الكوارث التي تُعَلِّمُنَا
من أحسن ما أنعمت به عليَّ الأقدار أنها كرثتني بطائفة من الكوارث في مراحل عمري كانت لي بمثابة الدروس العملية التي تعلمت منها وخرجت من عبرتها أكثر حكمة وأوضح بصيرة وأسعد إحساسًا.
مرضت في طفولتي وبقيت بالفراش شهورًا بل ربما سنوات، ولكن هذا المرض قد زال ولم يبقَ منه سوى هذه الذكرى المحببة إلى قلبي وهي أمي قد قعدت إلى جانبي تدعو وتصلي وتمسح رأسي ووجهي بيدها الطرية الناعمة، وما زلت إلى الآن — وأنا في الحلقة السابعة من عمري — أستعيد هذه الذكرى فتغمرني منها سعادة، وأحسُّ كأني أملك كثيرًا لا يملكه أحد غيري على هذه الأرض.
وكرثتني الأقدار بقريب لي اضطهدني وسرقني وعمل على إيذائي نحو نصف قرن، ولكنه مع ذلك حملني على أن أتأمل حياته كما يتأمل الطبيب مريضه كي يتعرف إلى أسباب العلة، وإني أؤكد أني لو كنت قد قرأت خمسين كتابًا في السيكلوجية لما كنت قد انتفعت منها بقدر انتفاعي بهذا القريب الذي درسته وتألَّمْتُ منه، وبذلك زادني حكمة وأكسبني معرفة.
ولقد توافرت عليَّ الكوارث، التي لا أقول إني لقيتها مبتسمًا، ولكني أقول إني لقيتها جادًّا متأملًا، وكل ما خسرت لا يبلغ ما كسبته منها بالاختبار والنمو، خسرت المال وكسبت الحكمة.
ولقد فقدت الصديق العزيز ولكني كسبت حنان ذكراه، هذا الحنان الذي يسري في ذهني كما لو كان نشوة الخمر أو أرج الزهر.
وإلى هذا العالم وقد وقعت بي كارثة أخري لمَّا أصل لنهايتها، ولكني واثق بأني سوف أنتفع منها.
إن هذه الحياة تحتاج إلى الدروس العملية، وأعظم درس عملي هو كارثة موجودة تقع بنا وتنقلنا من الذهول إلى الوجدان، فنقف في الطريق ونتأمل مستقبلنا في ضوء حاضرنا وماضينا، وبهذا الوقوف والتأمل تنضج الشخصية فتزداد إحساسًا وتعقلًا ومعرفة.
أجل إن الكوارث تعلمنا.