التمرين الأول
كان عجيبًا هذا الإحساس المُفاجئ الذي أصاب طلبة «ثالثة رابع»، وجعلهم يستمرون في أداء التمرينات الرياضية بعد انتهاء الحصة، وأيضًا أثناء الفسحة التي بين الحصتين، ثم يأخذون خمس دقائق أخرى من الحصة التالية.
كان هذا عجيبًا؛ إذ طوال أيام الدراسة كانت أمنية كل منهم أن يصحو من نومه، فيجد المدرسة قد نسفها طوربيد أو ابتلعها بركان.
كانوا، كغيرهم من الطلبة، يكرهون المدرسة كرهًا لا يعرفون له سببًا، ويبدأ ذلك الكره مع بدء كل يوم، بل قبل أن يبدأ اليوم؛ فالطالب لا يستيقظ من نومه إلا مقروصًا أو معضوضًا أو مطروحًا أرضًا، ثم يُدفَع إلى المدرسة دفعًا، ودائمًا في وداعه شيء؛ دعوة عليه، شتمة، أو فردة شبشب. وينسل إلى الشارع، ويظل يجري ويجري مُلتصقًا بعامود ترام أو مُهرولًا فوق رصيف، والشتاء بارد والصبح أبرد؛ أبرد من الحصص الإضافية، والرعب يملأ قلبه مخافة أن يصل متأخرًا ويجد باب المدرسة مغلقًا، ويضيع اليوم، ويقيَّد غائبًا ويروح في داهية.
وما يكاد يصل إلى المدرسة ويجدها قد امتلأت بالأشباح المقرورة من أمثاله التي تبحث عن الشمس؛ فالشمس ليست مثلهم تلميذة في مدرسة. إنها لا تصحو ولا تُضيء صباح الشتاء إلا في العاشرة أو ما بعدها. ما يكاد يصل وما تكاد المدرسة تفتح ذراعيها، وتضم تلك المجموعة الضخمة من الفتيان، وما تكاد جدرانها تهب من رفادها الطويل الوحيد، وتشارك الطلبة مرحهم، وتردد لهم أصوات زعيقهم وضحكاتهم، ويتلمظ حصى الفناء منتشيًا وهو يستقبل الأقدام الصغيرة الشابة ويلثمها وقد طال شوقه إليها. وما تكاد الأشجار تُهفهف بأوراقها وتُشقشق سعيدةً بجري الطلبة حولها وجذب شعورها وأغصانها، ولا تتألم حتى حين يحفرون أسماءهم عليها، ما يكاد الطلبة يُحسون أنهم كائنات حية لها أماني ورغبات وأحلام وأحاديث، ما يكاد هذا يحدث حتى يدق الجرس؛ تتم. تتم. تتم.
وفي الحال تهمد الحركة وتخرس الألسنة وتتجمد الرغبات؛ إذ ما يكاد الجرس يدقُّ حتى يغلق الباب؛ باب لا بد ضخم متين كأبواب السجون. وما يكاد الباب يُغلَق حتى يفطن الطلبة إلى وجود السور؛ سور لا بد عالٍ هو الآخر، ومزوَّد بالأسلاك الشائكة إن أمكن.
ومع دقةٍ أخرى من الجرس يزحفون صوب مكان الطابور مُطأطئي الرءوس، وقد تضاءلت أمانيهم وانكمشت، وأصبح الواحد منهم مجرد تختة أو دواية أو قلم بسط رخيص عليه أن يكتب ويكتب ولا ينقصف سنه أبدًا.
تلك التمتمات الثلاث تعني أن اليوم الدراسي قد ابتدأ، وويلهم من اليوم الدراسي حين يبتدئ! حتى الجرس الذي يبدأ به اليوم جرسٌ كالحٌ قديم عليه صدأٌ أزرق، وله بلبلةٌ أضخم من حجمه واقفة في وسطه كما تقف اللقمة في الزور، حتى صوت الدقات يخرج وفيه من الأنين أضعاف ما فيه من رنين، أنين يعلوه الصدأ هو الآخر؛ صدأ أزرق كالح كئيب.
