مدينة الأفكار وفريق البحث
التحوُّل من الكمِّ إلى الكيف.
***
كان مستشفًى كبير يبحث معنا عن أفكار حول الحصول على المتقدِّمين للوظائف المناسبين للعمل في قطاع الرعاية الصحية بشكل أيسر وأسرع. وفي منتصف الورشة، وبعد المرور بمرحلة توليد أفكار شديدة السرعة، قال عميلنا — وكان مدير شئون العاملين — في ذعر: «ولكن كيف سنجد الفكرة المناسبة من كل هذه الأفكار التي ولَّدناها؟ الأمر أشبه بالبحث عن إبرة في كومة من القش!»
لقد قابلنا هذا النوعَ من عدم الارتياح في مناسبات عديدة؛ فالعديدُ من عملائنا يخشون قليلًا كميةَ الأفكار الكبيرة التي نخرج بها من مرحلة توليد الأفكار. فبعد استخدام أدوات الفريق الإبداعي واستكشاف الاتجاهات واستكشاف الإنترنت، وكذلك مقابلات الأفكار ومقابلات الخبراء، يمكن أن يصل العدد إلى ١٠ آلاف فكرةٍ خام، يجب اختزالها إلى عدد قليل من الأفكار الجيدة في مرحلة التكثيف التالية. والناس عمومًا ليسوا معتادين على ذلك؛ إذ إن أغلب الناس يجدون أن التعامُلَ مع كمية قليلة من المعلومات بشكل وافٍ أكثرُ منطقيةً من التعامل السريع مع كمية كبيرة من المعلومات.
هذا التفكير الغريزي صحيح، فعقولنا ليست قادرة في الواقع على معالجة كميات ضخمة من البيانات بشكل مفيد، لكنْ لا أحد يطلب من شخص واحد أن يتدبَّر ١٠ آلاف فكرة غير مكتملة وحده؛ فهناك فريق مناسب، وإجراءات ودعم فني ملائمان لهذا الغرض. وفي هذا الموضع يتحقَّق نهج إنتاج الأفكار صناعيًّا على أوضح ما يكون؛ إذ يجري تكثيفُ الأفكار منهجيًّا باستخدام عملية مُحكمة. ستحدث عمليات التعامل المتعمق مع عدد قليل من الأفكار والتحليل الحريص، والتدبر والمناقشة كذلك، لكن ليس الآن!
في برين ستور، وبعد خبراتنا الأولية بمشروعات توليد الأفكار، سرعان ما توصَّلْنا إلى هذه النتيجة: أن من الأيسر والآمن والأنجح والأكثر فعاليةً أن نتيح كمية ضخمة من الأفكار الملهمة لفريق مناسب يتَّسم بالتنوع، وذلك مقارَنةً بجعل مجموعة قليلة من المُتخصِّصين ذوي الأجور العالية يعكفون على دراسة عدد محدود من المناهج المدروسة جيدًا، بعد أن نخبرهم أن عليهم «العثور على فكرة!» لأن هناك خطرًا يتمثَّل في عجزهم عن تطوير أي فكرة قابلة للاستخدام في غضون الوقت القصير المتاح.
إن كمية البيانات الضخمة تُعدُّ بمنزلة «مَعين عقلي» يستطيع الفريق أن يبحث داخله عن تلك الأفكار الأكثر ملاءَمةً للمشروع. ليست المهمة المطلوبة الآن هي «التحلي بالإبداع!» وإنما «فَرْز كل الأفكار الملهمة المتاحة؛ كل بذور الأفكار التي يمكن أن تخدم المشروع، ودمجها معًا على نحو مناسب»؛ ومن ثَمَّ فنحن مهتمون بالاختيار المناسب، وليس الفعل الإبداعي.
ذلك المعين العقلي مفيد أيضًا؛ لأن الأفكار الملهمة وشظايا الأفكار تأتي من عدد كبير من الأشخاص المختلفين داخل المجتمع الخَلَّاق؛ أشخاص لهم اهتمامات وخبرات متباينة، ويأتون من مناطق ومجموعات عمرية مختلفة. وبعد اجتياز مرحلة توليد أفكار جيدة، يمكننا افتراض أن لدينا بالفعل مزيجًا مثيرًا للاهتمام، نقطةَ بدء أكثر رحابةً مما هو ممكن في المعتاد في أي شركة أو قسم.
