داووود
لم يُناقش أحدٌ الفتوى التي تطوَّعت بها «الداية»، وكيف يُناقشها أحد؟ العائلة كلها تلهَّفت شهورًا واستعدَّت للحدث الضخم أيما استعداد. الأب ما كاد يرى المولود الجديد، حتى أحس وكأن قلبه قد اختفى — برضاه — من صدره، وأصبح له صراخ وأنين، وانتفض حياة جديدة لفَّتها الداية في اللفائف، وكان ابنه الأول. والأم، أم الولد ظلَّت تئنُّ وتتلوى وهي حامل، وتلعن الحمل و«سنينه»، وتصرخ صراخ المستغيث من الحمل بالميلاد ساعة الميلاد، ولكن ما كادت تنفصل عنها «حتة اللحمة»، وتراها في لونها الأبيض المشرب بحمرة، وتكشف لها الداية عورتها، فتبلغ قمة السعادة بالولد، ثم يصرخ هذا الولد ويستغيث، وتُعطيه ثديها، وتُحس بنغمشة حبيبة تسري في جسدها، والولد النونو العفريت يطبق بشفتيه الصغيرتين اللذيذتين على لحمها، ويمتص منها اللبن في مهارة ودهاء، وكأنه تعلَّم الرضاعة خفيةً وهو لا يزال في بطنها. ما كاد هذا كله يحدث حتى انقلب الصراخ والألم إلى محبةٍ دافقةٍ مُفاجئة تغمر كيانها كلما مص الولد ثديها، أو أخذته في حضنها، أو رفض اللفائف بساقه الملظلظة القصيرة التي لا تكاد تتعدى إصبع اليد.
أجل، كيف يجرؤ أحد على مناقشة الداية في فتواها، وقد دخلت تصيح على الأم بعد أن مضى على ولادتها يوم. وما كادت تجلس وتُخرج علبة السجائر، وتُشعل سيجارة، وتأخذ نفسًا، وتبتلعه وتنفثه، حتى قالت: بس أنا خايفة عليكي يا أم سمير (إذ كانت قطعة اللحم قد تحوَّلت في يوم وليلة إلى سمير).
وأحسَّت الأم بنغمشة حبيبة من نوعٍ آخر تسري في نفسها، نغمشة فرح وإحساس بالمسئولية، تمامًا كتلك التي أحسَّتها يوم أن اكتشفت لأول مرة وهي لا تزال بنتًا أنها أصبحت أنثى؛ ولهذا قالت في صوتٍ واهنٍ لم يكفِها وهنه، ولكنها أضافت إليه وهنًا آخر دائمًا تتصنعه الوالدات: كفى الله الشر يا أختي، ليه؟
فأجابت الداية وهي تنفخ نفس الدخان في ولعة السيجارة، فتحمرُّ الولعة كما يفعل عُتاة المدخنين الرجال: بقى تبقي اسم النبي حارسك والدة، وتخلي القطة قاعدة معاكي في بيت؟ إنتِ مش عارفة ادلعدي يا اختي إنها ولدت هيه رخره؟
- ولدت؟!
- أي والنبي يا أختي، لقيتها راقدة، اسم النبي اسم النبي حارسك في وش العدو.
- والنبي آدي حد علمي.
وأنا يا ختي داخلة من الباب، وألقاها راقدة رقدة الندامة في سبت الغسيل بتاعكو، لأ يا ختي، لازم تشوفولكم طريقة. إنتِ عايزة ولادها البعيدة، البعيدة عن البيت وصحابه، تكبسك؟
- يا نهار اسود! طيب ادلعدي يا ختي يا تفسريش.
- دي مجربة من أيام حوا وآدم يا أم سمير (وكأنها بسلامتها هي التي أشرفت على وضع أمنا حواء). الله يعافيها بالعافية بقى بنت أخت ألفت هانم عملتها، وبعيد بعيد عن البيت وصحابه جرالها اللي ما يجرى لعدو ولا لحبيب.