حتى الفرَّاش الذي يدق الجرس لا بد أن يكون عجوزًا خطير الملامح، ولا بد أن يكون له شارب كث يُخيف، ولا بد أنه يُحس أنه نابليون زمانه أو إسرافيل عصره وأوانه، ولا بد له ساعة أخطر من أية ساعة في الدنيا هي التي تحرك عقاربها المدرسة كلها؛ ولهذا لا بد لها من مخلاةٍ سوداء صغيرة يضعها فيها مبالغةً في الحرص عليها، ولا بد أن تجده واقفًا تحت الجرس ينتظر ممسكًا بالساعة محدقًا فيها، حريصًا عليها في يده كل الحرص، وكأنها قنبلةٌ زمنية إذا حرَّكها ستنفجر. وقبل أن يحين الحين يقبض على سلسلة الجرس؛ سلسلة لا بد قديمة أو موصولة بدوبارة، ثم تأتي اللحظة فيجذب السلسلة، يجذبها بتؤدة وتقل وكأنه يفرغ الحكمة العليا في تمتماته الثلاث.
وأول ما يُسمَع بعد الجرس من الأصوات هو: اخرس. بطَّل كلام.
وبهذا الأمر تُقطَع كل صلة للطلبة بأنفسهم ويخرسون، ويبدأ المدرِّسون الذين يفتِّشون على الطابور في الكلام، ويخرج كلامهم طازجًا على الصبح ومُنتقًى بعناية، بحيث لا تندسُّ بينه أبدًا كلمةٌ حلوة، يفرغون فيه كل ضيقهم باليوم الذي أصبحوا فيه مدرسين، وبالمهنة الصعبة التي اختاروها لأكل العيش، وينتقمون من مشاكل الكادر والأمس وشتائم الحماة ومرض الطفل وارتفاع أسعار الصوف.
ثم يظهر الناظر.
يُطل على الطابور الصامت بوجهٍ لا صباح فيه ولا خير، يحدِّق في الطلبة فيموت الطلبة، وفي المدرسين فينكمش المدرسون، وفي الصمت فيقشعرُّ الصمت.
ولا بد أن تكون لدى الناظر مفاجأة لا بد لها من مقدمة شتائم طويلة، ثم حديث عن النظام مثلًا، وكيف أنك لكي تدخل الجنة، إذا أردت دخول الجنة، فعليك أن تبدأ السير في الطابور بالساق اليمنى، وأن تسير اثنين اثنين، وكيف أنه لكي تحل مسألة الجبر لا بد أن ترتِّب ملابسك بنفسك في دولابك الخاص، وكأن لدى كل طالب ملابسه الخاصة، بل دولابه الخاص.
أو يتحدث عن الطالب الذي ضُبط وهو يسرق البيض من المطعم، وأحيانًا لا يكتفي بالحديث، فيُخرج الطالب نفسه ليُريه للجميع، ويجعل منه أمثولة وعبرة.
أو ينبِّه تنبيهًا صارمًا قاطعًا أن كل من لم يدفع المصاريف عليه بمغادرة الطابور؛ ومن ثَم المدرسة كلها في الحال.
ووجهه طوال حديث الصباح جامدٌ عابس. والطلبة واقفون الدقائق الطوال كالخشب الخائفة المسندة لا يعرفون سببًا لذلك الرعب المُفاجئ، ولا سرًّا للعبوس الشديد في وجه الناظر، هل مات له قريب؟ غير معقول هذا؛ فهو كل يوم عابس، وليس معقولًا أن يموت له كل يوم قريب، عسى أن يموت له كل يوم قريب!
ثم يدور الطابور إلى اليمين أخيرًا وإلى اليسار، وكلٌّ يبتلع ريقه ويتحسس رقبته ويتنفس الصعداء؛ فقد نفذ هذه المرة ولم يكن الطالب الذي سرق البيض، ولم يُخطئ ويبدأ المشي بالساق اليسرى، ولكن تراه كيف ينفذ في المرات القادمة؟
ومن خلال ممرات كئيبة طويلة متشابهة يدلفون إلى الفصول؛ فصول مكرَّرة حيطانها طويلة هيفاء عالية، ولونها تصرُّ الوزارة على اختياره حشمة لينظر الناظر إليه ويرسي في قلبه الوقار.