والفِرَق التي تتَّسم بالتنوع ليست مفيدة فقط في مرحلة توليد الأفكار؛ بل هي ذات نفع كبير في مرحلة تكثيف الأفكار أيضًا. إن كل شخص يتناول هذه البوتقة الضخمة المحتدمة من الأفكار بطريقة مختلفة، وكل شخص ينظر إليها من منظوره الخاص؛ فمُتخصِّصو التسويق يتناولونها من منظور تسويقي، والشبابُ يبحثون عن الأفكار الصادمة المدهشة، والزبائنُ يبحثون عن الأشياء المفيدة، وهكذا. علاوةً على ذلك، كل شخص له نقاط القوة الخاصة به، وكل شخص يفضِّل العمل بأساليب مختلفة؛ فهناك مَن يفضِّلون التنبيهَ البصري، ويفضِّل آخَرون التنبيهَ السمعي، بينما يحتاج آخَرون إلى مناقشة الفكرة مُسبقًا كي يحصلوا على نتائج طيبة. والسؤال هو: كيف نمكِّن المشاركين من استخدام بوتقة الأفكار هذه، ذلك «المعين العقلي»، على نحو مفيد؟ في المرحلة الأولى لتكثيف الأفكار، نستخدم عددًا قليلًا من الأساليب والإجراءات البسيطة المنطقية، وهي: مدينة الأفكار، والفحص الأول وفحص المعايير، ومصباح الحمم وفريق البحث.
(١) مدينة الأفكار
-
«السينما»: تتحرَّك كل الأفكار الملهمة ببطء وهدوء، وبترتيب عشوائي، على شاشة كبيرة، بحيث يستطيع المشاهدون رؤيتَها كلها، واختيارَ تلك التي تثير اهتمامهم.
-
«المتحف»: كل الأفكار الملهمة الثلاثية الأبعاد والصور والملصقات، وكل ما لا يمكن تضمينه في قاعدة البيانات، يمكن عرضها في المتحف؛ حيث يستطيع المُشاهِد الانتقال من مكانٍ إلى الذي يليه ليستلهم الأفكار من هذه الأشياء (الأشياء مُلصق عليها تسميات وأوصاف بالفعل).
-
«المَشْرَب»: أولئك الأشخاص الذين يفضِّلون تناوُلَ البيانات مباشَرةً (أنا مثلًا من هذا النوع)، يمكنهم الجلوس إلى أجهزة الكمبيوتر المحمولة المتصلة بشبكتنا، والبحث عن مُدخَلات من قاعدة البيانات الموجودة هناك بهدف دمجها مع الأفكار الجديدة.
-
«الحديقة»: يجد المشاركون أنفسَهم في جوٍّ مماثِل لجوِّ الحدائق في واحدٍ من المواقع الأخرى، وبإمكان الأشخاص الذين يحبون مناقشة الأفكار الجلوس في الحديقة مع كتاب الأفكار (نسخة مطبوعة من قاعدة البيانات) ومناقشة الأفكار الجديدة.
-
«المغطس»: تُوضَع بطاقات صغيرة مكتوب على كلٍّ منها فكرة ملهمة معينة، مأخوذة من قاعدة البيانات في مغطس كبير. هذا أمر ملائم للغاية لأولئك الذين يحبون التنقيب وانتقاء الأفكار وتطويرها بمحض الصدفة.
إن الهدف من مدينة الأفكار هو تقليص بوتقة الأفكار القائمة — التي تمتلئ بنحو ٣ آلاف فكرة ملهمة لكل مشروع في المتوسط — إلى نحو ٥ بالمائة من حجمها؛ أيْ ما بين ١٥٠ و٢٠٠ فكرة في المتوسط. وبالإضافة إلى الإمكانيات المتعددة لرؤية مادة الأفكار، نوفِّر للمشاركين طرقًا متعددة وخبراء متعددين (في هذه المرحلة لا يزال المشاركون خليطًا من داخل المؤسسة وخارجها).
