تربية العظماء
قبل سنين كنت أقرأ سيرة الرحالة الأمريكي ستانلي، ووقفت عند قول كاتب السيرة إن هذا الرحالة كان يُعْنَى وهو في مجاهل أفريقيا بحلق لحيته كل صباح كما لو كان في لندن أو أدنبره.
لقد أمضى ستانلي سنوات وهو يقطع الصحارى والغابات في وسط أفريقيا، ويواجه الوحوش ويأكل الجشب من الطعام وينام على الغليظ من الفراش، ولا يرى غير الزنوج الذين لا يعرفون معنى لحلق اللحى ولا يبالون الرجل كاسيًا أم عاريًا حافيًا أم ناعلًا.
ولكن ستانلي كان يعنى في الصباح بهندامه، ويحلق لحيته، ويرجِّل شعره، ويأكل فطوره، بالشوكة والسكين، فإذا أتم كل ذلك نهض للرحلة كأنه يقصد إلى مكتب في أحد شوارع لندن.
وإنما كان يفعل ذلك خشية أن تنهار شخصيته أو تضعف أمام المشاقِّ التي كان يعانيها في وسط أفريقيا، وكان يحس أنه إذا أهمل الحلاقة صباح كل يوم فان التبذل يأخذ في نفسه مكان التجود، والإهمال يأخذ مكان العناية، ثم تنحل أخلاقه وينتقل هذا الانحلال إلى سلوكه في الوصول إلى الهدف الذي نصب نفسه له وهو الاكتشاف، فهنا رجل عظيم أراد أن يؤيد عظمته بالعادات الصغيرة التي تبدو تافهة في ذاتها ولكنها جليلة في دلالتها، لأنها إحدى اللبنات التي تبنى منها عظمة الرجل.
وإزاء هذه العظمة نجد حقارة حين نقرأ أن فاروق التافه كان يؤدي أعمال الدولة وهو في السرير، فكان يقرأ ويوقع القوانين وهو في جلباب النوم.
شئون الدولة وشئون الجنس تجتمعان في السرير … مع الضحكات المخنثة والحركات المتهتكة …
ولذلك يتمجد اسم ستانلي في التاريخ، ويتعفن اسم فاروق في التاريخ.
وهناك حدود يعينها العظماء لسلوكهم وهي جميعًا تبدو تافهة لأول نظرة، ولكنها عند التأمل تكشف لنا عن صرامة في النفس يراد منها تماسك الأخلاق ومتانة الشخصية وتوحُّد الهدف وانتظام النشاط.
إن العظيم لا يبعثر حياته ولا يستسلم لكل شهوة ولا ينقاد إلى كل رغبة؛ لأن عظمته تعين له الهدف في حياته وتبعثه على أن يتعهد نفسه بالتربية، وهو ينكر الكثير على نفسه، كي يصل إلى هذا الهدف، وهو دائم اليقظة متنبه الوجدان إلى شخصيته، ثم هو يأخذ بعادات صغيرة تعينه على بلوغ الهدف وعلى استبقاء قواه موفَّرة لهذا البلوغ.
ونحن حين نقعد إلى مكاتبنا كي نؤدي عملًا ما، نحس جدًّا وتبصرًا ومسئولية لا نحس مثلها حين نؤدي مثل هذا العمل ونحن في السرير، وكثير من الخيبة التي يعانيها بعض الشباب أنهم يؤدون أعمالهم مستهترين متراخين لم يحلقوا لحاهم ولم ينتصبوا متحفزين لعملهم، وقلَّما يجيدون لذلك ما يعملون؛ لأن إهمالهم لعادات الجد في أشخاصهم يجعل أعمالهم أيضًا مهملة، وإنما نضبط أعمالنا ونحزم شئون مهنتنا إذا كنا نحن قد ضبطنا شخصيتنا ووعينا لأنفسنا الحدود والشروط التي تحول دون التراخي في أخلاقنا أو الضعف في شخصيتنا.