وما تكاد الحياة تدبُّ في الفصل، وتتحرك التخت والمقاعد، ويذهب عنها الروماتيزم الذي يُصيب مفاصلها كل ليل، حتى يُقبِل المدرس فجأةً، لا بد أن يُقبِل المدرس فجأةً — وكأنه ضابط مباحث في طريقه إلى ضبط واقعة — لعله يسعد ويحس بالسلطة حين يُحدِث ظهوره المُفاجئ سكوتًا مُفاجئًا، يُقبِل ولا ينفرج وجهه مخافة أن تضيع الهيبة.
- قيام!
وإذا بالفصل كله يتلكأ ويقوم، ولا يدري لماذا يقوم.
ويحدِّق المدرس طويلًا في تلاميذه وكأنهم يحرزون مواد ممنوعة وهو يفتشهم بعينيه تفتيشًا دقيقًا. فإذا عثر على الهفوة كان بها، وإلا فإنه يقول: جلوس!
يقولها قرفانًا وكأنه يمنُّ عليهم بفضلٍ من عنده.
وتتوالى الحصص ويتوالى المدرسون، وكلٌّ منهم كالجهاز المعبَّأ الذي يُفرغ شحنته بمقدار؛ إذ هو الآخر ليس أكثر من موظف حكومة له عمل يؤديه ثم يمضي. وكل ما يسمعه الطلبة أوامر تترى، وأشياء غريبة تخرق أسماعهم، وتتفجر كالصواريخ في عقولهم. سمَّع يا ولد ما قاله الكميت في وصف ناقته. اذكر ثلاثين شرطًا من شروط الصلح في معاهدة واق الواق، وإذا نسيت شرطًا فبعصاية، ما اسم البلاد التي تزرع الشوفان (والمدرس نفسه لا يعرف ما هو الشوفان)؟ تخيَّلْ أنك على خط عرض ٢٣، وتريد أن تسافر إلى خط طول ٨٥ بطريق البر، فأي الطرق تسلك؟ أعرب «أبيت اللعن»، ما هي حالة الطوارئ التي يصح فيها رفع المستثنى بإلا؟ تكلَّمْ على لسان طائرة تريد أن تُفاخر السيارة وتتيه عليها، فماذا تقول؟
ومع توالي الحصص وتنوُّع الدروس تتنوَّع الشتائم، وتتنوع كذلك لغتها؛ فهناك شتائم فرنسية رقيقة، وشتائم نحوية فصحى، وشتائم كيميائية مركبة ومخلوطة، وأقل ما فيها: نزل إيدك يا ولد، وشك في الحيط يا أحمق، اطلع بره يا صعلوك، التفت يا لوح، حل المسألة يا أغبى خلق الله. وأحيانًا يفيض الكيل ولا يعود ثَمة بدٌّ من المواجهة السافرة، فتنطلق الكلمات: ما تنحرق إنت وهوه. اتنيل يا شيخ. اتلهي. إنتم تنفعوا إنتم؟ إنتم بلاوي. إنتم رمم. إنتم جايين هنا ليه. إنتم ما لكم ومال المدارس؟ روحوا لموا سبارس.
حتى الكراريس، كانت هي الأخرى تُشاطر الناظر والمدرسين وجلدتها مملوءة بالأوامر والنواهي. لا تبلع الطعام. لا تمضغ. لا تستنشق الهواء. لا تمشِ. لا تجلس. لا تتحدث. عليك بالحلم. عليك بالطاعة. عليك بإمساك نفسك ساعة الغضب.
ورغم هذا النظام الصارم، ورغم أن المدرسة كانت على حد قول الناظر تمشي كالساعة، ونسبة الحضور أعلى النسب، وأحذية الطلبة كلها تلمع، والحوش الواسع خالٍ تمامًا من الأوراق.
