المستحيل
حدثت الضجة المعهودة خارج الحجرة، وتعالت أصوات وضحكات وتشنَّجت حنجرة، ثم دخل المجنون ومعه مُرافقوه.
وأن يرى الإنسان مجنونًا في الشارع مرةً شيءٌ قد يكون مُثيرًا، أما أن يكون عمله هو الكشف على المجانين وإدخالهم مستشفى الأمراض العقلية، فشيءٌ يجعله يفقد حب استطلاعه، ويصبح الأمر بالنسبة إليه مسرحية مكرَّرة لا جديد فيها ولا طريف.
ولهذا فحين دخل المجنون الجديد لم أُلقِ إليه بالًا كثيرًا. كنت قد تعوَّدت رؤيتهم ومعاملتهم، ولم يعُد جنونهم أو شذوذهم يُزعجني أو يُثير عجبي. وكان المريض الجديد هو الآخر داخلًا مواصلًا كلامًا لا يعلم سوى الله متى بدأ: اسمك إيه؟
ودون أن يغير طريقة كلامه أو النغمة التي يتكلم، مضى يقول: يسرقوني ليه؟ أنا عملت فيهم إيه؟ اسمي محمد شحاتة علي، والمجرم صالح الشهاوي نتش مني أربع صفايح سمنة. ورحت أجيب الإيجار من السكان، فزعوا عليه بالسكاكين عايزين يدوني نكلة في الشهر إيجار الشقة. هو أنا شحات؟ أنا راجل صاحب عمارات ثلاثة في شبرا السمك وأربعة في أبو الريش و…
ونظرت إليه.
السحنة واحدة لا تكاد تتغير؛ سحنة ضامرة وأشداق مشفوطة وذقن لا بد نابتة وشعرها نام بجنون هو الآخر، تكاد الشعرة تلتوي عند نهايتها وتنقضُّ على جارتها وتعضها، وملابس مهما اختلف لولها مهرَّأة وممزَّقة ومربوطة أحيانًا بحبال.
لم يكن أكثر ولا أقل من مجرد مجنون فقير آخر.
وكل من كنت أراهم كانوا مجانين فقراء. وكم هو عسير على النفس أن ترى غيرك مجنونًا، أن ترى الإنسان ذلك الكائن الحي الذكي الذي تُشير له فيفهمك، وتقول النكتة فيضحك، وتُصادقه فيُحبك، ويؤمن فيُضحي بحياته في سبيل إيمانه، وتُريه الشيء فيتعلم؛ أن ترى ذلك الإنسان وقد تحوَّل إلى كتلةٍ بشعة من اللحم والملابس الممزَّقة والتصرفات الشاذة والصرخات، كتلة لا تعي ولا تُحس ولا تستجيب ولا تملك حتى أن تسقي نفسها الماء!
كان العسكري الذي يُصاحبه قد وقف على يمينه، وقريبه الذي جاء معه بجانبه وعلى يساره، والمجنون بينهما قصيرٌ أقصر منهما، وشعره أسود وأكرت ومهوش، والمجنون وملامحه شائخة، ولكن ليس في رأسه شعرةٌ بيضاء واحدة. وكان حافيًا ومع هذا يرتدي طربوشًا قديمًا لا زر له ولا هيكل.
ومنذ أن دخل ووقف لم يغيِّر وضعه أبدًا؛ فيداه مضمومتان أمامه إحداهما قابضة على الأخرى تكاد تخنقها، ورأسه ينظر إلى الأرض بزاوية، وعيناه مصوَّبتان إلى قدميه، وكان باديًا أنه لا يرى حتى قدميه، وإنما يخترق ببصره الأرض الواقف عليها وما وراء الأرض، ويَهِيم في شيءٍ بعيدٍ مجهول. وكذلك لم يتوقف عن الكلام، وكان يبدو أنه لا ينوي التوقف أبدًا، وصوته يخرج لا حماس فيه ولا حرارة، ولا يرفعه ولا يخفضه مهما تغيَّر ما يقول كأنه شريط مسجَّل لا يتوقف دورانه، وإذا سئل لا ينتظر ليعرف السؤال، ولكنه يُواصل كلامه، ويخرج عن الموضوع الذي يتكلم فيه قليلًا ليُجيب، ثم يعود بسرعة إلى شريطه المسجَّل الذي لا يتوقف، وحين عُدت أستمع إليه كان يقول: يمضوني على عقد البيع أونطة؟ كنت اتهبلت أنا عشان أبيع تلات عمارات بتلاتة صاغ ونص فرنك شركة؟ أطلب منهم الأجرة يضربوني ويدوني نكلة، والبواب عايز ألف جنيه في الشهر، وشركة الميه ليها عداد.
