حول تحديد النسل
شاعت الدعوة إلى تحديد النسل هذه الأيام حتى صار المؤلفون الاجتماعيون يؤلفون عنها ويدعون إليها في حماسة عجيبة.
وهؤلاء الدعاة يذكرون على الدوام آسيا وأفريقيا من حيث إن أقطارهما قد تزاحمت بالسكان، وأن التناسل البشرى فيها يسير بلا حساب وبلا ضابط، وأن الدنيا — بسبب أسيا وأفريقيا — ستضيق بالبشر إذ إن الأرض المنزرعة لن تكفي هذه الزيادة المطردة في السكان.
ولست أعترض على أحد يدعو الناس إلى التناسل في تعقل، بحيث يقدرون ظروفهم ويقيسون طاقات المستقبل فيحددون عدد أبنائهم بواحد أو بأكثر لكل عائلة؛ فإن الناس أحرار في هذا العمل وكانوا على الدوام أحرارًا، ولكنهم يمتازون في أيامنا بالقدرة على ضبط التناسل أو منعه لأن وسائل المنع كثيرة ميسرة.
ولكنى أعترض على الأوروبيين والأمريكيين يوجهون هذه الدعوة إلى أبناء آسيا وأفريقيا في الوقت الذي فيه يؤدون فيه هم الإعانات لعائلاتهم التي يكثر فيها التناسل، ويشجعون أبناءهم على الاستكثار من النسل، وأعترض على أن تُوَجَّهَ هذه الدعوة إلى أقطار آسيا وأفريقيا بحجة أن السكان فقراء في الوقت الذي حرمهم هؤلاء الأوروبيون والأمريكيون كنوز بلادهم، كالبترول والفحم والقطن والكوتشوك والقصدير، بل حرموهم إنشاء المصانع، بل حرموهم حتى الإقامة على أرضهم كما يفعل الهولنديون السفهاء في أفريقيا الجنوبية مع الزنوج.
وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل الدنيا فقيرة في الإنتاج إلى الحد الذي يظنون؟
إن سكان العالم في وقتنا لا يزيدون على ٢٥٠٠ مليون، تستطيع القاهرة وحدها أن تتسع لهم مع فائض من فسحة المكان بين كل واحد وآخر.
وفي العالم خمس قارات لا يمكن أحدًا أن يقول إنها قد زرعت جميعها وإنه لم يعد فيها متسع لزيادة إنتاج الحبوب أو اللحوم أو الثمار.
ونحن نذكر بلادنا على سبيل المثال؛ فإن عددنا قد بلغ نحو ٢٢ مليونًا، أما ارضنا المزروعة فلا تزيد على ستة ملايين، وليس هناك شك في أننا نعجز بهذا القدر من الزراعة عن إطعام هذه الملايين من السكان، ونعني الإطعام الكافي الذي يفي بالنمو والصحة والرفاهية.
ولكن ممكنات بلادنا أكبر من الأرض المزروعة الحاضرة، فإن ما جربنا زراعته من القليل من أرض الصحراء قد أثبت لنا ثبوتًا قاطعًا أن زراعة مليون أو مليونين من الصحراء ليست محالًا، بل الأرجح أن عندنا نحو خمسة أو ستة ملايين فدان يمكن زرعها في الصحارى الغربية والشرقية، خاصة وقد عرفنا أن تحت النيل نيلًا أخر يحوي من المياه المختزنة نحو مئة فيضان.
ثم هناك البحر الأحمر والبحر المتوسط، وكلاهما لم يزرع إلى الآن … ونحن نستخرج منها الأسماك والأحياء البحرية الأخرى كما كان أسلافنا قبل ١٠ آلاف أو عشرين ألفًا من السنين يستخرجون طعامهم من الغابة، لا يزرعونها ولكنهم يقتلعون منها الجذور والثمار، يأخذون منها ولا يعطونها، وقد مضى على البشر نحو أربعين سنة أو أكثر وهم يزرعون الجو؛ وذلك حين عرف هذا العالم الألماني كيف يستنبت منه عنصر النيتروجين ويحيله إلى ما نسميه نيترات للتسميد؛ فإن هذا العنصر قد زاد محصول القمح في العالم بمقدار النصف أو الثلثين كما زاد المحصولات الأخرى.
وهذه الحقيقة تغرب قيمتها التطورية عن كثير من الناس الذين يأكلون خبزهم كل يوم وهم لا يعرفون أننا «زرعنا» الجو بوسائلنا العلمية قبل أن نزرع الأرض حتى أنتجت هذا الخبز.
ونحن نصيد الأسماك والأحياء الأخرى من البحار، ولكن كل حي على كوكبنا يحتاج في النهاية إلى الشمس عن طريق النبات الذي يستغل ضوءها في تثبيت غذائه فينمو ويثمر، وعلى الطبقات العليا من البحار حيث ينفذ ضوء الشمس وحيث تجد نباتات مكروسكوبية، وإلى جنب هذه النباتات حيوانات تأكلها، وهذه حيوانات صغيرة، ثم يتدرج سلم الأحياء حتى تجد الأسماك التي تأكل صغار الحيوان في البحار، ولكن ضوء الشمس هو في النهاية الأصل لهذه الحركة الحيوية.
