ضيوف الحضارة
أحيانًا أتأمل بعض الناس الذين يعيشون بيننا في جو من الحضارة لا يختلف عن الجو الذي يعم المنازل والمدن في أوروبا، ولكني أحس مع ذلك أنهم ليسوا متحضرين وإنما هم ضيوف الحضارة.
بل نكاد كلنا نكون كذلك؛ فإننا نركب القطار والطائرة والسيارة، ونضيء منازلنا بالمصابيح الكهربائية التي تختزن البرق، ونتناول طعامنا من أطباق ناصعة البياض ملساء كأنها معقمة، ونستشفي بعقاقير تحمل مواد حيوية أو معدنية تتسلل إلى خلايا أجسامنا، تبحث عن ميكروب مختف فتقتله، أو تبعث الحياة في عضو قد شاخ وهمد، ونقعد على مقاعد طُبِخَ غطاؤها بمواد كيماوية لا تستطيع حشرة أن تتذوق طعمها، ونكتب بأقلام على ورق لم يحظ الفراعنة بمثلها، ونلبس النظارات التي تحيل نظر من بلغ سن السبعين إلى سن العشرين.
ليس شك أن كل هذا من الحضارة العصرية، ونحن نستخدمها ولكن كما لو كُنَّا ضيوفًا عليها؛ إذ إننا لا نملكها أي لا نملك الفن أو العلم الذي يصنعها.
نركب السيارة التي صنعها العلم والفن في لندن أو نيويورك ولكننا لا نعرف كيف نصنعها، ونكتب على الورق الذي صنعه العلم والفن في أوروبا ولكننا لا نعرف كيف نصنعه، ونتداوى بعقاقير اهتدى إليها الذهن الأوروبي دون أذهاننا.
ولن نملك هذه الحضارة إلا إذا صنعنا أدواتنا بأيدينا واخترعنا صيغها وقوالبها بأذهاننا، ولن يتم لنا هذا إلا بعد سنين؛ لأن الاستعمار والاستغلال كلاهما قد حطَّم أذهاننا وكان يعاقبنا على أية بادرة تدل على اختراع أو ابتكار.
ولكن إلى أن نصل إلى إنشاء المصانع لهذه الأشياء يجب على الأقل أن ندرس الأصول والمبادئ التي انبنى عليها اختراعنا؛ أي ندرس الكيمياء والطبيعيات والبيولوجية والجيولوجية ونحو مئة علم أخرى.
وبلا ذلك سنبقى ضيوفًا على الحضارة بل ضيوفًا ثقلاء.
لقد كان غاندي يقول إنه يستحي أن يلبس بذلة يصنعها الإنجليز ثم يطالب هؤلاء بالخروج من بلاده، ولهذه الكلمات قيمتها في الوطنية بل في النبل والشهامة، ولكني أحب أن أقول هنا إننا يجب أن نستحي من استخدام السيارة والطائرة والقطار والمصباح الكهربائي … إلخ، ما دمنا نجهل أصول العلم التي بنيت عليها هذه المخترعات، بل ما دمنا لا نؤسس المصانع التي تصنعها.
ولو أننا كنا على وجدان بالحضارة العصرية لكان لنا في كل جامعة — بل في الجامعة الأزهرية أيضًا — أربع أو خمس كليات لدراسة العلوم البيولوجية، والجيولوجية، والطبيعية والكيمائية والزولجية والبوتانية والمعدنية والبكتربولوجية والفلكية والذرية …إلخ.