نعرض الصيغة الدقيقة للسؤال الذي طوَّرناه في مرحلة بيان المعلومات مع العميل على سبيل المثال؛ فعلى الرغم من أن هذا السؤال ظهر فقط بشكلٍ عابرٍ أو ضمني بين ثنايا الأسئلة المُجهَّزة لورشة العمل خلال مرحلة توليد الأفكار، فإنه الآن محور الاهتمام. في بداية مرحلة مدينة الأفكار، يوضِّح منسِّق الجلسة أن الهدف الآن هو خلق أفكار من شظايا الأفكار التي جاء بها الفريق الإبداعي وغيره من الأدوات، والتي تُجيب على السؤال المطروح في بيان المعلومات؛ ومن ثَمَّ فإن كل مشارك يتلقَّى بطاقةً تحمل الصيغة الدقيقة لسؤال العميل، ليكون بمنزلة البُوصلة التي يسترشد بها الشخص خلال زيارته مدينة الأفكار.
وخلافًا لما يحدث في مرحلة الفريق الإبداعي، حيث نهتم بالسرعة والكم، يكون تركيز مدينة الأفكار منصبًّا على الجودة والعمل الأكثر تأنِّيًا؛ فبينما كان الشباب المتحمِّسون يدفعون المديرين في المرحلة السابقة إلى أعلى مستويات الأداء، يعمل المشاركون الآن في هدوء معًا، ويتناقشون ويتبادلون الأفكار ويدوِّنونها. عادةً ما نرى تحالُفات جديدة تحدث في هذه المرحلة؛ إذ يكون أولئك القادمون من داخل الشركة وخارجها قد تعرَّف بعضهم إلى بعض قليلًا، ورأى بعضهم بعضًا بأعين جديدة عند اللقاء في هذه المرحلة. فجأةً يصير الشاب خبيرًا بالنسبة إلى المدير، بينما يصير المدير شريكَ مناقَشةٍ مثيرًا للاهتمام في نظر الشاب، بعد أن كان يجده في السابق شخصًا مُملًّا. ومع هذا، فنحن لا نفرض أيَّ حوارات فرضًا؛ فإذا أراد أحدهم العملَ بمفرده على اصطياد الأفكار، فحينها لن يجد ما يمنعه من عمل ذلك، ونحن في برين ستور نسعى إلى اصطياد الأفكار الواعدة التي نرصدها بأعيننا المُدرَّبة، ثم نُدخِلها إلى نظامنا بأنفسنا.
-
كيف يمكنك الاحتفاظ بانتباه مجموعة من الأشخاص على مدار ٤٥ دقيقة؟
-
لو كنتَ مدير سيرك، فماذا سيكون الحدث المثير القادم؟
-
ما الذي يمكن أن تمنحه لشخصٍ بحيث يتذكَّرك لوقت طويل؟
-
ما الذي يفعله والداك مع أطفالهما كي يمنعاهم من الشِّجَار؟
-
ما الذي يمكن تعلُّمه في موضوع «أن تكون نموذجًا يُحتذَى به»؟ وكيف يُوصِّل المعلم مادةَ الموضوع؟
بعد ثلاث ساعات من العمل، كان لدينا أكثر من ٣ آلاف بذرة أفكار في بوتقة الأفكار، ومنها على سبيل المثال العبارات التالية: «تنظيف الأسنان»، «ثلاث قيم – ثلاثة ألوان»، «تقاذف الكرات»، «غسيل المخ»، «تصميم المنحوتات»، «ركوب دراجة ثنائية»، «تصميم ملصق إعلاني»، «الغناء معًا»، «إجراء أحد الطقوس معًا»، وغير ذلك الكثير بالطبع.
في مدينة الأفكار يجد المشارك نفسَه بصدد عبارات مثل: «الغناء معًا» أو «غسيل المخ»؛ فيجد كلتا العبارتين مثيرتين للاهتمام ويمزج بينهما، إما بمفرده وإما بمساعدة «مسئول المزج»، بحيث تكون الفكرة الجديدة: «يؤلِّف الفريق أغنيةً حول موضوعِ القِيَم الثلاث، ويسجِّلها بشكل احترافي في استوديو تسجيلات». يجري تشغيل الأغنية مرارًا وتكرارًا، ويُعطَى كل الموظفين (وليس الفريق الإداري وحده) قرصًا مدمجًا سُجِّلت عليه الأغنية. يُدخِل المشارِك الفكرةَ إلى قاعدة البيانات بنفسه، أو يعطيها إلى «مسئول الكتابة» الذي يُدخِلها نيابةً عنه (هذه الخدمة سيقدِّرها تحديدًا المشاركون الكبار السن الذين يجدون بعضَ الصعوبات في سرعة الكتابة).