والبحار تسمد الآن بالنيترات كما تسمد الأرض؛ وذلك كي تجد النباتات الميكروسكوبية الغذاء في هذا السماد فيسرع نموها وتكاثرها ثم تتكاثر عليها الحيوانات الصغيرة ثم الأسماك، ونستطيع نحن أن «نزرع» مليونًا أو مليونين من الأفدنة في البحر الاحمر والبحر المتوسط لزيادة السمك، بل الواقع أن في البحر الأحمر من الأسماك ما يمكننا من استخراج عشرين مليون رطل كل يوم منه بلا سماد أو بأقل السماد.
كل هذا الذي ذكرنا هو في مستطاعنا منذ اليوم، نشرع فيه ونسير إلى نهايته بوسائلنا المألوفة، وهو يكفل لنا الغذاء ليس لاثنين وعشرين مليون مصري بل لأربعين أو خمسين مليون مصري بلا حاجة إلى هذه الدعوة الأوروبية الأمريكية بشأن تحديد النسل باعتبار هذا التحديد خطة عامة للشعب وليس ظرفًا خاصًّا لكل فرد عليه أن يقيسه بطاقات المستقبل لأبنائه.
ولكن هناك وسائل أخرى ليس في مستطاعنا الآن ولكنها توشك أن تكون، وذلك بالعلم؛ فإن العلم قد وصل إلى قمة التدمير باختراع القنابل التي تعد كل منها شمسًا أو نجمًا صغيرًا يدمر ويحرق ويحيل العناصر إلى غيرها.
وما حقَّقه العلم من التدمير يمكن أن يحققه في التعمير؛ فقد استطاع العلميون أن يخترعوا عناصر جديدة لم تعرفها الأرض في تاريخها منذ خمسة آلاف مليون سنة، وتحطيم الذرة ولحمها كلاهما من الأعمال التي لم تعرفها الحياة على الأرض؛ فإن قصارى ما استغلته الحياة هو الجزيء وليس الذرة.
والجزيء مؤلَّف من الذرات وأجسامنا تكسر الجزيء ولكنها لا تستطيع كسر الذرة، ولكن العلميين استطاعوا أن يكسروا الذرة وأن يلحموها.
ونحن الأحياء نحتاج إلى ثلاثة مركبات كي نعيش، وهي: المواد البروتينية مثل اللحم وزلال البيض والجبن، وهذه المواد توجد أيضًا بكثرة في الأفوال مثل الفول والعدس واللوبيا والترمس والفول السوداني … إلخ، ثم نحتاج إلى المواد النشوية والسكرية، ثم نحتاج إلى الزيت أو الشحم.
وأجسامنا تستطيع أن تصنع من المواد البروتينية السكر والنشا أو حتى الزيت أو الشحم.
ولكن العكس لا يحدث، أي إننا لو اقتصرنا على طعام مؤلف من المواد النشوية والسكرية، وأيضًا من الشحم، لما استطعنا أن نصنع البروتين وعندئذٍ نموت.
والسبب هو أن جزيء البروتين أكبر من جزيء النشا أو السكر وأكبر كذلك من جزيء الزيت أو الشحم.
وإذن عقدة العالم الآن هي: كيف نصنع البروتين؟ كيف نصنعه كيماويًّا بلا حاجة إلى أن نبحث عن اللحم والبيض والجبن … إلخ؟
كيف نصنعه كما نصنع عنصر الهليوم من الهيدروجين في القنبلة الهيدروجينية؟
إن كسر الذرة يعد نظريًّا أسهل ألف مرة من كسر الجزيء، وكذلك تركيب جزيء من جزيء آخر يعد نظريًّا أسهل ألف مرة من تركيب عنصر من عنصر، ولكن الاتجاه العصري الحربي قد جعلنا نصل إلى تركيب العناصر قبل أن نصل إلى تركيب المركبات؛ لأن المشرفين على العالم يفكرون في التدمير وليس في التعمير.
ولن تدوم الحال؛ لأنها إذا دامت فإنها ستنتهي قريبًا بإبادة الإنسان والحيوان والنبات.
ولذلك نحن نفترض الخير بدلًا من الشر، والعقل بدلًا من الجنون.
وعندئذٍ يمكن أن يتجه العلميون إلى إيجاد بروتين كيماوي يغنينا عن الزراعة، زراعة الجو والبحر واليابسة.
وفي هذه الحال لا تكفي الأرض ٢٥٠٠ مليون إنسان فقط، بل تكفي مئة ألف مليون إنسان، ولا يحتاج أحد من دعاة التحديد للنسل عندئذٍ أن يدعو أفريقيا وآسيا إلى أن تخفض كلتاهما إنتاجها البشري.