مرةً أخرى حديث عن العمارات والثروات الموهومة التي كوَّن الناس أجمعين عصابات لاغتصابها.
وأعدت السؤال: بتقول اسمك إيه؟
ومرةً أخرى سكت، ونظر إليَّ نظرةً لامعة فيها بريقٌ مُخيف، ثم عاد يُكمِل حديثه ذا النغمة الواحدة، وكأنما كان سكوته خللًا أصاب الشريط للحظة ثم عاد إلى الدوران.
وكانت نظرات الجنون في عيون المرضى تُخيفني أول الأمر؛ إذ فيها ذلك الوميض المُفاجئ المُريع، وكأن عقولهم تحترق داخل رءوسهم، وعيونهم تنفث شرر الحريق. نظرات تجعل الإنسان يخاف من الجنون. ونادرًا ما يخاف الإنسان من إنسان، ولكن نظرةً واحدة من تلك النظرات كفيلة بأن تجعله يخاف. وأفظع خوف هو خوف الإنسان من الإنسان. وأول الأمر أعاملهم مثل غيري من الناس باحتراس الخائف؛ ولهذا كانوا دائمًا يرتكبون حماقات، فيحاول أحدهم أن يعضني مثلًا، أو يبصق على وجوه الواقفين حوله، أو تنتابه لوثة ويهمُّ بإلقاء نفسه من الشرفة. وكان هذا يزيد من احتراسي وخوفي؛ فقد كنت أُحس على الدوام أني أمام آلة خطرة لا ضابط لها ولا رابط، كالبندقية المعبَّأة التي قد تنطلق من نفسها في أية لحظة وتقتل، وبمضيِّ الوقت رأيت منهم مئات، وبمضي الوقت ألِفت تلك النظرات، والألفة تُزيل الخوف، وحارس الأسد لا يخاف من الأسد. وهكذا فقدت حيطتي وأصبحت أعاملهم وكأني لا أعامل مجانين؛ فأفكُّ عنهم القيود، وأعطي الواحد سيجارة، وأدعه يشعلها بنفسه ويدخنها، ولا أضحك من غرابة ما يقول، وأعجب شيء أنه ما من أحد منهم عاملته بألفة وحاول إيذائي. وأيقنت آخر الأمر أن النظرات النارية التي يُطلقها المجنون من عينيه وتُخيف ليست في الحقيقة سوى نظرات خائف، نظرات رعب من العالم والناس يبلغ حد الجنون. إنه يؤذي غيره لخوفه من أن يؤذيه غيره، ويتوحش لاعتقاده أن الناس قد تحوَّلوا إلى وحوش. والواقع أننا كثيرًا ما نتحول إلى وحوش. إننا إذا رأينا شذوذًا في تصرفات إنسان لا نغفر له، ونُعامله بقسوة، وكأنَّا نُعاقبه على شذوذه؛ وبهذا تصبح تصرفاتنا شاذة في نظره، ويزيد حينئذٍ شذوذه. وقد يكون الأمر في مبدئه حبة فنصنع منها قبة. ويكون التصرف الشاذ بسيطًا فنقلبه إلى جنونٍ مُطبِق، ونصف المجانين مجانين لأنهم مرضى، والنصف الآخر لأننا أرغمناهم على الجنون.
ولم أكن في حاجة إلى فحصٍ كثير لكي أدرك أن الرجل الواقف أمامي تنطبق عليه كما تقول اللائحة، أحكام المادة كذا من قانون الأمراض العقلية.