ربما يرى شخصٌ آخَر فكرتي «تقاذف الكرات» و«تخصيص لون مختلف لكل قيمة»، وهذا يتطوَّر إلى فكرةٍ مفادها: «كلُّ قيمة من القيم الثلاث يُخصَّص لها لون مختلف، وكلُّ موظف يُمنَح ثلاث كرات وتدريبًا أساسيًّا على تقاذف الكرات. والآن يمكنه التعامُل مع القيم الثلاث كلَّ يوم.»
ليست أدوار مسئول الكتابة، ومسئول المزج، ومسئول الرسوم التوضيحية ضروريةً للنجاح في مدينة الأفكار، بل الأهم بكثيرٍ هو أن تنظر إلى الأفكار من زوايا مختلفة مع فريقك، وأن تخلق أفكارًا جديدة ملموسة منها. يمكنك أن تضمن هذا بأن تُقدَّم كلُّ الأفكار الملهمة الآتية من الفريق الإبداعي بشكل واضح وبصور مختلفة.
تمتد جلسة مدينة الأفكار ما بين ١٥ دقيقة وأربع ساعات، اعتمادًا على كمية الأفكار الملهمة المبدئية التي جرى توليدها. لو كان الفريق يتألَّف من خليط متنوِّع من الأشخاص، فحينها سيَجري تطويرُ ما بين ٤٠ و٥٠٠ فكرة بحيث تكون جاهزةً للمرحلة التالية الخاصة بتكثيف الأفكار؛ وهي فحص الأفكار. وكما يمكنك أن ترى في مثال شركة رولكس، فإن الأفكار صارت مَصُوغة الآن في صورة ملموسة، لكنها لا تزال غير مصقولة بعدُ، وستصير الفكرة ملموسةً أكثر وأكثر في الخطوات القليلة التالية.
(٢) الفحص الأول وفحص المعايير
-
خبراءَ المعايير؛ أيِ الأشخاص القادرين على تقييم الأفكار التي تمَّ التوصُّل إليها في ضوء معايير المشروع، التي تحدَّدت في مرحلة البدء. إنهم خبراء مرموقون في المجال الملائم، وينبغي استشارة شخصين على الأقل لكلِّ معيار (عادةً يكون هناك معيارٌ واحد أساسي ومعياران إضافيان)، وهؤلاء الخبراء يمكن أن يكونوا من داخل الشركة أو خارجها.
-
الأشخاصَ القادرين على القيام بعملية التفكير الجانبي، والذين يكون رأيهم الأساسي أن «كل شيءٍ ممكن». وفي المعتاد يكون هؤلاء أشخاصًا عملوا لسنواتٍ عدة في إدارة المشروعات والفعاليات، أو في العمل المفاهيمي، أو يديرون شركاتهم الخاصة؛ أشخاصًا عليهم أن يبتكروا شيئًا جديدًا كلَّ يوم.
-
خبراءَ الأفكار المُلِمِّين بعملية الإنتاج الصناعي للأفكار، ويمكنهم تصنيف الأفكار وتخصيصها وفق منظورهم.
-
من الممكن إبقاؤها في بوتقة الأفكار.
-
من الواجب تنحيتها جانبًا.
-
ينبغي تغييرها.
لا تزال هناك مساحةٌ لاقتراحات جديدة تمامًا في هذه المرحلة، كما أننا لا نستبعد أيَّ شيء تمامًا، بل نقوم بعملية جردٍ لآراء الخبراء الداخليين والخارجيين. إن تطبيق «برين بيز» (تطبيق قاعدة البيانات الخاص بنا) يقوم بالحسابات من أجلنا، لكنْ بوسعك بالطبع القيام بها بنفسك بأنْ تطلب من المشاركين أن يمنحوا نقاطًا لكل فكرة، أو يمكنك العمل على أداةٍ بسيطة لإدارة البيانات، مثل جداول برنامج إكسل.