تم هذا الحديث في الصباح، وفي الظهر جاء الأب من الخارج، وقد قام بكل الإجراءات الواجبة التي يتخذها الوالد في أمثال هذه الحالات، فاقترض مبلغًا محترمًا فك به ضائقته باسم الكارثة التي حدثت، وقام بإبلاغ الخبر إلى كل الأهل والأصدقاء. وكاد يوقف الناس في الشارع ويخبرهم أنه رُزق والحمد لله بمولودٍ ذكر، وكذلك حصل على إجازة من عمله استطاع بها أن يُنهي بعض المشاغل التي تراكمت عليه، وما كاد يضع قدمه في الحجرة حتى فوجئ بيا سيدي أولاد القطة لا يمكن تقعد في البيت، لماذا يا ستي؟ الداية قالت كيت وكيت. يا ستي كله تخريف في تخريف. أنا مالي! لا بد من إبعاد أولاد القطة حالًا. يا ستي ماليش دعوة، أنا كوم وهم كوم يا انا يا هم. حاضر يا ستي أمري إلى الله.
وقبل أن يختفي الأب لتنفيذ المهمة عنَّ له أن يحيِّي القادم الجديد، فاقترب منه وأخذ يُزغزغه بإصبعه الكبير الخشن، ويقول وهو يلعِّب حواجبه ويقوم بأنفه وفمه وعينيه بحركاتٍ بهلوانية: سما الله عليكي، سما الله عليكي. زقزق زقزق. سما الله عليها. توتو توتو توتو. عوعو عوعو.
وكانت الأم تُراقبه في ضيق وكأنه ينتزع منها شيئًا يخصُّها، ولكن ماذا تقول؟ هو الأب على كل حال. ولكنها حين وجدت أن ابنها بدلًا من أن يضحك أو يبتسم فتح فمه الصغير وضم ساعديه، وانبعث منه صراخ لا ينبعث عن بالغين، دفعت يد الأب في عنف، وضمت الولد إليها، وأخرجت «حلمتها» بحركةٍ تلقائية، وفرضتها على فم الصغير فرضًا، وهي تقول: امشي يا بعبع، تعالى يا حبيبي، تعالى يا ضنايا، تعالى يا حتة من كبدة قلب أمك يا خويا.
ولدهشة الأب سكت الولد قليل الأدب، بل اندفع يتلوى جذلًا كالدودة الصغيرة، وهو يمص الثدي بصوتٍ مسموع.
وخرج الأب من الحجرة كالبعبع المكسور الخاطر.
•••
وبحث عن القطة كثيرًا؛ إذ لم يكن يدري أين سبت الغسيل، بل هو بصراحة لم يكن يدري في أعقاب ذلك الميلاد وجهه من قفاه. وكان لا يمكن أن يجدها لولا المواء الخافت الذي جاء فدلَّه على السبت والقطة. ووجد الماكرة راقدة في تلافيف المربس، ووقف يُراقبها من عل. كانت نائمة على جنبها، تكاد تبدو بلونها البني المطعم بالأسود كفستانٍ مكور من فساتين امرأته، وكانت تصنع برقدتها قوسًا يكسوه من الداخل شعر بطنها الأبيض النظيف، ويحفل التجويف الذي يصنعه القوس بثلاث قطط صغار. كانوا صغارًا جدًّا، حلوين وكأنهم لعب أطفال مصنوعة من قطط حية.
وكان من الممكن ألا يقف الأب هكذا طويلًا يُراقب القطة وأولادها، ولكنه لم يدرِ السر الذي جعله يقف جامدًا هكذا يُراقب هذه الكتلة الحية المكوَّمة في جانب من السبت. كان أولاد القطة يتناوبون الرضاعة ولا يكفُّون عن الحركة. ويدفع الواحد منهم الآخر برأسٍ مغمضٍ ليأخذ نوبتجيته على الثدي الصغير، حتى إذا ما اكتشف أن أخاه قد شطب عليه انتقل إلى ثدي آخر، وأعمل فيه فمه الأحمر الدقيق.
وكانت الأم مُتكئة على ما يُجاورها من ملابس تُراقب الأولاد بعيونٍ وَسْنانة نصف مفتوحة، وشواربها مهدلة على جانبَي فمها غبطةً، وكان يبدو أنها في قمة السعادة. وكانت أحيانًا تبقى على وضعها ذاك، وأحيانًا تنقل رأسها فقط دون جذعها وتدفنه بين أولادها، فيصبح وكأنه قطةٌ رابعة هو الآخر، وأحيانًا تلعقهم بلسانها النظيف، وأحيانًا تدفع الواحد منهم عن ثديها في رفق لتُعطي الفرصة لآخر.