ورغم أن الأولاد — على حد قول أولياء الأمور — كانوا لا يلعبون، ويذاكرون؛ إذ هم واقفون لهم بالمرصاد. ما تكاد المدرسة تتركهم حتى يتسلمهم الأولياء، والويل للتلميذ إذا تأخَّر بره، أو لم يقضِ الساعات منكبًّا على كتبه يتلو ويذاكر. رغم هذا إلا أن الطلبة كانوا لا ينجحون، ويفشلون بالمئات والعشرات، ويُقابلون الدراسة باستهتار، وينامون في الحصص، وإن واتاهم الأرق أقاموا حفلات ترفيه، وتبادلوا القرصات والزغدات والضرب على القفا، وكتابة الخطابات المملوءة بالشتائم، وتكوين العصابات، وشرب السجائر، وسب المدرسين، ومزاولة العادات في السر والعلن.
وكان الطلبة أيضًا ورغم كل شيء يتساءلون هم الآخرون: لماذا يرسبون؟ ولماذا يكرهون المدرسة؟ ولماذا يُعاكسون المدرسين؟ ولماذا يقضون أتعس الأوقات مع أنهم يسمعون الناس تقول إن أحلى أيام العمر هي الدراسة؟
كان الناظر والمدرسون يُحاولون تفسير الأمر، ويقولون إنهم طلبة هذه الأيام ومساخرهم وتفاهتهم.
وكان أولياء الأمور يقولون: هي حكمة الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب. وكان الطلبة يقولون: بل هو الحظ، بضربة حظ تنجح، وبضربةٍ أخرى تفشل، يا ربِّ كثير من الحظ يا رب، كثر من الحظ.
وذات يوم أُتيحَ لطلبة ثالثة رابع أن يمرُّوا بتجربة.
كان مدرس الرياضة البدنية عملاقًا ضخمًا رهيبًا، كتفه تهدُّ الجبل وزنده في حجم الفخذ، وقبضته تُحيل الرءوس إلى جماجم، ولم يكن في حصته مكان للترفيه أو العبث؛ فقد كان طلبة ثالثة رابع كغيرهم من الفصول يخافونه، ويخافون إذا عنَّ لواحدٍ منهم أن يعبث في حصته ألا يرسله كالعادة إلى المُشرف أو يُخرجه من الفصل مثلًا، وإنما يتولى العقاب بنفسه، وقد يتولاه بقبضته، والكف عن العبث بالتأكيد أسلم نتيجة من عقابٍ يتولاه مدرس الألعاب بقبضته.
كان يأتي، وقبل أن يدخل الفصل يكون الفصل واقفًا كله، وبإشارة منه يخرج الطلبة عن الأدراج، وبإشارةٍ أخرى يصطفون ويهبطون السلالم دون أن ينبس أحدٌ ببنت شفة، وفي سكونٍ تام يخلعون الجاكتات، ثم يتسلمهم العملاق بتمريناته؛ ثني مد، رفع، ضم، افتح صدرك، شد وسطك، اخبط الأرض بدماغك، وشك فدق، عايز الجزمة تطلع شرار.
وهكذا إلى نهاية الحصة، حتى تتدلى الألسنة من الأفواه وتتجمع الرغاوي، وتتشقق الحلوق وتتقطع الأنفاس، ولا يجرؤ واحد أن يقول آه أو لا.
عقلٌ سليم جسمٌ سليم، هكذا كان يقول. رياضة يعني رياضة. عايزين رجالة مش حريم. دلع مش عايز دلع. كلمة واحدة أقطم رقبتك. بص قدامك. لم نفسك. تخشب. التمرين الأول ابتدي.
وكان الطلبة حين تنتهي الحصة يقضون بقية اليوم في ترميم أنفسهم والتماس النقاهة، ويقضون بقية الأسبوع في تمنٍّ أن ينسف الطوربيد مدرستهم على الأقل قبل حلول حصة الألعاب التالية.
وفُوجئ الطلبة ذات يوم بخبر نقل مدرس الألعاب ومجيء مدرس جديد. ولم يتحمس الطلبة للخبر؛ فكل المدرسين كانوا لديهم سواء. كلهم رجال كبار حكماء معصومون من الخطأ وأذكياء جدًّا، ومتعلمون بغزارة، وبعيدون عنهم تمامًا هم الصغار الحمقى الجهلاء الذين تكمن فيهم كل العيوب، والذين لا يفعلون سوى ارتكاب الأخطاء تلو الأخطاء.
وجاءت حصة الرياضة البدنية.