مرحلةُ الفحص الأول مرحلةٌ حيوية وتتَّسِم بالعاطفية كذلك. يمكن أن تَظهر التعبيراتُ القاتلة هنا، وهي مسموح بها، ومن الممكن أن ينسف أحدهم بعضَ الأفكار من جذورها، بأن يقول إنها «هُراءٌ تام»، أو «لقد فعلنا هذا من قبل». ومع ذلك من الممكن أن يجد شخصٌ آخَر داخلَ الفريق هذا «الهُراء التام» مثيرًا للاهتمام بشدة، ويرى فيه أمورًا كثيرة يمكن تطويرها (توجد مساحة للتعليق على هذا في «الفحص الأول»). إذًا نحن لا نزال بصددِ فريقٍ متعدد التخصصات يتَّسِم بتنوعٍ ثريٍّ، يمنح الأفكارَ الخارجية الاستقطابية فرصةً مثلما يمنح الفرصةَ للأفكار العادية التي يمكن لأيِّ شخصٍ أن يخرج بها.
من أمثلة هذه الأفكار الخارجية الناجحة منتَجٌ قمنا بتطويره من أجل شركة نوفارتس؛ تمثَّلت المهمة في تطوير «غذاء ليِّن وظيفي فعَّال»؛ أيْ مادة غذائية يمكنها تأدية وظيفة أخرى إلى جانب سماتها الغذائية التي سيستفيد منها المستهلك. تبدو الفكرة مجرَّدة، لكنها كانت مثيرةً للاهتمام كثيرًا داخل المشروع، وبالفعل خرجنا بعدد كبير متنوِّع من الاقتراحات؛ من هذه الاقتراحات مثلًا فكرةُ حانة الخضروات، التي لها تأثير إيجابي على الهضم، وهناك أيضًا حلوى عسل الزنجبيل المزوَّدة بالجوارانا، التي يمكنك تناوُلها بعد الانتهاء من وجبتك بحيث تزيل رائحة الطعام من الفم وتُبقِيك متنبهًا. كانت الفكرة الخارجية الاستقطابية التي ظلَّت باقيةً في بوتقة الأفكار — على الرغم من أنه لم يُعجَب بها الجميع — تخصُّ مشروبَ إفطارٍ له ثلاث وظائف؛ إذ يُعِينك على الاستيقاظ، ويُشعِرك بالسعادة والجمال.
بدت هذه الفكرة سخيفةً وشديدةَ الخطورة من الوهلة الأولى، وكان من الممكن أن نزيلها من بوتقة الأفكار، بأن نَصِفها بأحد التعبيرات القاتلة، لكنَّ مدير الأفكار داخل المشروع دافَعَ عن المنتج بحماس، وواصَلَ تقديمَ الأدلة على أن الوقت قد حان لمنتجٍ كهذا. كانت فكرة الشعور باليقظة من الصباح الباكر، والشعور بالصحة والجمال والرضا، قد ظهرت — في حقيقة الأمر — على السطح عدةَ مرات خلال مرحلتَي الفريق الإبداعي ومقابلات الأفكار التي جرت مع ٢٥٠ مستهلكًا؛ وفي النهاية أظهرَتْ فكرةُ «الجمال واليقظة والسعادة» نفسَها، ثم طُرِحت في الأسواق على صورة مُنتَج «أوكليا»؛ مشروب الإفطار ذي التركيبة الثلاثية التأثير.
إن أهميةَ مثلِ هذه الأفكار الاستقطابية يُمكن أن تُرى بوضوح عند تطوير الأسماء. لم أَحضُر عمليات اختيار أسماء مثل كوداك أو هاجن داز، وكلاهما من العلامات التجارية الدولية القوية، لكنْ ما كان هذان الاسمان ليحظيا بأي فرصةٍ للاختيار ديمقراطيًّا داخلَ أيٍّ من مشروعات توليد الأفكار الكلاسيكية الشائعة في شركات اليوم. أغلبُ ظني أن هذين الاسمين جرى طرحهما من جانب شخصيات قوية، وأثبتا نفسيهما فحسب. في برين ستور تمتلك الأفكار الاستقطابية فرصةً طيبة للبقاء حتى مرحلة الاختيار النهائي. وهذه الأفكار مهمة؛ فهي تثير اهتمام الناس وتجعلهم يتحدَّثون عنها.