كان الرجل واقفًا فوق رأسها في وضع لا تراه فيه، واقفًا وقد ذهب عنه التحفز الذي جاء به، وتراخت ذاكرته وذكرياته، وتعدَّدت ألوان القطة في عينيه وتاهت. لم تكن القطة هكذا يوم جاءت. كانت شاحبةً عجفاء يوم جاءت! لقد استيقظوا يومها فوجدوا في المطبخ كارثة. كانت امرأته قد أبقت حلة الطبيخ مكشوفة بعد أن غلتها حتى لا تحمض، وإذا بهم يُفاجَئون بحدثين خطيرين؛ اختفاء قطع اللحم التي كانت في الحلة كلها، ومُواء قطة في الشقة.
ويومها أمسكت امرأته فردة القبقاب وظلَّت مدةً طويلة تحكم النيشان، ثم قذفت بالفردة. ولولا أن القطة تحرَّكت في الوقت المناسب لكانت قد أصبحت في ذمة التاريخ، ذي الذمة الواسعة. وظلَّت بعد هذا تتحرك وتزوغ بطريقةٍ لولبية من كل الفِرد والمداسات وقِطع الأخشاب والزجاجات وأيدي المقشَّات، وأثبتت بهذا أن القطط ليس لها سبعة أرواح، وإنما لها روح واحدة طويلة مصنوعة من مطاط يلين، ولكنه لا ينقطع.
والمثل يقول: ما محبة إلا بعد عداوة. وهكذا وحين لم تُفلح الزوجة في إصابة القطة أو إجلائها عن الشقة التي وجدت فيها كل تلك الكمية من اللحم، سلَّمت أمرها لله، واتخذت الاحتياطات اللازمة لتأمين الطعام. ثم ما لبثت أن أدركت أن صراصير المنزل تتناقص باستمرار، وأن الفأر المرعب الذي كان يطلع ويُبصبص لها بذنَبه قد اختفى. وحينئذٍ أدركت أن لون القطة جميل وشعرها ناعم، وإذا شبعت أصبحت لطيفةً مؤدبة بنت حلال دمها زي الشربات. وحينئذٍ، وحينئذٍ فقط أنعمت عليها الزوجة باسمها، وصارت معها مثل اللبن على العسل. أنيسة عيب، أنيسة اطلعي برة، أنيسة عمى في عينيك، بل إنها أحيانًا كانت تشكو لها متاعبها وتأخذ رأيها في كثير من المشاكل. والحقيقة أن أنيسة أثبتت في كثيرٍ من الأحيان أن لها نظرًا بعيدًا، على الأقل أبعد من نظر الزوج.
والذي حدث أن أنيسة شحمت ولحمت وصارت حُلوة على مر الأيام، ولا بد أن جودة طعامهم كانت هي السبب، ومع مَقدم الدفء والربيع بدأت أنيسة تُكثر من حك نفسها في الزوج، وأحيانًا في الزوجة، وتكثر من الأزيز والسرحان، ثم جاء اليوم الذي بدأت فيه تموء مواءً غريبًا عجيبًا يكاد ينطق ويقول: داوود، داوود.
إن الرجل يذكر هذه الآونة تمامًا؛ فامرأته هي الأخرى لم يرَها أجمل ولا أروع مما رآها في تلك الأيام. كانت خدودها الشاحبة قد أصبح فيها خوخ وتفاح، وعيونها امتلأت بأشياء وأشياء، وهي كلها قد حدث فيها حادثٌ غيَّرها وحلَّاها، وجعل منها سنيورةً جديدة في نظره، ولكن العجيب أنه بالقدر الذي احلوت به ملامحها فسدت طباعها؛ المشاحنات أصبحت لا تنقطع، وثمةَ غيرةٌ جديدة طرأت عليها لم يكن يدري من أين جاءت، وكان يأتيها المرض الشهري قبل ذلك وهو لا يكاد يُحس به، فإذا به أصبح لا يجيئها إلا وهي راقدة تتلوَّى وتتأوَّه. فإذا أفاقت من المرض ظلَّت تذكره، وإذا غاب عنها ذِكره اختلقت شجارًا، وخاصمته وتبغددت وهي تُصالحه، وأكثرت من شروط الصلح، ثم حكاية وجع ظهرها الذي كان لا يُلازمها إلا في أوقاتٍ معينة، ولا يحلو لها الشكوى منه إلا في الليل، في عز الليل وهو نائم، تظل تشكو بصوتٍ مسموع، وتتباكى من الألم حتى يستيقظ، فإذا تناوَم جذبت من فوقه الغطاء لتسند به ظهرها الموجوع.
