة، تُعبِّر عن تصوُّر ثنائي ساذج للعالم وقسمته إلى العقل والإيمان، الدنيا والآخرة، الشر والخير، الحرام والحلال، العقاب والثواب، الكفر والإيمان … إلخ. تُلبِّي حاجة المؤمنين المتأزِّمين من مادية الحضارة الغربية والثائرين عليها، غير المكتفين بها.
لقد استطاع برجسون تحويل تاريخ الفلسفة إلى فلسفة، والفلسفة إلى تاريخ للفلسفة عن طريق ترائي الحاضر في الماضي، والحركة التراجعية للحقيقة. وبالتالي رأى بداية الوعي الأوروبي وتطوره ونهايته كما فعل هوسرل في «أزمنة العلوم الأدبية». قرأ برجسون تاريخ الفلسفة برجسونيًّا، كما قرأه هوسرل ظاهراتيًّا، وهيجل هيجليًّا في «محاضرات في تاريخ الفلسفة»، ورسل وضعيًّا منطقيًّا في «تاريخ الفلسفة الغربية» و«حكمة الغرب». ليس التاريخ «أركيولوجيا المعرفة»، بل إحياء المعرفة من أجل رصد بدايتها ونهايتها، نشأتها واكتمالها.
وبرجسون ذو دلالة كبيرة على نهاية الوعي الأوروبي، مثل بيكون وديكارت في البداية، وبرجسون وهوسرل في النهاية. برجسون الطريقة الفرنسية، وهوسرل على الطريقة الألمانية. كلاهما يكشف الخلط الذي ظهر في نهاية الوعي الأوروبي بين المستويات: الأدنى والأعلى، والبدن والعقل، المادة والذاكرة، الثابت والمتحرك، المكان والزمان، الكم والكيف، الضرورة والحرية، العقل والحدس، ما ينقسم وما لا ينقسم، المصمت والحي، التزامن والديمومة، الانقطاع والتواصل … إلخ. تم القلب بينهما، قلب الأعلى إلى الأدنى، واستبدال الأدنى بالأعلى أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وهو نفس ما لاحظه هوسرل في الخلط بين الواقعة والماهية، بين الحامل والمحمول، بين الدال والدلالة. وهو ما سماه ماكس شيلر «قلب القيم».
شق برجسون مثل هوسرل، طريقًا ثالثًا بين الصورية والمادية، بين المثالية والواقعية. ووجده في فلسفة الحياة، وفي ربط الميتافيزيقا بالعلم، واللجوء إلى الديمومة والإحساس الداخلي بالزمان مثل هوسرل، وقلب النظرة من الخارج إلى الداخل، مستشهدًا بقول أوغسطين: «في داخلك أيها الإنسان تكمن الحقيقة.»
لم يذكر برجسون الحضارات الشرقية إلا نادرًا في معرض حديثه عن ديانات الشرق في «منبعا الأخلاق والدين»، ولم يذكر الإسلام أو الحضارة الإسلامية في كثير أو قليل. وقد لقي محمد إقبال، وتم لفرنسا استعمار باقي أقطار المغرب العربي من الشام في عهده، بعد استعمار الجزائر عام ١٨٣٠م، وخسارة تركيا الحرب العالمية الأولى ١٩١٤–١٩١٨م، وسقوط الخلافة في ١٩٢٤م. لم يعارض الاستعمار، وعرض كتابًا يربط بين التصوف والاستعمار، كلاهما تعبير عن الدافع الحيوي دون أخذ موقف منه. وقد عاصر ذهاب ماسنيون وفوكو إلى المغرب راهبَين ومستعمِرَين، وكان ماسنيون زميله في الكوليج دي فرانس.
لم يذكر صعود النازية في ألمانيا في الثلاثينيات ووصولها إلى الحكم، بل واندلاع الحرب ١٩٣٩–١٩٤٥م في أواخر حياته. صحيح أنه لم يتحوَّل من اليهودية إلى المسيحية بالرغم من نقده للقانون، وإيمانه بالمحبة كما هو الحال عند الصوفية، وبالرغم من تمجيده للتصوف المسيحي ولجان دارك بوجه خاص.
لم يذكر الثورة الاشتراكية في ١٩١٧م، ولا الثورة المصرية في ١٩١٩م، ولا كبريات الحوادث السياسية في عصره. كان من الطبقة العليا ووجهاء المجتمع، لا يخالط عامة الناس. كانت مقالاته ورسائله تكشف عن اعتزاز بالعبقرية الفرنسية وانبهار بالشخصية الأمريكية، وإيمان شديد بعصبة الأمم والرئيس الأمريكي ولسون، والنظام الدولي الجديد في ذلك العصر.