اختر أدباءك
كتب الأدب كثيرة تتنوع من الشعر إلى النثر ومن القصص إلى النقد، ولن يمكنك أن تستوعبها قديمها وحديثها؛ ولذلك يجب أن تختار وتحسن الاختيار.
يجب ألَّا تقرأ جزافًا كما يجب ألًّا تأكل جزافًا.
وكتب الأدب هي غذاء نفسك فيجب أن تعنى بها أكثر مما تعنى بغذاء جسمك، أي تؤثر الأنفع على النافع، وتضحي بحلاوة الطعم من أجل مصلحة النفس.
هناك الكاتب الرخيص الذي يشغل ذهنك بالاهتمامات التافهة، والكاتب الطاهي الذي يعنى بحلاوة اللفظ ورنين العبارات، والكاتب المنافق الذي يقول ما لا يؤمن به، حتى هناك الكاتب الفنان الذي يحسن الفن ولكن مع ذلك ليست له رسالة.
إن كثيرين من الكُتَّابِ القدامى يحسون الفن، تجد عندهم الرنين والحلاوة والجزالة في تأليف الكلمات وهندسة العبارات، ولكنك لا تجد لأحدهم رسالة، والرسالة للأديب هي كل شيء.
ولو أن كاتبًا كتب باللغة العامية، أو كان أسلوبه يتقلقل من الركاكة، ولكن كانت له مع ذلك رسالة، يحس قيمتها ويلهج بها ويلهث إلى غايتها، لكان أديبًا عظيمًا على الرغم من كل نقائصه هذه، ولكن لو كان هذا الكاتب مبدعًا في ابتكار المعاني وترصيع الكلمات ثم كان مع ذلك يكتب وليس له هدف عظيم أي رسالة؛ لما كان شيئًا، وقصارى ما كنا نجد عنده عندئذ أننا نتطعم الحلاوة من كلماته ولكننا لا نغتذي بها، ونخرج من مؤلفاته ونفوسنا في جوع إلى الغذاء.
إن الأديب في أيامنا يقوم مقام الكاهن في العصور الماضية، هو كاهن مدني نسترشد به حين يعطينا ويعين لنا قيم الحياة.
فإذا قرأت لأحد الكتّاب وأردت أن تقيس أدبه فاسأل ما هي القيم التي تأخذها منه؟ هل هي قيم رخيصة أم غالية؟ هل هو يعطيك الفن، اللَّذة فقط، أم يعطيك الحكمة أي الرسالة والهدف الإنساني أيضًا؟
هل هو بإيحاء حياته أولًا، ثم بإيحاء أدبه ثانيًا، قد غيَّرَكَ وارتفع بك وجعلك تتطور، أم هو قد خدعك عن حقك في هذه الدنيا أو أحالك إلى إنسان جامد تحيا بالعقائد بدلًا من الحقائق، وتخشى المستقبل وتقنع بالجهل، قد غَشَّكَ بمدح الطغاة، وخدعك بالكلمات الحلوة التي لا تغذو نفسك ولكنها تسري عنك فقط كما لو كانت كأسًا من الخمر؟
اطلب الكاتب النافع، الأديب الذي يغذوك، الذي يحمل إليك رسالة إنسانية سامية تتطور بها وترتقي.
•••
- فأما الطريقة الأولى: فخفيفة العبء قليلة الجهد سريعة الإنتاج، وهي أن يدرس المؤلف موضوعه وفق
ما تعلم من المهارة المكتسبة من الكتَّاب الذين سبقوه، فإذا شاء تأليف قصة
قرأ ما كتب من القصص، ثم حاول بعد ذلك أن يكتب كما كتب مؤلفها، وهو هنا
بالطبع مقلد غير مبتكر.
ومثل هذه المؤلفات كثيرة، وهي تزيد الكم، أي إن قيمتها الأدبية كَمِّيَّةٌ وليست نوعية.
- أما الطريقة الثانية: التي يتبعها بل قد اتبعها العظماء في الأدب فهي درس الحياة، وهي طريقة شاقة ولكنها تؤدي في النهاية إلى إخراج الكتاب العظيم الخالد، وليس المعنى هنا إهمال الصنعة من حيث أسلوب الكتابة أو درس اللغة أو الاستخفاف بالمؤلفات السابقة في الموضوعات التي نعالجها، وإنما المعنى أن نبالي بالحياة التي نحياها أكثر مما نبالي بالكتاب الذي نقرؤه ونتهيأ به للتأليف.
وعندئذ يكون الكتاب ثمرة الحياة باختباراتها وليس ثمرة الكتب بالدراسة، أي إن الكتاب الذي نؤلفه عندئذٍ ينبع من الحياة.
وكي نحسن تأليف الأدب يجب أن نحسن ممارسة الحياة.
أي يجب أن نتقن حياتنا كي نتقن التأليف، وبكلمة أخرى نؤلف حياتنا أولًا ثم نؤلف الكتاب ثانيًا؛ لأننا عندئذٍ نجد المجال للصدق، وهو أن يكون الأدب وفق الحياة بل مطابقًا لها في صورها وأشكالها، وعندئذٍ أيضًا نستطيع الابتكار ولا نقتصر على التقليد.
ولهذا السبب تجد أن القصة العظيمة أو الأدب العظيم يُمَثِّلَانِ في ناحية أو نواحٍ حياةَ المؤلف نفسه، بل إن الكتاب والحياة عندئذٍ يتطابقان، وهذا ما نجد في تولستوي أو جوتيه أو برنارد شو أو جوركي؛ فإن جميع هؤلاء المؤلفين أخرجوا مؤلفاتهم من صميم حياتهم واختباراتهم، وهم قد ألفوا حياتهم قبل أن يؤلفوا كتبهم. ألفوا حياتهم أحسن تأليف، ثم أخرجوا كتبهم أحسن إخراج.
يجب أن تكون حياتنا واختباراتنا الشخصية مصدرنا في التأليف، ولا بأس من أن نستعين بما كتبه غيرنا، ولكن يجب ألَّا يكون هؤلاء مصدر التأليف وإخراج الكتاب.
وعندما نحيا الحياة الإنسانية الاجتماعية، وعندما نحب ذلك الحب الذي دعا إليه أفلاطون، أي عندما نحب الطبيعة والأحياء والإنسان، ونفكر بالعقل الإنساني ونشتبك في مشكلات المجتمع من فقر إلى جهل ومن خرافة إلى علم بل عندما يمتلئ قلبنا بالرعب من القنبلة الهيدروجينية كما يمتلئ بالسعادة عندما نتأمل احتمال السفر إلى القمر، عند ذلك نستطيع أن نؤلف ونبتكر.
بل عندئذ يكون الكتاب حياة وفلسفة ومنهجًا للعيش والتفكير.