بالضبط إنه يذكر تلك الأيام التي بدأ فيها مواء القطة وعواؤها؛ إذ طالما صحا من نومه على داووود وهي تُجلجل في سكون الليل، وكانت امرأته تصحو هي الأخرى إذا لم تكن صاحية، ويتأملان النداء، ويلعنانه كثيرًا، ثم يُناقشانه في خجل، ويتفقان على أنها لَعوبٌ تجأر في طلب الذَّكر، ويدلفان أخيرًا إلى سجالٍ أكثر إمتاعًا يهيجه العواء الأنثوي الذي لا ينقطع.
وما أكثر ما جرَّه العواء من متاعب؛ إذ استجاب له لسوء الحظ أكثر من ذكر. وكانوا — لسوء الحظ أيضًا — كثيرًا ما يُقبِلون في وقتٍ واحد وتقوم المعارك؛ معارك حادَّة لا رحمة فيها ولا هوادة، كثيرًا ما أفسدت ضجَّتها النقاش الآخر الذي كان يدور بين الرجل وامرأته.
والأدهى من ذلك أن المعركة وصلت ذات يوم إلى الحجرة التي ينامان فيها، ووصلت في لحظةٍ حاسمة من لحظات النقاش. وكف الزوج عن الجدل في الحال، وراح يشخط ويهدر في القطة وصاحبيها. واكتفى بالشخط من بعيد لبعيد؛ فالقطَّان كانا غريبين لم يرَهما قبل ذلك، وفي عيونهما شرٌّ مُستطير، وكان الواحد منهما يزعق في الآخر فيُقابل الآخر زعيقه بزمجرة لا تقل عنها قسوةً؛ يعني حالة يُستحسن فيها الابتعاد قدر الطاقة عن أرض المعركة. وكانت أنيسة واقفةً ترقب العراك بعينين فيهما تهافت وحور. وكلما آذنت المعركة بالانتهاء ارتفع صوتها الأخنف: داووود، داوووود. وتستعر نيران المعركة من جديد. والغريب أنها كانت مثل المعارك التي تنشب بين المصريين. كل قط واقفٌ بعيدًا عن الآخر يُرعد فيه، ويلعن سنسفيل أجداده، ويحاول إخافته وإرساء الرعب في قلبه ليتراجع فيظفر هو دون إراقة قطرة دم، والطيب أحسن! ولكن حدث أن تطوَّر أحدهما على الآخر. وهذا الذي تطوَّر كان يبدو أصغر من الآخر سنًّا، فاقترب من العجوز وقذفه بصرخةٍ مُرعبة، ولم يتراجع العجوز، وكأنما أدرك بحكمته أن المسألة تهويش لا أكثر ولا أقل. وحينئذٍ فقد صغير السن والخبرة أعصابه، ورفع كفه الأمامية وأهوى بها على وجه غريمه هكذا بسرعةٍ مُتهورة غاضبة. وما كان من العجوز إلا أن كف عن الصراخ في الحال، وحدَّق في ضاربه بُرهةً، ثم ألقى عليه نظرة احتقار هائلة، واستدار في عظمة نمر وغادر الحجرة، وكاد يصفق الباب خلفه.
وتحرَّكت أنيسة، واقتربت من المنتصر، وحكَّت كتفها في كتفه قائلةً بصوتٍ خافتٍ آثم: داووود. وغمغم القط في وقار الفائز كأنما يقول لها: صبرك بالله يا وليَّة أما ألقط نفَسي.
وكان الزوج في وحدته البعيدة مع امرأته، كلما شهد معركة كتلك يحمد الله على أن امرأته إنسانة تزوَّجها بالحلال وعلى سنة الله ورسوله، وحجزها لنفسه بقسيمة، وليست قطة كان عليه الفوز بها أن يُصارع الذكور الآخرين، ويموت قلبه من الرعب في كل مرة، وقد تناله صفعات الجيل الجديد.
ومع كر الأيام جاء اليوم الذي عاد فيه السلام إلى البيت، فانقطعت أرجل الذكور، وانقطع مواء أنيسة، وانقطع الوجع الظهري والخلافات المزعومة، وكذلك انقطع المرض الشهري وحملت زوجته.
وابتسم الرجل والتاريخ يوقفه عند تلك الأيام، لعله اعتقد لحظتها أن أنيسة وداوودها كانا السبب في سمير، أو على الأقل عجَّلا بقدومه؛ فبعدما انتفخ بطن أنيسة، وبدأت زوجته تتوحم، وتطلب النادر، ثم وضعت أنيسة أربع قطط جميلة احتكرت امرأته تفريقها على أقاربها، ثم بدأت أنيسة تعوي مرةً أخرى، وانتفخ بطنها وها هي ذي تلد للمرة الثانية، وتجيء هذه المرة قبل ولادة سمير بأيام.