ولكن كان لا بد من بضعة أسئلة أخرى تعذِّبني وأنا ألقيها وأسمع الإجابة عنها؛ فالإنسان منا إذا وقع نظره على عين أعور أو أعمى أو ساق مبتورة اقشعرَّ وأحسَّ بألمٍ ممزوج بالخجل، وكفَّ عن النظر، فما بالك حين يُحادث الإنسان شخصًا ذا عاهات مُتعددة ليس باستطاعته أن يرى أو يسمع أو يفكر، وإذا كان من المؤلم أن تقول للمشلول اجرِ، فمن المؤلم أكثر أن تسأل فاقد العقل وتطلب منه أن يُجيبك ويفكر، ومع هذا كان لا بد أن أسأله، فقلت له كالعادة: عارف النهاردة إيه؟
وبنفس الهمهمة المستمرة التي لا تنقطع مضى يقول: شافوني داخل مسكوا في خناقي، النهاردة أول الشهر وبقى لهم ثلاثة أشهر ما دفعوش الإيجار، والمحضر ساكن في البيت والثلاث عمارات يتباعوا والبيع لازم يحصل النهاردة.
وهززت رأسي لا أدري ما أقوله، والرجل ذو الطربوش المزعزع فوق رأسه واللحم الجاف الشاحب الظاهر من خرقه يتحدث عن العمارات وبيعها، وقريبه واقف ينظر بمرارة وقلق وتحت إبطه لفة لا بد فيها طعام رفض المريض أكله، ووراء وجودهما أمامي لا بد قصة؛ قصة طويلة حافلة؛ فأن يُجَن واحد في العائلة مأساة، وإذا كانت العائلة فقيرة فالمأساة أفظع؛ إذ لا بد قبل أن تعترف السلطات بصحة الخلل الذي طرأ على قوى الشخص العقلية، أن يرتكب حادثة أو أكثر، ويحاول قتل نفسه على الأقل مرة، ويصبح وجوده «خطرًا على أرواح الأهالي وممتلكاتهم». بعد هذا وليس بأي حال قبله، يصبح في استطاعة أهله أن يقدِّموا بلاغًا إلى القسم والقسم يتحرى، وبعد أن يتم التحري يُرسَل عسكري، ويعود الأهل إذا كانوا محظوظين آخر النهار إلى الحارة أو الزقاق ومعهم عسكري، ويؤخذ المريض إلى القسم عنوةً ويُضرَب زفة. وهناك يُفتح محضر وسين وجيم، ثم يُرسَل المريض بخطاب وفضيحة إلى مفتش الصحة. وإذا كان حظ المريض من نار ظهر الخلل واضحًا أمام مفتش الصحة، فإذا اقتنع بمرضه أحاله إلى القسم مرةً أخرى، وإلى أن تأتي عربة المستشفى يوضع المريض في السجن على انفراد، ومكتَّفًا لا يستطيع حراكًا، ولا تأتي العربة في العادة إلا بعد يوم أو يومين أو إذا آن الأوان، وإذا جاءت ظلَّت ترفعه وتهبده، والتومرجية في المستشفى يرفعونه ويهبدونه، حتى تصعد البقية الباقية من عقله إلى بارئها.
لا بد أن يحدث كل هذا قبل أن يصبح من حق المريض بعقله أن يستلقي فوق سرير المستشفى الكالح.
ولا بد أن كل هذا قد جرى ويجري لمحمد شحاتة علي الواقف يتحدث أمامي حديث خالي البال عن العمارات وأصحابها.
وإذا كان الفقر في حد ذاته يهدُّ كرامة الإنسان وآدميته، فما بالك إذا جُنَّ الفقير؟
قلت له لأسهِّل الأمر عليه: لأ يا عم محمد النهاردة الأربع، ويبقى بكرة إيه؟
ودون أن يغير طريقته قال: إن شاء الله بكرة السبت، بكرة سوق السبت أبيعهم في السوق بالمزاد العلني، واللي ما يشتري يتفرج، والفرجة بقرش واللي حاضر.
وكنت أعتقد قبلًا أن الجنون حالة كالموت يتساوى فيها الناس إذا فقدوا عقولهم، ويصبح كل مجنون نسخة من الآخر، وإذا بي أجد أن الأمر غير هذا بالمرة؛ فهم ليسوا قطيعًا واحدًا من فاقدي العقول؛ كلٌّ منهم كائنٌ مستقل بذاته وقصته ومسلكه الغريب الخاص به، حتى الكلام لكلٍّ طريقته المعيَّنة التي لا يحيد عنها، والدائرة التي يدور حولها كلامه لها نِصف قُطرها الخاص به، والذي قد يكون عمارة، وقد يكون عصابة، وقد يكون غضبه من أهل أو حبيب.
