ضرورة الجنون
كتبت إحدى الصحف كلمة عن قاسم أمين جاء فيها أنه كان ينصح للأدباء بأن يبتكروا وأن يجنوا.
وقد يحتاج هذا الكلام إلى قليل من التفسير، فقد كان قاسم أمين نفسه أديبًا قبل أن يكون قاضيًا، وقد جُنَّ جنونين: الأول في ١٨٩٨ عندما أخرج كتابه الذي دعا فيه إلى سفور المرأة، وجن جنونه الثاني في ١٩٠٦ عندما دعا إلى إنشاء جامعة مصرية.
ومعنى الجنون هنا مخالفة العرف ومجابهة الرأي العام بضد ما يعتقد، والدعوة إلى سفور المرأة في أواخر القرن الماضي بعد مئات السنين من الحجاب والنقاب والانفصال من المجتمع والترهل في البيت كانت تبدو بلا شك جنونًا؛ إذ لم تكن تقل في غرابتها عن الدعوة للرجال بأن يسيروا في عري تام لأن الملابس ترهقهم وتؤذيهم في صحتهم.
وكذلك دعوته إلى إنشاء جامعه في وجه الجهل العام كانت من الغرابة بحيث كانت تعد شذوذًا وجنونًا.
ومن كلمات الإنجيل التي تقترب من موضوعنا هذا قوله: «أنت لست حارًّا ولست باردًا ولكنك فاتر، ولذلك تقيئك نفسي».
وللإنجليز كلمة تتردد على صحفهم وكتبهم هي كلمة «السخط المقدس»، ولقد سخط قاسم أمين على حال المرأة في ١٨٩٨ وكان سخطه مقدسًا، ولم يطق رؤيتها في فتور، فألَّف كتابه في غلواء الأديب بعد أن حميت نفسه غضبًا، ونسي وهو في هذا الغضب هذه الغلواء، لوم الناس له أو نفورهم منه فكان مجنونًا، أجل، وكان جنونه مقدسًا.
ومن هذا المعنى الذي قصد إليه حين دعا الأدباء إلى الجنون، إلى الغلواء، إلى الحماسة التي تنأى عن الفتور.
ونحن لا نتحسس ولا نجن إلَّا لأننا نتألم أكثر، ونحس أكثر، ونأمل أكثر من غيرنا، وهذا هو حال الأديب العبقري.
والصلة بين العبقري والمجنون تعود إلى هذه الغلواء، إلى هذه الحماسة، التي يحسهما كلاهما، وكلاهما لهذا السبب أيضًا يحلم ويتخيل وإن تكن أحلام الأول مثمرة وأحلام الثاني عقيمة.
وعندنا في الجامعتين نحو ألفي طالبة سافرة قد ارتفعن من الأنوثة إلى الإنسانية بفضل قاسم أمين حين جُنَّ جنونه الأول ثم جنونه الثاني.
وعلى الأديب أن يسخط وأن يُجَنَّ وأن يكتب في غلواء وألَّا يكون فاترًا يقيئه القراء.