وفي النهاية كان لا بد أن يمدَّ يده ويتناول القطط الصغار وينفِّذ المهمة.
وحدث فعلًا أن مدها، ولكنه جذبها بسرعة وقد أصابته لسعةٌ طويلة حادَّة فوق ظهر يده تفجَّر على أثرها الدم. وبُهِت الرجل كمن طُعن. ونظر إلى أنيسة نظرة المروَّع المستنكر. كان هذا آخر ما يتوقعه منها بها أليفة أنيسة.
وما إن مرَّت الصدمة حتى امتلأ قلبه بغضبٍ جامع، وكأنما استنكر على القطة أن تخدعه بذلك الهدوء المزيف ثم تنشب أظافرها فيه. وأنشب عينيه فيها وكلهما غضب، وكان في عينيه خوفٌ أيضًا؛ فأنيسة كانت قد انتفضت واقفةً ووقفت كل شعرة في فروتها، وانتصبت شواربها المتهدلة، واكتسى وجهها تعبيرًا بشعًا مُخيفًا.
وليس هذا كل شيء؛ فأفظع ما في الأمر كانت عيونها، أجل عيونها؛ فقد خُيِّل إليه أن وجهها يحفل لا بزوج من العينين المتنمِّرتين الواسعتَي الحدقات، وإنما بعشرات من العيون كلها مفتوحة على آخرها، وكلها تبرق وتلمع وتتلمظ ولا تبشِّر بأي خير.
وأُسقطَ في يده.
كانت القطط الصغيرة قد اندسَّت بطريقةٍ ما تحت بطن أمها، وكفَّت عن الرضاعة، وانكمشت على نفسها وكأنها استشعرت الخطر. وكان الوصول إليه دون تلك الأم المُخيفة ذات الآلاف فن المخالب والعيون والأسنان.
ولم ينشب الرجل عينيه فيها طويلًا، لا عن فروغ بال، وإنما عن خوف. إن التحفز ولو كان من قطة يُخيف. خوف حقيقي أصابه من العينين. هاتان البليتان الصغيرتان الخضراوان كانتا قد التهبتا، وانطلقت منهما شعاعات لا تُرى، وإنما ترسل الرعدة في أشجع الرجال.
دلدل الرجل ناظرَيه ولم يملك إلا أن يبتسم؛ فقد واتَته — دون أن يدري — صورة أنيسة الحائرة على نفسها الطرية كالخِرقة المبتلَّة وهي تجأر في استغاثة خنفاء قائلة: داووود، داوووود. أجل شتَّان بينها ساعتذاك وبينها الآن!
واستأنف الهجوم، ولكنه ما لبث أن تراجع حالًا؛ إذ ما كادت تراه يقترب حتى قالت: نو! ولم تكُ ناوًا عادية أبدًا. خُيِّل إليه أن جسمها كله قد استحال إلى صفَّارة إنذار أطلقت ناوًا حادَّة راجفة حامية تقشعرُّ لهولها الأبدان. وفي نفس الوقت اندفع إلى وجهها سيالٌ لافح من الانفعالات أخرج حممًا من عينيها، وكهرب شواربها، وأبرز أسنانها فبدا فمها كفوهة حية ضخمة من نوع الكوبرا.
ودق قلب الرجل.
دق مراتٍ من الخوف.
ومراتٍ أخرى حين تذكَّر أن عليه ألا يخاف.
وجمد قلبه.
واشمعنى هوه يعني؟
إن له حنجرة هو الآخر.
وأطلق من حنجرته صوتًا عاليًا.
امشي!
وزأرت أنيسة.
واختلطت ناو ناو وامشي. هو يشخط وهي تزأر وكلاهما ثابت في مكانه لا يَرِيم.
وأعمل الرجل عقله.
وهكذا جاءت المقشة، ومدها على قدر ما استطاع ودفعها في وجه أنيسة. وتراجعت القطة إلى الوراء، وهي تزأر زئيرًا متصلًا ترتعش له طبلة أذن الأصم.
ولكنها لم تُغادر السبت أبدًا.