كانت حالة الرجل واضحة، وكان ممكنًا أن أكتفي بالأسئلة القليلة التي وجَّهتها وأملأ خانات الاستمارة، وأنتهي من «الحالة»، ولكننا أحيانًا تخطر لنا خواطر، فتقودنا إلى اكتشاف آفاق لم نكن نستطيع الوصول إليها بالتدبير والتمعن والتفكير، والخاطر الذي خطر لي لم يكن من قبيل الصدفة؛ إذ لم أكن أنظر إلى المريض على أنه مجرد «حالة» أخرى، كانت مشكلة العقل البشري تحيِّرني وتجبرني على التفكير. هذا العقل، هذا الجهاز المُذهل الكامن في تجويف الرأس المزدحم بالأفكار والحوادث والغرائز والمشاعر والذكريات، هذا الساحر الصغير القادر على أن يُحيل الحجر إلى ماس، والخاطر إلى اختراع، والغريزة الدنيا إلى غريزةٍ ساميةٍ عليا، تلك البوصلة الرائعة في دقتها التي تحدِّد الشرف، وتقيس المعقول، وتربط ألف فكرة بألف فكرة، وتخرج بنتيجة وتصنع من النتائج أحكامًا وقوانين، هذه المعجزة التي تحل أعقد الطلاسم، وتتذكر أدق التفاصيل، وتُحس وتُفرق بين الأحاسيس، هذه المساحة المُتناهية الصغر التي تخلق، وتضع الخطط العميقة، وتبتكر ملايين الكلمات والتعبيرات، وتحوي كل هذا وتحفظه، هذا العقل الذي يحتوي الدنيا كلها بما عليها ولا يضيق؛ تُرى ماذا يحدث له حين يختلُّ وتشبُّ فيه النار؟ ما هو الأصيل الذي يبقى، وماذا فيه يستحيل إلى دخان؟ وعم محمد شحاتة علي الواقف أمامي لم يغير وقفته، تُرى ماذا طار من عقله؟ وماذا لا يزال كامنًا مقدسًا في أخاديد تفكيره؟!
والمسألة نسبية لا ضابط لها ولا رابط؛ فقد لا يكون بعضهم يعرف اليوم الذي هو فيه، ولكنه يرفض أن تتعرَّى أجزاء جسمه، وقد لا يعرف اسمه، ولكنه يخنقك إذا شتمته.
وكنت أحب ذلك الحوار الذي يدور بيني وبين المريض، فإذا كان الإنسان العادي له عقلٌ بالغ التعقيد، فالمجنون بسيط، والمشكلة التي تحيِّره واحدة، ويقول ما يريده على الفور وبصراحة، وتستطيع أن تقرأ تفكيره بسهولة، وتعرف ما احترق في عقله وما لا يزال سليمًا.
وسألته: إيه اللي مضايقك يا عم محمد؟
وكان لا يزال على نفس وضعه، لم يرفع بصره مرة، وينظر حوله وسيال حديثه مستمر، وكأنه يتحدث إلى كائناتٍ أخرى لا نراها ولا تتبرم بحديثه، يتحدث وكأن لا زمان هناك ولا مكان، ولا يهمُّه إن كان هناك زمان أو إنسان أو مكان، والبقية الباقية في رأسه تطحن الكلمات والجمل، فتخرج كالدقيق الناعم المستمر لا انفعال فيها ولا إدراك. وحين سألته كان لا يزال ماضيًا في قوله: سلَّطوا عليَّ نسوانهم بالشباشب هانوني، تعبوني قوي. سكان متعبين، وبيدفعوا في الشقة نكلة إيجار قديم، ولازم أبيع العمارات حالًا قبل ما يهدوهم، الجدع ده سلط عليَّ مراته قلعتني الهدوم في الليل وسرقت المحفظة.
وتدخَّل قريبه الذي كان واقفًا: ما تصدقوش والله العظيم ما حد عمل فيه حاجة.
