النسك والعظمة
مات أعظم رجل متمدن في أوروبا أي في العالم، فقد صاغ برنارد شو حياته كما لو كانت عجينة يعين لها الشكل الذي يريده ويقرر لها المصير يدبره، والرجل المتمدن هو في صميمه، وعلى أسماه، ذلك الذي يضع العقل فوق الغرائز أو الشهوات، ويعيش العيشة الفلسفية ويدأب في تنوير ذهنه، ويتجنب جميع ما يفسد صحته ويقصر عمره ويخدم المجتمع بجميع ما فيه من كفايات.
وقد فعل برنارد شو ذلك، ومات وهو في الرابعة والتسعين بعد أن عَلَّمَنَا نوعًا جديدًا من القداسة، إذ ليس القديس في عصرنا هو الذي يفر من الحياة إلى صومعة الراهب كي يصلي ويتعبد … وإنما هو ذلك المجاهد الذي يخدم الحق والشرف، ويدعو إلى الخير والحب بعد أن يكون قد أنار ذهنه بالمعارف حتى يفهم معاني هذه الكلمات ولا يتطوح في تضحيات سخيفة يدفعه إليها الجهل.
ولقد كان الجهل أعظم ما حاربه برنارد شو في نفسه وفي غيره، فقد كان طالبًا مدى الحياة، وكان مؤلفًا يخرج الكتب العظيمة الخالدة كي يقشع الجهل عن العقول الرجعيين والمحافظين والمتغطرسين، وكانت له فكاهة لها قوة اللهب تلسع وتنبه.
عاش في حياته طاهرًا، لم يجعل من أمعائه جبَّانة للحيوانات، وأوصى بإحراق جثمانه بعد وفاته فلم يجعل من الأرض مكانًا للتعفُّن والنتن، وقاطع جميع المخدرات والمنبهات فلم يدخن ولم يشرب القهوة أو الشاي، ولم يعرف الخمر إلا في السنين القليلة من عمره حين مات جميع أصدقائه وزملائه وزادت توتراته، أو لعله شرب الخمر للاعتقاد الجديد الذي ساد هذه الأيام بأنها تطيل العمر.
وكان اشتراكيًّا يدعو إلى تنظيم البر وتعميم الخير بالتأميم، كما كان على الدوام في صف الأمم المغلوبة ضد المستعمرين والطغاة.
وهناك من يفسر سلوك برنارد شو في مقاطعة القهوة والشاي والتبغ والخمر واللحم بأنه كان وسيلة إلى الصحة، ولكن المتأمل لحياته لا يجد أنه كان يهدف إلى ذلك.
ويمكن أن نقول إن مقاطعته لطعام اللحم كان إنسانيًّا لا اكثر، وقد أصيب بمرض الأنيميا الخبيث لالتزامه الطعام النباتي وعولج بخلاصة كبد الخنزير.
وكان العلاج بالاحتقان، ومع ذلك لم يترك طعام النبات.
ولكن إذا كان الامتناع عن طعام اللحم إنسانية فكيف نفسر الامتناع عن التبغ والشاي والقهوة والخمر؟
التفسير أنه لا عظمة في أي إنسان بلا شيء من إنكار الذات الذي قد يقارب أو يبلغ النسك، وذلك انه ليس هناك عظيم إلا وهو معذب بالتوترات بينه وبين نفسه أو بينه وبين مجتمعه، وهو في صراع لا ينقطع بين عاطفته وعقله، ومنطقه وعقيدته.
وهو حين ينهض إلى عمل عظيم ويحسن القصد في حياته، وأنه يحمل رسالة تزداد توتراته لما يلقى من مصاعب، فيأنف من التفاهة، ويعمد إلى الجد، وتحمله توتراته التي ذكرناها إلى إحساس الضيق والكرب فيرصد كل وقته وكل جهده إلى تحقيق ما سما إليه من فن أو فلسفة أو بطولة، وعندئذٍ يعزف عن الملذات الصغيرة مثل القهوة والشاي والخمر بل يعزف حتى عن الجنس.
لقد فعل كل ذلك برنارد شو، ومن قبله فعل مثل ذلك غاندي الذي اقتصر على تناول اللبن، وفعل مثل ذلك أيضًا المعري الذي عاش طيلة عمره أعزب لا يعرف طعامًا غير العدس، ونسك الغزالي وحرم نفسه ما لا يحرم على الرجل العادي.
شهوات الذهن ومناهج المجد تتغلب على شهوات الجسد وعادات العرف.
وأكاد أقول إن الرجل العظيم تعذبه توتراته، ولكنه يجب مع ذلك أن يزيدها حتى يزداد بها غلوًّا وحِدَّةً، وكثيرًا ما نجد أن اليقظة الذهنية في أحد الناس العاديين تحمله على أن ينكر على نفسه بعض الملذات التي اعتادها وكأنه يجد لذه أخرى في الحرمان أو العذاب، أي في التوترات.
وفي جميع الأديان نجد ألوانًا من الحرمان تبعث المؤمن على أن يكف عن استهتاره ويجد في سلوكه وأخلاقه مثل الصوم، والمسيحي حين يغلو في إيمانه يرفض الزواج ويدخل الدير راهبًا ولا يأكل اللحم غير شهرين في السنة.
وعلى قدر ما لنا من أهداف سامية نهتم لها ونتعب في تحقيقها تكون توتراتنا، بل تكون رغبتنا في زيادتها حتى نحس أننا بالحرمان نعلو على أنفسنا.
أما الرجل التفه، الرجل الأجوف، فلا يتوتر ولا يجدُّ بل يسترخي ويتثاءب ويستهتر.
ولست أنسى هنا أن أقول إن التوترات قد تزيد حتى تصل إلى الجنون، جنون العبقرية.