وكان لا بد مما ليس منه بد، ورفع الرجل المقشة وأهوى بها. وقفزت أنيسة جانبًا فلم تُصبها الضربة، ولكنها انقضَّت على رأس المقشة، وضبعت فيها بأظافرها. وما كاد يحاول إعادة الكرَّة حتى كانت أسبق منه، وحتى بادرته قافزةً ناحيته صارخةً صرخةً متوحشة لا تمتُّ أبدًا إلى أنيسة، ولا إلى القطط أجمعين.
وبلا وعيٍ قفز هو الآخر مُتراجعًا، قفز بشكلٍ لا يمتُّ إليه ولا إلى الجنس البشري كله؛ إذ في قفزتين اثنتين كان قد عبر الصالة، وفتح باب الحجرة التي ترقد فيها زوجته، واستقرَّ بجوار فراشها يلهث.
- خير كفى الله الشر؟
وكان لها كل الحق؛ فقميصه مفتوح، وعرقه يسيل، ونظراته زائغة، والشحوب قد غمر وجهه.
وحاول أن يرد، ولكنه كف عن المحاولة؛ إذ ماذا يقول؟
كل ما قاله كان: «ولا حاجة». قالها وهو يعود خارجًا باحتراسٍ شديد، ويتفقَّد الصالة ليطمئن، ويطمئن؛ فأنيسة كانت قد عادت إلى السبت، وأمسكت بواحدٍ من أولادها بين أنيابها.
آه! تريد بلا ريب أن تحمل أولادها وتُهاجر إلى مخبأٍ آخر، ولكن حيلك يا ست أنيسة.
كانت المقشَّة في مكانٍ بعيد عن خط النار، فتناولها من جديد، ولجأ إلى الحيلة، فرفعها وأهوى بها، وحين قفزت أنيسة بعيدًا عن السبت مد المقشة وظل يجذبه وهي واقفة في مكانها تصرخ، حتى أصبح في متناول يده. وحينئذٍ تناول القطط الثلاثة واحتواهم بين كفَّيه.
وكان يتوقع مثلًا أن تقفز عليه وتُشبعه خربشةً وعضًا، أو تنهش وجهه وتُدْمي عينيه، وكان قد جهَّز نفسه لكل ذلك.
ولكنها ظلَّت واقفةً في مكانها بنفس تحفزها تصرخ وتنكمش على نفسها وتنقبض، وتكاد لا تدري ماذا تفعل.
ووقف الرجل أيضًا لا يدري ماذا يفعل.
كان خائفًا أن يتحرك فتتحرك وتنقض.
وتحرَّك ببطءٍ أول الأمر.
ولم تُغادر أنيسة مكانها حتى حين وصل إلى الباب وخرج.
ماذا حدث؟
ألا تدري الغبية أنه قد أخذ أولادها؟
أم أنها خافت؟
أو هي تُدافع عنهم فقط إذا كانوا في حوزتها تحسهم بشعراتها، وتلمسهم بلسانها، حتى إذا ما صاروا في حوزة الغير أصبحت المسألة أعقد من أن تستطيع حلها؟
وهل هي تستطيع الدفاع فقط ولكنها لا تستطيع الأخذ عنوةً أو الاغتصاب؟
وهل الدفاع هو الغريزة الأصيلة، والاغتصاب هو التفكير الشاذ الذي يحتاج إلى تدبير وتفكير وغدر؟
قد تكون أسئلةٌ مثل تلك قد دارت في عقل الرجل وهو يُغادر البيت، وقد لا تكون قد خطرت له بالمرة. في تلك الأثناء كان يستمتع بلذة الانتصار فقط. وحين لاحت له مشكلة التخلص من القطط وهو سكران بخمرة النصر ومغرور، وجد حلها أمرًا سهلًا؛ فما عليه سوى إلقائهم في أية حارة.
وأسكت الانتصار غروره، وحين هدأ قليلًا، وأذهب عنه خمر الغرور بعض الجوع للثقة في نفسه، جاءته الإنسانية. وقرَّر أن يهبهم لبعض جيرانه. قد تكون حلولٌ مثل تلك قد دارت في عقل الرجل وهو يُغادر المنزل.
•••
- خلاص يا ستي ولا تحملي هم.
ولم يفُت الزوجة وهي تبتسم له شاكرةً أن تتأوه وتشكو من الألم والوهن.
ولم يفُته وهو يروي لها تفاصيل المعركة أن يُبالغ قليلًا أول الأمر، ولما لم يجد لدى الزوجة مانعًا ساق فيها وفتح باب المبالغة على مصراعَيه.
وظنَّا أن المتاعب قد انتهت عند هذا الحد.