ودخل الحصةَ شابٌّ لا لحية له ولا شارب، ولا يرتدي رباط عنق، وإنما وضع ياقة القميص فوق الجاكتة وفتح صدره. وعادة المدرسين أن تكون الياقة منطبقة على العنق وعلى رباط العنق تمام الانطباق.
وغادروا الفصل، وهبطوا السلالم، وخلعوا الجاكتات، ووقفوا كما كانوا يقفون، وراحوا يؤدون التمرين الأول كما كانوا يؤدونه أيام المدرس السابق.
غير أنه لم تكد تمضي دقيقةٌ واحدة حتى طلب منهم المدرس أن يتوقفوا. وفعلوا هذا مستغربين، وقال المدرس: اسمعوا يا جماعة، أنا أحب الصراحة وانتم واضح من حركاتكم إن ما عندكوش أي حماس للعب. فبصراحة مين فيكم يحب يلعب؟ اللي عايز يلعب يرفع إيده.
لم يكن المدرس نفسه يعلم ماذا دعاه لإلقاء هذا السؤال، لعله خاطر عنَّ له، لعله لم يقصد.
ورفع الطلبة كلهم أيديهم مخافة أن تكون خدعة مقصودًا بها كشف الذين لا يريدون؛ فمدرس الفرنساوي عوَّدهم أن يبتسم للواحد منهم ويُعطيه الزيرو.
وفوجئوا بالمدرس ينقبض وجهه ويقول: أنا لا أحب الكذب أبدًا، وغير معقول أن كلكم عايزين تلعبوا. أنا أحب العلاقة بيننا يكون أساسها الصدق. اللي عايز يلعب من فضلكم يرفع إيده.
بدا الأمر جدًّا لا هزل فيه، إن المدرس يريد حقيقةً أن يعرف رأيهم، وكان هذا غريبًا؛ فهم لم يعتادوا أبدًا أن يؤخذ رأيهم في شيء. إنهم منذ وُلدوا وثَمة قوًى تدفعهم دفعًا لا يعرفون إلى أين، ولا يسألهم أحد ماذا يحبون أو ماذا يكرهون. كل الناس تقول: هذا لمصلحتهم، ولا أحد يخطر له أن يسألهم عن رأيهم في مصلحتهم.
ونظر الطلبة بعضهم إلى بعض، وتولَّاهم شيءٌ غير قليل من الاستهتار، ماذا يحدث؟ لقد سألهم رأيهم، فلماذا لا يقولون الحقيقة؟
وأنزل الطلبة كلهم أيديهم، كلهم ما عدا واحدًا أو اثنين من هؤلاء الطلبة، الذين يقضون العمر خائفين من العقاب ومن احتمالاته، ولكنهم وجدوا الكل لا يريدون، أنزلوا أيديهم هم الآخرون خوفًا من العقاب الطلبة لهم هذه المرة.
وعادت الابتسامة إلى وجه المدرس وقال: برافو! أهو كده، أنا أحب الصراحة.
برافو! لا بد أن ذلك المدرس مجنون أو به هفة. قال الطلبة هذا لأنفسهم وهم يُحسون بفرحةٍ غامرة وعيونهم تكاد تدمع. والحقيقة أن فرحتهم كان لها سببٌ آخر، كانوا وهم يتبادلون النظرات وينزلون أيديهم يرتعشون من الخوف؛ فقد كان كلٌّ منهم يعبِّر عن رغبته، وكان يُحس أنه يرتكب إثمًا عظيمًا، فإذا بالمسألة لا جريمة فيها، وإذا بالارتباك يزول، وإذا بالفرح يعصف بهم؛ فقد استطاعوا آخر الأمر أن يقولوا شيئًا، يقولوا لا ولا يُشنَقون، فلا بد أن المدرس مجنون ولا بد أن به لوثة.
وسكت المدرس قليلًا، ثم عاد يقول: غريبة! إجماع رهيب على كره الرياضة. ليه؟ أمال بقية العلوم بتكرهوها ازاي؟
وتطوَّع أكثر من طالب بالإجابة والتفسير. وكانوا يتحدثون بنبراتٍ لا اضطراب فيها ولا وجل. كانت ثَمة ثقة قد ملأت صدورهم، وأحسُّوا ربما لأول مرة أنهم آدميون لهم الحق في الكلام.