وتطلَّعت إليه؛ سحنةٌ ضامرةٌ أخرى، ولحيةٌ نامية، وملابس مهلهلة لا تكاد تفترق عن ملابس المجنون، حتى كدت أسأله هو الآخر عن اسمه واليوم الذي نحن فيه، وربما لو كنت سألته لما كان قد عرف. وتلك ظاهرةٌ غريبة؛ فلا بد أن يكون مع المجنون قريب، ولا بد بطريقة أو بأخرى أن يخرم المريض على أقربائه ويتهمهم أي اتهام، والأغرب من هذا أن القريب لا بد يُدافع عن نفسه بحرارة، وكأن الاتهام صادر عن عاقل، أو كأنه صحيح.
وأشرت للقريب أن يسكت، ولكنه لم يفعل، بل مضى يدلِّل ويروي على مسامعي كل ما قام به المريض من أفعالٍ خارقة، وكأنما ليُثبِت لي أنه حقًّا مجنون وكلامه فارغ، وبينما هو يتكلم بحرارة كان المريض يقول: كلهم حرامية ما تصدقوش دول كدابين. بيقول كده عشان يوديني في داهية، وياخد هو حق العمارات. قال لي امضي على بياض عايز ينهبني. دول على ذمتي تلات عمارات يسووا ١٥٠ قرش، وأبيعهم بنص فرنك؟ حرام أنا يتيم.
وقاطعته وسألته: إنت عارف ده مين؟
ودون أن ينظر إليه استمر: يتيم، أمي ماتت السنة اللي فاتت وده حرامي ابن حرامية.
وكادت تفرُّ دمعة من عين قريبه وهو يقول: أنا حرامي يا محمد؟ الله يسامحك يا محمد يا ابن أمي وأبويا، تقول عليَّا حرامي يا محمد وأنا أخوك؟!
وسألت المريض: عارف بلدكو اسمها إيه يا عم محمد؟
- عايزين ياكلونا بالحيا. بلدنا بلد الفقر والعنطزة هناك ع الترعة، وعندها محطة وسبيل. والعمارات ٤ في باب الحديد و٣ في ستنا نفيسة، وعقد البيع جاهز على الإمضا، ومش ممكن أقل من خمسة صاغ الواحدة.
وسألته: إنت متجوز يا عم؟
واستمر: ويجيني المشتري لحد عندي. كتفوني امبارح وحطوني في شوال، وقالوا تجوز أمك يا تتنازل عن العمارات.
وتدخَّل قريبه: عيب كله إلا أمك يا محمد.
ثم التفت إليَّ وأكمل: ده مجوز ومخلف رجالة وسيبينه كده، وأنا اللي بصرف عليه وحياة الحسين.
وعدت أسأله: لك أولاد، صحيح يا عم محمد؟
واستمر يُهمهم: أتنازل ازاي؟ ما اتنازلش. أنا مليش أولاد، أنا ليَّا عمارات بس، ولازم أبيع النهاردة وأقبض التلاتة صاغ كاش!
وأخرجت الاستمارة من درج المكتب استعدادًا لملئها.
وفي العادة كنت إذا وصلت إلى هذا الحد وتأكَّدت من المرض، تنتابني موجة من اليأس، فأهاود المريض على عقله، وأمزح معه، وأحدثه بأي كلام قد يخطر لي على بال، وكأني أعتذر له سرًّا؛ لأني سأثبت في الاستمارة حالًا أنه مجنون.
ومع عم محمد أيضًا قلت: إنت عايز تبيع العمارات، صحيح؟
فأجاب على طريقته: منهم لله عايز أبيعهم كلك على بعضك بيعة وشروة بالوقة، وأنا أصلي …
قلت: تبيعهم للعسكري ده؟
فاستمر: وأنا أصلي أبيع …
- تبيعهم لأخوك أحسن؟
- وأنا أصلي أبيع …
- ولا تبيعهم ليَّا وتكرمني؟
- وأنا أصلي أبيع …
- أقول لك يا شيخ … بيعهم للإنجليز واخلص.
- وأنا أصلي أبيع، لا الإنجليز، لا إنجليز، ما إنجليز من رابع المستحيل.
وفوجئت برفضه، فسألته وأنا أستغرب: ليه اشمعنى الإنجليز لأ؟
وعاد الشريط يدور: لأ لأ كده الله الله الله ع الجد أبيع لربنا حتى والكمبيالات جاهزة، والمستندات تحت الطلب، واللي ما يشتري يتفرج، والإنجليز لأ.