شرق وغرب
في مجلة «نيوستيتسمان» الإنجليزية خبر صغير يحمل عبرة كبيرة، ذلك أن أحد المتنزهين في أحد الحدائق العامة في لندن كان يسير بين الأعشاب، فلمحت عينه اثنين: رجلًا وامرأة يقعدان تحت شجرة، فالتفت إليهما التفاتة عابرة ثم قصد إلى مقعد بعيد عنهما حيث قعد واشتغل بقراءة كتاب.
ولكن لم تكد تمضي علي استقراره علي مقعده عشر دقائق، حتى أسرع إليه أحد رجال البوليس بالحديقة وطلب منه اسمه وعنوانه؛ لأن هذين الشخصين اللذين لمحهما تحت الشجرة قد شكواه، وموضوع الشكوى أنه وهو قاعد قد حدق فيهما نظره كأنه يريد أن يتجسس علي حركاتهما ويعرف ما يفعلانه، وهو بذلك قد ارتكب جريمة؛ إذ لا يجوز لأحد في إنجلترا أن يحدق بغية التعرف والتجسس علي أعمال الناس وحركاتهم، ولا يجوز له أن ينظر إليهم من ثقب القفل بالباب.
وهذا نقيض ما يحدث في مصر؛ فإن البوليس إذا رأى مثل هذين الشخصين، ورأى احدهما يُقَبِّلُ الآخر أو أنهما في وضع لم يألفه من قبل، فإنه يستطيع أن يلقي القبض عليهما ويقدمهما للمحاكمة، بل إنه حتى حين يراهما قاعدين ساكنين ليس بينهما حركة أو إيماءة، يستطيع أن يتدخل ويسأل عن علاقة أحدهما بالآخر.
وهذا الفرق بين القاهرة ولندن هو فرق بين الشرق الذي يريد أن يحيي تقاليد تعود جذورها إلى ألف سنة، وما بين الغرب الذي يتجدد كل يوم ويعين الأخلاق التي تتفق مع مصلحة مجتمعاته المتغيرة المتطورة.
فإننا نحن البشر شرقيين وغربيين نستمتع بالتقبيل، ولكن استمتاع الغربيين صريح مكشوف أما استمتاعنا فخفي مستور، ونحن نحرص في مصر على أن نمارس القبلة من خلف الأبواب والأستار في حين يمارسها الأوروبي في الحديقة والمحطة بل أحيانًا في الشارع، وقوانينهم تحميهم من المتطفلين والمتطلعين الذين يحرجونهم.
وكثير منا ممن زاروا أوروبا كانوا يجدون في حدائقها أو محطاتها عشرات المتعانقين في استقبال أو وداع يتبادلون القبلات، وهذه ليست قبلات الأم لابنها أو الأخ لأخته فقط بل قبلات الحب والعشق بين حبيبين، وكنا نجد أفراد الجمهور يديرون ظهورهم حتى لا يحرجوا هذين الحبيبين.
ولست أشك في أننا جميعًا نحب الحياة ونكره الاستهتار، ولكن إذا كنا نكره المستهترين الذين يعبثون بالحب فإننا يجب أن نستحي أيضًا من المحبين المخلصين حين يقبل أحدهما الآخر، بل يجب أن يحملنا هذا المنظر على أن نشيح عنهما بوجوهنا حتى لا نحرجهما، وعلينا أن نعرف أن المتمدنين يحبون الحب ويحترمون قبلات المحبين وهم حين يفعلون هذا لا يوصفون بالنعومة أو الرخاوة.
الحق أن في حادث هذا الإنجليزي الذي اتهم بأنه يتطلع ويتعرف حركات اثنين يتحابان ويتعانقان لعبرة لنا يجب أن تحملنا على أن نتساءل: لماذا نختلف؟ ومن منا هو الكاسب ومن هو الخاسر بهذا الاختلاف؟