واندفع ثلاثة طلبة أو أربعة يطلبون اللعب، كان ما يدفعهم في الحقيقة هو حماسهم للمدرس الشاب ذي الابتسامة، وليس رغبةً في مزاولة اللعب.
وقال المدرس لبقية الطلبة وهو يضحك: افرنقعوا.
وهلَّل الطلبة وكأنهم أُفرجَ عنهم بعد طول سجن. ودون وعي راحوا يضحكون ويتعانقون ويتضاربون، وانسحبت أقليةٌ ضئيلة إلى المظلة، ورقدت على الدكك قائلةً: وآدي نومة!
وجرى طالب وراء آخر وشنكله.
ووقفت الأغلبية وقد ارتدت ستراتها تتبادل اللكمات الخفيفة، وتتفرج على المدرس وهو يؤدي التمرين الأول مع المجموعة الصغيرة التي أرادت اللعب.
وقفوا يتفرجون بكل استهتار، يضحكون على المدرس وعلى الأخطاء التي يقع فيها زملاؤهم ويُدردشون.
كانوا يُحسون بانتعاش وكأنهم يشمون أيدروكسيد أمونيوم حديث التحضير، أن يُحس الإنسان أنه ليس مُرغَمًا، أن يكون في وسعه ألا يفعل، أن يصبح في استطاعته أن يختار؛ أشياء ما كانت تخطر لهم على بال.
وحين كانوا يصعدون السلالم بعد انتهاء الحصة، كانوا لا يزالون غير مُصدقين أن ما حدث كان حقيقة، وأنهم استطاعوا ولو لمرةٍ واحدة في العمر أن يُنقذوا من حصة الألعاب.
ومضى اليوم ولا حديث لهم إلا عن المدرس الظريف الشاب، الذي أصابته لوثة أنقذتهم من الرياضة والأشغال الشاقة.
وطوال الأسبوع ظل كلٌّ منهم في شغف حلول حصة الألعاب التالية ليُعفى من الألعاب.
وجاءت الحصة، وجاء المدرس حليقًا مُبتسمًا، وياقته مفتوحة أيضًا. وقبل بدء التمرين الأول أكثر من ابتساماته، وقال: هيه يا جماعة، اللي عاوز يلعب يرفع صباعه.
ورفعت أقليةٌ ضئيلة أصابعها، بينما وقفت الأغلبية في أماكنها لا ترفع أيديها ولا تتحرك، وكلٌّ منهم يريد أن يعرف ما سوف يفعله الآخرون.
ولما طال الوقوف قال طالب لآخر، وهو يدفع عنه يده التي قد امتدَّت تهوشه: أنا ح العب يا عم.
وسرت همهمة. تعالت، ثم تبلورت في رأي: وإيه يعني؟ نلعب، وإذا ما عجبناش نبطل لعب. هو مش قال كده؟
وهكذا ارتفعت أصابع الأغلبية.
وما كادت تمضي دقيقة حتى تثاءب واحد وقال: أنا تعبت، كفاية بأه.
وانسحب، ولكنه لم يذهب بعيدًا، بل وقف يتفرج، وحين وجد أن أحدًا لم يتبعه تردَّد برهةً، وتثاءب مرةً أخرى ثم عاد إلى مكانه.
ولم ينسحب بعده أحد، بل كلما أحس أحدهم أن في استطاعته أن يتوقف إذا أراد، كلما أحسَّ بهذا ازداد حماسةً وشعر بطاقاتٍ هائلة تنفجر من جسده.
وبلغ التنافس أشده.
وتعالت أصواتٌ تهيب بالمدرس أن ينتقل إلى تمرينٍ أعنف.
وانتهت الحصة، ودق الجرس والحماس لا يفتر.
وتأخَّرت ثالثة رابع عشر دقائق في الحوش بعد الحصة.
ووقف الناظر في ذلك اليوم يلعن ويُزمجر ويُوبخ، ويتساءل مغيظًا عن سر ذلك الحماس المُفاجئ للرياضة البدنية.