ولهذا تحتفظ قاعدة بيانات «برين بيز» عمدًا بهذه الأفكار الخارجية الاستقطابية داخل النظام، حتى بعد تعرُّضها للرفض المبدئي؛ فالفكرةُ لا تختفي بصورة كلية بعد هذه المرحلة إلَّا إذا اتفق الجميع على إخراجها من بوتقة الأفكار، ولو رغب شخص واحد فقط في إبقائها داخل البوتقة، فحينها ستظل باقية، لكنها لن تحظى إلَّا بنقاطٍ قليلة بالطبع.
- (١)
نظرة شاملة للأفكار بحسب وضعها في قائمة الترتيب: كَمْ نقطة حصلتْ عليها كل فكرة؟
- (٢)
نظرة شاملة لاستقطابية الأفكار كل على حدة: إلى أيِّ مدًى تحيد التقييمات المتعددة للمشاركين عن المتوسط؟
هاتان النظرتان الشاملتان تمثِّلان عمليةَ جردٍ منهجية لما سبق من عمل، فكل الطاقة التي بُذِلت في هذه الأفكار تُعرَض الآن في جدولين اثنين، وهما أساس استمرارية العمل في مرحلة فريق البحث.
(٣) فريق البحث، الجزء الأول: مصباح الحمم
أتعرف ما هي مصابيح الحمم؟ إنها تلك المصابيح الأسطوانية ذات التصميم المستقبلي، التي يوجد بها سائل ملوَّن تطفو داخله كراتٌ ذات ألوان فاقعة، والتي تنفصل عن غيرها من الكرات، ثم تعاوِد الالتحام بها. إن تأثير الدفء يؤدي إلى حدوثِ أمرٍ مذهل في هذه المصابيح؛ إذ ترتفع الفقاقيع وتنخفض، وتتَّحد مع غيرها من الفقاقيع ثم تنفصل عنها. وهذا هو ما يحدث تحديدًا في الخطوة التالية في ماكينة الأفكار مع الأفكار التي لا تزال موجودة؛ ولهذا السبب نطلق على هذه العملية اسم مصباح الحمم.
تجري هذه العملية بمشاركة الأشخاص عينهم الذين شاركوا في عمليتَي الفحص الأول وفحص المعايير. يتولَّى وسيط ذو خبرة قيادةَ هذه العملية، ويُمنَح كلُّ مشارك ورقةً مطبوعة مدوَّن عليها الترتيبات والتوصيفات الخاصة بالأفكار، وفي البداية يمكنه أن يشغل نفسه بها بشكلٍ منفرد. بعد ذلك تُناقَش كل فكرة باختصار، وتُقدَّم الحجج المؤيدة والمعارضة لها.
يُقدِّم الخُبراء رأيهم، ويسأل المختصُّون في برين ستور أسئلة مهمة، مثل: كيف يمكن عمل هذا؟ هل جُرِّب هذا من قبل؟ مَن يعرف المزيد عن هذا؟ ما الذي يمكن أن يتسبَّب في فشلنا؟ ثم يجري تخزين كل المعلومات. تُنقَّح الفكرة تدريجيًّا عبر النقاشات الجديدة والحُجَج والتعديلات المتواصلة، ثم ينتج وصفٌ تفصيلي للفكرة.
