امتحانات الذكاء
الوراثة هي القدر الذي نقف أمامه عاجزين مكتوفين … وأولئك الذين يحبون أن يجدوا أساسًا للأخلاق أو الفضيلة في الطبيعة، يحسون العجز والحيرة عندما يواجهون الوراثة في قسوتها، وذلك حين يولد طفل أعمى أو أبله أو أشوه أو نحو ذلك مما يحملنا على القول بأن بعض الناس يولدون وقد حَكَمَ عليهم القدرُ بالعجز والشقاء قبل ميلادهم.
لا، ليس العدل أصيلًا في الطبيعة.
وفي عام ١٩٠٥ ظهرت امتحانات الذكاء على يد ألفريد بينيه الذي زعم أن الناس يتفاوتون في الذكاء الفطري الذي يولدون به، وأنه يمكن قياس هذا الذكاء حتى قبل العاشرة من العمر، وتعين بمقاييسنا قدرة الصبي أو الشاب على احتراف عمل ما ومقدار نجاحه فيه.
وعمت العالم «امتحانات الذكاء» وصدقناها راضين أو مرغمين، فكان الصبي يمتحن في أشياء لا علاقة لها بتربيته أو وسطه، ثم يصدر عليه الحكم الذي يتعس أبويه أو يسعدهما والذي يقرر مصير الصبي في هذه الدنيا.
وكان «امتحان الذكاء» نوعًا من القدر أو نوعًا من الرضا بأن العدل ليس أصيلًا في الطبيعة.
ومع أن جميع السيكولوجيين كانوا يتشككون في قيمة هذه الامتحانات لِمَا كانوا يعرفونه من تأثيرات الوسط والمركبات النفسية ودرجة الثقافة ونوعها، فإنهم كانوا يخشون التصدي لتكذيب النتائج لهذه الامتحانات؛ لان الإقبال عليها كان عظيمًا وذلك لسهولتها، ولأن نتيجتها كانت معينة بالأرقام كأنها لا تتحمل الخطأ.
ولكن رويدًا رويدًا أخذ الشك مكان اليقين، واحتاج هذا إلى السنين، أي منذ ١٩٠٥حين بدأت هذه الامتحانات إلى الآن، فقد وجد أن الطفل الذي حكم عليه بالغباوة في امتحان الذكاء قد انتهى بما يقارب العبقرية، كما حدث العكس.
كما أن القول بأن الذكاء يقف نموه بعد سن السادسة عشرة لم يعد يصدقه أحد، وأن الوسط الراقي المثقف يستطيع أن يرقى بذكاء أفراده كما أن الوسط السيئ الجاهل يخفض الذكاء.
إن الكفاءات الموروثة حقيقة لا شك فيها، والذكاء كفاءة موروثة إلى حد ما، ولكن التفاوت بين الناس صغير بل أحيانًا تافه، وما نرى من تفاوت بعد سن العشرين والثلاثين في الأخلاق والسلوك والمهارة والمعرفة، يعود إلى الوسط في الأكثر ولا يعود إلى الوراثة إلَّا في الأقل، ونحن في مصر أقدر على فهم ذلك من الأوروبيين والأمريكيين؛ فإن المرأة المصرية التي تعلمت في الجامعة واحترفت إحدى الحرف واختلطت بالمجتمع وناقشت الدنيا في مشكلاتها السياسية والاقتصادية، هذه المرأة تبدو ذكية بل مفرِطة في الذكاء عند مقارنتها بالمرأة التي عاشت في الحجاب تحوط جدران المنزل بحياتها، مع أن كلنا نعرف أنها أختها وأن الكفاءة الوراثية للاثنتين واحدة.
إن الوراثة البيولوجية قدر، ولكنه ليس الذي يقرر لنا التعاسة أو السعادة والخيبة أو النجاح؛ لأن هذه الصفات جميعها تعود في أكثرها، بل أكاد أقول في مجموعها إلى الوسط الراقي أو الوسط المنحط أي إلى المجتمع.