الحكومة الخيرية
في سنة ١٩٠٩ كنت في لندن، وكنت لا أزال شرقيًّا متوحشًا أفهم أن السياسة هي الدهاء والمكر والقدرة على التسلق إلى المناصب العالية.
ولكني تعلمت درسًا إنسانيًّا حين رأيت أن الوزارة الإنجليزية في تلك السنة قد قَدَّمَتْ البرلمان مشروعًا تهدف منه إلى استصدار قانون يمنح كل رجل وكل امرأة بلغا سن الخامسة والستين معاشًا سنويًّا، وكان هذا القانون رؤية جديدة استبصر بها عقلي وتربَّت بها عواطفي في معنى السياسة، وجعلت بعد ذلك أستزيد من هذه الدروس الإنسانية وأحاول أن أطبع السياسة المصرية بها أو بشيء منها حتى سئم القراء تكراري لهذه المعاني.
ولا يزال هناك من الشرقيين المتوحشين من يعتقد أن السياسي العظيم هو الداهية العظيم أما الغربيون المتمدنون فقد انتهوا إلى أن الحكومة المثلى هي الحكومة الخيرية، كما سميت حكومة حزب العمال الإنجليزي: «ويلفير ستيت».
والسياسي العظيم هو رجل الخير والبر الذي يفكر ويضع الترسيمات لإيجاد المسكن الحسن والطعام الوفير والتعليم والصحة لجميع أفراد الشعب.
وقد ترددت هذه المعاني إلى ذهني يومًا وأنا في الترام، فقد صعد إليه رجل أعمي تزيد سِنُّهُ علي السبعين، وكان يلح في سذاجة يطلب تخفيض الثمن للتذكرة لأنه فقير عاجز، كما كان الكمساري يلح في طلب إنزاله من الترام.
والذي ذكرته وقتئذٍ أن كل فرد في إنجلترا يحصل علي معاش يوم وفاته عندما يبلغ الخامسة والستين، ولكنه يحصل علي هذا المعاش وهو في سن الأربعين إذا كان أعمى.
السياسة ليس دهاءً ومكرًا، وإنما هي مروءة وشهامة وخير وبر.