في هذه المرحلة يجري عادةً مزج أفكارٍ كانت منفصلة فيما سبق. أيضًا من المثير للاهتمام أن الأفكار التي تبدو عبثية أو عجيبة من الوهلة الأولى، تواصِلُ الظهور على السطح خلال عملية مصباح الحمم. نُطلق على هذه الأفكار اسم «مثيرات المتاعب»؛ فهي أفكارٌ غير مريحة لا يمكنك طرحها عن ذهنك بسهولة، وهذه الأفكار تراود في المعتاد كلَّ المشاركين. في البداية تجد هذه الأفكار غبية، وبعد ذلك تجدها مثيرةً للاهتمام بشكل مفاجئ، وفي النهاية ربما تجدها خاطئةً تمامًا مرة أخرى. أذكر فكرةً بعينها من تلك النوعية، لا نزال نضحك منها إلى اليوم ولا نستطيع طرحها عن أذهاننا، على الرغم من أنه لم ينفِّذها أحد بعد: فكرة لعبة تُلعَب داخل القطارات، حيث يتعيَّن «التصويب» على الأهداف المُتحركة في الريف باستخدام الهواتف المحمولة، فلو أنني ضغطت على الزر المناسب في هاتفي المحمول في الوقت المناسب؛ أيْ حين يكون الهاتف في وضعية اللعب، فحينها تُوضَع «الجوائز» في رصيدي باللعبة، والفائز هو الشخص الذي يحصل على أكبر عدد من «الجوائز»، ويمكن لعب هذه اللعبة بشكلٍ منفردٍ أو في مجموعات. ظلَّت هذه الفكرة تطفو على السطح خلال جلسة مصباح الحمم الخاصة بإحدى شبكات الهواتف المحمولة، وجد العميل أن هذه الفكرة سيئة للغاية في البداية؛ ومن ثَمَّ قال: «لا.» ثم أعطى الفرصةَ لأحد الخبراء كي يقنعه بأن هذه الفكرة ستحقِّق نجاحًا باهرًا، وفجأةً أصبح الكل راغبًا في الحديث عن هذه الفكرة. من ناحية أخرى، كان مدير الأفكار متشكِّكًا، وقال إن الفكرة ليست ملائمةً كلعبة شعبية، ولن تحقِّق الربح كذلك. تحدَّثنا عن لعبة الجوائز مرارًا وتكرارًا خلال جلسة مصباح الحمم، وعلى الرغم من أنها لم تُنفَّذ في النهاية، فقد ربحَتْ مكانًا في قائمة الأفكار التي سيجري عرضها، حتى إنْ كان هذا على سبيل رفع الروح المعنوية.
إن جلسة مصباح الحمم تحتاج إلى إدارتها بحرص، ويجب ألَّا تتسبَّب مشاعرُ المشاركين وميولهم في تشتيت منسق الجلسة عن المهمة الفعلية المنشودة؛ وهي العثور على الأفكار الجيدة التي تتوافق مع أهداف العميل ومعاييره. إن هدف جلسة مصباح الحمم هو العثور على ما بين ١٠ و٢٠ فكرة كهذه، وهذه الجلسة تمتد ما بين ساعة وست ساعات اعتمادًا على مدى تعقيد المشروع.
(٤) فريق البحث، الجزء الثاني
الآن، يضع فريق من برين ستور، يتضمَّن مجموعة مختارة من الخبراء، اللمسات الأخيرة على الأفكار. تُدرَس كل فكرةٍ دراسةً تفصيلية، وتُدرَج كل الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة في قائمة: مَن يمكنه تنفيذها؟ كيف نجعلها ممكنة؟ كيف تعمل تحديدًا؟ ما المشكلات التي قد تظهر؟ كيف يمكن تحسين هذه الفكرة أكثر وأكثر؟ وغير ذلك من الأسئلة المشابهة. واعتمادًا على نوعية المشروع، يمتد هذا العمل بين بضع ساعات وعدة أيام. إن الهدف هنا هو استبعاد الأفكار التي لا تتوافق مع بيان العميل، أو يتعذر تنفيذها، أو يتطلَّب تنفيذها قدرًا هائلًا من الجهد، أو تلك الأفكار التي استخدمها المنافسون بالفعل. يُمنَح العميل توجيهًا مبدئيًّا حول تنفيذ الأفكار المقبولة.
ينبغي أن يكون الخبراء القادمون من طرف العميل حاضرين على الدوام. واعتمادًا على المشروع فإننا إما نضم مالك المشروع (العميل الذي طلب الفكرة) إلى فريق البحث، وإما نُباشِر العمل من دونه. هذا قرارٌ صعب ومهم؛ ففريق البحث يمكن أن يضم خليطًا غير متجانس، وقد لا تسير الأمور في هذه المرحلة بنفس السلاسة التي تجري بها في بقية مراحل إنتاج الفكرة؛ فهناك مناقشات محتدمة، واختلافات في الرأي، علاوةً على العديد والعديد من الأسئلة. ليس بمقدور كل العملاء التأقلمُ مع هذه التفاعلات الديناميكية، والمشاركةُ في الوقت ذاته في المناقشات مع الاحتفاظ بالتفاؤل والأمل في التوصُّل إلى نتائج طيبة في النهاية. ثَمَّة عملاء آخَرون معتادون على مثل هذه المناقشات ويتوافقون جيدًا مع الفريق، وهو ما يرجع أيضًا إلى نظرتهم الخبيرة. ومن المهم ألَّا نمتلك فقط الفريق الصحيح والمُنسِّق الصحيح، بل أن نحافظ على الإيقاع السليم وسط ذلك الكمِّ الكبير من المقاطعات؛ فهذا يقلِّل لحظات الجمود التي يبدو فيها أن الأفكار قد دُمِّرت فجأة، وكَمْ من فكرة بزغت كالعنقاء من وسط الرماد بعد أن استعادت حياتها من جديد.