ولكنهما قضيا أتعس ليلة.
جدران البيت ظلَّت تردِّد نداءً واحدًا لا ينقطع: ناو، ناو، ناو.
كان الصوت غاضبًا أول الأمر، قصيرًا رفيعًا كالسكين الحادة حين تقطع في الجسد.
وكلما امتدَّ الظلام والسكون كان الصوت هو الآخر يمتدُّ ويطول: ناو، ناو، ناو.
ولم يعد الرجل يحتمل. اقتحم الصالة خارجًا ورمى أنيسة التي كانت تروح وتجيء ولا تكفَّ عن النونوة لحظةً. رماها بفردة الحذاء، ولم تُحاول هي أن تتجنب القذيفة، فأصابتها وأوقعتها، وقامت واستأنفت غدوَّها ورواحها ولم تسكت، بل أضيفت إلى الناو نغمةٌ جعلتها تبدو أكثر حزنًا ووقعها يبدو أكثر مرارة، كما لو كانت السكين التي تقطع في الجسد قد تلمت حافَّتها، فأصبح صوتها بطيئًا قاسيًا له أزيز وأنين.
وبدأ الصوت يتغير ويتبدل، ويصيح آي. آي منفردة، وآي متصلة طويلة تكاد تنطق مخارجها وتتجسد حروفها. آهات حقيقية كأنها مُتصاعدة من صدر آدمي ممزَّق.
ولم يكن في استطاعة الرجل أن يفعل شيئًا. الحذاء ورماها به، وصوته قد بُحَّ من الكش فيها ومطاردتها. كان عليه فقط أن يستلقي على الكنبة، ويستمع إلى امتعاضات امرأته وتعليقاتها على نباح القطة.
وقالت له الزوجة بغتةً في الظلام: أبو سمير.
- ما لك؟!
- أنا خايفة.
- ليه يا ستي؟
- القطة دي بتبكي زي البني آدمين.
فقال ليُفحمها: شورتك.
فأجابت: أمال يعني عايز الولد يموت؟ عايزني أنكبس؟ آه يا ميلة بختي!
وانطلقت تئنُّ وتتوجع، ثم سكتت طويلًا حتى خُيِّل إليه أنها نامت، ولكنها قالت فجأةً: أبو سمير.
- ما لك؟
- تروح تجيب لها أولادها.
فأجاب الرجل في غيظ: إنتِ عايزة الولد يموت؟ ثم أجيبهم ازاي دلوقتي؟
وحل سكونٌ آخر ختمته الزوجة بمفاجأة؛ إذ راحت تُنهنه وتبكي. وأصبحت القطة تئنُّ في الخارج وتعوي، وهي تبكي وتستجيب وتعدِّد.
•••
وفي الصباح كان العواء قد خبا، ووجدوها ملفوفةً على نفسها في الصالة نائمةً على البلاط الرطب. وقدَّموا لها الطعام فلم تتحرك لها شعرة، واشتروا لها نصف رطل من اللبن لأول مرة فلم تُعِره أنيسة أي التفات. بقيت مُغلقةً عينيها لا ترى ولا تُحس، تزوم وتئزُّ وتحيا في سكوتٍ ذاهلٍ آخر.
ومضت أيام.
تحرَّكت أنيسة وطلبت الطعام بنفسها، وعادت تصطاد الصراصير وتغتالهم، ثم بدأت صداقةٌ غريبة بينها وبين الرضيع. لا يدري أحد كيف اكتشفته؛ فقط لاحظت الأم أنها تفضِّل النوم بجواره في الليل، فإذا أصبح الصباح داعبته. أحيانًا تضع بوزها فوق قدمه، وأحيانًا تفتح فمها وتكاد تقضم إصبعه الكبير (كده وكده)، ثم تقوِّس ظهرها، وتلعب ذيلها، وتحكُّ شعرها في وجهه. وكان الرضيع يصرخ أول الأمر ويستغيث، وكانت الأم تصرخ هي الأخرى مخافة أن يقتل هذا العبث (بطريقةٍ ما) ابنها، ولكن الرضيع وأمه أدركا أخيرًا أن الأمر لا يتعدى حدود المداعَبات البريئة.
