الحرية فكرة أولًا
ليست الحريات حقوقًا، وإنما هي أفكار أولًا نتشربها ونجد ضرورتها فنمارسها، ثم نحميها من المستبدين أعداء الإنسان، وفي النهاية نحس أنها حقوق.
فليست حرية الصحافة مثلًا شيئًا عند الفلاحين الذين لم يتعلَّموا ولم يقرءوا الصحيفة؛ ذلك لأنهم لم يتشربوا فكرتها، ولكنها شيء عظيم جدًّا عند المفكر، والصحفي والمؤلف وكل إنسان قارئ يعرف قيمة الخبر الصحيح والرأي الصحيح الحر.
وكذلك حرية العلم ليست شيئًا عند الذين لم يدرسوا العلوم ولم يعرفوا قيمتها الارتقاء البشري؛ ولذلك لا تجد هذه الحرية من يطالب بها سوى عدد صغير من المعلمين حتى في الأمم الراقية.
وحرية الاجتماع، وحرية الخطابة، بل حرية الزواج أي اختيار الزوج أو الزوجة، هذه الحريات تحتاج إلى وجدان بالفكرة، ولهذا السبب لن نستطيع إقناع بعض الآباء في الصعيد بأن للفتاة الحق في أن تقول: «لا» لمن يخطبها، ولكن هذا الحق مقدس، بل هو حق ابتدائي مُسَلَّمٌ به عند جميع الآباء في الأمم المتمدنة؛ لأن هؤلاء الآباء متمدنون.
الحرية أو بالأحرى الحريات تحتاج إلى أن تكون متعلمين حتى نعرف قيمتها وحتى نمارسها ثم ندافع عنها، ولكن ليس معنى هذا أن ننتظر حتى يتعلم جميع الناس ثم نمنحها لهم. لا … إذ هي حق مشاع للجميع وإن كنا نعرف أنه ليس بين هؤلاء الجميع سوى عدد صغير قد تَشَرَّبَ الفكرة وأحس أنها حقه.
لما كان الزنوج عبيدًا يُشْتَرَوْنَ بالملاليم والقروش لم يكونوا يحسون أن لهم الحق في الحرية، لأنهم لم يكونوا قد تَشَرَّبُوا هذه الفكرة؛ ولذلك كانوا يستسلمون للرق.
وهكذا الشأن في كثير من الحريات التي يستمتع بها المتمدنون؛ فإنهم جعلوها حقوقًا بعد أن كانت أفكارًا تَشَرَّبُوا معانيها ودلالتها، ثم صاروا يدافعون عنها.
ولذلك عندما تجد في مصر من ينكرون على المرأة حرية العمل الحر، أو حرية الاختيار للزوج، أو حرية الاختيار لأسلوب عيشها، ثق أن هؤلاء المنكرين لم يتشربوا هذه الأفكار لأنهم أَمْضَوْا أعمارهم في جهل عميق بعيد عن الحياة العصرية؛ ولذلك يجب أن نعذرهم ونعلمهم.