التفكير الذهني
كلنا نفكر في شئوننا الخاصة. في العمل الكاسب الذي نؤدي وجباته، وفي الهواية التي تتعلق بها، وفي علاقتنا بأصدقائنا وزملائنا. وفي الخطيبة التي سنتزوجها أو التي نحبها أو البذلة التي سنشتريها.
وجميع هذه الشئون خاصة وآفاتها لذلك محدودة، ولكن وجودنا في هذه الدنيا يجب أن يحملنا على أن نخرج من خصوصية الاهتمام إلى عموميته. فإن لقمة العيش تحملنا على أن ندور في فلك صغير ونكرر دورتنا كل يوم حتى لكأنَّنا آلات لا تنمو ولا تكبر ولا تتفرع.
ولكن الشاب الناضج هو الذي يخرج من هذا الفلك الصغير فيهتم بالاهتمامات الذهنية التي ترفعه من لقمة العيش إلى شئون العلم والأدب، فيدرسها ويقتني مؤلفاتها ويناقش فيها ويحاول أن يقف عن سبيلها هذا الموقف الفلسفي الذي يقفه الرجل المفكر، يرفض أن تُمْلَى عليه الآراء والعقائد إملاء كأنَّه غير كف لأن يستقل بفكره.
ولكن الاستقلال بالفكر ليس معناه أن نفكر وحدنا وإنما هو أن نناقش ونسأل ونستطلع، وكل هذا يدعونا إلى اقتناء الكتب ودرستها بروح الاستقلال والتساؤل.
إن الشعب الإنجليزي يفخر بأنه لا يزيد على خمسين مليونًا ومع ذلك يزيد عدد الكتب التي تطبع في بلاده على ما يطبع منها في الولايات المتحدة التي يزيد سكانها على ١٦٠ مليونًا، وله كل الحق في هذا الفخر؛ فإن شئون الذهن من الاهتمامات الأصلية عند الإنجليزي المتعلم، ورف المكتبة في البيوت الفقيرة له حرمة المكتبة في البيوت الكبيرة، والسيدة الإنجليزية تقتني الكتاب كما لو كان تحفة تحتفظ به كنزًا بعد أن تقرأه ثم تتركه تراثًا ساميًا لأبنائها.
إن وجودنا يكبر في الدنيا بالكتب، تلك الكتب التي تصل بيننا وبين الأمم القديمة قبل ألفين أو ثلاثة آلاف سنة من التاريخ، وتلك التي تكشف لنا عن النجوم أكبر الأجرام وعن الذرة أصغر الأجرام في هذا الكون، وتلك التي تقص علينا قصة الإنسان، بل قصة الأحياء، كيف تألَّفت جزيئاتها مثل الفيروس ثم ارتفعت حتى صارت خلية مثل الأميبة، وتلك الكتب الأخرى التي تغني لنا بالأشعار عن أسمى الأفكار، وأخيرًا تلك الكتب التي تلهمنا وتولد في أذهاننا بصيرتنا التي نكاد نشرف بها على الكون، نرى ما خفي منه ونفهم ما التغز.
أجل، يجب ألَّا يشغلنا التفكير العادي في شئوننا اليومية عن التفكير الذهني في شئون المجتمع والطبيعة والكون.
والسبيل إلى كل ذلك هو الكتاب الذي يؤلِّفه لنا المخلصون من الكُتَّابِ الذين ينشدون ارتقاءنا وتطورنا.