ولم يستمر الوضع هكذا؛ فقد مرض الطفل، وحاولت الداية علاجه. والداية لا تكتفي بتوليد الأطفال، وإنما هي تُعالجهم بعد مولدهم وترعاهم، وتُطاهرهم حين يكبرون، ثم تخطب لهم وتزوِّجهم إذا شبُّوا، وأحيانًا هي التي «تلتمهم»، وتغلق عيونهم إذا واتاهم الأجل المحتوم. حاولت الداية علاجه، ولم ينفع علاجها، وزادت شدة المرض. وفي طابور الأمهات المنتظرات أمام شباك التذاكر في مستشفى «رعاية الطفل» مات الطفل.
وانقلبت الشقة إلى مأتم، وجاء المُعزُّون أقارب وأصدقاء وعمات وخالات وأشكالًا وألوانًا، ولبست الأم السواد وتعصَّبت بمنديل.
وجلس الأب بعد أن فرَّت من عينيه بعض الدموع، جلس في وقارٍ يتلقى التعازي ويحكي قصة المرض والوفاة ألف مرة، ويستمع إلى: الدنيا على دي الحال، وشد حيلك، وقالوا يا جحا عد موج البحر، قال الجيات أكثر من الرايحات، ويا أخي أنت شباب شم نفسك وهات لنا عشرة.
وخرب المرض بيت الرجل، وجاء المعزون فقضوا على ما تبقَّى فيه من بن وسكر وملاليم.
وبعد أن انصرف الجميع جاء الزوج ليرقد بجوار زوجته على السرير وقد انتهى عهد الكنبة، وبكت الزوجة وشهقت من أجل هذا المجيء. وحين جاءت أنيسة كالعادة تتلصَّص لترقد بجوار الطفل تشبَّثت بها الأم، وظلَّت تعوي وتبكي وتتساقط دموعها على أنيسة التي أخذت هي الأخرى تُنونو نونواتٍ خافتات.
وهدهد الزوج، وغالت الأم، ثم كفَّت. ودار حديث؛ الأم تقول إن ابنها مات من الكبسة؛ فقد مكث أولاد أنيسة يومًا بطوله بعد الميلاد تمَّت أثناءه عملية الكبس وطار الولد. والأب يقول أبدًا، السبب مستشفيات الحكومة والإهمال. لو كان عندنا فلوس كنا رحنا لحكيم متخصص في الأطفال، السبب الفقر، الله يلعن أبو الفقر.
وجادلت الزوجة وبكت، وحينئذٍ قال الزوج: قسمة ونصيب هو المكتوب، الأعمار بيد الله.
وغالت الأم وجادلت، فقال الأب وقد تروحن: هو الحي الباقي، هو المُعز المُذل القادر، الأطفال لهم الجنة، ونحن لنا الجحيم. أجسامنا قد صُنعت من المعاصي. لنا النار والعذاب ولهم الجنات والخلد. ليتنا متنا ونحن أطفال! ليتنا متنا وكنا ترابًا!
وفي الصباح كان الأب جوعان، ولو كان الود وده لأكل، ولكن الأم رفضت أن تلمس الطعام حين ألحَّ عليها، ولم يتناول هو الآخر الإفطار؛ إذ لا يصح أن يبدو أقل منها حزنًا.
وحين عاد في الظهر كانت تبكي، وفي العصر تثاءبت ونامت، وفي المغرب كان عندها صداع.
•••
ومرَّت أيام وأكلت الأم، ولكن الحياة لم تعُد كما كانت. ظل البيت يسوده الوجوم، وتهبُّ عليه نوبات نواح ذكرى الولد في الحديث العابر.
وكان الشتاء قد مضى، وبدأ الدفء يحل، وفُوجئ الأب ذات ليلة بصوت أنيسة يُلعلع في ظلام الشقة: داووود، داووود.
واستمر العواء أيامًا.
وبعد وفاة الولد كانت الأم تشكو من الصداع الذي ينتابها بين الحين والحين.
ثم بدأ الصداع يزحف إلى أسفل ويُصيب الرقبة وفقرات الصدر، وما كادت الزوجة تمد يدها ذات ليلة وتجذب الغطاء من فوقه لتسند به الظهر الذي بدأ الوجع ينتابه، حتى تنبَّه الرجل تمامًا وصحا ولم ينَم.
وهكذا لم تستمر مطالبات الزوجة بالفستان الحرير للصيف طويلًا، ولا المناكفات أو المهاترات؛ إذ سرعان ما جاء اليوم الذي عاد فيه الهدوء إلى البيت، فانقطعت أرجل الذكور، وانقطع عواء أنيسة، وانقطع الوجع الظهري والمطالبات التي لا تنتهي.
وكذلك انقطع المرض الشهري.