الخطوة الأخيرة في مرحلة فريق البحث هي إعداد بيانٍ من أجل مُصمِّم الفكرة. أي نمطٍ وأي رسومٍ تصويرية ينبغي استخدامها مع هذه الأفكار بغرض مقارنتها بعضها ببعض؟ كيف ينبغي توضيح الفكرة للعميل؟ وهكذا يجري الانتقال بسلاسة بين مرحلة فِرَق البحث والخطوة التالية: تصميم الأفكار.
مفاهيم جوهرية: «مدينة الأفكار وفريق البحث»
الخطوات التالية ضرورية من أجل تطوير أفكار جيدة من بين عدد كبير من الأفكار المبدئية المُلهمة:
• جهِّزِ المعلومات بطريقةٍ تُمكِّن الأطرافَ الخارجية من دراستها وتحليلها.
• ادرسْ وحلِّلِ الأفكار المُلهمة المنبثقة من مرحلة توليد الأفكار في ضوء بيان الأفكار. استخدِمْ فريقًا من داخل الشركة وخارجها، ويُفضَّل أن يكونوا نفس الأفراد الذين شاركوا في الفريق الإبداعي، تحريًا للكفاءة. امنحِ المشاركين إمكانيةَ النظر إلى الأفكار المبدئية المُلهمة من منظورات متعددة، وإمكانيةَ استخدام أدوات متعددة ومناقشتها كذلك. من المفترض أن يتوصَّل كلُّ مشاركٍ إلى ما لا يقل عن ١٥ اقتراحًا خاصًّا به.
• اعملْ على تقييم وفلترة المقترحات المتبقية في جولتين: (أ) عملية فلترة عاطفية تقرِّر فيها بشكل تلقائي إنْ كانت الفكرة ستظل في السباق أم لا. (ب) عملية فلترة بحسب المعايير، يجري تقييم الأفكار فيها في ضوء المعيار الرئيسي والمعايير الثانوية من مرحلةِ بيان الأفكار. احرصْ على أن تظل الأفكار التي لا تَحْظَى بقبول الجميع داخلَ السباق.
• جميع الأفكار المتبقية بعد مرحلة الفلترة هذه يجب مناقشتها وتقييمها تفصيليًّا، تحت قيادة مُنسِّق خبير، يمكنه تبنِّي وتلخيص المواقف المتعددة والارتقاء بالأفكار إلى المستوى التالي. احرصْ على أن تكون هناك فترات راحة كافية.
• الفريق له أهمية حاسمة في نجاح مرحلة فريق البحث: فكِّرْ أي نطاقات الخبرة وأي الخبراء سيفيدونك في مرحلة فريق البحث، ولا توجِّهِ الدعوة إلَّا للخبراء الذين هم مستعدون للعمل داخل فريق، وانظرْ إنْ كان ينبغي تضمين العميل (مالك المشروع) داخل مرحلة فريق البحث أم لا.
• من المهم أن تَجري مرحلة فريق البحث في مكان هادئ خالٍ من المقاطعات قدر الإمكان. إنْ لم يكن لديك مصنعًا للأفكار، فمن المواقع المناسبة مثلًا قاعاتُ الاجتماعات بالفنادق، والسفن (احجز قاعة اجتماعات منفصلة)، والأكواخ الجبلية (التي تتمتَّع بتغطية هاتفية)، وقاعات المدارس، والمطاعم (احجز قاعة منفصلة)، أو أي قاعة أخرى لا تجد نفسك فيها مُطارَدًا من جانب عملك اليومي.